النداء الروحاني 2 للكاتب أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-12-13

2
دوامة الأدلة
لم يهدر (إياد) أي وقت وطلب من (ياسر) تزويده بجميع ملفات القضايا غير المحلولة والمقيدة ضد مجهول وبدأ بقراءتها ودراستها واحدة بعد الأخرى على مدى أيامٍ عدة مستهلكاً خلالها الكثير من السجائر وأقداح القهوة التي كان يطلبها باستمرار من (ياسر) الجالس أمامه دوماً على كرسيه لدرجة أنه لم يعد يتكلم لطلبها فبمجرد أن يرفع أصبعه في الهواء ينهض (ياسر) فوراً ويخرج ليعد له قهوته السوداء المملوءة والمشبعة بالسكر.
بقي الاثنان على تلك الحالة لمدة تجاوزت الأسبوعين ولم يخرج (إياد) من المكتب للميدان أو يقدم أي تقرير لمدير الشرطة عن أي تطورات جديدة تخص تلك القضايا مما دفع (غازي) لزيارته يوماً في مكتب الأرشيف والدخول عليه وهو منكب على الملفات المتراكمة أمامه ومدفون بينها ومن شدة تركيز (إياد) بها وانغماسه لم يلحظ دخول (غازي) عليه لكن (ياسر) انتبه ووقف مقدماً التحية لرئيسه الذي أشار له بالخروج وتركه مع (إياد) وحدهما.
جلس (غازي) على كرسي (ياسر) وبقي يتأمل (إياد) حتى لاحظ وجوده فأغلق الملف الذي كان بيده وقال: عميد (غازي)؟.. عذراً.. لم ألحظ وجودك.
(غازي): لا تشغل بالك.. هل نتج شيء عن وجودك هنا كل هذه الفترة؟
(إياد) واضعاً الملف جانباً ملتقطاً علبة السجائر مشعلاً لفافة:
نوعاً ما.. معظم وقتي أمضيته في ترتيب عمل موظفيك.
(غازي): ماذا تقصد؟
(إياد) واضعاً السيجارة في فمه مشيراً لثلاث مجموعات من الملفات مكومة على الأرض بجانبه: "بالرغم من تقصير محققيك في جمع الأدلة المطلوبة بشكل صحيح ودقيق ناهيك عن العبث الذي حدث في مسارح الجرائم من قبل أفراد الشرطة إلا أن بعض القضايا تم حلها.."
(غازي) مبتهجاً: حقاً؟!.. كم قضية؟!.. أكثر من عشر؟!
رفع (إياد) كومة ملفات من على الأرض ووضعها على سطح المكتب أمام (غازي) وقال:
"العدد الإجمالي "35 قضية".. كل قضية يوجد داخلها تقرير يشرح سبب الاختفاء وفي حال وجود مجرم تم تدوين اسمه وعلاقته بالضحية وبعض القضايا لم تكن اختفاء، بل مجرد هروب.."
(غازي) بتعجب: كيف تمكنت من ذلك وأنت لم تخرج من هذه الغرفة إلا للذهاب للمنزل في وقت متأخر؟!
(إياد): في الحقيقة بت هنا بضعة أيام متفرقة بعد ما طلبت من (ياسر) تزويدي بفراش ولحاف.
(غازي): دعك من ذلك.. لم تجب على سؤالي.. كيف تمكنت من حل هذه القضايا دون بحثٍ ميداني؟
(إياد) حاملاً الكومة الثانية: لأن المعلومات التي جمعت حولها لم تكن بذلك السوء مثل هذه المجموعة.
(غازي): ماذا تقصد؟
(إياد) واضعاً الكومة الثانية بجانب الأولى أمام (غازي): هذه ثماني قضايا التحقيق بها كان ضعيفاً جداً والأدلة التي جمعها محققوك لم تكن سوى إفادات مختصرة وكأنهم لا يريدون حلها.. لكني بعد ما أخرج للميدان سأصلح كل ذلك.. سيستغرق الأمر أسبوعاً كحد أقصى.
(غازي) بتجهم: أنا لا أسمح لك بأن تنتقص من مهارة محققينا والتحدث عنهم بهذه الطريقة؟
(إياد) بهدوء: عميد (غازي).. مع احترامي لك أنت من طلبت مساعدتي وليس العكس.
(غازي): نعم لكن هذا لا يعطيك الحق في..
(إياد) مقاطعاً وهو يمد ورقة لـ (غازي): هذه قائمة بأسماء المحققين في دائرتك مرتبة من الأفضل إلى الأسوأ ومن خلفها القائمة نفسها لأفراد الشرطة.. هذا لو أحببت التعرف على قدرات الكوادر التي تعمل تحت إمرتك.
أخذ (غازي) الورقة وعيناه لم تنزلا عن (إياد) وهو يدخن ويجهز كومة الملفات الثالثة..
وضع (إياد) الكومة الثالثة جانباً على الأرض وقد احتوت على عشرة ملفات ولم يقدمها لـ (غازي) مثل البقية ويقي يتأملها ويدخن بصمت..
(غازي): ما الأمر؟.. ماذا عن بقية الملفات؟
(إياد) وهو لا يزال سارحاً بها: هذه القضايا غريبة جداً وليست كالأخريات..
(غازي): غريبة كيف؟
(إياد) مشيراً لكومة الملفات بسيجارته دون أن ينقطع سرحانه بها: هناك شيء مشترك بينها لكني لم أتمكن من اكتشافه حتى الآن.. التشابه بينها كبير بقدر الاختلاف.
(غازي): لم أفهم..
(إياد): ولا أنا.. ليس بعد.. لكني سأكتشف السر والرابط بينها.
(غازي): لا داعي لذلك.. لقد قدمت لنا أكثر مما طلبناه وتوقعناه منك وفي وقتٍ قياسي ونحن ممتنون لذلك.
(إياد) وسرحانه ينكسر ملتفتاً نحو (غازي) بوجه متسائل: ماذا تقصد؟
(غازي): أقصد أن مهمتك انتهت وسوف أبلغ (نادر) بأنك ستعود لمركز العاصمة الأسبوع القادم.
(إياد) معتدلاً في جلسته مطفئاً السيجارة: الاتفاق هو أن أقرر أنا متى أرحل..
(غازي): لا تظن أن ما أفعله جحود لكني أرى أنك وقعت في الفخ الذي حذرتك منه قبلاً.
(إياد): فخ ماذا؟
(غازي): الهوس.. هذه القضايا لم يكن مقدراً لها أن تُحل لكنك حققت معجزة بحل أكثر من نصفها ولو توقفت الآن فلن نبالي بالقضايا الثماني عشرة الأخرى في سبيل انتشالك.
(إياد) بخليط من العجب والسخط: انتشالي من ماذا؟!
(غازي): من الحالة التي ستصيبك وأصابت (نادر) من قبلك بعد ما تقاعد..
(إياد): السيد (نادر) عاد للخدمة بعد فترة بطلب من الوزير ولم يصب بأي حالة كما تدعي.. لقد كان مستمتعاً بتقاعده.
(غازي) باسماً: بل دخل في حالة من الاكتئاب قادته لقضية أخرى.. و(نادر) لم يكن ليرضى أبداً أن يعود لعمله وهو لم يحل تلك القضية..
(إياد): عن أي قضية تتحدث؟
(غازي): قضية أوكلت إليه بطلب من زملائه كنوع من المساعدة حينما كان يقضي وقته بما أسميته تقاعده الممتع.
(إياد): لا أفهم.. لقد تقاعد عن العمل بسجلٍّ نظيف وكل قضاياه طيلة فترة خدمته كانت محلولة والمجرمون فيها جميعهم قدموا للعدالة.
(غازي): عدا قضية واحدة.. قيدت كإزعاج للسلطات بناءً على طلبه حينما اجتمع وقتها بكبار المحققين في القسم ومعظمهم كانوا تلاميذ عنده ولم يرفضوا له ذلك الطلب بالرغم من وجود دليل قاطع على وقوع الجريمة.. قليل من المحققين يعرفون تلك الحقيقة.
(إياد): وكيف عرفت أنت؟
(غازي): لأني كنت أحد الحاضرين لذلك الاجتماع السري قبل أن يتم ترقيتي كمدير للقسم في هذه المدينة.
(إياد): لا أصدق أن السيد (نادر) يمكنه أن يخالف القانون بهذا الشكل..
نهض (غازي) ووقف أمام (إياد) قائلاً:
"لا تسئ الفهم أيها المحقق.. فكر بها قليلاً.. (نادر) صديقي منذ زمن طويل وهو لم يخالف القانون أبداً في حياته قط لكن المجرم شخص لا يستطيع تقديمه للعدالة لقد آثر أن ينسب لنفسه عجزه عن حل القضية على أن يفعل ذلك.. أنا أعرف (نادر) جيداً وأفهم طريقة تفكيره وهي مشابهة لطريقتك لذا أحاول أن أنصحك قبل أن تصبح مثله.. هذا هو الهوس الذي دمر حياته وحياة أسرته وأحاول تحذيرك منه.."
(إياد): لي الشرف أن أكون مثله.. أم تريد أن أكون كبقية المحققين هنا؟
(غازي) متجاهلاً عبارة (إياد) المستفزة: أنا أصبحت رئيساً لهذه الدائرة لأني أعرف التفريق بين ما هو مهم وما هو أهم وهذه مهارة لم تتقنها بعد أيها المحقق.. سوف أرفع خطاب إنهاء تكليفك مع توصية بتكريمك للوزارة وأتمنى عدم رؤيتك هنا غداً.
نهض (إياد) من مكانه وقال: إن كنت تريد تكريمي فامنحني حق حل القضايا الثماني في المجموعة الثانية على الأقل.
(غازي): لا تشغل بالك بها.. بناءً على توصياتك سوف نعيد فتحها مجدداً وأعدك بأننا..
(إياد) مقاطعاً: تعرف أني لن أرحل وأنا أعرف خيوطاً لحلها فلا تفتعل مشكلة كلانا في غنى عنها.
صمت (غازي) لثوانٍ ثم قال: بشرط.. أن تنسى القضايا العشر الأخرى في المجموعة الثالثة.
(إياد): لا يمكن أن أعدك بذلك لكني أعدك بأني لن أذكرها لك مجدداً.
(غازي): سأكتفي بذلك.. سأمهلك أسبوعاً واحداً للانتهاء منها.
(إياد): أحتاج خمسة أيام فقط.. لكني أريد (ياسر) أن يكون معي.
(غازي) باستغراب: (ياسر)؟.. لكنه ليس محققاً.. يمكنك الاستعانة بمحققين من القسم أكثر كفاءة منه.
(إياد): (ياسر) يملك شيئاً لا يملكه أغلب محققيك.
(غازي) بشيء من التجهم: عن ماذا تتحدث؟
(إياد): الإخلاص..
(غازي): سأتجاهل كلامك المهين هذا وسأمنحك ما تريد.. سوف أوكل الأرشيف لأحد الموظفين منذ اليوم ولمدة خمسة أيام فقط!
(إياد) بتهكم: كنت أظنها أسبوعاً..
(غازي): خمسة أيامٍ يا محقق (إياد).. هذا ما ستحصل عليه فقط.
(إياد) باسماً: وأنا ممتن يا عميد (غازي).
(غازي) مديراً ظهره متوجهاً لباب الخروج: بالتوفيق في هوسك.
خرج (غازي) تاركاً المحقق (إياد) غارقاً في أفكاره حتى دخل عليه (ياسر) وقال:
"هل أحضر القهوة؟"
رفع (إياد) رأسه وقال: لا.. أحتاج سيارة.
(ياسر) بالرغم من استغرابه: حاضر ستكون جاهزة ومهيأة خلال عشر دقائق.
(إياد): واستعد أنت كذلك لمرافقتي.
(ياسر): أنا..؟
(إياد): نعم أنت.
(ياسر): لكني لا أستطيع ترك الأرشيف بدون..
(إياد) مقاطعاً: لقد اهتممت بهذا الموضوع لا تقلق.
(ياسر): حسناً أمرك.
 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا