القط للكاتب أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-03-21

القط 

فتاة في العاشر من العمر..

وحيدة أمها وأبيها..

خيالها خصب..

عوضت تلك الوحدة بذلك الخيال..

تتحدث كثيراً مع نفسها..

كانت تصاب من وقت لآخر بنوبات من البكاء بشكل متكرر، تندفع على أثرها للحمام وتدير صنبور الماء ليغطي على صوت بكائها كي لا يسمعها أحد، أصبحت عادة ((بكاء الصنبور)) كما كان يُسميها والديها معروفة عندهم، فكلما سمعوا صنبور الماء ينهمر علموا بأن ابنتهم تبكي، كان هذا الأمر مقلقاً لوالدتها التي استشارت طبيباً نفسياً في محاولة للاطمئنان على ابنتها الوحيدة. نصحها الطبيب بأن تبتاع لها حيواناً أليفاً، فقد يصبح ذلك ترياقاً لعلتها التي لم تشتكِ منها يوماً لأحد بل كانت تكتمها في صدرها.

خرجت الأم من الطبيب للسوق مباشرة، وتوجهت لأقرب محل للحيوانات الأليفة وشرحت للبائع رغبتها في اقتناء حيوان أليف مناسب لفتاة في عمر ابنتها، فاقترح عليها أن تبتاع قطاً لكنها لم تحبذ الفكرة لأن أسعارها كانت غالية فاقترح عليها قطاً أرخص بكثير من بقية القطط المعروضة فقالت له:

لمَ هو أرخص من غيره؟ هل القط مريض؟

البائع: لا أبداً يا سيدتي لكن جميع القطط الموجودة في المحل من سلالات نقية، أقوم بتربيتها بنفسي، لكن هذا القط أحضره صاحبه قبل أيام لأنه كما قال سيسافر ولا يريد رميه في الشارع.

الأم: وهل هو من سلالة جيدة؟

البائع: هو هجين من عدة أعراق ولا يختلف كثيراً عن قطط الشوارع، لذا لن أطلب منك مالاً كثيراً فيه.

الأم وهي تنظر للقط: لونه بشع..

البائع مبتسماً:

اللون الأسود لون محبب ومطلوب عند البعض لكنها تبقى مسألة أذواق.

الأم وهي تنظر للقط بتردد:..

البائع مبتسماً: هل تريدين أن ترين الطيور التي في المحل فهي أرخص بكثير من القطط؟

الأم وهي سارحة في القط: لا.. لا.. سآخذه معي.

البائع مبتسماً: اختيار موفق.

وضع البائع القط في قفص صغير وسلمه للأم بعدما أعطته ثمنه وقبل خروجها من باب المحل قال لها:

نسيت أن أخبرك شيئاً يا سيدتي..

الأم وهي تدير نظرها نحو البائع: ماذا؟

البائع مبتسماً: لا أعرف لكن صاحبه أوصاني بأن ينام القط لوحده.

الأم وهي تغلق باب المحل وتعود للداخل وعلى وجهها ملامح القلق:

ماذا تقصد؟

البائع بتوتر: لا أقصد شيئاً، هذا فقط ما أخبرني به صاحبه قبل تركه هنا!

الأم بقلق: هل سيؤذي ابنتي؟

البائع مبتسماً: لا لا يا سيدتي لا تقلقي أعتقد أنه مجرد كلام من شخص متعلق بحيوانه الأليف، فالقطط حيوانات رقيقة ولا تؤذي أصحابها لذا لا يوجد سبباً للقلق وأنا خبير في هذه الحيوانات وأستطيع أن أقول لك بكل ثقة أن هذا القط لن يؤذي ابنتك أو أي أحد في المنزل.. كان يجب أن لا أقول ما قلته أنا المخطئ أعتذر.

الأم وهي تتوجه نحو باب الخروج وعلى وجهها نظرة ارتياب:

شكراً.. طبت مساءً.

خرجت الأم من المحل وتوجهت مسرعة للمنزل كي تفاجئ ابنتها بهديتها وقبل وصولها عند عتبة المنزل وضعة القفص أرضاً وبدأت تبحث بين مفاتيحها عن مفتاح الباب لكنها أسقطت المفاتيح عندما قام القط بخدشها بمخالبه التي أخرجها من بين قضبان القفص، وصرخت الأم من المفاجأة والألم، وركلت القفص بلا شعور فبدأ القط يصدر فحيحاً كالأفعى ويتقلب في القفص بقوة.

نظرت الأم لهذا المشهد المخيف والذي لم تعتد عليه من قبل وبدأت تفكر في إعادة القط للمحل لأنه فيما يبدو قطاً سيئاً، وصاحب المحل كان يريد التخلص منه، كما كان يريد صاحبه قبله، قررت الأم العودة للمحل الدخول للمنزل ومداواة الخدش الذي أحدثه القط في كاحلها، دخلت للمنزل وبحثت في الصيدلية عن معقم وقطن للخدش وخلال بحثها نزلت ابنتها من الطابق العلوي وسألت أمها:

ما بك يا أمي؟

الأم وهي تطبب كاحلها:

لا شيء يا عزيزتي عودي لغرفتك سوف أخرج لفترة بسيطة ثم أعود..

هل عاد والدك للمنزل؟

وقبل أن ترد الفتاة سمعت مواءً قادماً من الخارج، فتركت أمها وانطلقت جرياً بحثاً عن مصدر الصوت، وبمجرد خروجها من الباب ابتسمت ابتسامة عريضة وتوجهت نحو القفص، هرعت الأم خلقها كي تمنعها من القط الشرس كي لا تصاب بأذى، لكنها ما إن خرجت حتى وجدته في أحضان ابنتها يلعق وجهها برفق. استغربت الأم من ذلك المنظر لكنها لم تفكر كثيراً يعد رؤية ابتسامة ابنتها العريضة التي افتقدتها منذ زمن طويل.

دخلت الفتاة حاملة القط بين زراعيها وتوجهت به للمطبخ وسكبت له بعض اللبن في إناء صغير، أصبح القط محور اهتمام الفتاة منذ أن رأته قامت بتنظيفه وتمشيطه والتحدث معه عن يومها، كل ذلك تحت مرأى ومسمع الأم السعيدة بتغير حال ابنتها والمتوجسة ريبة من ذلك القط.

حل المساء وحان موعد نوم الفتاة، وبالطبع أخذت القط معها لغرقتها، وهنا زاد قلق الأم والتي وبالرغم من طمأنة صاحب المحل لها إلا أن جملته الأخيرة لها قبل خروجها أول مرة علقت في ذهنها مما دفعها لمحاولة إقناع ابنتها بلطف بأن مبيت القط خارج الغرفة أمر مستحسن لكن الفتاة رفضت بشدة فخضعت الأم لرغبة ابنتها، في صباح اليوم التالي اجتمعت العائلة حول مائدة الإفطار قبل توجه الأب لعمله والفتاة لمدرستها وخلال تناولهم طعام الإفطار لاحظت الأم بعض الخدوش على رقبة ابنتها فسألتها: 

من أين لكِ تلك الخدوش؟

الفتاة:..

الأب باستغراب: ما بك؟

الفتاة: القط الذي أحضرته أمي لي..

الأب موجها كلامه للأم: هل أحضرت لها قطاً؟

الأم موجهة كلامها لابنتها بهدوء:

اذهبي واستعدي للذهاب للمدرسة.

نهضت الفتاة من على المائدة وتوجهت لغرفتها في الطابق العلوي..

الأب باستغراب:

ما الأمر؟ ما حكاية هذا القط؟

حكت الأم ما دار بنيها وبين الطبيب الذي نصحها باقتناء حيوان أليف ليساعد ابنتها على الخروج من عزلتها وانطوائها وكيف أن القط كان يبدو عدائياً في بادئ الأمر لكنه تغير بعدما التقى بابنتهم فقال الأب:

يبدو أنه لازال عدائياً فالخدوش على عنقها واضحة..

الأم مبتسمة: لا تقلق فابنتك هي من أصرت على إبقائه بجانبها في السرير ومن الطبيعي أن تصاب ببعض الخدوش.

الفتاة وهي تنزل من الطابق العلوي:

أنا جاهزة يا أبي..

خرج الأب مع ابنته وتركا الأم في المنزل. بقيت الأم تعمل طوال النهار وخلال قيامها بأعمالها المنزلية اليومية المعتادة لاحظت أمراً غريباً، وهو أن القط قد جلس متسمراً أمام باب المنزل من الداخل، يحدق بالمقبض دون أن يتحرك قيد أنملة، ما أثار استغراب الأم ليس تحديقه بقدر ثباته وعدم تحركه حتى ليلعق نفسه أو ليحرك ذيله، كان متيبساً أمام الباب وكأنه محنط.

بعد عدة ساعات واقتراب معد رجوع ابنتها من المدرسة والي عادة ما تعود قبل أبيها مع الحافلة المدرسية، قررت الأم وضع بعض الطعام أمام القط، وبالفعل وضعت قليلاً من لحم التونة في طبق ووضعته أمامه لكنه لم يتحرك أو يلتفت إليها وظل متسمراً محدقاً بمقبض الباب لدرجة أن الأم بدأت بالتساؤل في نفسها:

"هل مات؟"

مضت أقل من نصف ساعة بعد وضع الأم طبق التونة أمام القط، والذي لم يحرك ساكناً حتى ليرى محتواه، إلى أن رأى مقبض الباب يدور فدار رأسه مع المقبض في مشهد أرعب الأم التي كانت تراقبه في ذلك الوقت، دخلت الفتاة فقفز القط عليها وبدأ بلعق وجهها ومداعبتها وهي في المقابل بادلته التقبيل والمداعبة.

اقتربت الأم من ابنتها التي أصبحت أكثر سعادة وانفتاحاً على الحياة لتعانقها وتسألها عن يومها، لكن الفتاة حملت القط وكتبها وتوجهت مسرعة نحو غرفتها في الطابق العلوي، وأغلقت الباب على نفسها، انزعجت الأم في بادئ الأمر من تصرف ابنتها لكنها تغلبت على هذا الانزعاج بتذكر السعادة التي كانت بادية عليها بسبب ذلك القط.

مضت الأيام وأصبح القط جزءاً لا يتجزأ من حياة تلك الفتاة، تأخذه معها إلى كل مكان وتطعمه وتنظفه وتنام معه كل ليلة، وخلال غيابها عن المنزل في الصباح يتسمر القط أمام الباب يومياً حتى تعود، بدأت الأم بالانزعاج من علاقة ابنتها المتزايدة بالقط، وعبرت يوماً لزوجها عن انزعاجها هذا ورغبتها في التخلص منه فقال لها:

ابنتنا تحسنت كثيراً عن السابق وأصبحت تلعب وتتحدث معنا أكثر فلماذا ترغبين في انتزاع مصدر سعاتها منها؟

الأم بعصبية: سعيدة معك أنت والقط فقط!

الأب: ماذا تقصدين؟

الأم وهي تدمع وصوتها مرتفع قليلاً:

ابنتي تتجاهلني بسبب ذلك القط اللعين!

الأب: لا أرى أن معاملتها لك اختلفت عن السابق.

الأم بصوت مرتفع:

أنت لا ترى ما أراه!!

الأب: وماذا تريدين؟

الأم وهي تكتف ذراعيها:

لا يمكنني البقاء مع هذا القط تحت سقف واحد!

الأب: وماذا تريدين مني أن أفعل؟

الأم: لا تفعل شيئاً.. أنا من سيفعل..

في اليوم التالي وخلال تسمر القط كعادته أمام الباب اقتربت الأم منه في محاولة منها لإدخاله في القفص، لكنه هاجمها بشراسه مما اضطرها لإحضار كيس قماشي وتغطيته يه وقلبه رأساً على عقب ثم قامت بربطه، كان القط خلال ذلك يموء ويفح كالأفعى ويتقلب بقوة داخل الكيس، وضعت الأم الكيس في السيارة وقادتها إلى المحل الذي اشترته منه في محاولة لإرجاعه لصاحب المحل، ولكنها وجدت بائعاً آخراً، رفض استقبال القط لذا قررت التوجه لمكان مقطوع بعيداً عن المدينة، عندما وصلت الأم أخرجت الكيس وفتحته ليخرج القط غاضباً يفح في وجه الأم المبتسمة والتي تقول:

"هذا بيتك الجديد الآن.."

ركبت الأم سيارتها وعادت أدراجها نحو المنزل..

وصلت الأم بعد مشوار طويل وكانت في عجلة مت أمرها كي تصل قبل ابنتها وزوجها لإعداد طعام الغداء ولكي تهيئ نفسها وترتب القصة التي ستخبرها لابنتها لتبرير اختفاء القط المفاجئ بدعوى أن القط خرج من المنزل في غفلة منها عندما نسيت الباب مفتوحاً بالخطأ ولم يعد من وقتها.

فتحت الأم الباب وقبل دخولها صرخت بلا شعور عندما رأت القط متسمراً أمام الباب كما اعتاد كل يوم في انتظار ابنتها. وقفت تحدق به باستغراب شديد وخلال تحديقها دخلت الفتاة وعانقت القط الذي كسر تسمره وبادلها القبلات والأحضان. كل ذلك كان يحدث تحت مرأى ومسمع الأم المنبهرة من المشهد ولم ينقطع ذلك الانبهار حتى صعدت الفتاة مع قطها للطابق العلوي.

بعد الغداء توجهت الفتاة مسرعة لغرفتها لقضاء يومها مع القط وتركت الأم والأب على المائدة يتحدثان:

الأب: ما بك؟ تبدين قلقة اليوم؟

الأم وهي سارحة: لا شيء

الأب: بماذا تفكرين؟

الأم: لا شيء.. انس الأمر

في صباح اليوم التالي أعادت الأم الكرة وأخذت القط بنفس الطريقة ولكن لمكان ناءٍ مختلف في الطرف الآخر من المدينة، وهذه المرة لم تفتح الكيس وتركته مربوطاً ورمته وقالت:

"لنرى كيف ستعود الأن.."

ركبت الأم سيارتها وعادت للمنزل..

عند وصولها وقبل أن تدير مفتاح الباب للدخول قالت في نفسها:

"فليسامحني الله كنت مضطرة لفعل ما فعلت، لأني بدأت أفقد ابنتي بسبب ذلك القط اللعين.."

دخلت الأم المنزل لتجد القط على نفس حاله كما كان كل يوم أمام الباب جالساً متسمراً ينتظر الفتاة..

لم تصرخ الأم فالرعب وهول الوقف الذي رأته أخرسها ودفعها لوضع يدها على فمها والتحرك مبتعدةً ببطء عن القط المتسمر أمام الباب وهو بدوره لم يلتفت إليها، جلست الأم على الأريكة تراقب ذلك القط وهي مرعبة حتى دخلت ابنتها لتعانقه كعادتها وتصعد به للطابق العلوي، بقيت الأم في مكانها ولم تتحرك حتى عاد زوجها من عمله ليجدها بتلك الحالة مما دفعه للسؤال:

ما بك؟

لم ترد الأم على زوجها ونهضت من أمامه وذهبت لغرفتها..

لحق الرجل بزوجته وسألها:

ألم تعدي لنا طعاماً اليوم؟

لم ترد الزوجة واكتفت بمعانقة وسادتها والتحديق بالنفاذة..

في اليوم التالي تسمر القط كعادته أمام الباب وبدأت الأم تبرر في عقلها سبب عودته وانتهى بها الحال بإقناع نفسها بأنها لم تربط الكيس بشكل جيد وأنه خرج بسهولة لهذا السبب ولكن هذا لا يبرر عودته قبلها من تلك المسافة البعيدة، جلست الأم تفكر لدقائق واستقرت على قرار قتل القط وبهذه الطريقة تضمن اختفاؤه من حياتها وحياة ابنتها وإلى الأبد.

قلبت الأم الأفكار في رأسها عن أفضل طريقة لقتل ذلك القط، خطر على بالها استخدام السم لكنها لاحظت أنه لا يأكل كثيراً أو بالأحرى لم تراه يأكل أو يشرب من قبل مهما كان الطعام مغرياً وعزت ذلك إلى أن ابنتها كانت تطعمه في خلوتها معه، فكرت لبرهة واستقر بها الحال على أنها ستربطه في الكيس مرة أخرى وتدفنه حياً في باحة المنزل وبالفعل قامت بربطه في الكيس بعدما حفرت حفرة عميقة في حديقة المنزل ورمت بالكيس في قاعها وبدأت بطمرها بالتراب لردم الحفرة.

عادت الأم للمنزل وأحست بارتياح شديد عندما دخلت ولم تشاهد القط متسمراً كعادته أمام الباب، فتوجهت لغرفتها وقررت أخذ حمام ساخن للاغتسال من كل الأتربة التي علقت بها بسبب الحفر.

انتهت الأم من الاستحمام وتوجهت للمطبخ مبتسمةً مروراً بالمكان الذي كان القط يقف فيه كل يوم، بدأت بتمتمة أغنية كانت تنصت لها خلال حمامها وهي تعد طعام الغداء، سمعت الأم صوت إغلاق الباب في موعد حضور ابنتها فقررت ترك ما في يدها والتوجه لها والتي وبلا شك ستكون مستاءة من اختفاء القط وستحتاج صدراً حانياً لتبكي عليه، لم تدرك الأم ابنتها فقد صعدت مباشرة لغرفتها ودخلت الحمام وأدارت صنبور الماء، صعدت الأم درجات السلم وهي مبتسمة لانتهاء كابوس القط وعودة ابنتها لحالتها السابقة، دخلت الأم وطرقت باب دورة المياه على ابنتها وقالت وهي مبتسمة بارتياح:

اخرجي يا ابنتي وأغلقي الصنبور ولا تبكي..

الفتاة: سأخرج حالاً يا أمي حالما انتهي من تنظيف القط! لقد وجدته ينتظرني أمام الباب وجسده مغطى بالأتربة!

من يؤمن برأي غيره فيه كفر بنفسه..

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا