فتح (إياد) الملف على صفحة معينة ووضعها أمام (ياسر) وحدد بأصبعه أحد الأسطر وقال:
"اقرأ هذه الجزئية.."
(ياسر) ممسكاً بالملف: ما هذا؟
(إياد),َ جزء من إفادة أم الطفل.. اقرأها بصوت مسموع لي ولك فقط.
(ياسر),َ حاضر.. "كان (رامي) يلعب أمامنا طيلة الوقت بالكرة ولم يغب عن أعيننا للحظة إلا حينما أراد الذهاب للحمام وأخذته السيدة العجوز التي تدير المحل لدورة المياه وأعادته لنا على الفور".
رفع (ياسر) رأسه وقال: وما المشكلة؟
(إياد) مشعل سيجارة: أكمل..
(ياسر) مكملاً قراءة الإفادة: "أمضينا بعدها نصف ساعة قبل أن نقرر الرحيل قضاها (رامي) في تناول "الكعكة بالليمون" التي قدمتها السيدة اللطيفة له على حساب المحل".
رفع (ياسر) رأسه مجدداً وقال بخليط من الانبهار والعجب: لكنها قالت للتو..
(إياد) نافخاً سحابة من الدخان للأعلى: لا تستعجل.. أكمل..
أكمل (ياسر) القراءة وقال: "حتى أنها رفضت أخذ الحساب من أبي (رامي) وأصرت أن حسابنا مدفوع وهدية من المحل وعادت للكاشير فلحقنا بها في محاولة لإقناعها بأخذ الحساب لكنها رفضت وحينما عدنا للطاولة لم نجد (رامي) ولم يكن هناك أحد بالمقهى وقتها ليخبرنا أين ذهب".
وضع (ياسر) الملف على الطاولة بفم مفتوح: ما معنى هذا؟
(إياد) مشيراً للمرأة العجوز وهي تباشر الزبائن: يعني أن هذه السيدة هي المجرم.. بالتعاون مع ابنتها غالباً لكننا لن نستبق الأحداث قبل التحقيق معها ومواجهتها بالأدلة والبراهين.
(ياسر),َ تلك السيدة اللطيفة؟
(إياد) مطفئاً السيجارة ناهضاً من مكانه: لم تعد لطيفة.. هيا بنا لنرحل من هنا.
(ياسر),َ نرحل؟!.. ألن نقبض عل..
(إياد) رافعاً كفه بوجه (ياسر),َ اهدأ ولا تثر جلبة.. اذهب وادفع الحساب بكل هدوء وسأنتظرك بالسيارة.
بعد أقل من خمس دقائق ركب (ياسر) السيارة بوجه مستاء ولم يدر المحرك..
(إياد) ببرود: ما بك..؟
(ياسر) ملتفتاً إليه: كيف نترك تلك المجرمة طليقة دون أن نقبض عليها؟!
(إياد),َ هي طليقة لأكثر من سنة والانتظار بضعة أيام لجمع أدلة أكثر أفضل من كشف الحقيقة والمخاطرة بأن يكون هناك ثغرات في قضيتها يمكن لمحامٍ ماهر استغلالها وتبرئتها.
(ياسر),َ ماذا سنفعل إذاً؟
(إياد),َ سأكتب التقرير وأحدد أنها الفاعل وأقدم ملاحظاتي الأخرى عليها وعلى ابنتها والبقية متروكة للمحققين عندكم وبالرغم من تواضع قدراتهم إلا أن قضية كهذه بعد ما قمت بتفكيكها بهذا الشكل لن تكون صعبة الإثبات عليهم ولو أفسدوها فسيكون ذلك بسبب إهمالهم..
(ياسر) بقلق: هل تعتقد أن الطفل أصابه مكروه؟
(إياد),َ هل حقاً تريد رأيي؟
(ياسر) وهو يدير السيارة: لا.. دعني في المجهول.
(إياد),َ قرار حكيم..
أمضى الاثنان بقية اليوم واليوم التالي في حل جميع القضايا السبع الأخرى وانتهيا من عملهما في وقتٍ متأخر من ليل ذلك اليوم وحينها طلب (إياد) من (ياسر) إيصاله للمنزل وبعد نزوله دنا من النافذة وقال له:
"لقد أبليت بلاءً حسناً.."
(ياسر) بوجه مرهق ومكتئب: شكراً..
(إياد),َ ما بك؟
(ياسر),َ لا شيء.. فقط مستاء.
(إياد),َ من ماذا؟
(ياسر) زافراً بنبرة مهمومة: من أن تلك القضايا كانت سهلة الحل وبسبب إهمال المحققين راح ضحيتها جميع المفقودين.. نحن لم نتمكن من إنقاذ أحد.
(إياد),َ لكننا حللنا القضايا ومنحنا أهلهم وأصدقاءهم نوعاً من السلام.
(ياسر),َ لكن ذلك لا يكفي.. كان من الممكن إنقاذهم لو اجتهدوا قليلاً.
(إياد),َ اسمع يا (ياسر).. ما تراه سهلاً هو يبدو لك كذلك فقط لأنك عرفت الإجابة فلا تظلم زملاءك الذين وبلا شك بذلوا كل ما يستطيعون لحل القضايا.. والدليل على ذلك أنت..
(ياسر),َ أنا؟
(إياد),َ نعم.. فأنت مثلهم لم تستطع كشف الحقيقة بالرغم من أنك بذلت المجهود نفسه وأكثر.
(ياسر),َ لكن أنا لست ذكيّاً مثلهم ولست محققاً من الأساس.
(إياد),َ أنت أذكى مما تظن.. قد لا ترى ذلك الآن لكني أراه بكل وضوح.. احصل على قسطٍ وافرٍ من النوم فأمامنا يوم طويل غداً حينما نقدم التقارير ل (غازي) ونشرح له تفاصيل كل قضية على حدة..
(ياسر),َ ألم تقل بأننا لن نقدمها إلا بعد انتهاء المهلة المحددة؟
(إياد),َ سوف نقدم نصفها فقط ونؤجل البقية لوقت لاحق.
(ياسر),َ وبعدها سنبدأ بالقضايا العشر الأخرى؟
(إياد) بنبرة غير واثقة: لا أخفي عليك أنها لا تزال تسبب لي حيرة ولم أجد أي شيء يجعلني أشعر بأني سأحلها في المهلة البسيطة الممنوحة لي.
(ياسر),َ ولم أنت مستعجل في حلها؟.. خذ وقتك.
(إياد) باسماً: ألم تقل قبل قليل إن تأخر المحققين في حل القضايا السابقة كان سبب فقدان الضحايا لحياتهم؟
(ياسر) منزلاً رأسه: صحيح.. أنا أحمق ولن أتعلم أبداً.
(إياد),َ لا تقسُ على نفسك ففي الغالب جميعهم لقوا حتفهم مثل البقية لكن هذا ليس هدفي لحل القضايا.
(ياسر),َ ما الهدف إذا إن لم يكن لإنقاذ الأبرياء.
(إياد),َ ألا يبقى مجرم طليق يظن أنه نفذ من يد العدالة..
(ياسر),َ فهمت..
(إياد),َ والآن يجب أن تعود للمنزل وتنام على الفور كي نستعد لاجتماعنا غداً مع السيد (غازي).. تصبح على خير..
(ياسر),َ تصبح على خير..
حرك (ياسر) السيارة مبتعداً عن مدخل البناية السكنية تاركاً (إياد) يتوجه لشقته في الطابق العاشر..
بعد دخوله وخلع جزء من ملابسه جلس (إياد) على الأريكة في غرفة المعيشة واضعاً هاتفه النقال أمامه وكأنه يصارع قرار إجراء مكالمة ما لكنه في نهاية الأمر استسلم وأمسك بالهاتف واتصل.. على (نادر)..
لم يجب (نادر) مباشرة، بل بعد فترة ومن الواضح من صوته أنه كان نائماً فشعر (إياد) بالحرج واعتذر منه وقال: "سأتصل بك في وقت لاحق.. المعذرة.."
(نادر),َ لا لا.. لقد استيقظت.
(إياد),َ أنا حقاً أعتذر.. لم أستوعب أن الوقت متأخر إلا بعد ما أجريت الاتصال.
(نادر) لا تعتذر يا (إياد).. أعرف أنك لم تتصل إلا لشيء مهم يمنعك من النوم أليس كذلك؟
(إياد),َ صحيح..
(نادر),َ هيا أخبرني.. ما الذي يشغل بالك؟.. أنا منصت لك.
(إياد),َ لا أريد أن أطيل عليك لكن..
(نادر) مقاطعاً بنبرة ممازحة: أطل عليّ.. فأنا متجه الآن للمطبخ لأعد بعض القهوة السوداء.. فلا نية لي بالعودة للنوم ويجدر بك منحي شيئاً يستحق حرماني من ليلة هادئة.. لنبدأ بأخبارك في مهمتك.. هل يعاملك (غازي) بشكل جيد أم أنه يتصرف معك بفظاظة؟.. هذا الرجل يمكن أن يكون مزعجاً أحياناً.
(إياد),َ لا أبداً العميد (غازي) كان متعاوناً جداً ومنحني كل ما أريد.
(نادر),َ وهل منحته أنت ما يريد؟
(إياد),َ أعتقد أنه راضٍ عما قدمته له حتى الآن.
(نادر) حتى الآن؟.. كم قضية قدم لك وكم حللت منها؟
حكى (إياد) كل التفاصيل التي حدثت معه منذ يوم وصوله وحتى ترجله من سيارة (ياسر) قبل ساعة وحينما انتهى قال له (نادر),َ لم تخيب ثقتي بك كالعادة.. لكن (غازي) محق..
(إياد),َ محق في ماذا؟
(نادر),َ ليس من الضروري أن تحل جميع القضايا خصوصاً تلك العشر التي تحدثت عنها.
(إياد),َ هل كنت أنت لتفعل ذلك لو كنت مكاني؟
صمت (نادر) ولم يجب..
×إياد0ََأين ذهبت؟
(نادر),َ أنا هنا.. أبحث عن سجائري فقط.. فالقهوة بلا سجائر مثل المعبد بلا شعائر..
(إياد),َ سأنتظر إجابتك..
صوت ولاعة تشتعل.. ثوانٍ من الصمت تبعها صوت (نادر) زافراً وهو يقول:
"أنت تعرف الإجابة على ذلك.."
(إياد),َ لكن هناك سؤال آخر لا أعرف إجابته..
(نادر),َ وما هو..؟
لم يتمكن (إياد) من طرح السؤال الذي كان يدور في خلده بشكل مباشر واكتفى بقول: هل هناك تطور في القضية؟
(نادر),َ تقصد قضية "البناية" التي تؤرقك منذ أشهر؟
(إياد),َ وهل هناك غيرها؟
(نادر),َ نعم على ما يبدو..
(إياد),َ لا أبداً أنا مجرد..
(نادر) مقاطعاً: انتهِ من قضاياك وعد للعاصمة ولا تشغل بالك بأمور جانبية.
(إياد),َ تقصد القضايا العشر؟
(نادر),َ تلك القضايا أعرف جيداً أنك لن تعود قبل أن تحلها.. كنت أتحدث عن قضية أخرى.. لا تخصك ولم توكل إليك وانتهت منذ زمن طويل.. اخلد للنوم واحصل على قسط من الراحة فأمامك يوم طويل غداً.
(إياد),َ حاضر يا سيدي.. تصبح على خير.
(نادر),َ تصبح أنت على خير فأنا سأخرج.
(إياد),َ إلى أين في هذه الساعة؟
(نادر),َ سأعرج على "الهيئة".. هناك بعض الأمور التي تحتاج إلى الإنجاز.
(إياد) باسماً قبل أن يغلق الخط: بلغ سلامي ل (خالد) والشيخ (عادل).
(نادر),َ سأفعل.. مع السلامة.
أغلق (نادر) الخط لكن (إياد) لم ينزل هاتفه وأجرى اتصالاً آخر..
بأحد أساتذته السابقين في تخصص القانون الجنائي يدعى (د. عبد الهادي) وهو من زملاء (نادر) حينما كانا يدرسان في الجامعة نفسها وهو من أوصى بتعيين (إياد) في شرطة العاصمة ويعتبره أباه الروحي وحينما أجابه قال:
"(إياد) يتصل بي في ساعة متأخرة من الليل.. لا بد وأن الأمر جلل.."
(إياد) باسماً: أهلاً يا دكتور كيف حالك؟
(د. عبد الهادي),َ بخير.. كيف حالك أنت؟
(إياد),َ الحمد لله.. كنت أريد منك استشارة ثم بعض المعلومات عن شخص.
(د. عبد الهادي),َ شخص؟
(إياد),َ نعم.. شخص يهمني أمره.
(د. عبد الهادي),َ (نادر)..
(إياد),َ كيف عرفت؟
(د. عبد الهادي),َ الإجابة عن هذا السؤال ستكون أطول من الإجابة على سؤالك الأصلي.
(إياد),َ وهل ستجيبني؟
(د. عبد الهادي),َ بالحكم على وقت اتصالك فمن الواضح أن الإجابة تهمك وملحة ولن ترتاح حتى تسمعها وفي الحقيقة لدي تصور عن هذا السؤال من نبرة صوتك.. لنبدأ ب (نادر) ثم لتنتقل للاستشارات التي قلت عنها.
(إياد),َ سؤالي عن القضية التي استلمها بعد تقاعده وتمكن من حلها لكنه لم يقدم الفاعل للعدالة..
(د. عبد الهادي),َ وما هو السؤال؟
(إياد),َ أريد أن أعرف كل التفاصيل عن هذه القضية.
(د. عبد الهادي),َ ما زلت لم أسمع سؤالاً..
(إياد) باسماً: حسناً يا دكتور.. هل يمكنك أن تخبرني عن تفاصيل القضية التي تولاها (نادر) بعد تقاعده؟
(د. عبد الهادي),َ سأجيبك بعد ما تجيبني أنت على سؤال.
(إياد),َ تفضل..
(د. عبد الهادي),َ هل ستثير الموضوع معه بعد ما أخبرك؟
(إياد),َ أعدك بأن لا أفعل.. أريد الإجابة لشيء يخصني أنا..
(د. عبد الهادي}َ وأنا أثق بك.. حسناً اسمع..
ا
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا