(3)
لن يشعر إنسان بآخر في أوقات الشدة الشديدة على النفس، قد يتعاطف معه أو يقدم ما يقدر عليه من واجبات، لكن بالتأكيد لن يرتدي حذائه مهما كان قريبا منه، والشرط الأساسي وإن لم يعلن أن يكون هناك رصيد في العلاقة يسمح بذلك، أما علاقتي بحنين الآن شيء لم أره من قبل، أن أجد من يحنو عي دون وجود رصيد مسبق، دون مقابل، أن تتعاطف معي وتحاول أن تشعر بي دون خوض نفس تجربة الألم من قبل!
لم أستسغ ذلك في بادئ الأمر إلى أن بدأت معرفتنا تتطور إلى صداقة تتوطد أكثر فأكثر كل يوم، فصرت أنا وحنين أقرب إلى بضع من أي وقت مضى، أخبر بعضنا البعض بتلك الأسرار الخاصة كما تفعل البنات، الأمور العاطفية البائسة التي تجعل كلا منا تتأكد أنها ليست وحيدة في دنيا الحظ الخائن.
هذه الفتاة التي حكمت عليها لا إراديا في عقلي الباطن، أنها بشكل قطعي لا تصلح للصداقة في يوم من الأيام، كانت الأفضل من بين أصدقائي القدامى من الفرقة الموسيقية التي عزفت بها لسنوات معهم، كانت الأكثر إخلاصا ومؤازرة في وقت محنتي. فبعضهم قاموا بواجب العزاء عبر الهاتف، والبعض الآخر لم يسأل عني ولو مرة واحدة، أعلم جيداً أنهم لا يفضلون الانغماس في هذه المناسبات، لأنها تجلب الكثير من الطاقة السلبية على حد قولهم وقولي معهم في الماضي!
الآن أنا في مناسبة تجلب الكثير من الطاقة السلبية. فأجد بجانبي.. صديقة جديدة، كانت أبعد ما تكون عن خاطري، وبالرغم من كونها الابنة الوحيدة لأبوين مسنين يحتاجان الكثير من الرعاية اليومية، إلا أنها لم تقصر معي في يوم من الأيام منذ رحيل أبي.
جلست معها في كافتيريا على النيل مباشرة كانت قريبة من منازلنا، نظرنا طويلا إلى الماء الساكن في هدوء، كان هذا المشهد هو ما أحتاجه كل يوم، أن أنظر إلى هدوء النهر وأحدثه كأنني أحاور نفسي، لكن حنين كانت تصر على مرافقتي كل مرة حتى لو جلست صامتة، هذه المرة نظرت إلي وسألتني كأنها تسأل نفسها هي الأخرى.
قولي لي يا فريدة الآن.. ماذا تتمنين من الدنيا؟
تركت النهر ونظرت إليها وقد اكتشفت أنني لم أسأل نفسي سؤالا كهذا من قبل.. وقلت شاردة.
حقا لا أعلم.
قالت هي..
لابد أن تسألي لتعلمي.. أنا أسأل نفسي هذا السؤال بشكل دوري.
في فضول سألتها..
وهل علمت؟
تنهدت وعادت تنظر إلى النهر وقالت..
في كل مرة تتغير الإجابة، إلى الآن ما أتمناه من الدنيا مرتبط بشكل مباشر بظروفي وبأهوائي التي تتغير، وأهوائي تتغير كلما تغير علي الأصدقاء والأحبة أو تطلعت إلى الحياة بشكل مختلف، كلما فقدت أحدهم أو كسبته، أحيانا أعتقد أن ما أريده من الحياة هي المادة، أحيانا أخرى أريد الحب والاستقرار الذي يخشاه أشباه الرجال، أحيانا أريد صداقة لا تنضب أبداً، أو خلودا للأهل، بلا مرض ولا فراق وموت!
ثم ضحكت بسخرية ونظرت إلي وقالت..
أحلام.. أنت لم تفكري، ماذا تريدين من الحياة من قبل وأنا أفكر كثيراً.. والنتيجة واحدة، لا نعرف ماذا نريد، أتعلمين شيئاً.. أتمنى أن نعرف في الوقت المناسب قبل أن يفوت الأوان. لم أعلق ونظرت إليها ولم أكن أتوقع أن هذه الفتاة التي تبدو متهورة من الخارج تحمل كل هذا في داخلها، قالت كأنها تذكرت شيئاً.
هاتفني يونس اليوم ليطمئن عليك، ألا تتحدثان؟ هل صدر منه شيء أزعجك؟
لاح على وجهي الارتباك ولم أعرف لماذا ثم قلت وأنا أنظر إلى النهر:
لا شيء.. أريد أن أبقى وحدي فقط..
نظرت إلي وقد فهمت ما يدور بداخلي وقالت..
فريدة.. أنت خائفة، الخوف يعلم السلبية، الخوف للجبناء، الخوف يحجب متع الحياة، بل يوقف الحياة نفسها، عودي إلى طبيعتك التي أثق أن أسمك أخذ نصيبا منها، كوني أنت.. كوني فريدة.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا