الصائغ اللعوب لحصة إبراهيم العمار

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-11-18

الصائغ اللعوب
للكاتب الأمريكي: أو هنري O. Henry
عن كتاب ""O. Henry Collected Stories
سوف لن تعثر على اسم (توماس كيلينج) في دليل مدينة (هيوستن) والذي يفترض أن يكون مدوناً به لولا أن السيد "كيلينج" قد أنهى أعماله فجأة منذ شهر أو ينيف وانتقل إلى جهة أخرى.
كان قد قدم إلى (هيوستن) ففتح فيها مكتب تحريات صغير، ثم كشف النقاب عما يقدمه من خدمات بطريقة متواضعة، ولم يبلغ به الطموح حد منافسة وكالة (بنكدتن) ... سلك .. - عوضاً عن ذلك - دروباً أقل وعورة وخطراً.
إذا ما رغب صاحب عمل في استكشاف خبايا كاتب متجره كان السيد (كيلينج) في الخدمة دائماً ... وكذا كان إما ارتأت إحدى الزوجات إبقاء عين مفتوحة على زوجها الذي غمرته سعادة مفاجئة استوجبت معرفة مصدرها إذ لا أمان مع الحياة، وسوء الظن من حسن الفطن أحياناً.
وكان (كيلينج) رجلاً هادئ الطباع مجتهداً، مُنظّراً، رزيناً ... ظل ردحاً من الزمن يقرأ أعمال (غابوريو) و(كونان دويل) يحدوه أمل مشرق في تسنّم مراتب عليا. وشغل - قبل مجيئه - منصباً لا بأس به في أحد مكاتب التحريات الكبرى في شرق الإقليم، على أن ندرة الحوافز والترقيات دفعته إلى النزوح إلى غربه حيث تتوافر فرص أكثر لممارسة النشاط.
وكان قد تجمّع له على امتداد السنين مبلغ تسعمائة دولار أودعها لدى أحد تجار مدينة (هيوستن) بعد أن قدم له خطاب تعريف من أحد أصدقائه.
واستأجر مكتباً في شارع مغمور فدلى منه لائحة تعريفية بمهامه قبل أن يدفن وجهه في مجلدات قصص (شرلوك هولمز) شخصية التحريات التي أبدعها (كونان دويل) وظل ينتظر إطلالة الزبائن.
بعد أيام ثلاثة من افتتاح المكتب. والذي لم يكن به سواه. وَفَد زائر.
كانت شابة في السادسة والعشرين - على ما يبدو - وكانت رشيقة طويلة نوعاً ... أنيقة الملبس - ورمت بحجاب شفاف فوق قبعة سوداء من القش وهي تجلس بخفة على الكرسي الذي قدمه المخبر لها. صوتها كان رقيقاً، أما وجهها فدقيق الملامح .. كانت جذابة حقاً ... على أن عينيها الرماديتين كانتا تدوران بسرعة فتعكسان بذلك مزاجاً عصبياً متوتراً بعض الشيء.
. جئت لرؤيتك يا سيدي!
- قالت بصوت عذب ... حزين نوعاً ... رخيم ... رنّان - وتابعت: ولأنك غريب غير معروف - وذلك ما دعاني إلى المجيء هنا كيما أكاشفك بقضية داخلية أقضت مضجعي - أريدك أن تراقب تحركات زوجي ... ورغم إحساسي بالمهانة لاطلاعك على ذلك إلا أني أجد نفسي مضطرة له ... ما عاد زوجي الذي أعرفه ... ومشاعره الدفاقة المضمخة بعبير الشوق قد تبدلت نحوي.
قبل زواجنا كان على علاقة عاطفية وثيقة بشابة تنتمي لعائلة كان يقطن لديها ... على أن خمس سنوات قد مضت الآن على زواجنا السعيد ... ثم جاءت تلك (الأخرى) إلى مدينة (هيوستن) ... لدي من الأسباب ما يحملني على الاقتناع بعودة ما كان بينهما من وشائج وأواصر؛ ولذا فإني أريدك أن تراقب حركاته وسكناته فتوافيني بما يستجد حينما أعود إليك في مكتبك في موعد سأضربه لك. اسمي هو السيدة (ر) وزوجي شخصية معروفة! إنه صاحب محل مجوهرات صغير في شارع .... سأدفع لك بسخاء نظير أتعابك. إليك عشرين دولاراً مقدماً.
وتناول المبلغ منها في رتابة من يفعل ذلك طوال الوقت ... وكأن تحصيل المال - في مهنته - كان شيئاً مألوفاً غاية.
وأكد لها بأنه سيبذل ما في وسعه، ثم طلب منها موافاته بعد يومين الساعة الرابعة عصراً.
وشرع في إجراء تحرياته فقصد متجر مجوهرات الزوج، ثم دلف إليه بداعي إصلاح زجاج ساعته.
كان السيد (ر) في حوالي الخامسة والثلاثين، وبدا هادئاً جاداً متزناً.
أما متجره فكان صغيراً بعض الشيء، لكنه كان حافلاً بالعديد من المجوهرات، ساعات وألماس، وصف عريض من الأحجار الكريمة. واتضح له ... في أعقاب إجراء مزيد من التحريات أن السيد (ر) كان عاقلاً لا يعاقر الخمرة ولا يبرح منضدة حانوته.
وظل السيد (كيلينج) يتسكع قرب المتجر لعدة ساعات كوفي بعدها برؤية شابة ترتدي ملابس براقة ... عيناها كانتا سوداوين، أما شعرها فكان فاحماً كالليل البهيم.
واقترب التحري (كيلينج) من الباب أكثر، متلصصاً كيما تتاح له معاينة ما يحدث بالداخل
واتجهت الشابة بثقة. صوب - السيد (ر) فاتكأت على طرف المنضدة وشرعت تتحدث معه ببساطة وعفوية، ونهض لمرآها فشرع يتجاذب معها أطراف حديث خفيض قبل أن يضع في يدها شيئاً من النقود - التي سمع رنينها - وتخرج الشابة مغادرة المتجر.
وما إن حل الموعد المضروب حتى كان التحري في مكتبه ... ولما سألته موكلته عما إذا كان قد توصل إلى ما يؤكد شكوكها ... نقل إليها ما رآه.
- إنها هي بعينها؟ - هتفت السيدة حينما نقل إليها أوصاف الشابة التي ولجت المتجر - تلك الوقحة الصفيقة! كيف تواتيها الجرأة ... إذاً (فتشالز) يعطيها نقوداً! أيظن أن ذلك سيمر دون حساب وعقاب؟!.
وفركت السيدة عينيها بمنديل أخرجته فاستشعر نحوها كثيراً من الشفقة ورثى لحالها:
- سيدة (ر)! - قال "المخبر" - إلى أي مدى تريدين أن أذهب في استقصاءاتي؟.
- أريد أن أرى بأم عيني ما يرجح شكوكي، كما وإني بحاجة إلى شهود كيما أرفع دعوى بالطلاق ... لن أستطيع الاستمرار على حالتي هذه ... إنها حياة لا تطاق!
وأعقبت ذلك بأن نفتحه عشرة دولارات!
في الجلسة التي تلت ذلك ... لما وفدت السيدة (ر) لتسمع ما توصل إليه ... وافاها بتقريره ... قال:
- تذرعت اليوم بحجة واهية لزيارة المتجر ... وكانت تلك الشابة هناك ... على أنها لم تمكث طويلاً، وقبل أن تمضي سمعتها تقول له: "سوف نتناول العشاء في أحد المطاعم ثم نعود إلى هنا كيما تنهي تصميم "البروش" الألماس الذي تعكف على إعداده راهناً لنتسامر حيث يخلو الجو لنا بعد انقطاع وفود الزبائن".
وواصل المحقق حديثه فقال: أعتقد أن هذه فرصة ثمينة لك كيما تقفي بنفسك على ما يجري بين زوجك ومصدر هيامه وإلهامه وأحلامه!
- الوغد! صرخت السيدة (ر) وعيناها تومان ببريق عجيب!
لقد أخبرني بأن لديه الليلة ما يشغله! تلك هي المسألة إذاً!
وهذا ما يمضي وقته فيه!
- أرى أن تختبئي داخل المتجر كيما تطلعي على ما سيحدث ثم تستدعين شهوداً بعد أن تجابهي زوجك إثر ضبطه متلبساً بالجرم المشهود!
- عين الصواب ما ارتأيت. هناك شرطي مكلف بحراسة المنطقة المحيطة بالمتجر تعرفه عائلتنا ... وستكون مناوبته موافقةً لذلك الموعد المشؤوم ... سأتربص بهما إذاً داخل المتجر وعندما أشعر بأني قد سمعت ما يدعم شكوكي فسوف أستدعيك والشرطي لتكونا شاهدي القضية!.
- سوف أتحدث إلى الشرطي بهذا الخصوص وأرجو أن تبكري الليلة بالمجيئ كيما نعد الكمين لها! ليكن ذلك قبيل حلول الظلام.
وبحث التحري عن الشرطي حتى عثر عليه، وشرح الأمر له، فقال حامي العدالة والأمن:
- هذا غريب ... لم أعهد السيد (ر) لعوباً على أنه لا ينبغي الحكم على الناس ظاهراً! حسناً فزوجته ترغب في ضبطه بموقع الجريمة وهي ترغب في الاختباء داخل المتجر! لِنَر ... هناك غرفة خلف المتجر يحتفظ فيها بالحطب والكراتين الفارغة والباب بين المتجر وتلك الغرفة مغلق، على أنك إن استطعت إدخالها عبره فسيكون بإمكانها الاختباء في مكان ما.
أكره التدخل في مثل هذه الأمور على أني متعاطف مع السيدة (ر) فقد عرفتها منذ الصغر.
عند الغسق ... جاءت الزوجة ... كانت ترتدي زياً عادياً أسود وتعتمر قبعة مستديرة داكنة فيما غطى حجاب رقيق وجهها.
- سوف لن يعرفني (تشارلي) إما وقع بصره عليّ - قالت -!
وتوجهت إلى المتجر برفقة التحري فوقفا في الشارع المواجه له، وعند الثامنة جاءت الشابة المنتظرة فدلفت إلى المحل الذي سرعان ما لفظها والسيد (ر) ... متجهين إلى موعد العشاء المضروب - أغلب الظن -.
وأحس التحري بارتعاشة في ذراع السيدة!
- الوغد! ... ويظن أني أنتظره في سذاجة بالبيت! يالغدر الرجال، وقادها السيد (كيلينج) إلى ممر يفضي إلى الفناء الخلفي لمتجر المجوهرات وكان الباب الخارجي غير مغلق فولجا عبره.
- هناك منضدة كبيرة بالداخل لها غطاء فضفاض، سأختبئ تحتها كيما أتمكن من سماع كل كلمة يتلفظون بها.
وأخرج السيد (كيلينج) مجموعة من المفاتيح الرئيسية استطاع أحدها فتح الباب المفضي إلى المتجر خلال دقائق معدودة.
- سأحكم رتاج هذا الباب من الداخل، أما أنت فإني آمل أن تجد في طلب زوجي ورفيقته حتى إذا ما تبعتهما عائدين فيكر بالمجيء واطرق الباب ثلاث مرات كي أعلم بقدومهما ... فأصغي لحديثها قبل أن أفاجئهما ... على أنه ينبغي أن تكون متواجداً آنذاك سيد (كيلينج) إذ إني لا أعرف ما يخبئه القدر! من يدري فقد يعتديان على بعد انكشاف أمرهما!
وانسل المخبر خارجاً فتبع المجوهراتي وفتاته. واكتشف سريعاً بأنهما قد طلبا عشاء في مطعم هادئ ... وتباطأ في مشيته جيئة وذهاباً حتى فرغا فسبقهما إلى المتجر وطرق الباب - كالمتفق - ثلاث طرقات.
بعد دقائق عدة دخل التاجر والشابة إلى معرض المجوهرات ... وتسلل نور المتجر المتوهج إلى ناظري المحقق عبر صدع في الجدار أعقبه سماع حديثهما المألوف على أنه لم يتمكن من معرفة ما كان يدور بينهما فما ميّز الكلمات!
واتجه إلى الشارع فراقب من هناك ما يحدث داخل المتجر فبصر بالصائغ منكباً على عمله والحديث بينه ورفيقته سجال.
- سأمهلهما قليلاً! قال المحقق قبل أن يشرع في التجوال بتؤدة هنا وهناك.
كان رجل الأمن يقف في إحدى الزوايا.
وأخبره التحري بأن السيدة (ر) بالداخل وبأن الأمور تسير وفقاً للخطة المرسومة.
- سأتجه إلى خلفية المتجر كيما أشهد وقوع الضحية في الكمين المنصوب!
وألقى الشرطي نظرة إلى الداخل فقال:
- يبدو أن كل شيء على ما يرام ... أين ذهبت تلك المرأة الأخرى؟
- هناك إنها تلك التي تجلس بجانبه!
- أنا أتحدث عن (الأخرى) تلك الدخيلة التي اصطحبها السيد (ر) إلى العشاء.
- وأنا كذلك، قال المخبر.
- يبدو أن في الأمر التباساً. قال الشرطي - أتعرف هذه السيدة التي تقف مع السيد (ر)؟
- إنها تلك التي عزمها على العشاء!
- بل إن هذه هي زوجة السيد (ر) - أنا أعرفها منذ خمسة عشر عاماً!
- إذاً فمن ....؟ شهق المحقق وهو يقول ذلك وتابع: ارحمنا يا رحمن!. فمن تلك المختبئة تحت المنضدة إذاً؟
وهرع إلى باب المتجر فقرعه بشدة - وهرع السيد (ر) إليه مفزوعاً ففتحه وما إن فعل حتى اندفع الشرطي والمخبر إلى الداخل!
- بسرعة! ابحث تحت المنضدة! صرخ التحري.
ورفع الشرطي غطاء المنضدة فسحب فستاناً أسود وخماراً أسود وشعراً مستعاراً له ذات اللون!
- أهذه زو .. زو .. زوجتك؟ سأل التحري مشيراً إلى ذات العينين السوداوين إلى جانبه ... والتي كانت قد ففرت فاها دهشة ... وهي ترمق ما حولها بعين مكذب لما يحدث!
- بالتأكيد! على أني أريد تفسيراً لما يجري إن سمحتما!
- فتش متجرك وابحث في حقائبك سيدي - قال الشرطي وقد شرعت تفاصيل الحقيقة المرة تلوح له!
بلغت تكاليف الساعات والخواتم الألماسية المسروقة ثمانمائة دولار دفعها التحري كاملة صبيحة اليوم التالي!
وتم إيضاح الحقائق طرَّا لتاجر المجوهرات تلك الليلة، أما التحري فانهمك في معاينة صور لبعض المطلوبين للعدالة ... وتوصل أخيراً إلى الصورة المطلوبة فأوقف بحثه المحموم وشرع ينتف في حنق شعر رأسه!
تحت صورة لرجل جذاب ... دقيق الملامح ... دُونت هذه العبارات الوصفية: (جيمز ميجلز)، فلان الملقب بسميون الماكر، فلان الملقب بالأرملة النائحة، فلان الملقب بجيمي لص المنازل الحقير، المحتال والسارق المعروف ... مشهور بالتنكر بزي النساء ... خطير جداً ومقنع تنطوي على الجميع ألاعيبه ... مطلوب في (كانسس سيتي)، (أوشكش)، (نيواورلينز)، و(ميلواكي)؟
هذا - يا سادة - هو ما حدا بالسيد (كيلينج) إلى عدم الاستمرار في عمله كرجل تحريات في "هيوستن"

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا