فتيات الكشافة لميعاد راشد

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-01-30

فتيات الكشافة 

هناك مكان في داخل كل منا يذكرنا بتلك الطفولة الجميلة، وتلك الأفكار البريئة.. وحفلات الشاي والألوان المبهجة.. وهمهمة أسرارنا لأصدقائنا المقرين، وصندوق الألعاب الذي لا يقفل لكثرتها، والأمنيات التي فاقت عدد سكان العالم، والمشاجرات اللطيفة على علبة الحلوى.

لقد كبرنا.. وكل ذلك أصبح ذكرى فقط تمر علينا بين الحين والآخر أو ربما لا تمر. أكملنا طفولتنا فأصبحت ماضينا وذكرانا، ولكن.. هناك من لم يكمل طفولته.. من لم ينته بعد من شرب فنجان الشاي الخالي من الشاي في حفل الشاي.

ترجلوا من قطار الحياة قبل أن يصل بهم إلى مرحلة الرشد، لم يترجلوا من تلقاء أنفسهم، هناك من دفعهم خلسة إلى خارج القطار.. فلفظوا أنفاسهم الأخيرة.

مخيم "فتيات alkîafâ Girl سّچىُتة  في ولاية أوكلاهوما، مخيم صيفي بلغ عمره الخمسين سنة، هناك حيث تقام العطل الصيفية للفتيات الصغار والقيام بكثير من الأنشطة الرياضية الممتعة؛ ذلك المخيم الذي يقع على جبال الأوزارك يشعر به الأطفال دائما بالأمان على الرغم من أن أصوات الحشرات الليلية المرعبة. فما الذي قد يرعب الفتيات أكثر من الحشرات!

حافلة محملة بالفتيات توقفت أمام بوابة المخيم، نعم إنه ذلك الوقت من السنة حيث يقام المخيم مدة أسبوعين. وفي الثاني عشر من يونيو، فتحت البوابة ودخلت الحافلة لتمر بالطريق المؤدي إلى مركز المخيم حيث الخيام هناك. طريق كوكي تريل.. الأشجار شديدة الخضرة كانت تنحني من الجانبين على الحافلة وكأنها تقبلها، يا للترحيب الحار!

وفجأة تحولت تلك الحافلة إلى مقطوعة موسيقية شديدة التناغم، إنها الطبيعة التي جيشت عواطف تلك الصغيرات فأصبحن يغنين في تناسق أطربن به ساق الحافلة الذي ارتسمت على وجهه الابتسامة.

كان المخيم ينقسم إلى وحدات، فكل وحدة يسجل به عدد من الفتيات.. ذلك كان لتنظيم العدد الكبير من المشاركات من أنحاء الولايات المتحدة. وحدة "كايوا".. حيث توقفت الحافلة، سبع وعشرون فتاة ضمت إلى وحدة كايوا.

بدأ الظلام يخيم على المكان، واصطحب معه الغيوم. صوت الرعد كان مخيفا جداً، وضوء البرق الذي يتخلل الخيمة رقم ثمانية يضيئها تارة ويسود ظلامها تارة أخرى. تلك كانت الخيمة الوحيدة من وحدة "كايوا" المعزولة بعيداً على حدود المخيم، وجميع الخيام الأخرى كان بعضها قريبا من بعضها قليلا إلا تلك.

"دوريس ميلانير" ذات العشرة أعوام، و"ميشيل غوري" ذات التسعة أعوام، و"لوري فارمر" ذات الثمانية أعوام.. هؤلاء الصغريات هن اللاتي كان مبيتهن في الخيمة رقم ثمانية.

في منتصف الليل.. لحظة الانتقال إلى يوم جديد ليصبح التاريخ الثالث عشر من يونيو 1977م، مشرفة الوحدة كانت على وشك الخلود إلى النوم عندما سمعت بعض الأصوات. لم تكن واثقة بحقيقة صاحب ذلك الصوت، صوت ضفدع مع صوت طفيف لبوق، ولم تكن واثقة أنها تسمع صوت أطفال أم لا. يبدو أنه صوت حيوان تقول لنفسها، فما لبثت قليلا حتى استمر ذلك الصوت لتقرر بعدها أن تخرج من خيمتها لتستكشف المكان، وأخذت معها مصباحها اليدوي.

رأت ضوءاً ويبدو أنه أيضاً منبعث من مصباح يدوي في منطقة ليس فيها خيام أي أنه لا ينبغي أن تكون واحدة من الصغيرات في ذلك المكان في الوقت الذي يفترض فيه أن يكون الجميع نائما. أشارت بمصباحها على المكان، ولكن لم يكن هناك أحد واختفى ذلك الضوء.. انتظرت قليلا وفي مكان قريب من تلك البقعة ظهر الضوء مرة أخرى وكأنه يمشي، ولكنه اختفى مرة أخرى. مشطت المشرفة ما يحبط بالمكان بضوء مصباحها ولكن لا شيء، قررت أن تفحص الخيام وتجول حولها.. كل الخيام كانت هادئة والفتيات ينمن في سبات عميق. فعادت إلى خيمتها وأخلدت هي الأخرى إلى النوم.

في ساعات الصباح الباكر، كانت الشمس تشق طريقها للشروق.. لم يكن النهار بعد، وكان لا يزال المكان مظلما قليلا. أطفأت المشرفة منبهها، وخطت خارج الخيمة لتحصل على الماء الدافئ للاستحمام. رائحة المطر، وقطرات الندى على وريقات الشجر.. أحست المشرفة بالرطوبة والبرودة في آن واحد. كان الجو لطيفا.. يبعث السكينة.

حملت أشياءها، وبدأت تسلك الطريق المؤدي إلى دورات المياه، وبينما كانت تمشي في طريقها متأملة جمال المكان وهدوء.. وإذا بشيء ما يشد انتباهها ملقي على مكان ما بجانب الطريق. كان ذلك بعيداً قليلا ولكنها استطاعت رؤية حقائب نوم ملقاة هناك، فمشت نحوها، وما إن وصلت وجدت فتاة ميتة ملقاة بجانب الحقائب!

تحركت الوحدة الطبية، ومشرفات الوحدات الأخرى، وهن لا يعلمن ماذا يفعلن.. تعتقد إحداهن أن الفتاة خرجت في الليل من خيمتها رقم عشرة فهاجمها أحد الحيوانات. تلك الفتاة كانت دوريس ميلانير.

في دوامة القلق والخوف تلك، أراد أحد المشرفين أن ينقل حقائب النوم تلك، ولكنه بان له حين رفعها أنها ثقيلة على غير العادة، ففتحها بسرعة ليكتشف الحقيقة المروعة. كانت تلك الحقائب تحوي أجساد الفتاتين الأخيرتين من الخيمة نفسها. فهرعت المشرفة الأخرى واتصلت بالطوارئ.. لا أحد يعلم أكانت نتلك جريمة قتل أم ماذا؟ كل ما علموه هو أنهم يحتاجون إلى النجدة.

صورة

من اليمين ميشيل، دوريس ثم لوري

لم يعلموا أيا من الفتيات الأخريات بالحادثة، واستعدت الحافلات لإرجاعهن إلى أهاليهن. وفي الأثناء نفسها طرق باب والدة ميشيل غوزي.. من هناك؟ سألت جورجيان غوزي، أجاب الطارق إدارة فتيات الكشافة، هنالك ما نود إخبارك به بشأن ميشيل، تساءلت جورجيان عم إذا كانت هناك مشكلة يتعلق بابنتها، ولكنهم طلبوا منها الدخول أولا، وبينما كانوا يدخلون أخذت تتساءل جورجيان والقلق يعتريها: هل ابنتي على ما يرام! فأخبروها أن حادثة وقعت في المخيم ولكنهم لم يخبروها أبداً أن ابنتها في عداد الموتى. إنها نشرة التاسعة.. بعد ذلك من أخبرت والدي ميشيل أنها قتلت وكيف قتلت.

لوري وفتاتان أخريان وجدن ميتات على بعد من خارج خيمتهن. قالت الإدارية بهدوء وتنهد شديد لوالد لوري فارمر. وعلى عكس ميشيل التي ارتادت المخيم غير مرة كانت هذه المرة أن لوري الأولى التي ترتاد فيها مخيم الكشافة، صرحت والدتها أنها كانت في كل مرة تصرف نظر لوري عن التسجيل في الكشافة ولكنها أصرت أن تسجل هذه السنة، فهي تعلم أن ابنتها ذات الجسد الصغير جدا لا تقوي على كل تلك الأنشطة ولن تقوي أن تدافع عن نفسها إذا ما حدثت مشاجرة بينها وبين أي فتاة أخرى من الكشافة. نعم كان جسدها صغيراً جداً إلى حد أن وضع بها داخل حقيبة نوم.

وعلى النقيض من والدة لوري كانت والدة دوريس ميلانير التي أقنعت ابنتها أن تمضي العطلة الصيفية في المخيم وتستمتع بوقتها، فكانت دوريس مترددة فيم إذا كان الأمر سيعجبها؛ فأسبوعان هي مدة طويلة لها وهي بعيدة عن عائلتها، ولكن والدتها استطاعت استلطاف الفكرة في ذهن دوريس لتقرر بعدها الصغيرة الذهاب.

لقد حققت في كثير من جرائم القتل.. قال الطبيب الشرعي، ولكني لم أكن مستعداً تماما لرؤية ما رأيته في ذلك المخيم، كان جليا أنهن تعرضن للاعتداء الجنسي. عندما فتحنا الحقيبة الثالثة، لم أستطع استجماع قواي للوقوف.. كانت الحقيبة التي تحوي جسد لوري فارمر، لا أستطيع نسيان منظرها، كانت الصغيرة تبدو وكأنها تغط في سبات عميق. تسابقت الدموع على خد الطبيب الذي لم يستطع كبح نفسه عن البكاء وهو يسرد ما حدث وقال: لقد اعتقدت أول وهلة أنها ستستيقظ في أي وقت، وأن الأمر لا يبدو حقيقيا.. كانت مستلقية في سلام تام، هززتها بقوة لعلها تستيقظ ولكن لا جدوى، فكانت حقا ميتة، وأكمل كنت آمل على الأقل.. أنها واحدة من تلك الفتيات اللاتي لم يتعرضن للاعتداء الجنسي.. فقط واحدة، ولكن يا آسفي جميعهن تعرضن لذلك.

وجد بجانب جثث الصغيرات مصباح يدوي، وحبل نايلون، وشريط لاصق، ولكن شيئاً واحداً حير المحققين.. لماذا وجد زوجان من النظارات الطبية المأخوذة من خيمات الكشافة مرمية على الأدغال! كان الأمر يبدو وكأن القاتل كان يجرب النظارات أتناسب ضعف نظره أم لا ليعلم في نهاية المطاف أنها لا تناسبه.

أما ما يخص الشريط اللاصق وحبل النايلون اللذين وجدا في مسرح الجريمة واستخدما لتقييد الفتيات فكانا قد سرقا من بيت مزرعة يبعد عن مخيم فتيات الكشافة ميلا واحداً فقط، وفي اليوم التالي أجي اختبار كاشف للكذب على المزارع صاحب المنزل الذي اجتاز الاختبار.

من قد يكون متورطا في قتل ثلاث بريئات لم يبدأن عطلتهن الصيفية بعد؟ كان هذا السؤال الذي جعل المحققين في حيرة كبيرة من أمرهم.

بعد انتشار خبر مجزرة الصغيرات التي حدثت في الكشافة أدلت بعض مرتادات الكشافة بأنهن سمعن ليلة مقتل الفتيات صراخ فتاة تنادي أمي!.. وقالت أيضاً بعض من مشرفات المخيم إنهن رأين رجلين بلباس الجيش قبل يوم من ابتداء الكشافة، وبعض فتيات الكشافة قلن إنهن رأين رجلا خلف إحدى الخيمات مرتديا حذاء خاصا بالجيش. وأفادت أيضاً أخريات أنهن شاهدن رجلا قريبا من المراحيض في ليلة الجريمة نفسها..

وعلى الرغم من تعرضهن جميعا للاعتداء الجنسي إلا أن سبب موت دوريس كان الخنق، وميشيل ولوري كان بسبب ضربات على الرأس.

وكان هناك خيط قد يدل على القاتل؛ وذلك لأنهن اغتصبن.. فأسرع الأطباء الشرعيون بتحليل السائل المنوي الذي وجد على أعضاء الفتيات التناسلية. ثم فحص المحققون التطابق بين العينة الموجودة في حوزة الطب الشرعي وجميع المزارعين القاطنين بالقرب من المخيم.. ولكن لا جدوى، فلم يتطابق على أي من أولئك الرجال.

في كهف ليس ببعيد من موقع المخيم، جد المحققون أدوات تعود لمسرح الجريمة؛ الشريط اللاصق نفسه، وكيس قمامة، وعلاوة على ذلك صورة لامرأتين ونظارات طبية مأخوذة من خيمة إحدى مشرفات وحدة كايوا. من قد يكون استعمل ذلك الكهف مخبأ؟ جواب هذا السؤال هو الوحيد الذي سيقود إلى قاتل الصغيرات.

كانت صور تلكما المرأتين هي فقط التي في إمكانها أن تقود إلى خيط ما، فتم نشرها في الصحف والأخبار المحلية على أمل أن يتعرفها أحد ما. وكانت حقا تلك الصور ملتقطة في حفل زواج من قبل شخص يعمل حارس سجن، أما عن الشخص الذي قام بتحميضها فيدعي "جين هارت" وهو الذي قام بتحميض الصور وهو يمضي مدة حكمه داخل السجن لجريمة الخطف والاغتصاب عام 1966م.

أطلق سراح جبن في عام 1969م. ولم يلبث قليلا حتى قام بأربع محاولات لعمليات سطو، فأعيد إلى السجن، وكان الحكم هذه المرة خمسين سنة سجنا! ولكنه هرب في عام 1973م في أثناء نقله إلى سجن آخر، وظل هاربا من العدالة الأربع السنين التالية.

ولارتباط جين بتلك الصور كان جليا لكثير من الناس أن له يدا في مقتل تلك الصغيرات، ولا سيما مع سجله الإجرامي. كانت والدته تعيش بالقرب من مخيم فتيات الكشافة وقد كان هو حراً في الهواء الطلق هاربا ومراوغا للقانون، فسواء ارتبط حقا في قضية مقتل فتيات الكشافة أم لا.

كان لديه أيضاً دين يسدده للقانون بسبب هربه عام 1973م من السجن، فاستمر البحث عنه عشرة أشهر تماما قبل الإطاحة به أخيراً والقبض عليه.

كان المشتبه به الرئيسي في قضية مقتل فتيات الكشافة، فكان كان كل الأشياء تقود إليه، ولكن مع الأسف نتائج الحمض النووي لم تكن متطابقة! وفي آذار من عام 1979م، لم يجدا أي دليل قاطع يخبر أن جين هو من ارتكب تلك الجريمة البشعة، فتمت تبرئته في أبريل من العام نفسه. كما أن آثار الأقدام التي وجدت خارج الخيام في ليلة الجريمة لم تتطابق مع قدمي جين ولا البصمات.

وبعد أسابيع من عودة جين إلى السجن لإكمال عقوبته التي تعود إلى عام 1969م توفي في السجن إثر سكتة قلبية وعمره آنذاك خمسة وثلاثون عاما..

جريمة فتيات الكشافة لم تحل، ولا أحد يعلم حتى اليوم من ارتكبها، وأدلة كثيرة تركت خلف القاتل ولكن لم يستطيعوا التوصل إليه. واليوم قد مرت أربعون سنة على تلك الليلة القاسية التي أزهقت فيها ثلاثة أرواح بريئة. هجرت الحياة مخيم فتيات الكشافة؛ فقد أغلق رسميا في صباح اليوم الذي تلا الجريمة ولم يفتح ثانية. المكان الذي عرف بالمتعة والأوقات الجميلة أصبح اليوم ذكرى قاسية لسكان أوكلاهوما.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا