صمت الفراشات 6 للكاتبة ليلى لعثمان

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-09-01

وجدتني دون تردد أطرق باب أمي فائضة بخيبتي ودموعي. لا شيء يطفئ حاجتي للراحة إلا قلب أم.. مهما حمل من الشدة إلا أن أرضه تظل مفروشة بالوسائد الرقيقة. 

فتحت الباب.. اندفعت إلى صدرها زهرة بلا أغصان، فراشة بلا أجنحة، شمعة بلا ضوء، تياهة في أملي أنها سترمم انكساري. لكن فزعها الذي انبثق من أعماقها وصرختها وهي تشدني إلى صدرها جعلتني أعزف عن مصارحتها بالحقيقة. فادعيت أنني تشاجرت مع صديقة عزيزة. رفعت وجهي المبتل، حدقت بنظرتها الشكوكة، شعرت بشيء ينبض من صدرها ويكذبني: بل هو جواد. ممزوجاً بفرح وكأنها بانتظار لحظة خلاصي منه. هل أسعد قلبها وأعترف؟ هل سأحظى منها بما يشد أزري ويواسيني؟ أم تراها إن عرفت كل التفاصيل ستشحن أبي وأخي ليثأرا منه وربما يتآزران ليمنعاني من الذهاب إلى الجامعة ولم يبق على تخرجي سوى أشهر قليلة؟ كانت اللحظات راعدة قاسية وعقلي يلوب بالتخمينات التي لا تستقر فقررت أن أواصل كذبتي ولا أفتح علي باباً آخر لمزيد من التعب. آليت أن أكتم سري، أكتفي بذر وجعي عندها ثم أفر إلى شقتي. كنت بحاجة لسكينة ما نهبط ملائكتها على قلبي لتهدئ روعه. ولم تكن غير سكينة الصمت ووحدتي. 

استقبلني صمت شقتي، لا ضوء سوى الساطع من رأس الأباجورة الوردية وذلك النافذ عبر الزجاج من أضواء الشارع. أرخيت جسدي الواهن على الأريكة. أسلمت روحي مطواعة للصمت المبثوث في كل الأرجاء. هو نافذتي الوحيدة أدخل إليها أستلقي في أرجوحتها وأتركها تؤرجح الجسد المنهك والقلب الدخان. لم أشعر بالصمت ثقيلاً فما هو إلا ضيف علي والضيف الحنون لا يثقل على المضيف. احتويته، استرخيت فيه أنطوي في ثناياه الحريرية، يغانجني بألوانه، يهامسني بصوت أشبه بحفيف أوراق مثقلة بالندى، استكنت إليه بكل احتياجي للهدوء بعد العاصفة التي شنها علي جواد. شيء كالإغماءة بدأ يدغدغني ما كدت أشعر بانتعاشته حتى هجم علي السؤال مثل كف تصفعني وتثوغ في تلافيف لحمي "ثم ماذا يا جواد؟ عرفت الآن أنك أبعد ما تكون عن حقيقة الحب الذي صار حقيقتي ووجودي. هاجسك الجسد والمتعة وتريد أن تحرض الأرملة المحرومة لتشق ستائرها وتصير عشيقة لك، تريد أن تحول عفة الحب إلى وحل الخطيئة وأنا لست قابلة للامتلاك. كنت في ذلك القصر أرضخ لاغتصابات العجوز ورغباته المقززة وهو يباشر جسداً خالياً من الحياة خاوياً من الرغبة. وأنت! وإن كنت الرجل القادر على إشعال كل فتائلي فلن أهبك جسداً لا يخضع لقانون المجتمع وشرع الله". 

اضطربت روحي، تورم الصمت فجأة فأورم حقدي. صار ثورة يمتد كل سعيرها إلى جواد راغبة أن تحرقه، هل يطفأ الحب في لحظة أم تراه يكبو ثم يهب من هول عثرته؟ 

نظرت إلى الهاتف الصامت. ماذا لو اتصل الآن ليعتذر؟ ماذا لو عاد يدفق شوقه الليلي المسيل لشوقي؟ هل أستسلم وأعطيه الفرصة ليستقوي علي ويقتادني إلى رغباته؟ هل أتركه ينتصر وأنا التي رغم ضعفي انتصرت على ذلك العجوز؟ 

كان الحقد يغلي في داخلي والندم على كل لحظة حب وهبتها له يمزقني ويطالبني بقوة أن أحافظ على كرامتي والبقية الباقية من ذبالة قلبي، وأن أطوي صفحة صفراء من حياتي. مددت يدي دون تردد، سحبت فيش الهاتف، سربت نفسي إلى فراشي البارد بعد أن ابتلعت حبتين من البنادول. 

* * *

 

سلمني الطبيب ورقة الدخول وأكد لي:

- لا تنسي بعد التاسعة تصومين. 

- مازحته: 

- عن الطعام أو الكلام؟

ضحك فبانت أسنانه المرصوصة بأناقة:

- يستحسن أن ترتاح حنجرتك قبل العملية.

تحركت نحو الباب. توقفت قليلاً وعدت إليه:

- دكتور.. أرجوك أن تهتم بي، لا أريد أن أموت.

ذهلت عيناه وبوقار شديد قال:

- الأعمار بيد الله اعتمدي عليه. 

- وعليك يا دكتور.

ابتسم. داعب قلمه كمن يداعب توسلي:

- ما نحن إلا بشر يهيئنا الله لنخفف آلام الناس. 

وقف يستعجل انصرافي وهو يطمئنني: 

- العملية بسيطة جداً. لن تستغرق أكثر من نصف ساعة. لا تخافي. 

لا أخاف!؟ كيف لا أخاف؟ هل ثمة إنسان لا يخاف؟ غداً يغيبني بنج لا أدري إن كنت سأصحو منه أم يسلمني إلى الموت، هل أتجاوز لحظة ضعفي وأتظاهر أمامه بالشجاعة؟ لاب سؤال في داخلي، اقتربت منه ثانية: 

- دكتور.. الخوف شعور طبيعي عند كل إنسان حتى أنت. ألا تخاف؟ 

نطق كأنه يقلل من شأني:

- المؤمن لا يخاف، يسلم أمره لله ويتكل عليه. 

- لكن الله هو الذي خلق الخوف والشجاعة، كل المتناقضات موجودة في الإنسان وأنت بكلامك كأنك تنفي ما خلقه الله. 

عبس وجهه: 

- أستغفر الله. لم أقصد ذلك، أردت فقط أن أوضح لك أن الإنسان القوي الإيمان يتجاوز حالات الخوف، لهذا أنا لا أخاف. 

شعرت وكأنه يشكك بإيماني لأنني لست محجبة، تأملته وإحساسي أنه يغالط نفسه، فمهما كان مؤمناً وشجاعاً لكنه جرب الخوف وعرفه، على الأقل هو ككل الرجال، يخافون من زوجاتهم وخسائر تجارتهم. لعله شعر بما يخالجني، خشي إن أطلت بقائي أن أفتح معه حواراً لا يعجبه، استعجلني: 

- أريدك غداً شجاعة ومتفائلة. 

خرجت. 

كانت السماء مفروشة بغيوم غير ناضجة، الشمس دافئة كرغيف، الزحام يخنق الشوارع، قلبي مليء بالدعاء، وصوت فيروز يتهادى من المسجلة مثل دمعة تترقرق "ليالي الشمال الحزيني.. ضلي اذكريني اذكريني". لاح طيف جواد، كان مثلي يعشق صوت فيروز، يهديني شرائطها، يدندن بمقاطع من أغانيها وهو يقطع بنا الشوارع في ليالي الحب التي مضت. لماذا لاح طيفه الآن؟ هل تراه لا يزال يتذكرني؟ هل يندم لأنه أفلتني من قلبه وحياته! ليته يدرك أنني غير نادمة بل مرتاحة لأنني نفذت من خروم شبكته. 

أسرعت إلى شقة أمي. طرقت بكفي معزوفتي الموسيقية التي اعتادتها. أقي تفرح بدقاتي التي تميز حضوري، حاول أخي ذات يوم أن يقلدها فتعجلت أمي التي كانت تشطف المطبخ بالصابون، تزحلقت.. لكنها تحاملت على عثرتها وركضت لتفتح الباب، حين لمحت وجه أخي أشهرت غضبها عليه "لا تدق مثل نادية". تاب أخي. لكن أبي الذي سمع الحكاية استهواه أن يشاكسها ويفعل، إلا أنه لم يتقن عزفي فتركته عند الباب حتى اضطر أن يقرع الجرس. فتحت له وبادرته ساخرة "هاي.. هاي.. شو حسبتني هبلة! نادية بتعمل "تيري.. تيري لم، وأنت عملتها تيري.. لم.. لم" يومها قال لي أبي ضحكت من خيبتي وتمنيت لو أمك تحفظ دقتي كما تحفظ دقتك". 

فتحت لي الباب ملهوفة، قبل أن تسألني كنت أبادرها بقبلة محمومة وبطلبي: 

- أريد أن آكل بسرعة. بعد التاسعة سأصوم، العملية غداً. 

انفجرت أمي بالبكاء، مما حرك السؤال في داخلي "هل تملك الأمهات بئراً لا ينضب من الدموع؟ إذا فرح بكين.. وإذا اكتوين بالحزن بكين.. يغضب، يصرخن، يثرن، وتنتهي كل وصلة بالبكاء أسفاً أو استدراراً لعطف من يسئن إليه. كل دموع الأمهات صادقة كما دعواتهن في المساء حين تتوضأ السماء بالنور وتفتح صدرها للدعوات. لن أنسي كم بكت أمي لأجلي حين تركت جواد. كانت كمن تنوب عتي لتريحني، ويدل أن تواسيني كنت أنا من يفعل ويجفف دموعها. 

ظلت أمي تبكي وهي تسكب لي مزيداً من الأرز والبامية، اعترضت على الكمية فأصرت: 

- "لازم تشبعي.. صيام قبل العملية وبعدها". 

. احتقن صوتها ببقايا دموعها التي حبستها، جلست قبالتي تتأملني وأنا ألتهم الطعام بشراهة وأثني على طعمه اللذيذ، أثرثر بأي شيء بمرح تقصدته كي أخفف عنها خوفها الذي لا يقل عن خوفي وهي تشحذ همتها لتضحك أو تنطق بالكلمات.

تركت أمي الطاولة وصحونها على غير عادتها وطلبت أن نصعد إلى شقتي لتجهز حقيبتي. سمت بالله ثلاثاً قبل أن ترص فيها ما أحتاجه: ملابس داخلية، قمصان نوم، مناشف وشبشب، فرشاة الأسنان والمعجون، فرشاة الشعر والكريمات. لم تغفل شيئاً، الراديو الصغير وضوء القراءة الذي أشبكه بالكتاب، حتى روج الشفتين والخدود مما أثارني فضحكت: 

- هل أنا ذاهبة إلى حفلة؟! 

شدت على كلماتها: 

- "ما بدي أشوفك صفرا وبهتانة، لازم تضلي حلوة ومزهزهة". 

كان لسانها لا يهدأ. تنثال منه الدعوات حنونة، ولا أدري هل كانت تطمئن نفسها أم تطمئنني وهي تقول: 

- "ما تخافي. عملية بسيطة، بكره بيرجع صوتك مثل البلبل".

- وأشارت إلى عصافيري التي كانت صامتة. 

هل كانت عصافيري تشعر بأنني سأغادرها وأتركها للوحدة والصمت؟ هل تراها تتلو صلوات ودعوات أن أعود إليها سالمة؟ اقتربت من أحد الأقفاص، زججت بكفي فنط العصفور عليها. صار ينقرها برقة أثارت دغدغة ناعمة في أوصالي، آآه.. حتى العصافير تعرف الحب وتعبر عنه، وهي بهذه البراءة أصدق من الرجال. 

بعد أن أكملت أمي حشو الحقيبة وأغلقتها، اتجهت إلى النافذة، فتحت بلوزتها وأشرعت صدرها الأبيض وصوتها الحنون إلى السماء: يا إلهي وأنت جاهي أحضر لك جهاز عرسك وأزفك لبيت عريسك". 

التفتت إلي واحد حنان صوتها: "العريس اللي بيستاهلك ويفتخر فيكي قدام الله وخلقه، مش اللي بدو زواج بالسر.. الله يقطع سرته". 

اقتربت منها، أغلقت أزرة بلوزتها، قبلت كفيها، مسحت على وجنتها وهمست: 

- يا أمي خلاص. أنا نسيت جواد. إنسيه أنت وارتاحي. 

* * *

 

كنت أعرف أنني أنفخ في قربة مقطوعة، لن تنسى أمي أبداً ما سببته لنا الصدمة بجواد من عذاب ومرار، ستظل تحقد عليه وتكيل له أدعية غضبها متمنية أن تتعكر حياته كما عكر حياتي ذلك اليوم. 

لا أشك أن جواداً أحبني لكن رغبته أن يحظى بي كانت أقوى من الحب، وهي التي دفعته حين استعصيت عليه أن يطرق الباب الأخير ويفاجئني: 

- نتزوج. 

لم أصدق، أزهرت الأعراس في داخلي، شعرت وكأنني أسقط فجأة في بحيرة من الورد والغيم، حاولت كبت شعوري المزغرد المجنون، سكبت على لساني صمتاً ثلجياً بينما جمرات الفرح نستعر في داخلي، حسبني لم أسمعه فرفع من صوته: 

- أتسمعين؟ قلت نتزوج. 

طرت بفكري إلى صدر أمي. هل تسمعين ما أسمع؟ ها هو أخيراً بعد أن امتصه اليأس يطرق باب الزواج. 

تعمدت أن أتمسك بصلابتي، أن أبدو غير ملهوفة، وأن الأمر ليس سهلاً كما يتصور، لم أتردد وألقيت إليه بحجتي: 

- ربما لا يوافق أهلي، أقصد أنت متزوج و... 

قاطعني:

- ما المشكلة؟ أحل الله مثنى وثلاثاً ورباعاً.

مارست عليه سطوتي: 

- وزوجتك؟ هل سترضى بضرة؟

تلعثم، حاول أن يواري عينيه عني:

- لن تعرف، ولا أريد لأحد أن يعرف. 

خفق قلبي، اضطرب وجهي، ولعله لحظ اكفهراري فحاول أن يرقق من صوته: 

- أنت تعرفين الظروف. قد يثير بعض المتشددين الزوابع ويتهمون أساتذة الجامعة بأنهم يقيمون علاقات مع الطالبات و...

قاطعته وقد بدأ فرحي يتقلص: 

- هذه ليست علاقة حتى تخاف، إنه زواج على سنة الله ورسوله. 

نفخ مستاءً:

- ولو. أريد أن أتحاشى المشاكل وغضب زوجتي. 

يخاف على شعور زوجته ولا يهمه وضعي أمام الناس، أردت أن أكشف ما الذي يدور في ذهنه وأصل إلى نتيجة واضحة معه: 

- والحل؟ 

قذف إجابته كمن يقذفني برصاصة: 

- نتزوج سراً.

هوت الكلمات كالسيف تشق رأسي وقلبي، انقذفت في لحظة من بحيرة الورد والغيم إلى نفق مظلم، غلى في داخلي حقد أسود.. الحقير.. يريد أن يأتيني سراً ليتنفس حريته ويشبع رغبته وكأنني جارية. لم أستطع أن أصك على حقدي وغضبي: 

- وهل تظنني وأهلي سنوافق؟ 

حاول أن يتلاطف:

- يا حبيبتي.. هي مدة نحددها ولا تلزمنا بالإشهار.

إهانة جعلتني أصرخ: 

- قصدك زواج...

انشرحت أساريره وكأنه ارتاح لسرعة فهمي:

- بالضبط. زواج متعة. 

كان يريق وحل أفكاره على أرضٍ يظنها عجفاء، لسعتني وقاحته، توثب كل شيء في، كاد عصفي يهيج كفي باتجاه وجهه الذي تشوه في لحظة أمامي، بدا كوجه ذئب يراوغ طريدته العنيدة. ضغطت على روحي المهانة، نظرت إليه باحتقار شديد: 

- تعرف أن مذهبنا لا يعترف بهذا الزواج، هذا أولاً، أما ثانياً، فأنا لا أتشرف أن أرتبط برجل جبان مثلك. 

ألويت لأفر من نذالته، شد ذراعي وضغط عليها:

- نادية.. أرجوك نتفاهم. 

سحبت ذراعي حتى شككت أنني مزقت بعض أنسجته وصرخت: 

- أرجوك أنت. إياك أن تظنني رخيصة إلى هذا الحد. 

لم أدر كيف طارت بي ساقاي إلى سيارتي، ولا كيف اتسعت لتورمي، دست على دواسة البنزين بقسوة وشعوري أنني أدوس رأسه، انفلت وكأنني أهرب من أفعى شرسة. 

السماء رمادية، والغيوم قمصان داكنة تحركها الريح وتقطع أوصالها، تتمزق ثم تعود وتلتئم كتلاً كثيفة أشبه بأجساد حيوانات ضخمة، الطريق يتضبب أمامي بسبب دموعي التي اختنقت بها عيناي. كنت شاردة لا أعرف كيف أوجه دفة سيري، لكنني أحسست بالسيارة تشق العباب وتوفر علي مشقة التفكير في الطريق، حتى أوصلتني إلى البيت. 

أقبل عطية مسرعاً فرح الوجه كعادته ليحمل حقيبة الجامعة الثقيلة، خرجت من السيارة، أغلقت بابها بعنف جعل صوته المفزوع ينطلق: 

- خير.. يا سيدتي؟

لكنني تخطيته وحنجرتي المتشنجة إثر الصدمة تأمره: 

- اترك الحقيبة ونظف السيارة من الداخل. 

كان قد تفاني في تنظيفها في الصباح؛ لكن شعوراً غريباً فاجأني بأنها ازدحمت بقرفي الذي نفث روائحه، وبنثارات قلبي الذي تفتت، وبدماء كرامتي التي سحقت. 

لم أجرؤ أن أدق باب أمي وأنا مصهورة بألمي، مغلفة بحشف خيبتي، فررت إلى شقتي، ارتميت على أقرب مقعد وأطلقت صرخة متأسية على نفسي، مشفقة على قلبي الذي ناء بحب خادع. 

أطلق الصمت هديره يسعل كصدر مسلول، ومساحة الشقة الواسعة تتزمزم وتضيق، أحسستني فراشة هشة في قلب زجاجة لا منفذ فيها لأتنفس، ولا صوت يخترقها إلا عبارة جواد مثل رؤوس مسامير دبقة تخرم جلدي ولا تسقط، واهنة ضعيفة لا يمكنني وحدي أن أكسر الزجاجة، أحتاج لمن يجبر كسوري ويلملم نثاري وينزح بقلبي المتكوم على نفسه من الظلمة إلى النور. ندمت أني تجاوزت باب أمي وحضنها رغم أنني أصطك من الوجع. لم أكد أسقط على أريكتي حتى زعق جرس الباب متلاحقاً. كان دخول أمي كإشراقة الشمس في يوم غائم. بالتأكيد لم يكن قلبها استنبأ عن حالتي لكنه عطية الذي صدمه منظري نقل فزعه إليها. وجدتني فجأة أتحرر من قعر زجاجتي المعتم، ألتوي في حضنها الدافئ وأفتح صواميل دموعي وأقفال سري. آآآه لا شيء كالأم، فإن كان مجرد خيط من اللهب يذيب شمعة فليس أقدر من لمستها على إذابة صخور أوجاعي. كانت كما الخيمة الرؤوفة تؤوي عصفورة مزقتها الريح، تتلمس أنحائي كلها لتتأكد أن الريح لم تبتر مني قدماً، ولم تكسر لي ذراعاً، تحوفني مثل شمس وتدفئني حتى تكسر جليدي. سال صمت لساني يسري إليها بصدمتي، توقعت أن تثور، أن يشن لسانها حملته الحمراء على جواد ناسية أنني بين يديها فرخة مذبوحة. أف.. كم كانت ثقتي جافة بأمي. فوجئت بها تحيد عن ذكره وعن لومي وتحتوي تأزمي، تفرش حنان أجنحتها الرطبة، تبلل عصفي، تغسل أساي، وتقرأ ما يسعفها من آيات وأدعية بصوت يترقرق بالخوف والدموع. حين سرى الدفء والأمان إلى روحي همست لها:

- لا تقلقي يا ماما. سوف أتجاوز محنتي. 

* * *

 

سهل أن تغرينا بحيرة من العسل فنرتمي فيها. تنساب في سيلها الصافي. ننهل ما يفوق احتمالنا من الشهد متلذذين بطعمه حتى يبدأ السيل يتضاءل فيلوح القاع، عندها نسترد وعينا الغائب، ونخشى من الارتطام فتبدأ الحرب لنجذب أنفسنا من البحيرة الدبقة، نتصور أننا نجونا من شج الرأس واهتراس الجسد، لكننا نفاجأ ونحن مدهونون بالعسل بأن آلاف الحشرات، بكل أشكالها، تنجذب إلينا لتتغذى من بقايا عسلنا باللسع والعقص والحكاك. نبقى تحت رحمة هذه الحشرات النهمة مثابرين ومجاهدين كي نتخلص من الألم. ونكون قادرين على مداواة جلدنا وترقيع روحنا التي تمزقت من الجروح. هكذا عانيت لأخرج من بحيرة العسل، كابدت اللوعات وأنا أهرش جروحي وأصب عليها مياه صبري لتشفى، ناضلت لأزحزح شبكة الحديد المسنن وأخرج منها دون أن تتقطع أوصالي، ذرفت دموعاً تركت آثار الخرمشات على خدودي كما يترك البحر ملحه وبقاياه على صدور القواقع وخصور الحجارة. انقطعت عن الجامعة وتهت في فراغ شقتي مثل قطة فقدت صغارها، مثل ريشة مفصولة عن جناحها لا تستقر على أرض، صرت كالورقة الصماء لا تلتصق بها الحروف ولا تلونها الأحبار، منذ ذلك اليوم أدمنت السجائر، أحرقها، أحترق بها، أملأ صدري بغيمات الدخان وتمتلئ شقتي بروائحها البائتة، ولا أفطن لتعبؤ المكان إلا حين تصمت عصافيري وتلتصق بأرض أقفاصها، عندها أفتح النوافذ فيتراقص الهواء، تزقزق العصافير وتلتقط حبوبها بشهية. أشعر حين أحررها أنني تحررت من دبابيسي فأفتح الراديو أغني مع الأغنية مهما كانت تافهة، وحين أسمع أغنية حزينة تضرب على وتر أوجاعي، أعود إلى السجائر وتعود الشقة تتعكر، يلفني صمت رائب، أتحوصل فيه فلا أشم غير الحموضة ورائحة فجيعتي. 

لم تتركني أمي أعاني وحدي، كانت مثل بستان زاهر يفتح أرجاءه للفراشة الصامتة الذاوية، تمطرني بحنانها، تلون جناحي بعذب كلماتها المؤاسية، وتشتل في داخلي بذور القوة لأتجاوز ما أنا فيه من كروب، تحثني أن أتحامل على ضعفي وأذهب إلى الجامعة. لأشمخ برأسي أمام جواد وأتحداه فأرفض: 

- لا أريد أن أرى وجهه. 

تضيق أمي بعنادي وتنبهني:

- "بدك تشوفي مستقبلك، الجامعة كانت حلمك". 

حين تتركني لوحدتي، أبدأ ألملم شتات عقلي، أحاور نفسي لأستمطرها السر الحقيقي الذي يدفعني إلى الهرب. هل حقاً لا أريد أن أرى وجه جواد لأنني كرهته بعد أن تأكدت أنني مجرد نزوة عابرة أو دمية يتشهى اللعب بها ثم يرميها؟ أم كنت أخشى إن رأيته تستيقظ عواطفي ثانية وتتهاوى مقاومتي فأرضى بما عرضه علي؟ لا أنكر أنني في ليالي القاسية الأولى كنت أستحضر فكرته وأقلبها: 

ما المانع أن أحقق لقلبي وجسدي فرحة ومتعة مادام هناك عقد زواج؟ فالأمر ليس حراماً، يمارسه الشيعة علناً ويمارسه بعض السنة في السر. أليس أفضل من زواج معلن دائم يربطني برجل يعذبني ويذلني كما حدث لي مع ذلك العجوز؟ كدت أكاد أقتنع بالفكرة ثم أتيقظ وأرفض ليس بسبب خوفي من الكارثة التي ستحل بأمي وأبي إن أنا صممت على القبول، فبإمكاني إقناعهم بأنني لست "بنت بنوت" يريدان أن يشهدا فرحتهما الأولى بها، أنا مجرد أرملة استحلها رجل وقطف زهرتها البكر ولن يفكر بالزواج منها إلا أرمل مثلها أو رجل متزوج مثل جواد. كان المانع الأكبر أن مثل هذا الزواج لن يعطيني الإحساس بقيمتي كامرأة تستحق أن يكون لها زوج يتباهى بها أمام الناس وتطل معه على الدنيا المفتوحة، كما أنه لن يحقق لي مشروع الأمومة الذي تحلم به كل امرأة. فما دام سرياً ومؤقتاً؛ فهذا يعني أن الرجل لن يقبل بطفل يشير إليه ويفضح أمره. حين كنت أصل بالفكرة إلى هذا الحد؛ أرتعش قهراً، وأحتقن كراهية لجواد وأواصل هروبي منه ومن الجامعة. 

لم يغب أمري عن أبي. لكنه لم يواجهني بغضبه، أدركت أن أمي دفعته إلى التحكم بمشاعره وأعصابه، اكتفى بأن يشتم الرجال الأنذال، ويهزأ من سذاجتي واندفاعي بنظراته التي لا تخلو من اللوم والتقريع الصامت. لم أكن أخشى إلا من اللحظة التي أواجه فيها أخي، هل سيشمت بي ويلعن تهوري وعنادي؟ نقلت تخوفي لإيمان فأكدت: 

- أخوك سيرتاح لأنك أخيراً اكتشفت ما حذرك منه. 

خفف هذا عني وجعل لقائي بأخي مريحاً، حين دخل علي أسرع إلى النافذة، فتحها ليطرد الدخان. جلس عابساً يهش ما تبقى من آثاره، صمت قليلاً قبل أن ينطق: 

- الحب كالريح لا ندري نواياها ولا ماذا تحمل إلينا، والمطلوب أن نواجهها، ننحني ولا ننكسر. 

استللت سيجارة لأشعلها، قبل أن أم رأسها بالنار، كان يسبقني ويقذفها من يدي مستاءً: 

- ستقتلك هذه السجائر. ألا يكفي ما أنت فيه؟ كوني شجاعة مثلي واتركيها. 

بكيت فتحركت كل أوتار أخوته باتجاه دموعي، حضن رأسي، نبرة صوته احتدت: 

- والله لولا خوفي من الفضائح، لعرفت كيف أستد من هذا النذل. 

- أرجوك يا أخي.. لا تعرض نفسك للمهانة.. لقد انتهى الأمر الآن. 

ربما راوده بعض الشك: 

- قد يكرر المحاولة.

- ثق أنني لن أسمح له، إنها كرامتي.

تنهد أخي، شعرت أنها نهدة الراحة، تأملني ثم همس:

- أعرفك قوية ستجتازين محنتك والمستقبل المضيء أمامك. 

تركني أخي وقد حاوطتني أذرع الأمان وكأنها جذور سقيت بنهر كامل فتفرعت سريعاً إلى ضفاف قلبي وعمق روحي تؤجج الإصرار أكثر لأتمسك بقراري، أنسى جواد وأعتبره مجرد ريح هوجاء عبرت، هشمت بعض أضلاعي ولم تطح بالأساس.  

كانت سنتي النهائية في الجامعة، تمنيتها أن تركض لأفر من ريحها ومن البقعة التي تجمعني بجواد، تحاشيته، أهملته، انكببت على الدراسة وإصراري على التخرج بامتياز لأثبت له أنني شجاعة لا يلويني الحب ولا تدمرني نذالة رجل. شيئاً فشيئاً برأت منه، فالحب لا يحتمل القلق، حين يثقل على الروح يبدأ يتضاءل، يكش حتى يصير القلب مثل ليمونة معصورة أو ثدي أفرغ من أنسجته، يترهل، يتسرطن ولا تفيد معه العلاجات فيموت. وأنا أحب قلبي، أريد أن أحميه ليعيش. جاهدت لأخرج من الذي تصورته غابة نخيل أهز عذوقها فيساقط الثمر شهياً. فاكتشفت أنه غابة شوك دامية حمدت الله أنني قررت منها قبل أن ينزف كل دمي. 

كان يوم تخرجي بامتياز، كما أردت، كان من أسعد أيام حياتي، شعرت بأنني انتصرت عليه وثأرت لكرامتي رغم الآلام التي تركت أثلامها في قلبي وكادت تجعل من أحلامي بقايا تالفة.

شهور قليلة مضت وأنا أتابع سير أوراقي لأحصل على الوظيفة. ويوم تسلمت قرار تعييني معلمة للغة العربية طرت إلى البيت لأبشر أمي، ركض عطية نحوي، حين لمح البشر يعوم على وجهي أدرك أسبابه وبادر بصوت يزقزق من الفرح: 

- مبروك. 

شكرت محبته وفرحته، أردت أن أواصل طيراني لولا أنه اعترضني، اقترب مني أكثر كمن يخفي سراً: 

- الحمد لله حصلت على الوظيفة، فمتى تفين بوعدك لي؟

- أي وعد؟ 

انقبض وجهه ونظرة لوم حنون تنبع من عينيه:

- هل نسيت؟ وعدت أن تزوجيني و...

أرسى نظرة غريبة على وجهي، تلعثم قبل أن ينطق: 

- مثل ما قلت لك ونحن في القصر، أن تكون مثلك.

ضربت خفيفاً على جبيني، ضحكت وفاجأته:

- غيرت رأيي. 

فجع. فسارعت أزيل فجيعته:

- قبل أن أزوجك أريدك أن تتعلم.

- أتعلم شنو؟.. السواقة؟

- لأ.. سنتعلم القراءة والكتابة. 

أطلق ضحكة صارخة، تنبه أنه تمادي بها فأغلق فمه بكفه لحظة ثم قال: 

- "يوم شاب ودوه الكتاب".

- لم نشب بعد يا عطية. غداً تذهب وتسجل اسمك في مركز محو الأمية.

استاء: 

- شنو أستفيد من القراءة والكتابة؟ 

- غداً حين تتعلم ستعرف قيمة هذا. وإذا نجحت في الابتدائية أزوجك على شرط أن تكمل دراستك بعد الزواج. 

تهلل وجهه، تركته يحاور أحلامه وزحام تجار أبواقه في رأسي وأنا أستعيد جرأة عطية، هل ابتدأ يتحرر من عبوديته حين قربته وكسرت حواجز السيادة بيني وبينه؟ ماذا بعد أن يتعلم ويتفتح عقله بالمعرفة؟ هل... 

انكمش قلبي حين قفز الخاطر المستحيل. كنت قد وصلت إلى شقة أمي التي أحمل إليها البشارة. 

تلقت بشارتي بالدموع، ظلت تقبلني، تبللني بفرحها ودعائها، اتجهنا إلى المطبخ، جلست أرقبها وهي تعد لنا فنجانين من القهوة. تركت الماء يغلي، فتحت الخزانة، أخرجت فنجاني الذي عليه صورة قطة، يوم اشترته لي قالت وهي سعيدة: 

- "شفت هالقطة الحلوة بتشبهك وأنت صغيرة؛ قلت لازم أشتريه".

من يومها أحببت هذا الفنجان، أردت أن أستأثر به في شقتي، لكنها رفضت وهي تحضنه بين كفيها، "أخاف أن تكسريه". 

كانت أمي حريصة عليه كحرصها على غلاية قهوتها المثقوبة ذات اليد المكسورة، التي صنعت بها أول فنجان قهوة لأبي. فاحت رائحة البن المغلي، تناهى إلي صوت فيروز "في قهوة عالمفرق، في موقد وفي نار، نبقى أنا وحبيبي، نفرشها بالأشعار"، دندنت بالأغنية، كانت أمي قد جلست وارتشفت أول رشفة، تلمظت طعمها وابتسمت: 

- ها؟ شو فكرك بهالغنية؟ إن شاء الله بس ما تفتكري شيء تاني؟ 

تصورت أمي أنني أتذكر جواد، ولم يكن تصورها قد خطر ببالي لكنها بقولها أرجعتني إلى تلك المقاهي التي ارتدناها معاً، وشربنا العصائر والقهوة فيها. لم ترعشني الذكرى، لم يخفق قلبي متمنياً لو تعود، كان كل الحب قد تلاشى، طمأنت أمي: 

- كل شيء صار مجرد ذكريات شائبة. 

كانت أتي متأكدة أنني نسيته رغم تلميحها. فقد عانت معي يوماً بيوم، شهراً بشهر حتى شفيت واسترددت ما تلف من صحتي وأعصابي. تلون وجهها بالراحة، أرادت أن تنحو بالحديث بعيداً عن ذكريات مرة: 

- "متى راح تستلمي الشغل؟".

- الأسبوع القادم والراتب 400 دينار غير الترقيات والــ...

قاطعتني: 

- "عندك خير الله.. شو قيمة هذا المبلغ؟"

قرصني كلامها فأكدت لها: 

- صدقي يا أمي هذا المبلغ أكبر وأهم من كل ما أملك. إنه من عرق جبيني وسوف أفتح له حساباً خاصاً في البنك. 

ضحكت أمي هازئة، عذرتها، هي لا تدرك أي معنى لمال ولو بسيطاً يأتي من تعبي، لا تستطيع أن تتخيل أن أموال العجوز الطائلة لا تعني لي شيئاً ولا أشعر بسعادة امتلاكها بقدر السعادة حين أصرفها وأبددها وكأنني أتخلص من جراثيم حوض قديم. 

تذكرت موضوع عطية، فاجأتها به، استاء وجهها وصوتها:

- "بعد ما شاب ودوه الكتاب". 

ضحكت: 

- تماماً كما قال عطية. 

سر وجهها: 

- "عارف نفسه مش راح يفلح". 

دافعت عنه بحرارة: 

- عطية ذكي وسيفلح إن شاء الله. 

لوت شفتيها: 

- "وشو ناقصه؟ عايش ومرتاح، يا خوفي بكره بس يتعلم يتمرد علينا". 

ألقيت بقنبلتي: 

- بس يتعلم سأزوجه. 

خبطت أمي على صدرها: 

- كمان راح تزوجيه؟ يا بخته هالعطية، بكره بيصير باشا وناقصه قصر". 

كأن أمي أشعلت الفكرة في رأسي فلم أؤجل قراري بها:

- سأشتري له بيتاً. 

شدت أمي شعر رأسها، قامت، خبطت فنجانها في قلب الحوض غاضبة: 

- "بيظهر إنك جنيت". 

دافعت عن فكرتي وعن عطية:

- عطية يخدمنا بأمانة ولازم نكرمه. 

واجهتني بعنف: 

- "أكتر من هيك كرم؟ آكل، شارب، نايم، وكمان بياخد راتب كبير". 

قبل أن أرد كان صوت أبي الذي دخل يتوجه إلى أمي:

- ما الحكاية؟ صوتك عالٍ.

كأن حضوره أسعفها، تفاءلت أنها ستجد نصيراً: 

- "تعال شوف جنون بنتك. قال شو؟! بدها تعلم عطية وتزوجه، وكمان تشتري له بيت". 

التفت أبي إلي، كان وجهه ينبع نوراً ونظرته تمطر كمن يغسل وجهي من غبار: 

- بارك الله فيك، عطية يستاهل. 

شهقت أمي. وقبل أن ينفجر بركانها كنت أفر إلى شقتي تاركة أبي يعالج النار ليطفئها. 

* * *

 

ألقيت بنفسي على السرير، أرسيت رأسي المجهد على الوسادة، شعرت بجسدي يمتط بين الصمت والصمت الذي انبسط مثل غلالة بلون السماء الربيعية، تهطل علي نجيمات صغيرات تتقافز، توزع أضواءها الملونة وتمضي إلى حيث مسارب الذاكرة المغلقة، تمسها، تكهربها، ترتعش أسلاكها فتنفث إلي بعضاً من أنفاس القصر. أنجذب إليها رغم كراهيتي لتلك الرائحة، أشعر بغثيان، أتخدر وأغيب. أغوص في طرق لولبية مرصوفة جدرانها بأشجار الصبار، تدفعني فيها ريح باردة وتقذفني إلى القصر الرابضة فيه تلك التماثيل الجامدة والمفروشات الكئيبة. تضيق أنفاسي، أبحث عن مهرب، أندفع إلى النوافذ الموصدة لأفتحها، لكنها تعصى وكأنها مختومة بالإسمنت، أركض إلى الباب لكن صرخة مجنونة تجمدني في مكاني. هل كان عواء ذئب أم اختراق الريح من الشقوق، أم شبق جنيات هاربات من لياليهن الكالحات؟ أستدير باتجاه الصرخة. أرى العجوز، مثل مومياء رمادية، متربعاً على الأريكة كاشراً عن أسنانه المتآكلة. تجاسرت ونطقت: 

- أنت؟؟ 

قدح شرر أحمر من تجويف عينيه. عوى:

- متى خرجت؟ وأين كنتِ؟ 

لم ينتظر لأجيب، وما كان لساني ليسعفني من هول منظره وصوته، تحرك من مكانه، وصل إلي منذراً بالشر، أمسك ذراعي بقوة، غاصت أظافره بلحمي، رفع كفه وانهال على وجهي بصفعات شعرت وكأنها أغطية قدور ملتهبة، حاولت التخلص من اللهب فكان أقوى مني رغم ما بذلته من الجهد. أسقطني على الأرض، برك على صدري وصرخ ينادي: 

- جورجيت.. جورجيت. 

برزت من خلف أحد الأبواب وكأنها قد استعدت لهذه اللحظة، حاملة بين يديها لفة من القماش الأبيض ناولتها له. فتح طياتها وفرشها على الأرض، حملني بقوة لم أعهدها به وألقاني فوق القماش المفرود وأمر جورجيت: 

- هاتي قارورة الدم. 

جاءت بها. فتحت الغطاء فأصدر صوتاً كارتطام دلو بقاع بئر. أخذت ترشني بدمٍ متخثر له رائحة قصديرية، كنت أحاذر كي لا يصب على وجهي، حين تغطى جسدي كله بالدم أمرها أن تكف. وبدأ يكفنني بالقماش وأنا في محاولاتي أدأب للخلاص منه ولا أفوز. ترك وجهي بلا كفن ونادى بأعلى صوته: 

- عطية.. تعال. 

اقتحم الغرفة، بدأ يتجه إلي بخطوات بطيئة، سمحت لعيني أن تتأملا جسده العاري. أسود لامع، عنق ثخين يرتكز على كتفين عريضتين، صدر عار من الشعر ينفرش عليه نهدان منتفخان تتوجهما حلمتان كبيرتان بحجم حبة العنب الأسود، خصر ضيق وردفان ممتلئان. توقفت عيناي فزعتين عند شيئه المتدلي، كدت أشهق: أهذا كله الذي شقني تلك الليلة بذلك العنف؟ خشيت أن يأمره باغتصابي. في تلك الليلة لم يسمح لي الوضع أن أرى هذا الجسد، الآن عرفت حقيقته، وحين يقترب لينهش جسدي سيكون الأمر أقسى وأصعب. كنت أسمع دبيك قلبي واصطكاك أسناني لكنهما لم يصدا عني صوت العجوز وهو يخرج من غمده ويأمر عطية أن يبدأ. وفي اللحظة التي هجم علي جمعت كل صوتي وأطلقته بصرخة ضارية هزتني فانتفضت وكأنني أخرج من قبر ردم بالحجارة. فتحت عيني فإذا بالصمت الأبرص يلطمني وقد غابت عن الغرفة تلك النجيمات الضاويات ولم أسمع سوى صدى صرختي يتردد في الشقة كزئير مسعور. 

تحسست جسدي المرتعش الساقط في بركة عرقي، حمدت الله أني صحوت قبل أن يلسعني سوط عطية وينكأ جراحاتي القديمات، شعرت بعطش وجفاف خشن. أخذت زجاجة الماء ودلقتها دفعة واحدة إلى جوفي الذي تصلبت شرايينه وفارقه دفؤه، احتضنت وسادتي وأخذت أفكر: لماذا هذا الحلم الشرس والليلة بالذات؟ هل أقلق العجوز ما أنويه لعطية فاستكثر علي الفعل وعليه الأثر؟ هل يريد أن يكون وحده رب نعمته ليظل عبده الأبدي حتى بعد موته؟ شعرت بعتاب حارق: ماذا قدمت لعطية غير وظيفته كحارس للعمارة؟ بينما العجوز أعطاه صك عتقه ومبلغاً من المال وشهادة الجنسية الكويتية. لماذا لم أبادر منذ أن مات العجوز فأمنح عطية صك حريته الحقيقي؛ أعلمه وأزوجه وأهيئ له بيتاً يؤويه وعائلته القادمة؟ لماذا نسيته كل هذه السنوات؟ والآن حين نويت يتسلط علي العجوز بأحلامي ليفسد علي نيتي. أم هل تراها أمي الرافضة قد تلبستها روح العجوز؟ أمي التي لم تنس ولن تنسى فعلة عطية رغم أنني أنا التي توحش في اغتصابي وجلدي بالسوط تجاوزت ذلك التوحش وغفرت له. 

لماذا غفرت لعطية؟ لماذا لم أحقد عليه وأكرهه وهو الذي اغتصبني وجلدني ولم يساعدني على الهرب؟ لم لم أطرده واتركه يشق لجج الدروب الغامضة والرياح المتقلبة؟ لماذا احتفظت به وأنا التي كنت أريد أن أتخلص من أعفان الماضي كلها؟ حتى القصر، حلم أمي، ضحيت به ولم أضح بعطية. هل كانت مجرد شفقة عليه؟ كنت أحسه مثل الكلب الأليف الذي تربى في بيت لم يعرف سواه، يلغ من صحن السيد ثم يتكور تحت قدميه ليحرسه، فأين سيذهب بعد أن اعتاد حياة القصر والسيد؟ كان هذا دافعاً حرك ضميري نحوه مشفوعاً بدافع أكبر أنني أحببت عطية وأكبرت فيه وفاءه لسيده، رغم الذي عاناه من توارث واضطهاد، فتوسمت أن يكون وفياً لي أيضاً. لم تخدعني مشاعري، كنت أحس قلبه حديقة أتربع فيها، زهرة يخاف عليها من النسمة وزخة المطر، تفانى بخدمتي وخدمة أهلي. حين أركب سيارتي يقف إلى جانبها ويطلق دعوات صادقة أن يحفظني الله من شر الطريق، ولا يتحرك إلا بعد أن أبتعد بينما ذراعه الطويلة تلوح لي مودعاً. وحين أعود يقفز نحوي وكأنه اشتم رائحتي، وعن بعد أرى وجهه مفروشاً باللهفة والفرح، وأسنانه حتى طواحينه تبدو مثل أحرفٍ تغرد. وفي كثير من الليالي حين يصيبني الأرق، وأطل من نافذة غرفتي، ألمحه يذرع الساحة مثل عسس يتفقد المكان ويحرسه ليذود عنه. 

حين بدأ يتلقى دروسه كان يجتهد ليحفظ، تصورته في البداية تحدياً غير مدبر لأمي التي هزئت منه. لكني اكتشفت أنه كالطفل الذي يريد إرضاء أمه لتقدم له الشكر والدعوات والهدايا. يتفانى لإرضائي. وحين تصعب عليه كلمة أو معنى يدق بابي بخجل كي أساعده، أول مرة جاء فيها جلس على الأرض متكئاً على ذراع الأريكة التي أجلس عليها، ساءني أن يتصور نفسه ذلك العبد الذي لا يجب أن يعلو على الأسياد، قمت من الأريكة واصطحبته إلى طاولة الطعام وطلبت منه أن يجلس إلى يمناي فتردد، تظاهرت بالغضب فامتثل لطلبي محرجاً لكنه اعتاد بعد ذلك حتى على تلاصق كفي التي تمسك بكفه لتعلمه كيف يرسم الطاء، وكيف يفرق بين الصاد والسين. فاجأني ذات يوم بورقة كبيرة خط عليها اسمي بحرف كبير زوقه بالألوان، أخذت الورقة وعلقتها على الجدار وكافأته بعلبة كاملة من شيكولاتة الكت كات التي يحبها. كنت أحسه يغار علي. يوم جاء عامل التكييف؛ وكنت أرتدي بلوزة بلا أكمام؛ تلقت حوله فلم يجد غير شرشف الطاولة. سحبه ووضعه كالشال على كتفي، حتى من عينيه كان يغار علي. ذات صباح فتحت الباب وكنت مازلت في قميص النوم الشفاف متصورة أنها أمي، وما إن لمحني حتى استدار عني سريعاً وكأنه لم يكن الذي رأى جسدي عارياً ومباحاً له. 

أحببت عطية ذلك الحب الدافئ الحنون، دللته، أكرمته باللباس والمعاملة والخوف عليه. كنت أرتعب حين يشتكي من صداع أو برد أو وجع في معدته، أعد له بنفسي الليمون وأقدم له الدواء بمواعيده، وأصر عليه أن يلازم الفراش ولا يغادر لأي سبب حتى من أجلي. وكان يلتزم بأمري يوماً أو يومين ثم يخرج مدعياً أنه استرد عافيته. ورغم خوفي عليه كان ينبض في داخلي شعور الفرح والامتنان. كنت أدرك كم يحبني وأفهم إشارات هذا الحب حين أفرح أو أحزن، وحين أغضب منه لأي سبب بسيط يظل يحوم ويخترع أسباباً ليدق بابي أو يجمع لي أبهى زهور الحديقة حتى يرى ابتسامتي فيبدو كعصفور اغتسل بالمطر. لم يكن من شيء يضايقني في عطية إلا تلك الرائحة التي تصدر من جسده، مزيج من بصل بائت وخل رخيص، لم أكن وهو في القصر أنتبه لهذه الرائحة، لكنه ومنذ اليوم الأول الذي استلم عمله في العمارة بدأت رائحته تزكمني، احتملت شهرين كنت خلالها عاجزة عن إيجاد الوسيلة التي أنبهه بها دون أن أجرحه. حتى اهتديت إلى الحل. 

ذات يوم حملت له كيساً مليئاً بالصابون المعطر والكولونيا وأصناف من مزيلات العرق. حين رآني أحمل الكيس أسرع ليأخذه من يدي لكني تشبثت به وقلت: 

- اصعد معي.. أريدك. 

كان الوقت صيفاً والرطوبة جائرة، وحين أغلق باب المصعد جارت علي رائحته التي لا أدري بالضبط من أين يفوح نتنها. وبكل حاجتي لنسمة نظيفة كنت أتمنى لو يطير بنا المصعد. ما إن فتح الباب حتى اندفعت منه لأستل شهيقاً نظيفاً وأفتح باب شقتي وهو يتبعني برائحته. 

وضعت الكيس على الطاولة، فتحته، صففت الأشياء أمامه و...:

- شوف يا عطية. هذا صابون، وهذا عطر، وهذا... 

رفعت ذراعي ووجهت ثقب العلبة نحو إبطي وضغطت الرأس فانتثر رذاذه ورائحته العطرة. شعرت من خجلي وكأنني أنزف كل عرق جسدي، لكني ادعيت شجاعة لابد أن أكون عليها. قلت له وأنا أهرب بنظرتي منه: 

- هذا سيمنع رائحة العرق، عليك أن تستعمله بعد كل حمام. 

لن أنسى جرمي البريء ذلك اليوم، انحنى عطية بذل كبير. ارتجف جسده أمامي كمن داهمته ريح شتائية وعاصفة رمل. تحول صوته الرخيم الجميل إلى ما يشبه أنين جروٍ يتيم: 

- سيدتي.. نحن العبيد لجلودنا رائحة صنان قوية ما تروح و...

قاطعته محتدة: 

- هذا كلام فارغ. كل إنسان تصدر عنه رائحة لجسده إن أهمل نظافته. اسمع الكلام، عليك أن تستحم كل يوم مرة أو مرتين حسب ما تبذله من جهد وترش هذا. 

حمل الأشياء وانصرف مسرعاً حتى شعرت بأنه يكاد يرتطم بالباب قاصداً أن يميت نفسه. وفي داخلي شيء كالخنجر يسلخ قلبي تألماً عليه، ولكن كان لابد أن أسلخ قلبي لأسلخ عنه رائحته. منذ ذلك النهار اجتهد عطية لكي يرضيني، صار يبدو نظيفاً، لامعاً، معطراً ولم أعد أشم له رائحة كريهة. 

* * *

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا