صمت الفراشات 5 للكاتبة ليلى العثمان

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-09-01

لم يكن فرحي محصوراً بالحرية ولا بالشقة المطلة على البحر كما تمنيت، ولا بدخولي الجامعة وتميزي بالنجاح المتواصل، ولا بالصداقات الجديدة التي اخترت منها ما يتناسب وطبيعتي وقد جعلت شقتي تضاء بالجلسات الحلوة الغنية بالأحاديث والضحكات والطرب. كان ذلك الشيء الغريب الذي تسلل إلى قلبي جسوراً جموحاً كحوافر خيل تدك أرضاً قاحلة، تقلب تربتها، تقتل ديدانها وتبذر شتلات نادرة علي أن أصونها من التنافض والتناثر. 

هكذا مسني الحب في خطوته الأولى. شيء كنت أجهل حدائقه حتى دخلتها فأدركت أن جمال الحرية والحياة لا يكتمل إلا بهذا النور الساطع الذي يجلو عن الروح صدأها ويعقمها. كنت قد قفزت بامتياز إلى السنة الثالثة حين سطعت شمس الحب لتفرش ظلالها بيني وبين أستاذي د. جواد. لقد اعشوشب في طين قلبي نبت أخضر، امتدت أغصانه وفردت أوراقه كل نعومتها وعطورها على وجهي. ولم يكتف بهذا... أخذ يفيق جسدي الخامل، فبدأت أشعر بترقرقات الجداول وعزف النايات تثب إليه مثيرة تلك الرعشات التي تفاجئه وتهرشه بأصابع النشوات الحمقى. 

لم أكن أدري أن لي قلباً فيه أجراس ذهبية تلمع وتدق، ولا جسداً تفور سواقيه بالرغبات. أحاسيس جديدة قلبت ميزان حياتي وأيقظت صمت السنين. كنت جاهلة بكيفية التعامل مع هذا الطارق الملحاح. وكنت بحاجة لمن يقتادني في الدهاليز التي بدأت أقدامي تطأها بلا طوق ولا حذر. 

لم يكن بعد قد كاشفني بالذي يخفيه داخل قلبه، لكنني أحسست به من تلك النظرات الوالهة ولمسات الكفت التي لا تضل طريقها إلى كفي وإن في غفلة منه. كان احتضانه الرقيق لحضوري دون كل الطلبة والطالبات يبهجني، يؤكد لي أنني الأثيرة. فحين يراني يلهف وتغرد عيناه، وحين أغيب يعاتب عتب من استوحش الغياب. وكنت مثله أعاني الوله والوحشة. 

امتطت الشهور بيننا... كان الحب يتنامى، يتألق معلناً خباياه بطرق شتى لكننا نخادعه بلعبة الصمت الزائف. كلانا يعض على عواطفه وسره وكأننا، رغم وضوح الإشارات، نخشى من صدمة تطيح بالواحد بعيداً عن الآخر، كنت أتحرق بانتظار أن يخرج من قاع صمته، ورغم تحرقي أيضا للخروج فإني تمسكت بإحجامي عن إسقاط لثام القلب، فلعلني رغم كل ما يتأكد لي من هيامه قد أخطأت تفسير الشظايا الناعمة المتناثرة إلي فتكون عندها رؤوس سكاكين حادة وجارحة. هكذا صبرت على شوكي وشوقي بانتظار أن يتحرر من صمته ويهديني زهور اعترافه. 

لم أيأس.. ولم أفقد الأمل حتى جاء ذلك الصباح الشتائي الغائم، فك عقدة لسانه واعترف. لحظتها شعرت بكل الغيوم تتمزق وترش ماءها الغدير على الأرض العطشى فتمتص الرواء بلا شبع. أحسست بسيقان زهوري تخضر، بالبراعم تنبت، صرت الوردة التي تفتح وريقاتها كثغر مسته قبلة عاجلة. أشهرت له عواطفي، نثرت عليه ضياء شموعي ورفيف مشاعري بلا تردد ولا خوف. كان امتلائي بالحب يدفعني أن أتخفف من ثقلي، أتخلص من زفير صمتي وأترك لشهقة الحب كل المكان. غادرت مكتبه مثقلة بالفرح، كيف يكون الفرح ثقيلاً بوزن أطنان الحديد! يومها ما كنت قادرة على احتمال تلك الطاقة وحدي. احتجت لفضاء يتسع لحديدي، ويهدئ زلزالي، يشملني برعاية مطوقة بالحنان. 

من...؟ ومن غير أمي التي لم تخف عنها خافية قلبي رغم مراوغاتي. حين طرأ علي التغيير بدأت تبحبش عن أسبابه بطرقها التي تصورتني أعجز عن التقاطها، وكنت لا أشبع فيها فضول المرأة المتلصص على أنثى مثلها، ولا فضول الأم الراجف قلبها دوماً خوفاً على "البنت" لكتها حين سألتني مباشرة ذات مرة: - "ما في حدا من زملائك أو أساتذتك معجب فيك"؟ 

قلت لها وأنا أحاذر أن تكشف سري على وجهي:

- كثيرون يا أمي. لكنني لا أهتم بالمشاعر المتطايرة.

ألحت وهي تحاول أن تنبش عشي وتكشف عن أفراخه المستورة: 

- "بس أكيد بين هالمتطايرات راح تكون واحدة ثابتة". 

أردت يومها أن أشعر أمي بأنها تحظى بثقتي. لم أراوغها.

وجدتني أعترف: 

- هناك أستاذ أحس باهتمامه و.. وده. 

- وأنت؟ 

نطقتها أمي بلهفة وانتظرت ردي، وحين لم أجب دفعت بسؤالها المفاجئ 

- "بتحبيه"؟

لم أستطع أن أكذب، بل ربما تعمدت أن أسلمها خيطي الأول: 

- يعجبني وأرتاح لمشاعره. 

فرحت.. ورغم شهيتها للاستماع وجدتني أحاذر بالمزيد من البوح والتفصيل. لكن اليوم غير الأمس. لا أظنني وأنا المحملة بأثقال فرحي قادرة على كتمان سري وكظم عواطفي. طرت إليها، في حضنها أسقطت رأسي الملآن بأحلامه، وأمام عينيها عريت قلبي من أثوابه، وعلى صدرها أفشيت حكايتي الأولى. 

قلوب الأمهات دائماً لا تقنع ولا ترضى ببشارة المواليد وسلامتها. تريد سريعاً أن تعرف جنس الجنين: ولد أو بنت؟ وقلب أمي هنا لا يقبل حالة الحب مجردة من نتائجها. ألقت بسؤالها الذي فاجعني: 

- ما طلبك للزواج؟ 

تغمغم قلبي. تطوحت شجرته فلم أشأ لأوراقها أن تسقط عند أول ضربة. ابتعدت عن حضنها وكأن ريحاً عوت من داخله، نظرت إليها ضاغطة على غضبي المستعر داخلي: 

- يا أمي.. أنت رأساً تفكرين بالزواج. والحب... ماله قيمة عندك؟ 

هزت كتفيها: 

- "ما فيه مانع من الحب إن كانت طريقه واضحة وسالكة لباب الزواج".  

رغم غضبي المكتوم لم أحقد ولم أندم أني صارحتها. كنت أقدر مشاعرها وخوفها، ومهما كنت في قلبها الابنة الغالية، فأنا بنظرها ونظر المجتمع القاسي مجرد أرملة شابة معرضة للشبهات والأقاويل. كان من أوسع أحلامها أن أحظى بمن يعوض قلبي وشبابي ما حرما منه وأنا في قفار ذلك القصر اللعين. لكن اتساع الحلم لم يقلل من مساحة الضيق الذي شعرت به وأمي تكشف عن أفكارها وتؤوللها على فرحة قلبها وهو يستقبل بشارتي الأولى. شعرت بصخرة مدببة تنتأ في حنجرتي، لملمت زفرات ضيقي الحالك وصعدت إلى شقتي لعل ربابات صمتها تفتت تلك الصخرة. 

هل جلبت الهم إلى قلبي ليدحر الفرح الذي تعبأ به؟ هل أخطأت حين صارحت أمي برنات قلبي؟ لمن إذن خلقت قلوب الأمهات رهيفة؟ أليس لتكون المخمل الذي نتمرغ عليه بأفراحنا؟ والفضاء الآمن الذي تكبر فيه أجنحتنا ويلتقط متاعبنا؟ كنت أريدها عوناً وما حسبتني بلجوئي إليها قد هيأتها لتقبض على مفاتيح حريتي الذهبية وتتلصص على أي الأبواب تندس فيها. 

* * *

 

حاصرتني أمي. بدأت تتفرس في لحظات فرحي، صمتي، غضبي، كثرة خروجي وحتى امتعاضي من صراخ الأطفال الذي كان يسعدني. كانت في تفرسها أشبه بعين عنكبوتية تلتفت حولي بخيوطها وتخنقني، وحجتها "كلام الناس" هل لأجل إرضائهم أعود تلك الفأرة المذعورة التي يئدها العجوز وتحاصرها أسوار القصر؟ هل أرضخ لحصار جديد بعد أن حظيت بالفجر وبالمروج؟ حين أضرمتني بشكوكها، بدأت أتحاشى دبابيسها المسننة، أهرب من وجبة فطورها الشهية ومن وجبة العشاء التي أحرص عليها لألتقي بأبي وأحياناً بأخي وإيمان. كان حضورهم يرحمني من أسئلة أمي وخوضها في شأن قلبي لكنه لم يسد عليها كل الفرص. كانت دائماً تجد الكوة التي تدلي منها مر السؤال وصرامة التحذيرات: "تذكري أن للناس عيوناً لا تغمض وألسنة لا ترحم". 

لم ترحمني أمي. لم ترأف بقلبي ولم تشفق على روحي وهي تلاحقني بعبارة "أنت أرملة.. همك أكبر من هم البنت" ولم تكن تخفي نقمتها على ذلك الجواد الذي جمعت إليه وهو بعد لم يلوح براية بيضاء وفستان أبيض! تسألني عن دقائق حياته التي لا أعرف عنها شيئاً، ولا اهتممت بنكش خزائنها، فاجأتني مرة بسؤال اخترقني كالسهم: "هل هو متزوج". ألهب السؤال فضولي الراقد فتحينت فرصة وألقيته على جواد. كنت مثل التي تلقي بسنارتها إلى البحر وتأمل أن تعود إليها فارغة بلا ثقل، لكنها اصطادت الرد الثقيل وامتعاضه: 

- زوجتي أمريكية. تقيم هناك وأنا أزورها بين وقت وآخر. 

لم تكن أمي قد سألت إن كان له أبناء. ولا أدري ما الذي دفعني لذلك. تذمر من السؤال لكنه ذر إجابة مفضلة كي لا تسولني نفسي لمزيد من الأسئلة: 

- ولد واحد. عمره تسع سنوات ويقيم معها.

لكن النفس الأمارة تمادت: 

- ولم تركتك زوجتك؟ 

كأنني صبيت عليه ماء النار وطعنته في رجولته، احتقن وجهه بدم أزرق، أرتعش صوته ارتعاشة خشنة عبقة بالاستياء: 

- هل سألتك يوماً عن زوجك السابق وأسرار حياتك؟ 

فوجئت! وخجلت من تطفلي الذي أضر بلحظة صفاء بيننا، حاولت ترطيب خاطره: 

- لو كنت سألت لأجبتك.

رفع كفه بوجهي كإشارة مرور حمراء:

- لن أسأل ولا أريدك أن تسألي. 

جرحني لكنني احتملت الجرح فأنا من قدم له السكين. في داخلي نقمت على أمي التي ورطتني. أدرت له ظهري وانسحبت. 

تصورته سيلحق بي ليعتذر عن خشونته وحين لم يفعل أدركت أنها غضبة الحليم. 

لم أهدأ تلك الليلة. تناوبت على عقلي أفكار سوداء وكأنها أسراب ذباب حائر: "كيف يعيش رجل وسيم مثله بلا امرأة؟ هل هو من أبعد زوجته أم تراها قد هربت من عيوب خفيةٍ عين الزوجة هي الأقدر على اكتشافها؟ وإن كان قادراً وصابراً على بعد زوجته فكيف يصبر على فراق طفله الصغير المحتاج لرعايته؟ هل عاطفته قاسية للدرجة التي لا تحرك مشاعر الأبوة ودفئها؟ كيف يعيش وحيداً؟ أين يفرغ طاقاته البشرية وحاجات الجسد؟ هل يستعيض بحب النساء وما أنا سوى واحدة من القطعان المنجذبة إلى مزاميره ومراعيه"؟ 

استحضرت كل صورته.. طوله الفارع، صدره العريض، ذراعيه اللتين تطل أعشابهما حين ينسحب كم الدشداشة، وجهه الحنطي المشبع باللون الوردي الذي يبدو في استدارة وجنتيه، أنفه المنحني قليلاً تكاد أرنبته تلامس شعر شاربيه المونسين بالأشقر الخفيف، عينيه اللوزتين الضيقتين يكللهما حاجبان متصلان كسيفين متعانقين، شفتيه اللتين كانفلاق حبة الفراولة النديتين دائماً. لا أنكر أن جماله ووسامته كانا أبرز ما لفت نظري إليه حين التقيته أول مرة قبل دخولي قاعة المحاضرات، لكن عيني التي تسمرت عند هذا الجمال غضت بصرها عنه حين تكشفت قوة الشخصية، سماحة الروح، والأناقة في الكلام. صبور، طويل البال، لا يضيق بأسئلة الطلبة واستفساراتهم. لكنه صارم حين يأتي أحدهم متأخراً أو تتناهى إليه ثرثرة من المدرج. كل هذه الصفات كانت جاذبة لفراشات غيري يلاحقنه، يتعذرن بالأسباب ليطيل الوقوف والحديث الباسم معهن. لكن عينيه كانتا تسريان باتجاهي حيث أكون قريبة بانتظار أن يفك الحصار عنه، يسبقني إلى مكتبه. أفهم إشارته وألحق به. 

كيف تبخر حنانه وتردي ذوقه في الكلام مما أسقطني في جحيم التساؤلات وطنين الذباب؟ ماذا أقول لأمي الحالمة بالعريس؟ حتى وإن خطرت له فكرة الزواج متي، هل سترضى أمي بأن تكون لي "ضرة" وإن كانت بعيدة في بلدها؟ لا ألوم أمي في خوفها رغم أنه خوف يشد علي بأسلاكه، ولا ألوم قلبي أيضاً أو أسعى لتقطيع أوتاره. شح علي الليل بالنعاس. ظللت مثل موجة تارة تهيج بالشوق إليه، وتارة تنسحب بحزنها إلى أمي التي أورثتني قلقها.

* * *

 

قسا علي جواد.. عذبني صده ومعاملته الجافة. أهملني وكأنه يقصد تلقيني درساً بأن لا أحشر أنفي في خصوصياته. أعطاني دون أن أرغب فرصة لتقليب وضعي معه ونسج قرارات للنفاذ من دائرته. كنت أحسن ملمسها متيناً في الليل وما إن ألمحه حتى أحس بتوالد الأعراس والطبول في داخلي فأدرك كم هي هشة حبال القرارات بعد أن استفحل الحب بتضاريس قلبي البكر واستيقظت رغبات الروح. تناوبت علي الليالي بصمتها وأنا أتقلب بفوضى مشاعري. أترنح ما بين الحبين له ولأمي ما بين خوفها علي وخوفي من جواد ومن الأيام القادمة التي لا أسبر سفائنها ولا أطال أشرعتها. وكم تمنيت لو ترجح كفة اختياري باتجاه أمي لكن سطوة الحب كانت جارفة. انعطفت معها بكل احتياجي المستيقظ النهم. تآزرت مع قلبي ضد أمي، احتملت صد جواد عشرة أيام بغبشها الأسود وآلامها الصخرية. وحين فاض بي الفخر والصبر قصدت باب مكتبه مثقلة خطاي لكنني استعرت من ريش قلبي أجنحة لأطير. طرقت بابه وطرقات قلبي تسبق كفي. 

التفت نحوي نصف التفاتة وعاد لأوراقه يقلبها وكأنه لا يبالي بحضوري. رغم مهانتي اقتربت. ألقيت تحيتي، رد عليها دون أن يلتفت، احتملت إهانته، همست له باعتذاري، قصدت اختيار كلمات تكون مؤثرة، عندها انتصب واقفاً. شاعت ابتسامته، تورد وجهه، لم أحسها ابتسامة فرح بعودتي بقدر ما كانت ابتسامة تكشف عن انتصار رجل كان بانتظار حارق لهذه اللحظة، انتصاره لأنه " أدبني"، انتصاره لأنه تماسك وأمسك بعواطفه لتجيء إليه المرأة ضعيفة.. معتذرة... يعبق وجهها بآثار السهاد والشوق، ويتدفق صوتها بالتوسل المهين الطامع بالصفح. لم أفرح حتى عندما أمسك بكلتا يدي وشد عليهما. لم أشعر بذلك الدفء ولا الأمان. ولم أستطع التقاط كلماته الرقيقة فقد ضلت طريقها إلى روحي. كان في داخلي شيء أشبه بالمكواة الحارقة جعلني أشم رائحة هزيمتي الأولى أمامه. رغم هذا شعرت بأنني عاجزة عن اتخاذ أي قرار لقطع علاقتي به. فأيام القطيعة العشرة سامتني عذابها، نهشتني أنيابها ولا تزال آثارها مغروزة في لحمي. 

تمكنت مني حالة الحب. وصار جواد أكثر جرأة. يدعوني إلى المقاهي والمطاعم فأستجيب. يطلب أن أصاحبه في زياراته لبعض أصدقائه المتزوجين فأنساق لطلبه بغية إرضائه. استسلمت له يذيقني بعض طعوم فاكهة الحب، سمحت بأن يحضنني، أن تتسلل كفه تعبث بشعري وعنقي، أن تمس شفتاه صفحة وجهي ترعدني فأبرق مثل نجمة لامسها القمر. أما الليالي، فقد كانت تمضي وأسلاك الهاتف تتخدر من أعسال الكلام وعصائر الوجد المنوعة. كان صوته العذب يتسرب إلي بآيات العشق المرصعة بكل ما يثير ويقض مضاجع الحرمان فأستحم من شغفي بعرقي وفيضان الأبواب المغلقة التي لم تألف السريان ولا انبثاق الندى المحصن. كنت سارية في لجته الهائجة المائجة، بدأت أكذب على أمي كي لا تفسد فرحتي وتطفئ رناتها. صرت أتسلل في الخروج والعودة. وحين ضيقت خناقها ابتدعت وسائل للفكاك منها، صرت أضللها، أترك سيارتي مركونة في كراج العمارة وأخرج حيث ينتظرني جواد بسيارته في الشارع الجانبي. لم أغفل أنها قد تصعد إلى شقتي وتكتشف غيابي، صرت أكتب ورقة وألصقها على الباب "أنا نائمة أرجو عدم الإزعاج". ولم أنس أن أنبه عطية كي لا يخبرها بخروجي. وجدته يتحمس لمساعدتي. كان يهش الأطفال داخل الخيمة لحظة خروجي، أحسست بأنه ينتقم من أمي التي ظلت كارهة لوجوده. سألته ذات صباح وأنا أتشمس في الساحة: 

- لماذا تساعدني؟ 

قال باندفاع لا هف: 

- لأنني...

لم يكمل. وأرى عينيه ثم، كمن استنجد بسبب آخر:

- لأنك سيدتي ولازم أطيعك. 

تضايقت. كنت أطمع في إجابة لا تشعرني وكأنني ذلك العجوز وهو - كالكلب المطيع - يسمع كلامه وينفذ أوامره القاسية. احتددت عليه: 

- هل تخاف مني ولا تخاف من أمي؟

أجاب كمن وخزته شوكة من أمي:

- أنا عبدك أنت. 

صرخت به: 

- لم تعد عبداً لأحد.. إنس الماضي يا عطية.

حدق بي بعينين جريئتين:

- وأنت... هل نسيتيه؟ 

قلت بلهجة التأكيد: 

- بل ردمته إلى غير رجعة.

كأنه لم يصدقني. صوب نظرة أكثر جرأة وهو يلح:

- كله.. كل شيء صار في القصر؟ 

أدركت ما يرمي إليه. قررت أن أزيح الثقل عن صدره:

- كل شيء يا عطية.. صدقني كل شيء. 

أرخى رأسه، أغمض عينيه، شعرت أن تحت جفونه دمعتين بحجم حموتين عصيتين على السقوط. ما إن فتح عينيه حتى سقطت الحصوتان وكأني ألمح بخارهما الساخن يتصاعد. وفي فورة إشفاق عليه مددت أصابعي ومسحت دموعه، فوجئت به يشد كفي يمرغ وجهه عليه فتصيبني رعشة ساخنة لكنني لم أشأ أن أقطع عليه لحظته، كنت أتألم وأبتلع الألم حتى رفع عينيه وأنشد بصوته العذب: 

- "ألحين أحس إني تحررت". 

مسني شعور بالرضا، شعرت بود كبير نحوه. ضحكت. داعبته: 

- ما دمت تحررت، لازم تتزوج. 

خفض رأسه خجلاً. شبك كفيه يقرص أصابعهما ثم رفع رأسه نحوي وهمس: 

- إذا كانت مثلك أتزوجها. 

رعش قلبي. هل يقدر من عاش في أسر العبودية أن يحلم بامرأة مثل سيدته؟ هل... هل..!!. فركني السؤال: هل تراه يحبني؟ تمالكت نفسي، ابتسمت و... وعدته.

* * *

 

فاجأني أخي تلك الليلة. كان الوقت متأخراً لكنه برر حضوره: 

- أعرف أنك صاحية. امتحاناتك على الأبواب. 

لم أتوجس شراً. توقعته خلافاً بينه وبين زوجته، وكالعادة يلجآن إلى لمصالحتهما؛ لكن إجابته الودودة حين سألته عنها أكد أنهما على وئام. نظراته الهاربة مني أوحت بأن الأمر يخصني. 

خمنت أنها شكوى من أتي بسبب هروبي منها فأعددت نفسي لمجابهة شكواها بشكواي منها حارصة ألا أفشي الأسباب، لكن أخي الذي عرج بحديثه إلى الجامعة والدراسة والزملاء، فاجأني بما هو أبعد من ظني: 

- كيف الدكتور جواد؟ 

وجف قلبي. هل بسبب ذكر حبيبي أم لخوفي مما يتخبأ ظهر السؤال! جاهدت أن أنتقي إجابة اعتيادية لا تفشي ما يتعارك في داخلي: 

- بخير.. أستاذ ممتاز يبذل من قلبه في التدريس.

بخبث يواريه بالرقة: 

- يبذل بالتدريس فقط!؟ 

بدأت الألوان تنفلش. وعلي أن أحذر. أتظاهر بعمي الألوان: 

- ما قصدك؟ 

تنهد أخي غير غافل مراوغتي له. حدق في عيني ثم: 

- أسمعي يا نادية.. إن كنت سأتحدث في أمر يخصك فليس هذا إلا من منطلق حبي لك وخوفي عليك. 

ازدادت نبضات قلبي. تهيأت لمعركة أدافع فيها عن نفسي إن كان ينوي فرض حصاره علي. كدت أبادره وأعنف عليه لكني في لحظة فطنة قررت أن أواصل مراوغتي:

- خير..! ما الأمر الذي يقلقك علي؟

رمى أخي حصاه برفق:

- قبل أكثر من شهر لمحتك تنزلين من سيارته. قلت ربما تعطلت سيارتك واستعنت بزميل ليوصلك، مرة أخرى رأيتك معه في مطعم، قلت: الأمر عادي بين زميلين، لهذا لم أفاتحك بالموضوع على اعتبار أن من حقك التعامل مع من تثقين به من زملائك. ولكن!!

صمت كمن يشحن نفسه بمزيد من الشجاعة. كان قلبي مستمراً في وجيفه، لكني استطعت أن أنبس ضاغطة على صوتي كي لا يتلمس ارتعاده:

- لكن ماذا؟؟ هل سمعت ما أزعجك؟

هز رأسه هزات متتالية:

- كنت أحسبه زميلاً ثم عرفت أنه أستاذك.

- وما الفرق؟

لم تخف حدة خفيفة في صوته:

- الفرق أن يتحول الأستاذ حبيباً، هناك أمور مسموحة وهناك أمور يجب التوقف عندها، ما الذي يجعلك تصاحبينه لزيارة أصدقائه في بيوتهم؟ وبأية صفة؟ 

شعرتني وقعت في الفخ: 

- كيف عرفت؟ 

- أظنه محرجاً لي أن تدخلي بيت أحد أصدقائه الذي هو في الوقت نفسه زميلي في العمل.

أطرقت برأسي شعرت بخيبتي. أكمل:

- عندها اضطررت إلى التحري عنه، وأحب فقط أن ألفت نظرك أنك لست الوحيدة التي يصحبها في زياراته. جواد يعرف كثيرات غيرك. 

صوب سهماً لقلبي الراعد. حاولت أن أدافع:

- لكنه يحبني أنا. 

نبعت من عينيه نظرة مشفقة:

- جواد رجل لا يعرف الحب. فلا تسحبك موجته. كوني قوية وحذرة.

انتصب واقفاً. وقفت. أخذني إلى صدره بحنان شفيف. همس:

- لي أخت أثق بها وأتمنى ألا تخسر ثقة أهلها بها.

لم يضف أخي كلمة. لم يثقلني بالتحذيرات والوصايا كما تفعل أمي، لم يذكرني بأنني أرملة وبأن للناس آذاناً وعيوناً والسنةً. اكتفى بأن يسقط حجرة صغيرة في بركتي لأحدق في دوائرها وفقاعاتها، أتحسس جدرانها الإسمنتية، أتأكد من حوافها إن كانت صلبة أو مثلومة. لعله قصد أن أكتشف بنفسي إن كانت البركة صحية فأواصل السباحة فيها. أو أفر من جوفها المطحلب كي لا أغرق في العفن.

قبل أن أغلق الباب جرؤت وطلبت منه سيجارة. أشعلها دون تردد.. قدمها وهو يبتسم:

- كلاهما ضار بالصحة... لكن ضرر السيجارة أرحم من أضرار الحب.

خرج أخي.. ترك لي مساحة صمت اتسع مثل صحراء تغوصني برمالها ثم تنفضني كضب جائع. أحاطت بي سحابة سوداء انقضت على الأضواء وأخرستها. صرت مثل شمعة مبعوجة بلا فتيلة، لا يفكر أحد أن يمد يده إليها بعود كبريت لتضيء الظلام. وتمادى الصمت يضاعف استبداده مثل ريح عاتية تثير زوابعها من كل اتجاه، تفلق حبوب عقلي التي أهملتها ولم أروها بقدر ما رويت بستان قلبي وأخضعته لسلطة الحب. بدأت كل فلقة تنبت سؤالاً وتجتر ذكرى لموقف مضي ما كنت أدقق حينها في خباياه، ولا اهتممت بأن أفكر في نتائجه. 

ذات مرة طلب أن يزورني في شقتي، حين أبديت استغرابي وترددي استخدم الإغراء بكلامه - المعسول - كي يقنعني: 

- أريد أن أرى أين تنام حبيبتي حيث تحلم بي، أين تجلس وهي تهامسني بالهاتف، أين مكتبها الذي تدرس عليه، والبانيو الذي تستحم فيه، أريد كلما اشتقت إليك وفكرت بك أن أحتويك أنت والمكان. 

أغراني وباندفاع الفرح وافقت واندفعت لأمي. هويت عليها برغبته هوية الصاعقة فزعقت: 

- "يزورك وين بالصلاة على النبي"؟ 

- في شقتي. 

شدت على ذراعي حتى كادت تقصفه:

- مجنونة! إن كان ولا بد يتفضل هون ويقابل أبوك". 

استأت من تفكير أمي. سريعاً تصورت أنه ينوي خطبتي، أطحت بتصورها وأملها: 

- يا أمي هو يريد أن يزورني لا ليخطبني.

صرخت أمي بحقد واضح عليه:

-" كمان!! لك عين تعترفي بنذالته"! 

اعتذرت لجواد. نقلت له غضب أمي ورفضها، وحين سعيت لتخفيف الأمر عليه نفض استياءه بوجهي: 

 - أنت ضعيفة الشخصية. تستبد بك أمك ولا تدافعين عن حقوقك. 

الآن فقط وأنا أستعيد ذلك اليوم، ألوم نفسي، أأنبها. كان يجب أن أعلمه برفضي الصارم قبل أمي. كان يجب حين وصفها بالمستبدة أن أثور وأدافع عن حقها - الأمومي - بالخوف علي لكنني لم أفعل. بدوت أمامه ضعيفة يستبد بمشاعري. كل ما همني يومها تهدئته وامتصاص غضبه، بل تماديت وحنقت على أمي التي تسببت في تعكير مزاجه فعاندتها وواصلت علاقتي به ضاربة بخوفها. وها هو أخي بخوف حنون يدعوني أن أكون حذرة من السراب. 

ثم ماذا يا جواد؟ إلى أين ستدحرجني أنانيتك بعد محيط سرابك؟ لعله السؤال المغيب الذي كمن حتى يؤون له الانفلات. 

بعد حديث أخي الحنون، بدأت أخفف من هطول سحائبي على أرض جواد. رفضت مصاحبته إلى بيوت أصدقائه دون أن أكشف له افتضاح أمرنا لأخي، وقللت من الخروج معه إلى المطاعم. بدأت أهجر الهاتف، لا أبادر بالاتصال ولا أرد إذا تواصل الرنين. تقصدت أن يفهم أنني لست ضعيفة ولا سهلة كما يظن، وأنني بإرادتي اتخذ قراري وليس بدافع من أحد. 

للعناد لذة!. لكنه لم يكن سهلاً، فلا يزال جواد يسبح في دمي، يحاصرني في صمتي، ينثر عطره، صوته، وصورته، فأتوقد حنيناً إليه، أتقطع، ويولول قلبي من الشوق، كانت فترة التناسي أشقى من قهر القصر، أنهكني الصبر وذبت في الليالي، سفحت من مياه عيني دموعاً أملح من ماء البحر، وانطويت بجوع روحي كما الدودة المرشوشة بالمبيد. أسبوع كامل وأنا أكابد لأكبح جماحي، لكني ما عدت قادرة على لجم شوقي المحتدم كالثغر المفتوح. أمسكت بالهاتف، أطلقت أصابعي لتدير رقمه والخوف يرجني: ماذا لو أغلق بوجهي؟ 

ظل الجرس يرن مسعوراً وأنا بولهي المجنون أنتظر. تكرم أخيراً، رفع السماعة، بادرته: 

- هل كنت نائماً؟ 

تناهى إلي صوته هادراً بالعتب:

- أنتِ!؟ ما كنت أتصورك قاسية لهذا الحد.

انهلت عليه بقسوة تشحن هبوبها من أوجاع الصبر والجوع، ظل صامتاً فاستدركت موقفي، غيرت من لهجتي العنيفة، خشيت أن ينفض عني بعد أن عانقت صوته وانتعشت، لكنه بدا وكأنه عانى مثلي وانتظر هذه المبادرة. تجاوز لهجتي العنيفة وبدأ يسيل عواطفه، يرش أشواقه، كان ذكياً جريئاً في انتقاء عبارات غزله المدهش، كانت ذبذبات صوته مثل الفأس تحطم شجرة مقاومتي فتذبل أغصانها وتتراخى، فاضت دموعي، فضحها صوتي الذي غص بها. عاتبني: 

- وتبكين؟ أتراه شوقاً أم ندماً؟ 

لم أتمالك، انهمرت عليه بكل أوجاع صبري وألمي الذي وصل حد الإدماء. بثثته كل عواطفي لأرطب دروب الوصل التي جففتها بعنادي لبعض الوقت، نثرت ورودي، فجرت رعودي، وأطلقت بروقي مستسلمة لنشوتي المضاءة بعد انطفاء. 

بعد تلك القطيعة والعودة. تغير جواد صار أكثر إلحاحاً أن أخرج معه، أن أقضي الساعات لوقت متأخر ونحن نتجول بسيارته في شوارع المناطق المعتمة. وذات ليلة ابتعد بي إلى منطقة بعيدة قاحلة من الحركة مسكونة بصمت موحش. كان الظلام مريباً والشارع ضيقاً، أصررت أن أخرج من المنطقة قبل أن يفاجئنا رجل مباحث أو سيارة شرطة. ضحك من سذاجتي، شدني إليه عنوة وحاول التقام شفتي. بعنف أبعدته عني فصرخ بوجهي: 

- لا أفهم كيف تحبينني وترفضين قبلة! 

تحديته: 

- وهل إذا أحببت أندفع إلى الخطأ؟ 

سخر مني:

- ليس هذا هو السبب... يبدو لي أنك امرأة باردة. 

يتحداني.. يتصور أنه بتلك الكلمة يقرصني لأتحدى نفسي وأثبت له العكس لكنني صدمته: 

- جميل أن تكتشف بأنني امرأة قادرة أن أضع غرائزي كلها في الفريزر. 

لم يعجبه ردي. أخذ يؤلبني ضد نفسي: 

- أنت شابة وجميلة.. حرام أن تدفني شبابك وتحرمي جسدك.

قلت ورغبتي أن أصفعه: 

- ومن قال لك إنني أنوي حرمان نفسي؟ 

شع وجهه بالانتصار، تصورها دعوة له لكنني صددت حماسته وأذريت فرحته: 

- لن أتردد إن جاء ابن الحلال الذي يستاهل جمالي.. و.. حرارتي. 

بصق ضحكة ساخرة: 

- أنت مغرورة. 

بثقة أجبت: 

- أعرف.. ويحق لي ذلك. 

انتفض وكأن صبره فاض به، هرس دواسة البنزين، شفط فالتقطت عيناي انتفاضة قطط راقدة أفزعها الصوت. كنت خائفة من السرعة التي انطلق بها عبر الشوارع لكني ما جرؤت أن أطالبه بالتأني، خشيت أن يستغل خوفي ويضاعف السرعة فأموت. لاحظته يوجه دفة السيارة إلى طريق غير طريق بيتي: 

- إلى أين!؟ 

- بودي أن نختلي بمنزلي. 

دفعتني النقمة عليه أن أصرخ: 

- وهل تحسبني سأوافق؟؟ 

كارهاً رفضي استشاط:

- أمعقول أن لا تكون لديك الرغبة في ذلك؟ 

ذكرته:

- إن كنت لم أرغب في قبلتك.. فكيف أذهب إلى بيتك؟

بغرور وقح: 

- كثيرات يتمنين هذا.

- أعرف. هناك المتردية والنطيحة و "طايحة الحظ".

ابتلع ردي لكنه تقيأه إهانة مباشرة:

- تشكين بذوقي!! ها أنت معي.

انكمشت دون كلمة، شعرت بإهانته توقظني أنا إذن واحدة من القطيع. 

ران الصمت كئيباً مثل دود ينبر بلحمي، يتسلى بنهشي، فأتمنى لو أقذف نفسي من السيارة وأختار موتي. لاحظ ضيقي، مد كفه محاولاً التقاط ذراعي، فالتصقت ببابي مبتعدة عنه. 

- زعلت؟ 

- بل أهنت. 

- تعتبرين رغبتي فيك إهانة؟ 

- لن أحقق رغبتك. 

أوقف السيارة، استدار نحوي، كان في عينيه بريق مخيف، وفي صوته تشنج واضح: 

- مم تخافين؟ أنت أرملة، من حقك أن تستمتعي ما دمت تحبين. 

أمي تريدني أن أخاف لأنني أرملة، وهو يريدني أرملة لا تخاف لتشبع رغباته! كان لابد أن أرد على إهانته: 

- زوجتك هناك وحدها كالأرملة، هل من حقها أن تستمتع مع أحد غيرك؟ 

انتفض وكأنني مسست إحدى مقدساته:

- زوجتي تحبني ولا تفعل هذا. 

هل تراه يخمد سؤالي أم يسد ثقباً صغيراً حفرته فجأة في عقله يخشى أن يفكر فيه فيندفع بركان النار إليه؟ أم تراها ثقة الحيوان الذي يتصور أن لا رائحة تجذب أنثاه إلا رائحته!؟ رغم هذا خرجت الكلمة حادة من لسانه: 

- لو فعلت أقتلها. 

جفلت... أرعبني تناقضه السريع. ثقة بالحب زائدة ثم احتداد شك يصل حد الجريمة إن هي فعلت. 

ساد صمت وكأنني قد هشمت الكلام فصار كالزجاج الجارح عالقاً في حلقه، كنت أصارع في بحر هائج لكني استطعت أن أصطاد قراري وأحذفه إليه: 

- عد بي إلى البيت حالاً. 

* * *

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا