أأمهاتي
أطل من نافذتي الصغيرة وأرى بتأمل حديقتي الصغيرة المخضرة التي ينعشني رحيق أزهارها وريحة رمالها المبتلة بالماء توقظ جوارحي أحب لياليها الصيفية التي جمعتني بأشخاص أقدرهم على حفلات الشواء البسيطة.
وقهوتي تعبق رائحتها في أرجاء الغرفة تنتظرني لأرشف منها رشفة لتطلق الطاقة في جسدي....
كم أحتاج للطاقة هذا الصباح.... فهو مختلف عن كل الصباحات.... اليوم يوم الأم العالمي.... وبالنسبة لي هو يوم أقدره أنا وعائلتي جداً... فهي مناسبة جداً ضرورية أعبر فيها عن حبي لأمهاتي.... نعم أمهاتي....
قد يبدو هذا غريباً لكن بالنسبة لي هو أمر طبيعي لم يحتج مني وقت كي أتقبله بل عشت معه منذ الصغر..... فالكل لديه أم واحدة إلا أنا لدي اثنتان.
ولا أنسى أم زوجي فهي تعتبر أمي الثالثة.... لذلك يحتاج مني هذا الأمر تحضيراً مسبق فأنا أريد لأبنائي أن يتعلموا أن يحبوا جداتهم بالقدر نفسه على اختلاف طباعهم... وأن يستمتعوا باللحظات التي تجمعهم قدر استطاعتهم.
بعكسي أنا أحتاج مني هذا الأمر وقتاً طويلاً وقد سبب لي ذلك الكثير من الألم لأتعلم أن الأمور أبسط مما نعتقد ما نحن إلا نزيدها تعقيداً بتفكيرنا الخاطئ ومفهومنا الضيق.
مازلت أذكر تلك الليالي التي كانت تحتضن بها مخدتي دموعي.... وكنت معتقدة في مراهقتي أن أمي لا تحبني لأنها منحتني لخالتي حصة.... وظننت طوال طفولتي أنها أمي.... حين أبكي هي من يفزع لي.... حين أتألم هي من تداريني.... حين أمرض هي من ترعاني..... كل عيد نذهب سوية لننتقي ملابس العيد الجميلة وتضع في يدي الحناء قبل النوم.... كان عيدي أجمل على صوت همساتها توقظني لتبلغني أن العيد ابتدأ.... كنت أعلم أن شعري الطويل المنسدل سيكون الأجمل لأني أعلم أن يديها ترعاها كانت تسرح شعري بحب تحاول قدر استطاعتها ألا أتألم... أمي حصة أسم عذب عشقته حتى نسيت أن أعشق غيره.
حين كبرت قليلاً كنت أتساءل لماذا أمي نورة متزوجة من أب وهي بنفس الوقت أخت أمي حصة!.
في طفولتي لم أكن أسأل كثيراً لأني كنت منشغلة بعالمي الصغير الوردي وكان خيالي يأخذني إلى ما هو أبعد من الواقع.
كنت أعتقد أن هذا الأمر طبيعي وعادي أن أعيش أنا مع أمي حصة في بيت جدي بينما أبي وأمي نورة وأخوتي في بيت آخر... حتى كبرت...
وبدأت الصورة تصبح بالنسبة لي أمر غير طبيعي وأن هناك خطأ ما.... كنت في السابعة حينها أذكر.... سألت أمي حصة كيف أختك تأخذ أبي؟..... هل أنت زوجه بابا محمد؟!.
ابتسمت: حبيبتي لست زوجته بل أختي نورة زوجته.
سألتها بتعجب.... إذا كيف هو أبي وأنت لست زوجته؟!.
كان والدي محمد رجل قدير حنون أراه حين يأتي للسلام على جدتي.. وأحياناً حين أذهب إلى منزلهم لألعب..... أرى في عينيه حنان الأب ولهفة شوق يحاول أن لا يظهرها أمام أمي حصة.
ولكن حين أجيء إليهم كان يحتضنني بقوة كأنه بذلك يعوض عن تلك الأيام التي لم يحضني فيها.
أجابتني أمي حصة بعد صمت قصير كأنها بهذا الصمت تعيد ترتيب الجمل وتحاول أن تعلمني الواقع بصورة بسيطة: حبيبتي سارة أنا أمك فعلاً لكن لم أنجبك لكن أمك نورة هي من أنجبتك.... ولكن بما أنه ليس لي أولاد كما ترين قررت أختي الحبيبة أن تعطيني أياك كي أربيك...
هل تقصدين أن أمي لا تحبني لم تكن تريدني.... هكذا كان تفكيري لم أفكر بمنظورهم هم.
بل فكرت بمنظور فتاة في السابعة اعتقدت أن أمها تخلت عنها لأنها لا تحبها....
جلست فترة حاقدة على أمي نورة وكأنها أذنبت حين تخلت عني وشعرت بحجم هذا الغضب بداخلي وبنظراتي الطفولية المتألمة.... لن أبكي أمامها هي لا تريدني.
حين أسقط لا تتحرك لتنتشلني بل أمي حصة هي من تفعل.... هي تكتفي فقط بالنظر من بعيد دون تدخل.
أي أم هي ترمي طفلتها دون احساس لأختها حتى تربيها. لابد أنها دون شعور.
كنت أراها كيف تعامل أخوتي بكل حنان فأتألم...... كانت تقبلهم تركض لهم تهتم بطعامهم..... وأنا لا.... دائماً أمي حصة هي من تفعل.
كلما اهتمت بأخوتي وأهملتني كنت أبكي. بصمت وحين أنام على مخدتي أبكي بشدة.
لماذا لا أكتفي بحب أمي حصة فهي تستحق ذلك. انها تميزني بعذب الكلام... وتلبسني أجمل هندام.... وأنام بجوارها وعلى سريرها بحضنها الدافئ ورائحتها المميزة التي تشعرني بجمال الكون ورقته.
إذاً لماذا لست سعيدة..... لماذا أبحث عن حب امرأة لا تريدني.... رمتني لأختها كي تربيني وأب فضل أبنائه الآخرين علي.
لماذا يحزنني أن أرى ابتسامتها لي بسيطة ولمساتها لي بسيطة.... لم تسألني يوم هل أكلت؟
هل درستي؟ أرى ابتسامتها لي عادية ونظراتها لي عادية.... بودي أن أصرخ وأقول أنا أيضاً ابنتك عامليني كما تفعلين بخواتي الجوهرة وسلمى.
كبرت وهذا الألم بداخلي.... كنت أنظر للمرآه وأتساءل لست قبيحة ولا مشوهة وليس بي عيب حتى تتخلى عني أمي.
لم أكن أعرف حجم الغضب بداخلي حتى تشاجرت مع أختي سلمي فضربتها ضرباً شديداً كأني أفرغ ذلك الألم بداخلي وأنتقم بدافع الغيرة.
لتأتي أمي حصة وأمي نورة حتى يفرقوا بيننا... ليروا ماذا فعلت بتلك المسكينة الصغيرة.
ماذا بك؟ ماذا حدث؟ صرخت بوجهي أمي حصة...لم أربيك بهذه الطريقة.
كيف تضربين أختك بذلك العنف.
لتخرج دموعي بصوت غاضب مملوء بالألم لأقذف بوجهها كلمات تشبه السم وعلمت من نظراتها أني قتلتها ألف مرة.
أنت لست أمي وهي ليست أختي بل أنا فتاة لا يريدها أهلها فقذفوني لحضن امرأة لم تنجب لعلها تربيها.... كيف تحسنين تربيتي وأنت لم تنجبيني.
لا أعلم كيف مني هذه الكلمات القاسية انصدمت عندما شاهدت حجم تأثيرها على أمي حصة.... إنها تتألم.... أنا أعلم... إني أرى تغرغر عينيها بالدموع تتجمع وتكاد تتساقط كان بودي لحظتها أن يعود بي الزمن أن أصمت.... لم أعلم أنني قاسية لهذا الحد.
لأسقط أنا إثر صفعة وجهتها لي أمي نورة..... أول مرة تتدخل في أمر يخصني... ليكون هذا الأمر هو هذه الصفعة.
ما هذا الذي تقولينه؟ أي كلام تنطقينه؟ أنت لا تعرفين عن ماذا تتحدثين؟
هكذا صرخت أمي نورة بصوت يعلوه الصدمة والألم... عيونها صوب أختها حصة تتأمل تعابير وجهها.
لعلها لا تتألم..... لعلها لم تتأثر.... ولكنها تعرف حصة جيداً ومدى رقتها وحساسيتها وتعلم أن ألمها مدبول ووجعها أكبر.
حصة المرأة الحنونة المحبة التي تزوجت من ابن عمها وجلست معه عشر سنوات لم تنجب خلالها..... فأمرته بالزواج لعل الله يرزقه فالعيب منها وهو صبر ولم يقصر.... حلف أنه لن يتغير وأنها ستظل زوجته الحبيبة للأبد.... ولكن مع أول طفل له تغير وبدأ يميل إلى زوجته التي أنجبت له.... فزاد هذا من احساسها بالنقص كامرأة فنحن في مجتمع لا يرى المرأة إلا زوجة وأم.... آلمها هذا الأمر وهي لا تلومه فعقلها المليء بالحكمة يدرك أنه أب وطال به الأمر حتى عرف هذا الإحساس..... وهو صبر معها ولم يقصر فاتخذت قراراً اعتقدت أنه سيريحه ويريحها.... فكرامتها لم تعد تسمح لها أن تشعر أنها ثقلاً على أحد.... فطلبت الطلاق... وكان لها ذلك.
عادت إلى منزل والدها كما خرجت منه خالية الوفاض غير أن مشاعرها مختلفة... حين خرجت منه كانت عروساً لديها الكثير من الآمال والأحلام وعادت إليه خالية من كل شيء حتى من الحلم.
كانت نورة وقتها حاملاً ولديها ولدين وفتاة... وتألمت حين رأت أختها تمر بمرحلة الاكتئاب تلك تمر الأيام وهي صامته لا تأكل ولا تبكي ولا تشكي.... كثيرة السرحان تميل إلى الوحدة.
أختها الوحيدة تشعر أنها تفقدها أكثر يوماً بعد يوم.
دخل عليها زوجها أبو خالد متعجباً من حالها فالحزن مسيطر على وجهها وهو معتاد أن تستقبله بحفاوة سألها بصوت حنون ما بك هل أنت متعبة؟
فأجابته لا لست كذلك ولكني حزينة على حال أختي حصة. ما بها؟ هي ليست أول امرأة تتطلق من زوجها أجابها متعجباً. صحيح، ولكن أنت لا تعرف أختي حصة فهي حنون وصبور.. أجابته والدموع تنهمر من عينيها.
ممكن أطلب منك طلب يا أبو خالد وأرجو أن لا تردني أرجوك. فأجابها بصوت خافت كأنه يعلم ما تريد أن تقوله.... وما هو طلبك؟
أنت تعلم أني حبلى بفتاة ما رأيك أن أعطيها أختي لتربيها ومنزل أهلي قريب من..... لم يعطها مجال لتكمل... ماذا تقولين أن أتخلى عن أبنتي!!... هل تعلمين حجم الأمر الذي تطلبينه مني؟!.
أجابته مسرعة أرجوك لا تردني... إني أتوسل إليك لعلها بذلك تعود إليها الحياة وتنشغل بتفكيرها عما حدث لها.
فقال لها بغضب: مستحيل أن أتخلى عن أبنتي ماذا سيقول الناس عني؟! أنه تخلى عن ابنته ليربيها أهل زوجها.
ردت عليه نورة بكل حكمة وذكاء كما هو عهدها دائماً حين تعطيها لأختي أنت لا تتخلى عنها بل ستكون معها دوماً وحولها وكل قرار يخصها يتم تحت عينيك وبعد موافقتك الأمر سيان إن عاشت هناك أو هنا ستظل والدها تقبل عليها متى تشا...ء. لكن بذلك تكسب أجر تلك المسكينة وتكبر بعيون الناس.
أغلق عينيه بهدوء كأنه يفكر: لا يهمني كلام الناس أبداً ولكني أخشى أن تشعر تلك الطفلة بالنقص والألم حين تكبر.
فأجابته بكل هدوء بإحساس من يشعر أنه أقترب من النصر... أنت حولها وأنا حولها ولديها أم أخرى ترعاها عن أي نقص وألم تتحدث!!.
فكان نصرها ووافق محمد على طلبها مطرقاً رأسه لعله يخفي ألمه وحيرته.
لكن بشرط.... هذا قرار لا عودة فيه لا تتلاعبي بمشاعر أختك ولا تحزنيها ولا تعاييرها بهذا العطاء أبداً.
موافقة أجابته ودموعها تتساقط لا تعلم هل هي دموع فرح أم ألم أو حيره فمشاعرها مختلطة حالياً.
.. لكن حصة تستحق..
اليوم منظوري للحياة مختلف.... رزقت بأطفال وعلمت مدى حب أمي نورة لأختها حصة... حب لا يعرف شروط مختوم بالدم وذكريات الطفولة البسيطة... كم سر تشاطرتاه معاً وكم حلم تقاسمتاه سوياً وكم أمال وأحلام حلق بهما خيالهما معاً.... وكم دموع وآلام انقسمت بينهما لتكون كل واحدة سنداً للأخرى.
اليوم حين أرى أبنتي أشعر بحجم التضحية... أي أم قد تقدم طفلتها هدية لأختها... أي أم تحاول أن تخفي شوقها ومحبتها ولهفتها حتى لا تجرح مشاعر أختها أي حب هذ؟! منحتها أمومة بلا شروط.... فلم تشاركها أبداً بها بل جعلتها تستمتع بكل ما فيها، واكتفت هي بالمراقبة من بعيد فرحة بحكمتها مستمتعة بإحساس أختها وسعادتها.
منذ اللحظة الأولى التي خرجت منها سارة إلى الدنيا لفتها في مهادها لتخبر أختها حصة بالمفاجأة: الحمد الله الذي رزقني بهذه الطفلة الجميلة المكتملة الصحة.
حصة تعالي احمليها عني فأنا متعبة.
حملتها حصة بكل حب... ما أجملها يا نورة ماذا ستسمينها؟
أجابتها بصوت خافت به غصة مصحوبة بمشاعر السعادة: أنت اختاري أسمها.
حصة اقتربي مني.... استمعي إلي جيداً.... قررت أنا ومحمد أن نمنحك هذه الطفلة الصغيرة.... فنحن نعلم أنها بين أيادي أمينة. سقطت دمعة صغيرة كانت تحاول أن تخفيها بين كلماتها ولكن لم تستطع.
وقفت حصة متفاجئة.... هل تدركين ماذا تقولين؟
نعم أدرك ذلك... أجابتها نورة وفي عينيها صلابة من لن يعدل عن رأيه ولست أول ولا آخر وحدة تمنح طفلها لأختها..... حبيبتي هي لك وأنا أعلم أنها معك أسعد.
من بين فيض الدموع التي سقطت من حصة احتضنت الصغيرة بحب وقالت الحمد الله... ما أجملك يا صغيرة.. وما أقربك إلى قلبي... أسمها سارة.... لأنها أدخلت السرور إلى قلبي.
انشغلت حصة بها..... وصارت حياتها أجمل وهي حولها وعاد الأمل والسرور لها فكانت محور حياتها هذه الصغيرة العذبة الجميلة.
كانت تكتفي نورة بالتأمل من بعيد... وهي تشعر أنها استعادت جمال أختها وحياتها بعد أن كانت ستفقدها.
لم تكن تركض لها حين تبكي سارة لأنها تعلم أن نورة لن تقصر معها وإن كان قلبها يعتصره الألم خوفاً على الصغيرة..... لكن لم ترد أن تستشعر أختها أنها نادمة على هذا الأمر
أو أنها لا تثق بها.
مرت الأيام لا يشوبها شيء مستمتعة بما تراه من حب بين طفلتها وأختها.... حتى كان ذلك اليوم الذي كبرت فيه سارة وبدأت تساؤلاتها تكثر وأخوتها كذلك..... بدأت سارة تتغير وتخفي أمراً عنهم لم ينفجر حتى ذلك اليوم حين ضربت الصغيرة سلمي.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا