العقيدة الإلهية
أصل العقيدة
ترقى الإنسان في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات.. فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته. فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى.
وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات؛ لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلباً وأطول طريقاً من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.
وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام، ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس؛ لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام، ولعلها لا تزال.
فالرجوع إلى أصول الدين في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال. وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد، وأن الناس يستعدون لعرفانها عصراً بعد عصر، وطوراً بعد طور، وأسلوباً بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان.
وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة، ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة، فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها، وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء أو يبنون عليه جديداً في الحكم على جوهر الدين؛ فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء إنما يبحث عن محال.
فأياً كان الرأي في جوهر الدين فالنقص في العبادات الهمجية أمر مفروغ منه لا يستدل به على نفي ولا إثبات، وإنما يصح أن يوصف بالغرابة لسبب واحد، وهو هذا الإجماع على الاعتقاد أياً كان موضوع الاعتقاد، كأنما يوجد الاستعداد للعقيدة أولاً ثم توجد العقيدة على اختلاف نصيبها من الرشد والضلال، أو توجد الملكة أولاً ثم يوجد موضوع الاعتقاد، ولا تتوقف صحة الملكة على صحة الموضوع.
ففي الطبع الإنساني جوع إلى الاعتقاد كجوع المعدة إلى الطعام.
ولنا أن نقول إن "الروح" تجوع كما يجوع الجسد، وإن طلب الروح لطعامها كطلب الجسد لطعامه، لا يتوقف على جودة الغذاء ولا على حلاوة المذاق، بل يتوقف على شعور الغريزة بالحاجة إليه.
ونخال أننا لا نخرج بالمشابهة عن مداها إذا قلنا إن إنكار الحاسة الدينية لرداءة العقيدة الأولى أو سخف موضوعها كإنكار المعدة في الجوف لرداءة المأكول وسخافة الغذاء، فإنما المرجع إلى بنية الروح وبنية الجسد في الحالتين، وكلتاهما حق لا يقبل المراء.
حق لا يقبل المراء أن الحاسة الدينية بعيدة الغور في طبيعة الإنسان.
وحق لا يقبل المراء أن الإنسان يحب أن يؤمن ولا يستقر في وسط هذه العوالم بغير إيمان.
وهو قد وجد في وسط هذه العوالم لا مراء، فإذا كان الإيمان هو الحالة التي يتطلبها منه وجوده، فضعف الإيمان شذوذ يناقض طبيعة التكوين ويدل على خلل في الكيان.
وقد اتفق علماء المقابلة بين الأديان على تأصل العقيدة الدينية في طبائع بني الإنسان من أقدم أزمنة التاريخ، ولكنهم لم يتفقوا على أصل العقيدة أو أصل الباعث عليها. ولابد لها من باعث، فلن يكون الوقوف على باعثها دليلاً على بطلانها؛ لأنها لا تأتي بغير باعث يؤدي إليها كائناً ما كان.
نعم هي ترجع إلى باعث يحفز الطبيعة الإنسانية إلى البحث عنها، وكذلك نبحث عن الطب إذا مرضنا، ونبحث عن الملجأ الأمين إذا فزعنا، ونبحث عن المال إذا افتقرنا، ولا يقدح ذلك بحال من الأحوال في صحة الطلب أو الأمن أو المال.
فما هو الباعث في الطبيعة الإنسانية إلى طلب العقيدة؟ وهل يلزم أن يكون باعثاً واحداً أو يجوز أن يرجع إلى بواعث كثيرة؟ وهل يثبت هذا الباعث على حالة واحدة أو تتجدد له أحوال بعد أحوال بتعاقب الأطوار أو الأجيال؟
أما أنه باعث واحد فلا وجه للزومه، ولا مانع لتعدده، ويصح جداً أن تتفق جميع البواعث التي تفرق العلماء في شرحها وسرد الشواهد عليها، وألا ينفرد باعث منها بنشأة الدين منذ أقدم العصور، وألا توصد الأبواب على البواعث الأخرى التي قد تتجدد الآن، وقد تمضي في التجدد إلى غير انتهاء.
من كتاب الله
عباس محمود العقاد
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا