(9) الرسالة
لم أكن أعلم بأنهم سيعطونني هذه الغرفة.. لقد خدعوني..
منذ اليوم الأول الذي دخلت فيه بيتنا الجديد وأنا أعلم بأن هناك شيء ما غريب بشأن هذا المنزل، لا أعرف حقاً لماذا أصر أبي أن يجنح بنا بعيداً عن المدينة إلى منطقة ذات بيوت حكومية صغيرة ومتلاصقة وبعيدة مثل هذه؟.
عندما فتح أخي الأكبر باب البيت شعرت بهواء بارد يلفح وجهي، مع إننا كنا في شهر يوليو الحارق، إنه لهيب الشمس في الخارج يشوي أي قطعة لحم مسكينة تقف تحت رحمته أكثر من عشرة دقائق.. فكيف إذا أتى هذا الهواء البارد من هذا المنزل ذو الأثاث البالي؟..
أتذكر أمي عندما أبلغها أبي بخبر الخروج من البيت، كان قد اتخذ قراره وكان حازماً فيما يقوله.. أو يأمر به..
سنخرج من هذا البيت وسننتقل لآخر في منطقة أخرى ولا أريد أن أسمع معارضة من أحد..
هنا خضعت أمي دون نقاش لإرادته، رغم ما عرفناه منها أنا وأخوتي من عناد قوي لا يهزمه عادة تعنت أبي وإلحاحه.. هناك شيء ما غير طبيعي يخفيانه أمي وأبي عنا.
في بيتنا القديم.. وقبل أن نخرج منه بأسبوع، انتشر نمل أسود وصراصير سوداء خرجت من كل مكان، من فتحات الحوائط المتشققة، ومن أرضيات البيت المكسرة، ومن الجحور الصغيرة المخفية داخل الحمام، فزعت أختي وأصرت على أن نخرج من البيت، إن رقتها وحساسيتها المفرطتان لا تتحملان العيش في بيت قذر كهذا..
طلبت أمي في اليوم التالي شركة النظافة التي أتت بدورها ورشت المنزل وعقمته من كل الحشرات التي تتربص به. ولكننا أبداً لم نتوقع أن تتحقق أمنية أختي بهذه الطريقة السريعة، فبعد ليلة واحدة فقط من يوم حادث الحشرات هذا.. وافق أبي على طلب أختي وقرر أن نخرج من البيت.. كيف؟ وإلى أين سنذهب؟ اكتفى أبي بالصمت فقط، وحزم أمره.. وقال: سنخرج..
نعم.. لم أكن أعلم بأنهم سيعطونني هذه الغرفة.. لقد خدعوني..!!
لقد كان اتفاقنا منذ البداية أنا وأخوتي أن تكون الغرفة القريبة من غرفة أمي وأبي لي، فهما يعرفان كم مرة في الليل أنهض فزعاً من تلك الكوابيس التي أراها دائماً عندما أخوض تجربة النوم في بيت غير بيتنا.. فكم من مرة داهمتني الكوابيس في تلك الفنادق ذات النجوم الثلاثة عندما كنا نسافر أنا وأهلي.. وكم مرة صحوت وأنا أختنق وأبكي من كابوس استفرد بي عندما كنا نزور أقاربنا في الشاليه وننام عندهم، أو عندما كنا نذهب إلى البر وننام في المخيمات..
لقد كانت تجارب لا رحمة فيها.. تجارب كنت أرى فيها الموت، لذلك كنت أفضل دائماً أن أكون قريباً من أمي وأبي حتى أستنجد بهما ليلاً عندما تطبق على أنفاسي كوابيس الليل الأسود..
والآن يتعمد أخوتي إعطائي هذه الغرفة البعيدة.. يا إلهي إنها الغرفة الوحيدة في الدول الثالث من البيت! وليس دوراً كاملاً.. إنه نصف دور بنوه أصحاب البيت قبل أن يتركوه لأسباب مجهولة.. أغلب الظن أنهم بنوه لخادمتهم أو لتكون مخزناً لأشيائهم المهملة والزائدة.. أو ربما هي غرفة أو نصف دور للإيجار..
اليوم هو يومنا الأول في هذا البيت الغريب، وأنا وحدي في هذا النصف دور.. وحدي في غرفة ليست غرفتي.. على سرير ليس سريري، اليوم هو يوم موعدي مع كوابيسي، ستزورني حتماً.. سيطل شبح الكابوس برداء أسود ذو قبعة فضفاضة ملتصقة بثوبه من الخلف، يضعها على رأسه لتقع مقدمتها على وجهه وتغطي نصف ملامحه، يداه كأيدي الهيكل العظمي.. اليوم سأنام.. وربما لن أصحو..
ذهبت إلى السرير، واندسست تحت الغطاء، أريد أن أغمض عيني، ولكنني لا أريد أن أرى الظلمة، أريد أن أغمض عيني ولكنني لا أريد فتحها وأرى الكابوس أمامي.. واقفاً في الظلام، يحمل خطاف أبيض.. ربما هذه المرة يريد أن يقطع رأسي.. آسف لأنني أطلت عليكم الحديث.. ولكن ربما رسالتي هذه ستكون الأخيرة.. من يعلم.. فربما بعد هذه الليلة لن يراني أحد!!.. .. التوقيع: سالم..
وعندما انتهى من كتابة رسالته، أطفأ سالم المصباح الصغير الذي كان في يده وأخرج رأسه من تحت اللحاف الذي كان يسنده برأسه مثل عامود الخيمة الصغيرة، ووضع الرسالة والمصباح إلى قربه، ثم استسلم وأغمض عينيه..
مرت اللحظات بطيئة.. طويلة.. لا يسمع فيها سوى الصمت.. ثم نام سالم قرير العين، سحبته خيوط النوم بعيداً عن كل مخاوفه..
الليل أسود.. وسكون مطبق على البيت الجديد، الأهل نائمون في غرفهم الجديدة، وسالم وحده في العلية.. في تلك الغرفة الصغيرة.. فجأة.. انتشر هواء بارد في الغرفة، تحركت الستارة المعلقة على النافذة الصغيرة، اهتز المصباح الذي وضعه سالم إلى قربه.. فوقع.. لكنه لم يصدر صوت.. لقد وقع على الوسادة الصغيرة التي سبقت المصباح بالوقوع قبل دقائق من فوق سرير سالم.. تحرك سالم دون شع ور وهو يتقلب فوق السرير، ثم فجأة.. أحس سالم بشيء.. إنه شيء ما يركل سريره من الأسفل، لم تستوعب مخيلة سالم الموقف، ظن أنه الكابوس.. ظن أنه النوم.. ظن أنه.. يحلم!!..
ولكن سالم شعر بالبرد يقترب أكثر، تقلب على الفراش مرة أخرى.. وكلما تحرك.. شعر بشيء ما يركل جسده النحيل من تحت السرير.. خاف سالم.. فتح نصف عين.. تقلب على جنبه الأيسر.. شعر بالركلة هذه المرة ولكنها كانت أقوى.. إنها فعلاً أقوى حتى أنه شعر ببعض الألم في خاصرته.. خاف سالم أكثر.. مد يده ليأخذ المصباح.. لكنه لم يكن في مكانه.. لقد وقف المصباح.. لماذا وقع الآن؟ همس سالم في سره.. مد يده وسط العتمة يبحث.. تخبط بيده في كل مكان.. هنا وهناك.. لم يجده.. لكنه تذكر.. نعم.. ربما يكون قد سقط على الأرض.. سأمد يدي وأحاول الوصول إليه على الأرض.. مد سالم يديه.. تخبط بها ناحية اليمين.. تخبط بها ناحية اليسار.. لامست يده الوسادة الصغيرة، لامست يده أرضية الغرفة فأحس بالبرد الذي تشبع به السيراميك.. مد يده أكثر، خاف سالم أن يكون المصباح تدحرج لأسفل السرير.. مد يده ليصل إليها.. مدها أ كثر يبحث تحت السرير.. وفجأة.. أطبقت يد على يده.. أحسها يد هيكل عظمي تعتصر لحم يده.. فزع سالم.. وبحركة لا إرادية أراد أن يسحب يده.. لكنه لم يستطيع.. لقد أمسكته اليد.. لقد أمسكته بقوة.. أراد أن يصرخ.. وعندما فتح فمه.. شعر بآلاف الأسراب من النمل الأسود تخرج من فمه.. ورآها تنتشر في كل مكان.. على وجهه، ثيابه، يديه، قدميه، سريره، الحوائط، الأرض.
وفي اليوم التالي.. شاع خبر في البلد.. عن فقدان طفل اسمه سالم من بيت ذويه في منتصف الليل. وأوردوا في الأخبار أنه ترك رسالة تصف خوفه من كوابيس الليل.. وقد نوه الأهل إلى أنه يمتلك مخيلة واسعة ويحب الكتابة ويقرأ بنهم.. لم يجدوا أدلة تذكر.. عدا نمل أسود كثير انتشر في البيت دون أن تستطيع فرق مكافحة الحشرات أن تقضي عليه.. أما تحت السرير.. فلم يجد رجال الشرطة دليل يدلهم إليه.. عدا شيء واحد.. عظمة من يد بني آدم.. مات من سنين طويلة!!..
تم
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا