النوم الأسود للكاتبة مروى جوهر

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-02-29

(1) 

كنت على يقين من قدومه في يوم من الأيام، تخيلت تفاصيله، رتبت له كل شيء وتدربت على مواجهته، ملأت عقلي بكثير من عبارات الإيمان والمنطق، تأملت الكثير من المواعظ في قصص القرآن وفي السيرة، كل هذا لأصبر وأبقى صامدة حين موعده، ذلك الموعد الذي لا يخلفه أبداً، لكني الآن عندما وقفت أمامه وجها لوجه، خارت قواي، لم أتحمل المواجهة كما ظننت، فجأة نسيت كل الاستعدادات التي قمت بها على مر السنوات الماضية.

إنه الموت، تلك الكلمة التي نتحاشاها ونطل عليها "شر"، المعنى الذي لا ندركه، الوجه الآخر للحياة، أو الحياة الأخرى التي سوف نحياها ولن نسردها أبداً، لكنه يقينا الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة.

عجبا أن تكون الحقيقة الوحيدة في الحياة هي نهايتها، ليتنا لا ننسى أبداً أن الوداع أمر محسوم، مكتوب علينا، فنحسن لمن نحبهم تماما كما نحزن بعد فراقهم.

وقفت أما جسد أبي المسجي أمامي، أنظر إليه، أتخيله يستفيق في أي لحظة من غفوته.. ينظر إلي في حنان ويسأل "هل أذن الفجر بعد يا فريدة؟"

لكنه لمي فعل، إنما وقد في سلام لم أعهده عليه من قبل، طالما كان نومه متقطعا من كثرة التفكير في مسؤولياته تجاهنا، أراه رقد في سلام وهدوء دون أن يحمل همنا بعد الآن.

غسلوه ولا حول له ولا قوة، هذا الذي كان يوما ما بطلا رياضيا يهتف الناس باسمه، الآن جرده الموت من كل شيء حتى اسمه! عندما فارقتنا روحه سمعتهم يقولون "أحضروا الميت هنا.. انقلوا المرحوم هناك.. أحضروا الكفن للميت"، لم يعد أحد يردد اسمه مرة أخرى!

حقيقة قاسية جدا، لكن عزائي الوحيد أنني سوف أذكر اسمه كل ليلة، بل كل ساعة، سوف يذكرك قلبي كل دقيقة يا أبي إذا لم يسعفني لساني وعقلي.

كنت أفكر في هذا اليوم يا أبي بعد كل مرة أحتضنك فيها، لكني لم أتوقع أن تتركني فجأة هكذا رغم علمي التام أن الموت لا يأتي إلا فجأة ودون استئذان.

تمنيت لو أنك تبقى قليلا لترى أحفادك كما فعلت مع أخواتي الثلاثة، أو على الأقل تراني أنهي دراستي الجامعية، لأعوضك  عن رسوبي في آخر سنة دراسية، تمنيت لو أخبرك أنني لن أخذلك ثانية وقد شجعتني على دراسة الشيء الوحيد الذي أحببته في الدنيا، "الموسيقى"، أدرسا وأعمل عازفة في فرقة موسيقية شهيرة تأخذ من وقتي الكثير، هل أجد السلوان فيها الآن؟ هل تعزف لي الكمنجة لحن بطعم الموت؟ هل تنقذني من تعاسة آتية ووحدة طويلة؟ لا أدري، إنما أعلم أن روحك سوف تتابعني وتطمئن علي دوما، استرح يا أبي ولتنعم بهدوء لم تذقه من قبل.

أحسست بخدر يسري في عقلي وقلبي قبل جسدي، كنت أراني أفعل كما يطلب مني رغما عني، تبكي أمي وتنهار أخواتي ولا أفعل مثلهم، أرى المشهد كأني أشاهد فيلما مكرراً، أو لعله كابوس معتاد أتمنى فقط أن أستيقظ منه، فأرى أبي جالسا بيننا في المنزل، أو آتيا من المسجد، أو حتى في المشفى كما كان، لكن لا.. لا أريد أن أراه يتألم مرة أخرى كما كان، فلينعم بالسلام الذي أنار وجهه وأرواح روحه، وتلك الابتسامة الراضية التي باتت تزينه.. سلاما عليك يا حبيي إلى أن نلتقي.

جاء المشهد الذي لن يفارق ذاكرتي ما حييت، تعلقت عيناني بتابوت مغلق على جسد أبي، يحمله أناس لا أميزهم أو ربما أعرفهم ونسيت، رأيت هذا المشهد مراراً لأناس لا أعرفهم، فكان لساني ينطلق بالتوحيد من تلقاء نفسه، الآن لا أدري ماذا أقول أو افعل! أشعر كأن قلبي يطير هناك معه.

وسط المقابر رأيت قبره هنالك مفتوحا من بعيد.. بيته الجديد، ها قد جاءت اللحظة الحاسمة، وهذا ال "تربي" كما يطلقون عليه ينتظر أبي ليواريه عن الدنيا! ازداد صوت النحيب عندما أنزلوه هناك، إنها اللحظة الأخيرة بلا شك، بعدها.. توقف الوقت ووقفت مع الجميع ندعو له بالرحمة قدر استطاعتنا.

انتهت مراسم الدفن التي جعلتني أستفيق رغما عني، ما أصعبها من مشاعر، عقلي لا يصدق أنه قبل قليل كان هنا معنا على الأرض، تساءلت هل يكون هناك نور في هذا الظلام كما ندعو له به؟ هل يشعر أبي بكل هذا؟ هل يسمعنا ويأنس بنا؟ شيء لا أعرفه بداخلي يؤكد لي صدق كل هذا. فقط شيطاني يخالفني لكني أتغلب عليه دوما.

غريبة هي الدنيا بكل أفراحها وأحزانها، يتبادلان الأدوار على مر الزمان، لا ندري من فيهما يأتي أولا، الفرح يتلاشى والحزن يندمل، الآن أدرك القاعدة الوحيدة الثابتة في الحياة "لا شيء ثابت.. لا توجد ثوابت"، لذلك تعودت ألا أغتر بالفرحة أو أنغمس في الحزن، فكلاهما غير دائم، الآن أتمنى لو أتمسك بأحبتي وأعبر لهم عن حبي ثم أتجاوز عن أخطائهم، ففي كل الأحوال سنرحل لكننا لا ندري من منا السابقون ومن اللاحقون.

تأملت الميلاد والحياة وكل ما نواجهه عمداً أو غصبا، ما نفرح به لوقت قصير ونظنه دائما، أيذهب كل ما مررنا به من تجارب هباء؟ أتكون حياتنا كلها لا شيء؟ وتساءلت حينها:

"ما العبرة التي قدمها لنا الموت على طبق رائق شفاف؟

وكانت الإجابة واضحة كنور شمس الصباح، ألا نأمن الدنيا.. فالعمر مهما طال بنا لابد في النهاية من دخول القبر".

 

التعليقات

Haader Gamaal : رائعه جدا
هاله مراد : جميله الباقي
جنا عمرو : يسلمو جميله
جنا عمرو : #جن_يساهم_في_العثور_على_جثث_الأموات🕷️😱
جنا عمرو : #احداث_حقيقيه
جنا عمرو : #اشباح_عبد_الوهاب
جنا عمرو : #قناة_الرعب_الصوتي

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا