النداء الروحاني 1 لأسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-12-13

الضحية التي تُساق لحد السكين..
لا تُدرك ذلك أو تعيه..
حتى فوات الأوان..
وجهة نظر أخرى
أمام مبنى شرطة المدينة وقف رجل يتأمل مدخله وهو يدخن سيجارته بهدوء مراقباً الناس وأفراد الشرطة الداخلين إليه والخارجين منه. قوطع سرحانه حينما اقترب منه أحد أفراد الشرطة وسأله عن سبب وقوفه هنا بهذا الشكل.
وضع الرجل سيجارته في فمه وأخرج بطاقته ومدها أمام وجه الشرطي الذي تغيرت ملامحه وقال:
"أعتذر يا سيدي على إزعاجك.. هل هناك خدمة يمكن أن أقدمها لك؟"
أمسك الرجل سيجارته بسبابته وإبهامه وأخذ نفساً طويلاً منها قبل أن يرمي بها تحت قدمه ويدوسها قائلاً والدخان يخرج من أنفه:
"خذني لمكتب مدير الدائرة.."
(الشرطي) وهو يمد كفه تجاه مدخل المبنى: أمرك.. تفضل من هنا..
(الرجل) مشيراً له بالتقدم قبله: من بعدك أنت
سار الشرطي وهو مرتبك ومن خلفه الرجل..
في الطابق الخامس من مبنى الشرطة طرق باب مدير المديرية وحينما أذن للطارق بالدخول دخل الشرطي ومن خلفه ذلك الرجل وحينما وقعت أعين المدير عليه تذكره في الحال ونهض من مكانه مرحباً به ومد كفه لمصافحته:
"المحقق (إياد)!.. أهلاً بك في مدينتنا المتواضعة إنه لشرف لنا وجودك معنا.."
تقدم (إياد) مصافحاً المدير قائلاً: الشرف لي يا عميد (غازي)
أشار المدير للشرطي بالخروج وتركهما وحدهما..
قدم الشرطي التحية وهم بالخروج لكن المدير استوقفه وهو يعود لمكتبه وقال: انتظر..
وجه المدير نظره لـ (إياد) الذي جلس أمامه وقال: كيف وجدت السكن الذي خصصناه لك في مبنى الضباط؟
(إياد): جيد ومناسب.. وهادئ
(غازي): جيد.. جيد.. ماذا تشرب يا محقق (إياد)؟
(إياد): قهوة سوداء.. والكثير من السكر
تبسم المدير ثم وجه نظره للشرطي الذي فهم وقال: حاضر.
بعد خروج الشرطي عقد المدير أصابعه وأسندها لسطح طاولته وقال: بالطبع شرح لك المحقق (نادر) السبب لطلبنا معاونة شرطة العاصمة.
(إياد): نعم أخبرني.. وحسب ما فهمت أنني هنا منتدب أو معار بشكل مؤقت لكنه لم يخبرني إلى متى؟
(غازي) باسماً: هذا حسب مجهودك..
(إياد): لم أفهم.
(غازي): كما تعرف نحن مدينة كبيرة لكن لسنا بحجم العاصمة وكما هو الحال دوماً حينما يبرز أي شرطي أو محقق في عمله ويتميز به يتم نقله لفريق شرطة العاصمة لذلك فهم يملكون أذكى المحققين وأمهر أفراد الشرطة.
(إياد): العاصمة كبيرة وتعداد سكانها كثيف وعدد الجرائم هناك..
(غازي) مقاطعاً: نعم نعم أنا مدرك لذلك مثلما كل الأقسام بالمدن الأخرى يتفهمون حينما يُسلب منهم أفضل موظفيهم فقط لأنهم برعوا في تأدية عملهم لكن هذا يأتي مقابل ثمن وهو أننا لا نستطيع حل الكثير من القضايا التي يمكن تسميتها "صعبة" وهذا يؤدي لتراكم القضايا "الباردة" أو المقيدة ضد مجهول.
(إياد): وهذا أمر مزعج ومعيب في حق أي دائرة شرطة.
(غازي): بالضبط.. ونحن نعاني مؤخراً من هذا التراكم غير الحميد.. المحققون هنا ليسوا سيئين، بل على العكس تماماً فمعدل حلهم للقضايا عالٍ جداً بالمقارنة مع الدوائر الأخرى لكن..
(إياد): لكن ماذا..؟
(غازي): خلال السنوات الثلاث الماضية تزايدت قضايا من تصنيف معين.. لأشخاص يختفون بدون سبب.. ومهما حاولنا كشف أسباب اختفائهم نصل لطريقٍ مسدود.. لا يوجد أي أدلة واضحة يمكن أن تقودنا لشيء وكل الذين حققنا معهم كمشتبه بهم لم نتمكن من ربطهم بحوادث الاختفاء تلك وكنا سنتجاهل الأمر لولا زيادة عدد تلك القضايا غير المحلولة بشكل محرج لي وللقسم بالكامل.
(إياد): عن كم قضية نتحدث؟
صمت مدير الشرطة لثوانٍ ثم أخرج علبة سجائره وأشعل لفافة وقال: "53 قضية.."
(إياد) بتعجب: هذا عدد كبير جدّاً!
(غازي): أنا مدرك لهذا الأمر.. لكن لو تمكنا من حل ثلث هذا العدد فقط فسوف نخرج من دائرة الإحراج قليلاً أمام الوزارة لذا لجأت وطلبت من صديقي القديم (نادر) أن يعاونني في تخفيف هذا العدد من القضايا التي تكدست لدينا بالأرشيف فقام مشكوراً بترشيحك لنا لمساعدتنا في ذلك.
(إياد): لكن هناك مشكلة.
(غازي): ما هي؟
(إياد): سجلي في حل القضايا..
(غازي): أعرف.. أنت المحقق الوحيد الذي لم يستلم قضية دون أن يحلها وسجلك خالٍ من القضايا المقيدة ضد مجهول ولهذا يحبك (نادر) ويثق بك فهو الوحيد الذي يحمل الإنجاز نفسه بالبلاد.
(إياد): في الحقيقة معلوماتك ليست دقيقة.. سجلي كان نظيفاً حتى..
(غازي) مقاطعاً: حتى استلمت قضية "البناية".. أخبرني (نادر) عن الموضوع.
أخرج (إياد) علبة سجائره وأشعل هو الآخر لفافة تبغ وبدأ يدخنها بصمت سارحاً أمامه وكأن ذكر تلك القضية عكر مزاجه وأزعجه..
(غازي): اسمع يا بني.. لا يوجد محقق يتمكن من حل جميع القضايا التي توكل إليه.. أعظم المحققين يحملون في سجلاتهم قضايا كثيرة مقيدة ضد مجهول أو وصلت لطريقٍ مسدود لكن في المقابل لديهم أضعاف ذلك العدد من القضايا المحلولة والتي تمكنوا من خلالها من تحقيق العدالة.
(إياد): السيد (نادر) ليس لديه قضية لم تحل.
(غازي) باسماً: وهل أنت في منافسة معه؟
(إياد): لا ولكن..
(غازي): لا تدع طموحك يكون عائقاً أمام تقدمك وإنجازك..
(إياد): ماذا تقصد؟
(غازي): أقصد أن الشغف في تحقيق أهدافنا شيء جميل ومصدر طاقة محرك للإنجاز لكنه قد يتحول دون شعور منا لهوس وحينها يصبح أداة للتدمير..
(إياد): تدمير ماذا؟
(غازي): تدميرك أنت وكل ما يمكنك أن تقدمه.. نحن لا نطلب منك حل جميع القضايا التي سنقدمها لك.. فقط عشر قضايا أو خمس عشرة قضية لا أكثر وسيكون ذلك كافياً وخدمة سنكون ممتنين لك لو قدمتها لنا.
(إياد) مطفئاً السيجارة: سأحتاج بعض المساعدة.
(غازي): الدائرة كلها مسخرة لك ورهن إشارتك وسوف أصدر أمراً بأن تتعاون معك جميع الأقسام هنا دون الرجوع إليّ.
(إياد): وأين أجد هذه القضايا؟
نهض (غازي) وأشار لـ (إياد) بأن يتبعه..
خرج الاثنان من المكتب ونزلا للطابق الثاني ودخلا غرفة كتب على بابها: "قسم الأرشيف" وحينما توسطاها وقف فتى في منتصف العشرين من عمره بارتباك وهو يقدم التحية لمديره مسقطاً كرسي مكتبه وراءه قائلاً: أهلاً سيدي!
(غازي) مشيراً له بكفه بالجلوس محدثاً (إياد): هنا ستجد جميع ملفات القضايا بكافة أنواعها.. المحلولة والمقيدة ضد مجهول حتى البلاغات الكاذبة.. كل شيء.. و(ياسر) سيعاونك في إيجاد كل ما تريد وسيقدم لك كل المعلومات التي تحتاجها.
(إياد): وأين سأدرس القضايا؟
أشار (غازي) لـ (ياسر) بالتنحي عن مكتبه ففعل بعد ما أعاد الكرسي لمكانه..
(غازي) باسطاً كفه فوق مكتب (ياسر) الخاوي: هذا هو مكتبك الجديد!
(إياد) موجهاً نظره لـ (ياسر): وماذا عنه؟
(ياسر) بارتباك ونبرة متقطعة: لا تقلق يا سيدي سوف أحضر لي مكتباً آخر!
(إياد) وهو يجول بنظره من حوله: المكان ضيق ولا يستوعب مكتبين.
(غازي): سيكتفي بكرسي مريح.. هل تحتاج إلى شيء آخر؟
تقدم (إياد) نحو المكتب ماسحاً بأنامله على سطحه متأملاً النافذة خلفه:
"قهوتي التي لم تصل لمكتبك.. مطفأة سجائر.. والكثير من الوقت.."
(غازي) باسماً: خذ كل الوقت الذي تحتاجه ولن يطلب أحد منك الرحيل قبل أن تقرر أنت ذلك.
(إياد): والقهوة والمطفأة؟
(ياسر) قبل أن يهم بالخروج على عجالة: في الحال سيكون كل شيء عندك!
خرج (ياسر) تاركاً (غازي) يحملق في (إياد) الذي دنا من النافذة وبدأ يتأمل الناس في الخارج..
حدثه (غازي) من خلفه قائلاً:
"عشر قضايا أو خمس عشرة قضية فقط يا (إياد).. لا تغرق في وحل لا يمكنك الخروج منه.."
(إياد) ملتفتاً نحو (غازي),َ "قدمي غطست وقد بدأنا.."
 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا