كالثمن
سوق مفتوح لبيع الطيور بكل أنواعها.
كان قِبلةً لكل هواة تربية الطيور والاعتناء بها.
بعضها يباع للتربية والتزاوج وبعضها الآخر يتم اقتناؤها للزينة وبعضها للأكل.
من بين رواد السوق رجل يعشق تربية الحمام، وكان اهتمامه الزائد بها سبباً في طلاقه من زوجته الأولى، وتوتر علاقته بزوجته الثانية، لأنه كان يمضي جل وقته مع تلك الطيور في العشة الكبيرة التي أنشأها لأجلهم في سطح منزله، كان يملك منها أعداداً كبيرة وأنواعاً كثيرة، لم يكن يتاجر بها أو يكسب من ورائها بل كان يربيها ويعتني بها ويوسع تلك العشة كلما زادت أعدادها
كان ينفق أغلب دخله على تلك الطيور بينما يشح في النفقة على أهل منزله بسبب تلك الهواية، لكنه لم يكن يكترث وكانت تلك الطيور حياته بكل ما تعنيه الكلمة من معنى
كان هذا الرجل خبيراً بمعظم أنواع وسلالات الحمام، وكان يحب اقتناء النادر منها وبالرغم من أنه كان يملك من السلالات النادرة ما يفوق أي هاوٍ آخر في مدينته إلا أنه كان دائماً يبحث عن شيء مميز وجديد في ذلك السوق الذي حفظ جميع أركانه وتربطه علاقة قوية مع أغلب البائعين فيه
قرر الرجل يوماً العودة من السوق بعد انتهاء جولته اليومية فيه، والتي تنتهي غالباً باقتنائه لزوج أو زوجين من الحمام من باب الرغبة فقط لأنه غالباً لا يجد ما يشد انتباهه، فهو اقتنى أغلب السلالات النادرة، والتي لو عرضها للبيع يوماً لأصبح من الأثرياء، قبل رحيله لفتت نظره حمامة كانت تقف فوق أحد الأقفاص ويجلس أمامها فتى صغير يحدق بها، اقترب الرجل بتوتر من الفتى وحمامته لأنه لم يرَ مثل هذه السلالة من قبل، فريشها ومنقارها وذيلها لم يكونوا يشبهون أياً من السلالات التي رآها أو سمع أو قرأ عنها من قبل. سال لعاب الرجل على تلك الحمامة ولم يخرج من فمه إلا كلمة
بكم
الفتى: إذا كنت تسأل عن ثمنها فأنت لا تعرف قيمتها ولا تستحقها.
غضب الرجل من كلام الفتى وقال
هل أنت هنا لتبيع أم لتستهزئ بالناس؟
الفتى بهدوء وهو يقلب عود من القش في فمه
أوصاني أبي بأن أبيع هذه الحمامة لمن يعرف قيمتها، وأنت من الواضح أنك لا تعرفه، لذلك لا أستطيع أن أبيعك إياها.
كاد الرجل أن يثور غضباً من كلام الفتى، لكن رغبته الجامحة في اقتناء تلك الحمامة جعله يتودد له ويقول مبتسماً
اعذرني على جهلي فأنا مربٍ مبتدئ للحمام، وهذه الحمامة أعجبتني وأريد اقتناءها
الفتى وهو يحيد بنظره عن الرجل: الحمامة ليست للبيع
كظم الرجل غيظه وابتعد عن الفتى وخرج من السوق.
لم يستطع الرجل نسيان تلك الحمامة وعاد متوتراً وغاضباً لمنزله تلك الليلة مما تسبب في نشوب شجار كبير بينه وبين زوجته على سبب تافه تركت على أثره الزوجة المنزل وقالت
"عندما تنضج وتصبح رجلاً وتتخلص من تلك الحظيرة سأعود لهذا المنزل..
لم يأبه الرجل لكلام زوجته ولا من رحيلها فتفكيره كان منصباً على كيفية الحصول على تلك الحمامة الغريبة
عاد الرجل في اليوم التالي، وتوجه لنفس المكان الذي وجد فيه الصبي ليجده على نفس الحالة التي كان عليها بالأمس، لم يذهب إليه مباشرة، بل توجه عوضاً عن ذلك لأحد الباعة الذي تربطه به علاقة قوية، بحكم أنه من أفضل زبائنه وقال له وهو يشير بإصبعه باتجاه الصبي
ماذا تعرف عن ذلك الصبي
البائع وهو ينظر لما يشير إليه الرجل
تقصد الفتى الذي يعرض تلك الحمامة الغريبة
الرجل: نعم.. وبالمناسبة ما نوع تلك الحمامة التي لم أستطع أن أجد لها شبيهاً في كل الكتب التي أمتلكها عن سلالات الحمام
البائع وهو يرفع أحد الأقفاص
الإجابة على هذا السؤال لم أجدها عند أي من الباعة الذين توافدوا على ذلك الصبي لشرائها عندما قدم بالأمس وعرضها للبيع.
الرجل وهو يحدق بالصبي
ربما هي مسخ من سلالات مختلطة وليست من نسل أصيل
البائع وهو يشارك الرجل تحديقه للصبي: ربما.
الرجل وهو يحدق بالحمامة: مع ذلك أريد اقتناءها
البائع وهو يبتسم ويعود لعمله: هل أخبرك بسعرها
الرجل وهو ينظر للبائع
تقصد سؤاله الأحمق
البائع وهو يخرج حمامة من أحد الأقفاص ويتفحصها: نعم
الرجل وهو يعيد نظره للصبي
أعتقد أنها مجرد حيلة منه لرفع سعرها
البائع وهو يعيد الحمامة التي كانت بيده للقفص: ربما.
الرجل: شكراً على أي حال.
توجه بعدها الرجل للصبي وعندما وقف أمام القفص الذي تقف عليه الحمامة قال
ألا تخشى أن تطير الحمامة بلا عودة.. لماذا تتركها خارج القفص
الصبي وهو يحدق بالمارة:..
الرجل: حمامتك ما هي إلا مسخ غريب وتريد خداع الناس بها
الصبي وعينه لازالت على المارة في السوق
ارحل إذا وانسَ أمرها.
عضب الرجل من كلام الصبي ومن قلة حيلته أمام رغبته في اقتناء تلك الحمامة مما دفعه يائساً للقول
سوف أدفع لك أي مبلغ تريده مقابل هذه الحمامة.. فقط أعطني سعراً محدداً مهما كان
الصبي وهو لا يزال يحدق بالمارة
أخبرني بقيمتها وستصبح لك
الرجل بصوت يخالطه الغضب واليأس
إنها أغلى من حياتي ومن كل ما أملك ورغبتي فيها تفوق رغبتي في العيش!
نهض الصبي بعد كلام الرجل وأمسك بالحمامة ووضعها في القفص ورفعه أمامه وقال
خذها إذا.
الرجل وهو ينظر للصبي باستغراب
هل أنت واثق مما تقول
الصبي وهو يحدق في عيني الرجل بثقة: نعم.
فرح الرجل كثيراً وابتسم بانتشاء وأمسك القفص بسرعة بيده اليمنى ومد اليسرى في جيبه فقال له الصبي
ماذا تفعل
الرجل: سأعطيك ثمنها
الصبي: وهل حياتك في جيبك.. ارحل الآن.
نظر الرجل للصبي الذي مشى من أمامه باستغراب لكنه ظنه معتوهاً ولم يفكر كثيراً بعدما أصبحت تلك الحمامة بين يديه، عاد مسرعاً لمنزله وتوجه مباشرة للعشة التي كانت في سطح المنزل وفتح القفص وأمسك بالحمامة وقبلها وقال
"قابلي عائلتك الجديدة..
أدخل الرجل الحمامة في العشة، ووضعها على الأرض وبدأ يراقب اندماجها مع بقية طيوره، كان يراقبها مبتسماً سارحاً في جمالها الأخاذ، واستغرب نفور بقية الحمام منها، بقي الرجل يحدق في تلك الحمامة حتى غابت الشمس فأغلق العشة وتوجه للطابق السفلي وتناول سماعة الهاتف واتصل بزوجته التي كانت في بيت أهلها، بدأ الرجل بالتودد لها والاعتذار منها بعدما هدأت نفسه باقتناء تلك الحمامة لكن محاولاته لم تنجح في استرضائها فقد اشترطت عليه التخلص من كل طيوره، وهدم تلك العشة بالكامل فما كان من الرجل إلا أن أغلق الهاتف بغضب بعدما قال
لا تعودي أبداً فلا حاجة لي بك!
نام الرجل ذلك اليوم على الأريكة ولم يتوجه لغرفته، وعندما أفاق في الصباح توجه مباشرة للعشة كما تعود دائماً وكانت الصدمة.
وجد الرجل عشته خالية من الحمام فيما عدا تلك الحمامة الغريبة وبعض الريش الملطخ بالدماء المتناثر على الأرض، فتح الرجل باب العشة بسرعة ودخل يقلب بالعشش الصغيرة التي كان حمامه يسكنها
لم يجد لهم أي أثر سوى المزيد من الريش الدامي، لم يرى سوى تلك الحمامة تحدق به وهي تقلب عنقها يميناً ويساراً. انهار الرجل وبدأ بالبكاء تارة والضحك تارة بشكل هستيري وسط العشة، وخلال بكائه خرجت تلك الحمامة من الباب المفتوح وحلقت بعيداً وخلال تحليقها لحق بها الرجل قافزاً فوق الجداًر في محاولة منه للإمساك بها، فزلت قدمه من فوق السطح وسقط ليلقى حتفه دافعاً حياته ثمناً لامتلاك تلك الحمامة
القلب الخاوي يؤلم صاحبه أكثر من القلب العامر بالكره
.....!:":.!؟:.؟:.:!:.:!:.:!.؟:...:.؟:؟...:.:؟؟:؟:.":...:.:!:.؟:......
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا