تدافع الصدمات ..
أوصلنا إلى اليمن!
وصلنا إلى مطار دولة خليجية..
انتظرنا قرابة الأربع ساعات.. ثم واصلنا الرحلة إلى أحد مطارات دولة اليمن ..
ووصلنا بعد رحلة مملة.. وغير مريحة..
تخللها النوم والطعام وآلام الظهر والأرق وغيرها..
فحجم القلق الذي كان ينتابني.. لا يمكنني وصفه..
إلى درجة أنني لا أذكر تفاصيل ذلك المطار اليمني..
كل ما أذكره هو ذلك الزحام الذي أضاق بالممرات..
أصبت بضيق في التنفس لا أعلم لماذا..
كنت أنتظر لحظة المرور من نقطة التفتيش والتدقيق..
وألا يتم القبض عليّ على غير العادة..
فلقد كنت أريد المرور أكثر من أي مرة مضت..
وبالفعل.. استغرق الوقت منا قرابة الساعة..
حتى وجدنا أنفسنا نقف في الشارع.. وأصوات السيارات والبشر لا تنقطع.. لقد مررنا!!
انتظرنا بعض الوقت حتى وصلت سيارة يقودها رجل يمني.. أخبرني يحيى بأنه صديق والده..
أخذه بالأحضان.. وقدم له يحيى.. وصافحه..
ثم نظر إليّ.. واستغرب مني ومن هيئتي..
قاطع والد يحيى شكوكه قبل أن تكتمل، وأخبره بأنني زوجته الأفغانية الجديدة.. وضحك كثيراً ثم بارك له هذه الخطوة!
قلت في نفسي.. غبي.. ما المضحك أن ترى طفلة..
.. قد أصبحت متزوجة؟
ركبنا معه.. وجلست أنا ويحيى في المقعد الخلفي..
الحالة النفسية السيئة.. لم تكن تسمح بتبادلنا الحديث..
فمهما صبرنا على الصدمات التي تنهال علينا..
من وراء تلك المواقف التي تستبيح رقة طفولتنا..
لن نصمد.. فنحن صغار جداً على تحمل كل هذا المسافات والأعمال والمواقف التي تدمر كل البراءة التي يفترض أنها بداخلنا..
بعد أن قطعنا مسافة طويلة لا أعلم أين نهايتها..
توقف صديق والد يحيى عند أحد المطاعم الشعبية..
واشترى الطعام لنا.. ثم ذهبنا إلى مكان بالقرب من أحد الأشجار.. وجلسنا لنأكل.. كانت أكلة يمنية لذيذة جداً..
لحم ومرق وخبز وأرز.. كان كريماً معنا حقاً..
ثم انطلقنا حتى وصلنا إلى ما تسمى بمحافظة حجة..
كما أخبرني يحيى عن اسمها عند وصولنا..
ثم غادرت السيارة وصاحبها الذي ودعنا ..
ومن هنا بدأت معاناتي الجديدة!!
وبدأت بمعايشة أحداث تقضي على ما تبقى لي من إنسانية!
واصلنا المشي حتى وصلنا إلى منزل صغير..
بملكه والد يحيى..
كان قديماً.. ولا يحيط به أي منزل آخر؟
ولا أعلم كم بيت يملك هذا المتجبر.. ولماذا يختار البيوت المعزولة.. بالتأكيد لمداراة أفعاله النذلة عن أعين الناس..
رضخت للأمر الواقع..
ولم يمض على وصولنا ساعات..
حتى بدأ ذلك القذر بالاتصال بكل معارفه.. وبتنشيط كل علاقاته.. والبدء في عمله الذي كان يديره من بُعد!
توفير الأطفال وتهريبهم من أجل استغلالهم في التسول!!
أطفال.. أطفال.. أطفال..
يستغلون ضعفهم وعجزهم في تحقيق الثراء لأنفسهم..
يا الله.. كم طفل شاهدت منذ يوم اختطافي حتى اليوم؟
هل حملهم تسعة أشهر.. عملية بسيطة؟
أم هل أن ولادتهم سهلة؟
لماذا تنتهك طفولتهم؟ ويتم حرمان أمهاتهم منهم؟
لحاجات فئة من البشر لا تعرف الرحمة؟
منهم من يستخدمهم للجنس؟
ومنهم من يستخدمهم لكسب المال؟
ومنهم من يكون رحمياً بهم ويستخدمهم للعمل بالمنازل؟
إن وظيفة الطفل الوحيدة.. هي اللعب.. لا شيء غير ذلك..
أن يلعب ويضحك ويلهو ويسعد.. أن يرقص.. أن يطلب ويحصل.. أن ينام مرتاحاً ويصحو فرحاً..
أن يعالج إن مرض.. أن يحلم قبل أن يكبر..
ما شاهدته.. ليس له علاقة بكل ما ذكرته..
مؤلم هو حال الأطفال.. ومؤلم ما شاهدته..
أعلم أن في وطني أطفالاً من أبناء جلدتي يعانون..
ولكن لم يعيشوا ما مررت به.. أو ما مر به يحيى وغيره من أطفال المناطق الفقيرة والمفتقدة للأمن والأمان..
أتمنى.. أن أكون الأولى والأخيرة من أبناء منطقتي..
وأن يتغير واقع الأطفال الذين صادفتهم.. للأحسن..
لقد مللت من مشاهدة انتهاكاتهم للأطفال في كل مكان أصل إليه..
كان كل ثلاثة أشهر تقريباً..
يقوم بجمع العديد من الصبيان الصغار.. والفتيات الصغيرات..
البعض يقومون بخطفهم هو ومن يعملون معه..
والبعض الآخر يشترونهم من خاطفين آخرين بأسعار معينة.. لأن بعض الخاطفين ليست لديهم القدرة على تهريب الأطفال..
وفئة منهم يقومون بشرائهم من عائلاتهم نفسها!
وبرضاهم!!
نعم تخيلوا.. هناك في هذا العالم الكثير ممن يبيع أطفاله!!
الفقر.. عدو الرحمة الحقيقي..
قد يجبرك الفقر على فعل ما لا تتخيل أنك في يوم سوف تفعله..
وهذه كانت بداية والد يحيى كما ذكرت لكم..
عندما كان الفقر يسيطر على مفاصل حياة عائلتهم..
فعلها مع ابنه يحيى.. لكنه تعرف بعد ذلك كما علمت من يحيى نفسه.. على ذلك المهرب الذي أعطى والده ثمنه..
وأصبح يخطف الأطفال.. ويبيعهم بسعر زهيد للمهرب.. حتى أصبح مساعده.. ولكن ما أخبرني به يحيى عند وصولنا.. أن والده كان حظه قوياً عندما استغل تورط المهرب الذي كان يعمل لديه.. بعدما تم القبض عليه من قبل السلطات السعودية على الحدود..
وتم سجنه وغياب أخباره.. فقرر والد يحيى أن يواصل العمل وحده.. مستغلًا خبرته التي اكتسبها من المهرب المسجون.. وعلاقاته المتعددة بين المهربين الخطيرين..
الحقير.. لا يهمه من يفقد.. بل ما يهمه كيف أن يستمر، باحثاً عن مصلحته الشخصية.. مخلوق عجيب حقاً ...
ما رأيته بعيني..
أنهم كانوا يفضلون فئة الأطفال المصابة بإعاقة ما!
لأن أمثالهم.. في نظرهم.. يكسبون تعاطفاً كبيراً من المارة.. فترتفع نسب إعطائهم المال..
وعليه تزيد الأرباح.. والأهم.. صعوبة محاولة تفكيرهم في الهرب من قبضة المهربين..
والعديد من الأمور.. التي أصبحت مزايا في نظرهم!
مرت علينا قرابة الأربعة أشهر..
وأكملت الرابعة عشرة من عمري!..
بل تجاوزتها إن لم أخطئ في الحساب..
لقد مرت سنة كاملة أو أكثر.. على غيابي عن أهلي!
حتى أتى ذلك اليوم.. الذي بقي عالقاً في مخيلتي..
كنت أقف إلى جانب يحيى أمام منزلهم الشعبي..
عندما رأيت تلك الشاحنة الصغيرة التي حملت أكثر من عشرة أطفال.. بعضهم يحمل إعاقات مختلفة.. حزنت على وضعهم كثيراً..
كانوا كالألواح الخشبية الصامتة.. ولكنهم على هيئة أطفال..
لا يضحكون.. ولا يتحدثون.. ولا حتى يتحركون!
لقد قتلوا فيهم الطفولة!.. لم يرحمهم حظهم البائس بإعاقتهم..
ولا حتى هؤلاء الوحوش الذين يعبدون المال بشكل لا يصدق..
وصلت سيارة صغيرة.. وتوقفت إلى جانب الشاحنة المحملة بالأطفال.. ثم نزل منها رجل..
وعندما دققت النظر.. لم يكن غريباً عليّ!
لم تفارق عيني وجهه حتى تحدث وصافح والد يحيى وابتسم..
ابتسامته الصفراء تلك جعلتني أشعر كما لو أن صعقة كهربائية لامست جسدي!
لقد تذكرته! استحالة أن أنسى ذلك الوجه..
إنه ذلك الرجل المصري!
الذي صادفته في الطائرة عندما كنت برفقة سلوى وزوجها!
ذلك الغبي الذي أفسد محاولة نجاتي من دون أن يقصد..
كان هو من يأمر وينهي سائق السيارة المحملة بالأطفال..
لاحظ يحيى أنني لم أكن على ما يرام..
سألني:
- ما خطبك؟
قلت له بكل هدوء:
- سبق وأن شاهدت هذا الرجل.. في أول رحلة لي مع المعاناة خارج وطني.. كان يجلس في المقعد الذي خلفي.
- معقول! هل أنتِ متأكدة؟
- نعم.. استحالة أن أنسى ملامحه وهو يبتسم..
أخبرني يحيى بأنه أحد أشهر المهربين من الجنسية المصرية.. يدعى أبو مصطفى.. إرهابي سابق.. له سوابق كثيرة.. قرر العمل في هذا المجال.. أسهل وأكثر ربحاً للمال.. والدي يتعامل معه منذ مدة طويلة.. يقوم بتهريب أطفال من جنسيات مختلفة إلى السعودية.. من أثيوبيا.. والصومال.. وغيرهما.. بالإضافة إلى أطفال اليمن.. وذلك طبعاً برفقة معاونين يمنيين.. والأخطر من هذا كله.. تجارته القديمة التي تركها.. التجارة في الأعضاء!
سألته بدهشة وحيرة ألمت بي لجهلي التام بهكذا عبارات:
- أعضاء؟!.. كيف ذلك؟ لم أفهم؟
- موضوع طويل يصعب فهمه.. لكنه باختصار.. سبق وأن سمعته يتحدث مع والدي أكثر من مرة بأنه يفضل الأطفال المعاقين إعاقات خطيرة كي يستغل عجزهم.. ويأخذ منهم الأعضاء السليمة ويبيعها بأسعار مغرية.
لم أستوعب ما قاله يحيى.. شعرت برغبتي بالاستفراغ.. أصابني تقزز غير مسبوق.. ما طبيعة هؤلاء البشر؟
هل يعقل أن ما قاله لي صحيح؟!
عدت بالنظر إلى ذلك المجرم.. الذي لم أتوقع أنه يحمل خلف تلك اللحية كل تلك المصائب البشعة.. وجدته قد انتهى من الحديث..
ثم قام بمصافحة والد يحيى وسلمه المال وودعه..
وقام بعد ذلك بتوديع صاحب السيارة المحملة..
واستقل هو سيارته التي قد أتى بها..
إنهم يعملون.. بمختلف جنسياتهم.. على تدمير العائلات.. بتشتيت شملهم.. وإزهاق الطفولة البريئة..
مرت الأيام.. والأسابيع.. حتى قرابة الشهرين..
وأنا أشاهد مثل هذه المناظر على فترات متقطعة ومتباعدة..
حتى أتت تلك الفترة التي شعرت فيها بمحاولة والد يحيى القذر باستغلال عقد زواجه مني.. كان يحاول الاقتراب ويحاول أن يحصل على أي شيء..
ولكنني كنت عنيفة وقاسية معه بشكل لم أعتد عليه من قبل..
كنت أبعده وأصرخ في وجهه بقوة..
وكانت تلك المحاولات تؤلم يحيى حتى البكاء..
شعرت بأن كرهه لوالده قد تضاعف بسببي..
ولكن أضعف من أن يفعل شيئاً.. ضد جبروت ذلك الوغد..
لماذا أغلب الذكور..
كلما سنحت لهم فرصة عجز أنثى؟
تنعدم رجولتهم وتختفي فوراً!
هناك فكرة تعشعش بداخل عقول غالبيتهم..
بأن كل أنثى عاجزة.. أو تمر بظرف ما..
أو كانت وحيدة أمام مشاكل ما.. هي هدف مشروع للتجاوز وتفريغ الأمراض؟
الذكر الوحيد الذي وقف معي وقفة رجل..
هو يحيى.. على الرغم من انتهاك رجولته!
الحقيقة تقول.. بأنه أكثر رجولة منهم جميعاً..
مللت الانتظار.. وانتظار الفرج..
انتظر بأن يبتسم لي القدر.. ويسخر لي الطريق بالعودة إلى وطني.. وعائلتي..
ولكن تلك الأمنيات الوردية.. قد تبددت فوراً!
عندما دخل علينا والد يحيى المنزل وهو يرتعد خوفاً!
أخذ نفساً متقطعاً ثم قال متردداً ومرتجفاً:
- كارثة قد وقعت! شيء لم يخطر على بالي أبداً..
الأخ الأصغر لأبي الفاروق ورجاله الذين أصبحوا تحت إمرته بعد وفاة أخيه.. علموا أن إيمان معي، وأننا الآن في اليمن!!
لاحظت الصدمة قد حلت على يحيى.. ولم أتأثر مثلهما بالخبر.. صرخ والد يحيى ثم وضع يداه على رأسه.. وواصل:
- لا بد أن نعيدك إليهم.. قبل أن يقتلونا جميعاً!
تدخل يحيى وهو مهزوز الثقة وسط صمتي وقال:
- وما دخلها.. لماذا نعيدها إليهم بدل أن نعيدها إلى أهلها؟ من الخطر أن نغامر ونعيدها إلى هؤلاء الرجال.. ثم ما علاقتها بهم؟ لقد توفي زوجها أبو الفاروق وانتهت علاقتها به بموته..
أجابه والده.. وعيناه تكادان لا ترمشان بسبب الرعب الذي حل عليه:
- هذا هو السبب.. لأنها زوجته.. أخبروني بأن لديهم عقد زواجهما.. وأن وفاءهم لأبي الفاروق لا يجعلهم يتركون حرم سيدهم تتجول هكذا في الشوارع وهي تحمل اسمه.. يريدون منها أن تعود وأن يتزوجها أخاه.. قائدهم الذي أصبح يشغل مكانه الآن!
بدأت أنفاسي في التصاعد شيئاً وشيئاً.. وتجمعت دموعي منتظرة السقوط.. لكنني صرخت في وجههما وقلت لهما بصعوبة:
- هل صدقتم الكذبة؟ أنا لست إيمان.. أنا فتاة سعودية مختطفة.. وهذا الاسم ليس اسمي.. لن أعود..
أنا الآن اقتربت كثيراً من بلدي.. تفصلني الحدود فقط.. أرجوك لا تتجاوب معهم..
نظر والد يحيى إليه وسأله بغضب:
- ما الذي تقوله هذه الغبية؟ ترجم؟
أخبره يحيى بخلاصة حديثي.. ولكن والده رد بغضب:
- مستحييييل.. أنتِ ثمن نجاتي من الموت.. لم أشبع من ملذات الدنيا بعد.. ولم أستمتع بالمال الذي جمعته..
كارثة حقيقية لو علموا بعقد زواجنا الموثق على عقد زواج أبي الفاروق!!
يبدو فعلاً أننا أصبحنا أمام مصيبة جديدة.. لن يرحموه بها.. حاول يحيى إقناعه قليلاً وكعادته قام بضربه.. ثم سحبني بقوة ووضعني في غرفة.. وأغلق عليّ الباب بالمفتاح.. وأخبرني بأنه سوف يعود إليّ، بعد أن يسأل أصدقاءه هناك عن الوضع العام.. مردداً ومؤكداً أنه لا بد من إعادتي إلى أفغانستان!
بكيت كثيراً على وضعي المزري.. شعرت بأن هذا الواقع لن يتغير أبداً.. وبدأ اليأس يتسلل إليّ ويزداد شيئاً فشيئاً.. بدأ يأخذ وضعه بشكل لم أعهده.. هل سوف تبقى أمي وعائلتي مجرد ذكرى؟ أم ماذا؟..
كان يُدخل عليّ الطعام ويغلق الباب مرة أخرى..
حتى يحيى لم أره أبداً..
شعرت بأنني عدت مرة أخرى إلى تلك الحالة..
حالة السجن.. بعدما مررت بها مع أبي الفاروق..
ولكن هذه المرة كانت مختلفة تماماً..
حيث لم يمر على احتجازي سوى ثلاثة أيام فقط!
حتى أتت تلك الليلة..
التي فُتح فيها الباب بهدوء.. جعلني أرتبك خوفاً..
لقد كان يحيى!
تكرر المشهد.. عندما حررني وفتح عليّ الباب في أفغانستان..
الآن يتكرر.. ولكن في اليمن!
طلب مني الهدوء وأن أتبعه بحذر.. فوالده لم يعد بعد..
سرق المفتاح منه من دون أن يشعر قبل أن يخرج..
وانتظر الظلام.. كان الوقت تقريباً يشير إلى ما بعد منتصف الليل..
تبعته وأنا فرحة.. لكنني لا أعلم إلى أين نسير هذه المرة..
حدثت نفسي وأنا خائفة..
لن أنسى لك كل هذه المواقف يا صاحب القلب الطيب..
واصلنا السير.. مشينا كثيراً حتى وصلنا إلى شاحنة صغيرة..
كان ينتظرنا رجل لم تتضح ملامحه إلا بعدما اقتربنا منه.. لقد كان ذلك الرجل المصري.. أبو مصطفى!!
يركب في مقدمة الشاحنة وإلى جانبه شخص يقودها..
نظرت إلى يحيى وأنا مندهشة منه.. وقلت له غاضبة والكلمات تخرج من فمي مرتجفة:
- ما الذي يحدث؟
- إيمان.. هذه فرصتك الوحيدة للعودة إلى أهلك.. لقد اتفقت معه من دون أن يعلم أبي.. وأعطيته كل ما جمعته من مال.. وقبل بذلك لمعرفته لنا..
الحقيقة صدمني بحديثه.. فهو لم يلمح لي أبداً عن أي شيء..
شعرت بأنني أحلم.. نظرت إلى وجهه الخائف وسألته:
- ولكن سوف يعلم أباك حتماً!
- لقد وعدني أبو مصطفى بأن يبقى الأمر سراً بيننا، فهو لا يهمه سوى توفير المال.. وقد حصل عليه.. سأعود مسرعاً لفراشي كي أتظاهر بالنوم قبل أن يعود والدي.. وسوف يظهر الأمر كما لو أنك هربت..
لا تقلقي.. سوف أتدبر الأمر..
لقد ضحى بوالده.. من أجلي..
رغم معرفته مدى الخطر الذي قد يتعرض له أبوه بسبب اختفائي وعدم إعادته لي.. لرجال أبي الفاروق..
فقط لأن قلبه طيب.. قلب طفل كبرت مواقفه قبل عمره.. من هول ما مر به من معاناة.. وكان حاضراً على مصائبي منذ البداية.. فعل ذلك.. لأنه شعر بمعاناتي كطفلة كانت يمر عمرها بعيداً عن أهلها..
لم أكن أعلم كيف أتصرف..
إنها فرصة العمر فعلاً.. الفرصة التي لطالما انتظرتها.. لم أفكر كيف ستكون.. وماذا سوف تحمل لي العواقب!
كل ما أريده هو دخول الحدود.. حدود بلدي..
وبعدها وليحدث ما يحدث.. المهم أن أتنفس هواءها..
لذلك.. وافقت..
صرخ أبو مصطفى طالباً مني سرعة الركوب في العربة الخلفية..
لم أتحمل فكرة أنني سوف أفارق يحيى مرة أخرى..
لقد تكرر مشهد إنقاذه لي وهروبنا معاً..
لكن المختلف هذه المرة..
أنه لن يرافقني.. سأستمر في الطريق وحدي..
شكرته كثيراً.. ثم ساعدني على الشاحنة..
التي كانت تعج بالأطفال الصامتين.. تخبرنا تعابير وجوههم بأنهم مجبرون.. إلا أنا.. كنت الوحيدة بينهم التي تريد الذهاب..
لأن الفرق بيننا.. أنهم سوف يتركون وطنهم..
بينما أنا.. سوف أذهب إلى وطني..
أعطاني يحيى بعدما جلست.. قنينة ماء.. وحقيبة بها خبز وتمر.. ثم ودعني وهو حزين.. وودعته..
انطلقت نحو المجهول مع انطلاق الشاحنة..
ووقف يحيى مودعاً.. حتى تلاشى تماماً وسط الظلام..
على الرغم من الضعف الذي يميز شخصية يحيى..
إلا أنه كان الشخص الوحيد الذي يشعر بي..
لا أعلم ما الذي سوف أفعله لو لم يكن موجوداً..
حتى صمته.. الذي يحل عليه عندما يعجز عن مساعدتي..
كنت قد اعتدت عليه..
ولكنه أحياناً.. كان يتخذ قرارات لا أتوقع حدوثها منه..
مثل قراره باقتحام غرفة أبي الفاروق وتحريري منها..
وكذلك مثل قراره هذا.. بتحريري من قبضة والده..
تعودي عليه.. يضفي عليّ نوعاً من الأمان لا أعلمه..
هكذا نحن..
بعض الأحيان.. يظهر في حياتنا أناس..
نتعود على وجودهم.. على مشاركتهم لنا للأحداث..
على الرغم من عدم جدواهم أحياناً..
إلا أنهم مهمون بالنسبة لنا..
بعض الأشياء البسيطة التي تعودنا عليها..
أهم من بعض الأشياء المهمة الجديدة..
وهذا ما كان هو يحيى بالنسبة لي..
نظرت إلى الأطفال الذين كنتم معهم..
كانوا مثل عمري وبعضهم أصغر مني..
تجربتي السابقة في ركوبي بين أطفال برفقة مهربين..
تخبرني بأن أفضل حل في هكذا رحلات طويلة ..
هو النوم.. فالنوم هو خير وسيلة لمرور الوقت الممل..
خصوصاً أننا توقفنا لحاجة السائق إلى النوم قليلاً كما أخبرنا..
وفعلاً.. عدلت موضع جلستي.. ومددت ذراعي النحيل تحت خدي.. وحاولت النوم.. ونجحت ...
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا