النوم الأسود لمروى جوهر 2

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-02-29

(2) 

أقام إخوتي معنا طوال فترة الحداد، ما أسخفه من مسمى6، هل يمكننا أن نحدد للحزن فترة؟!

إنما هي فترة الموازرة التي يجب أن تجتمع فيها العائلة ثم يذهب كل منهم إلى حياته التقليدية، زوج وأولاد ومدارس وعمل واحتياجات، الحياة ملهاة كبيرة أكبر من الحزن دوما، والموت سنة الحياة، ونحن جميعا نعتاد الأرض بالتدريج، مر قليل من الوقت، ورأيت جميع من حولي يمارس حياته الطبيعية وكأن شيئاً لم يكن! أما أنا فقد استسلمت لحزن عميق رغما عني، ورغم علمي أنه لابد منته في نهاية الأمر.

أيقنت أنه في الغالب لا أحد يهتم بمشاعرك.. بهمومك أو طموحك، بما جنيته أو فقدته.. بغتاك أو فقرك.. بصحتك أو مرضك، لكنهم سوف يهتمون لكل ذلك ولكل تلك التفاصيل التي لم تعنيهم يوما ويجتمعون فقط عند مماتك.

لذلك تعلمت أن لا أنتظر شيئاً من أحد وأعول روحي بنفسي فقط، ظل عقلي يحدثني ويردد علي هذه الكلمات كثيراً، لم أتحدث مع أحد أيام طويلة، أغلقت هاتفي وانقطعت عن الذهاب إلى الكلية، اعتذرت عن كل حفلات الفرقة الموسيقية، لقيمات قليلة كانت تكفي لبقائي بين الأحياء، حتى إن أمي أرسلت إلى أفراد العائلة تستشيرهم في أمري.

لم أتوقع أن يهتم أحد من الكلية لقلة الأصدقاء بها، لكني فجأة في نهار يوم حزين وجدتهم على بابي.. وكان على رأسهم "يونس". 

كان يونس معيداً بنفس الكلية، يشتهر بين الطلبة بحسن خلقه، تتهافت طالبات الكلية عليه طلبا لوده، لكنه كان جاداً في عمله وفي سلوكه، متزنا وهادئ الطباع، يعلم الجميع أن أهله من الأثرياء ذوي النفوذ، يسكن في إحدى الفيلات بإحدى التجمعات السكنية الجديدة.

كان يونس بهي الطلعة مليح القسمات ويأخذ العين، وسيما يذكرني وجهه بملوك مصر القديمة، قسماته تبرز رجولة وله جسد رياضي رشيق وطويل، أسمر اللون وشعره أسود قصير، يهتم بمظهره كثيراً، يكون دوما في أناقة واضحة، وكان له صوت رخيم، ما إن يتحدث حتى يلفت انتباهك على الفور، تدربت معه مرات قليلة من قبل وتبادلنا أحاديث عامة ولم أر منه إلا كل احترام، كانت سمعته الطيبة الحقيقية تماما كشمس الصيف.

كانت حنين أيضاً من بين الزائرين ذلك اليوم، ربما هي من أخبرتهم برحيل أبي لأنها تقطن في المبنى المجاور لي وفي نفس صفي الدراسي بالكلية، لكنني لم أفكر يوما في صداقتها على نحو جاد، لا أعلم لماذا؟ ربما كان مظهرها السبب، قصة شعرها التي تشبه الرجال، وملابسها الجريئة غير التقليدية، تضع الكثير من المستحضرات التجميلية على جسدها لتبدو بشرتها بلون برونزي، تضعه باحترافية فيبدو غير مصطنع، وتملأ الأوشام غير المفهومة معظم جسدها، ربما شعرت أنها لا تهتم بالموسيقى أكثر من مظهرها، فلم أفتح لها بابي يوما.. فقد كنت أنا الفتاة صاحبة الطلة البريئة كما يقولون، كانت تراني حنين في الكلية، فتسألني عن سر بياض بشرتي النقية وحمرة وجهي الطبيعية، هل أصبغ شعري اللون البني؟ هل أضع عدسة عين بنية اللون؟ كانت تهتم بتلك الأشياء كثيراً، فتسألني، هل عالجت حاجباي ورموشي ليصبحا كثيفين؟ هل أضع مرطبات بشرة مستوردة؟ لم تكن تعرف أنني لا أحب أي شيء صناعي على الإطلاق، فبرغم أنني لم أتخلق عن موضة الأزياء لكني لم أتعمد أبداً لفت الأنظار، حتى إنني لا أرتدي الكعب العالي إلا في المناسبات فقد كان طول قامتي لا يحتاجه.

بالطبع أحب أن أبدو جميلة لكني أحب قبل ذلك أن أكون بسيطة ولا أقبل أن أكون مصطنعة، لا أحب أن أصبح محور حديث أو نظر المحيطين بي، فالمجتمع يعتبرني مختلفة بالفعل لمجرد وجودي في فرقة موسيقية، وتأخر موعد رجوعي إلى المنزل عن التقليدي كان يكفيني، لا أريد مزيداً من لفت الانتباه، أريد أن أكون وشأني.

قامت أمي بتحية الزائرين وأدخلتهم أختي إلى غرفة الصالون، قمت لأرتدي ملابس مناسبة ثم خرجت أستقبلهم..

عرفت من صمتهم وأعينهم الحزينة أن الحزن قد بدلني على نحو كبير.. سلمت عليهم في وهن وقلت:

شكر الله سعيكم جميعاً.

ردت حنين وهي تنظر إلى الجميع كأنها تتكلم بالنيابة عنهم..

البقاء لله يا فريدة.. نعتذر عن المجيئ دون ميعاد، هاتفك مغلق طوال الوقت كأنك في عزلة، كما أنني عندما أبلغتهم في الكلية أردوا جميعا تقديم واجب العزاء.

قلت حينها في ثقة: كأنني أنفي تهمة عني.

شكراً لكم جميعا. لا أخاف العزلة ولا أعتبرها علامة حزن، إنما هي وقت نلتقط فيه الأنفاس وتجمع شتات أمرنا لنستطيع المواصلة.

دخلت أختي لتقديم القهوة، نهض يونس قبل الجميع وتناولها من يدها شاكرا، وأكمل الحديث ناظراً إلي:

أوافقك الرأي تماما، كل منا يحتاج مثل هذه العزلة من وقت لآخر، لكننا لو نعلم لطف الله بنا في أشد الأوقات قسوة.. لتمنينا عدم زوالها خشية زوال رحمته، لكننا لم نستطيع تركك في مثل هذه المحنة، رحم الله والدك وألهمكم الصبر.

قلت حينها  وقد غلبني الحزن..

اللهم رحمتك.

نظر إلي يونس طويلا، وشعرت أنه يشعر بي أكثر من الآخرين، ثم قال في نبرة جادة.

أتمنى لو أن تكون عائلتك الجديدة.. على الأقل في الكلية، فلتعتمدي علينا في أي طلب في مثل هذه الظروف.

جاءت أمي وقد سمعت ما يقول فابتسمت له، ابتسمت أيضاً ممتنة لما شعرت به من صدق عرضه وقلت:

أشكرك.

نظرت إلينا حنين وأكملت..

بالطبع يا يونس، لن نتركها من الآن لتعلمي يا فيرد أن أمامنا عملا كثيراً لم ينجز بعد في الكلية، نريدك أن تعودي في أقرب وقت. 

تحدث يونس على الفور..

خذي ما شئت من وقت لراحتك لكن السرعة في العودة مهمة للغاية، أمامنا عمل كثير كما تقول حنين، شهور قلائل وتنتهي السنة الدراسية، أسمحي لي أن أتصل بك من حين لآخر لأطمئن عليك..

قلت..

بالطبع يا يونس..

ثم وجدت أن الكلام موجه له فقط فتداركت مسرعة:

أشكركم جميعاً.

كنت أثق في يونس تحديداً لسبب لا أعلمه، تبادلنا أرقام هواتفنا وتقرب إلى حينها أو أقول: إننا تقاربنا شيئاً فشيئاً، ثم كثرت مكالماتنا الهاتفية وطالت، حتى أصبحت دورية ثم يومية، ثم أغلب أوقات اليوم،  وكان يونس كثيراً ما يتحدث معي عن حسن الظن بالله، لم أر في حياتي  إنسانا بهذا اليقين الذي كان يملأ قلبه، كان في أبسط تعبير شديد الإيمان قوي الحجة، ذكرني كثيراً بجزاء الصابرين عند المصائب، وأن اليأس هو بداية الكفر، فاحتسبت صبري عند الله على فراق أبي، ظل يذكرني دون ملل من أكون.. ليعود إيماني من جديد حتى شعرت أنه كان يعرفني منذ مولدي!

تذكرت مع يونس نفسي.

أنا الفتاة التي امتلأ قلبها شغفا بالحياة والحب والموسيقى، أنا التي ترى في نور كل فجر جديد أملا جديداً، أنا التي تؤمن ببداية مختلفة عقب كل نهاية مؤلمة، أنا فريدة، المحبة للخالق والممتنة له لمنحي كل هذه النعم، أنا المشتاقة للخير بكل أنواعه، والتي لا تهدأ حتى ترى حلمها حقيقة، أنا التي يجب أن تعوض أباها عن رسوبها وتنجح هذه المرة.. في الدراسة، وفي الحياة.. هل نسيت كل هذا؟!

بعد تلميح تجاهلته.. لحقه يونس بإلحاح لبيته على مهل، بدأنا نلتقي ثلاثتنا. أنا وهو وحنين في كافيتريا قريبة من بيتي، شجعني يونس حينها على الرجوع إلى الكلية وإلى العزف أيضاً، وقد وضع خطة محكمة لتعويض كل ما فاتني، فعزمت على المواصلة من أجل أبي وتقديراً الإخلاص يونس، لذلك شكرتهما في سري ألف مرة.

كان يونس يعشق الكمنجة والبيانو مثلي تماما، وكان له آراء ووجهات نظر في الحياة مشابهة لي أيضاً، لكنه جعلني لا أنظر للأشياء كما تبدو.. إنما إلى ما تحاول أن تخبرني هي به، علمني أن أرتدي حذاء الناس لأكون بمكانهم وأرى بأعينهم، مع كل ذلك لم أكن لأترك نفسي تمثل إليه كما فعلت بحمق من قبل مع شخص آخر.

وكيف لي أن أفعل؟ لم يحدث أن أحببت أحداً وأحبني في المقابل، إما أن أحبه أنا أو يحبني هو، دائما هناك علاقة فردية بائسة، وحيدة أنا رغم وجود الكثيرين حولي، لا أعلم هل هذا قدري الذي لابد أن أواجهه؟ أم أنني السبب في كل ما يحدث لي؟

كانت تجربتي الأولى - والأخيرة أيضاً - مليئة بالندم، كان عازفا في الفرقة الموسيقية، في البداية لم يلفت انتباهي، منذ أن رأيته لم يطمئن قلبي إليه، وأخبروني أن هذا الشخص أهوج لا يعرف ماذا يريد، لكنه كان حريصا على لقائنا بصفة دورية في أي فرصة تسمح بذلك، لم يتركني لأنفرد بنفسي ساعة واحدة دون السؤال عني، لم يكن يطيق غيابي، انتبه جميع من حولي لاهتمامه بي، بل أقنعوا قلبي أن يتجاوز ما أحس منه، قلبي لم يفعل في البداية لكنني سبقت قلبي، ويا ليتني ما فعلت، مع الوقت هيئ لي أنني أشبهه، أنجذب إليه، بعد مرور أشهر من شحني بكثير من الاهتمام والحنان.

تشجعت لأول مرة في حياتي وصارحت، بدلا من سماع كلمات إعجاب متبادلة أنتظرها بدا في صدمة! وضح أنه لم يكن يقصد كل ما ظننته.

ما ظننته!

وكأنني كنت أتخيل وحدي، صدمت بشدة، لكنني كذبت نفسي ولم أبتعد عنه، إلى أن بدأت أفعاله تدريجيا تثبت قوله، إنه لا يحبني فعلا، ومع ذلك كنت قد عشقته للأسف، عشقت حتى ملامحه، تغاضيت عن الاختلاف من أجل بقائي داخل دائرته التي أعلم أنني لا شيء فيها، لم يكن ليدري بغيابي إذا غبت أو يفرح بوجودي إذا رجعت، مع ذلك كنت أتناسى وأختلق له الأعذار، سألت نفسي كثيراً لماذا هو؟!

لكنها لم تجبني إجابة منطقية، وكأنني ابتلعت الطعم ولا أستطيع الفرار، كرهت ضعفي أمامه كلما رأيته. نسيت كل شيء، وبعد محاولات فاشلة لأبتعد عنه أحسست بالذنب تجاه نفسي، فجاء قراري حاسما، لابد أن أتغير من الداخل، لابد أن أقع في حب نفسي أولا لأحب شخصاً آخر، تدربت على عدم الاكتراث له أو لكتاباته على مواقع التواصل الاجتماعي التي أرهقت قلوبنا.

حينها تعلمت أن القرار الأصعب على النفس هو الأصلح لها، لا لم يكن هناك تشابه بيننا، فقط أوهام تمنيتها، من أجل كل هذا لم يكن سهلا أن أحب مرة ثانية، أظن أن يونس كان يراقبني من قبل، ربما أعجبته، أو لعله لا يقصد شيئاً، في جميع الأحوال لا أريد أن أنجرف في اتجاه لم أحدده لنفسي، لا أريد هذا الشلال الذي يفقدني التحكم في التجديف، لا أستطيع أن أقع في نفس الفخ مرة أخرى، ربما من الحكمة أن اقلل من معرفتي بيونس بشكل عام الآن

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا