أولاً. النمو الإنساني في القرآن الكريم:
يتناول القرآن الكريم في مواضع كثيرة خلق الإنسان ونموه. ويمكن أن نقتسم آيات خلق الإنسان إلى قسمين: ما يتصل منها بخلق آدم عليه السلام، وهو من باب الغيب الذي على المسلم أن يؤمن منه، قم ما يتصل منها بخلق الإنسان من سلالة آدم، والذي حدد القرآن الكريم معالمه، وهو ما نتناوله هنا لاتصاله المباشر بموضوع علم نفس النمو.
1. آيات الله في تكوين الإنسان:
يحدد القرآن الكريم الطريق العادي لوجود الإنسان كنتاج لاتصال الذكر بالأنثى، وفي ذلك يقول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13].
وفي هذا إشارة صريحة إلى أن خلق الإنسان من جزء من الذكر (وهو الحيوان المنوي) وجزء آخر من الأنثى (وهو البويضة الأنثوية). ويفسر لنا ذلك قول مريم حين بشرت بعيسى عليه السلام:
"قالت: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}" [ آل عمران: 47].
ويحدد القرآن الكريم المادة التي يخلق منها الإنسان نتيجة لهذا الاتصال الجنسي في قوله تعالى:
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 7-8].
فإذا كان خلق آدم عليه السلام – أبو البشرية – من طين، فإن خلق نسله – وهم البشر جميعاً – من ماءٍ مهينٍ. والماء مهين – بإجماع المفسرين – هو المني الذكري.
والمقصود بالسلالة هنا "الخلاصة"، ومعنى ذلك أن خلق نسل آدم من خلاصة المني الذكري الذي يفرزه الرجل عند الاتصال الجنسي بالمرأة. وهذه الخلاصة هي التي يشير إليها علماء الأجنة والوراثة في الوقت الحاضر بالحيوان المنوي. وفي هذا القوم القرآني إعجاز علمي رائع. فلم يتوصل هؤلاء العلماء إلا في القرن العشرين إلى الحقيقة العلمية القائلة بأن الحيوانات المنوية تؤلف فقط ما بين 0.05%، 1% من مجموع المني الذكري (الماء المهين)، وأن من بين هذه الحيوانات المنوية التي يبلغ عددها في المرة الواحدة بضع مئات الملايين لا ينجح إلا حيوان منوي واحد – بتقدير الله تعالى – في تلقيح البويضة الأنثوية، وهو بهذا يصبح "خلاصة" الماء المهين على حد معنى التعبير القرآني المعجز (محمد عليّ البار، 1986).
ويحدد القرآن الكريم خصائص المني الذكري بأنه سائل سهل التدفق، ويصفه بأنه "منىٍ يمنى" وبأنه "ماءٍ دافقٍ"، وبأنه "ماءٍ مهينٍ" وهي جميعاً بمعنى واحد. يقول الله تعالى:
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37].
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 5-6].
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8].
كما يحدد أيضاً الموضع الذي يخرج منه، فيقول تعالى:
{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6-7].
ويذكر العلماء المحدثون (عبد الخالق همت شبانه، 1985) أن المفسرين القدامى ذهبوا إلى أن الصلب هو العمود الفقري للرجل، والترائب هو عظام صدر المرأة، وأن ماء الرجل الدافق يلتقي بماء المرأة الدافق اللذين يشتركان في تكوين الجنين. وهو كلام غير صحيح من منظور العلم الحديث. إلا أن العلم الحديث ينسب كلاً من الصلب والترائب إلى الرجل. وهو تفسير يتفق أيضاً مع السياق القرآني، كما يتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد أن الحيوان المنوي للذكر يلعب الدور الحاسم في تكوين الجنين كما سنبين فيما بعد.
إلا أن المني وحده لا يكفي لتكوين الإنسان جنيناً في رحم الأم. وقد أشار القرآن الكريم إلى النطفة باعتبارها المادة التي يتم منها هذا التكوين. وقد وردت كلمة "نطفة" في القرآن الكريم في أثني عشر موضعاً ومن ذلك قوله تعالى:
ل{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77].
ويرى عدنان الشريف (1987 – 1988) أن معنى "النطفة" هنا يجب ألا يقتصر على المني الذكري (أي ماء الرجل) – وهو المتعارف عليه في بعض التفاسير – وإنما يجب أن يمتد ليشمل ماء المرأة.
وهذا ما يراه أيضاً محمد عليّ البار (1985) حيث يذكر أن النطفة قد تكون مذكرة أو مؤنثة، والنطفة المذكرة هي جميط الذكر، والنطفة المؤنثة هي جميط الأنثى. ويدعم هذا الرأي أن الخطاب في هذه الآية الكريمة للرجل والمرأة وليس للرجل فقط. كما يدعمه أيضاً الحديث النبوي الشريف الذي يشير إلى نطفة الرجل ونطفة المرأة كما سنبين فيما بعد.
هذه النطفة المذكرة (الحيون المنوي) وتلك النطفة المؤنثة (البويضة الأنثوية) يندمجان معاً ليتكون من بعض كل منهما نطفة جديدة مخصبة من كل منهما هي التي يسميها علم الأجنة "اللاقحة" أو "الزيجوت" وهي تمثل الطور الأول من تكوين الجنين كما سنوضح في الباب الثاني فيما بعد. ويعبر القرآن الكريم عن هذه العملية تعبيراً معجزاً بقوله تعالى:
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2].
والأمشاج هي الأخلاط الناتجة عن امتزاج ماء الرجل بماء المرأة. وفي هذا تفصيل لقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13].
الذي سبق الإشارة إليه. ويذكر محمد عليّ البار (1986) أن الإعجاز العلمي الباهي لهذه الآية الكريمة يتمثل في أن الباحثين لم يعلموا شيئاً عن النطفة الأمشاج المكونة من نطفة الرجل ونطفة المرأة إلا عام 1875 على يد هيرتفج Hertwig. وفي عام 1883 استطاع فان بندن Van Benden أن يثبت الإسهام المتساوي لكل من الحيوان المنوي والبويضة الأنثوية في تكوين النطفة الأمشاج (اللاقحة أو الزيجوت كما تسمى في علم الأجنة).
ويتضح الإعجاز العلمي للقرآن في هذا الموضوع إذا علمنا أن أرسطو الذي ظلت آراؤه مسيطرة على الفكر الإنساني لأكثر من ألفي عام كان يعتقد أن الجنين يتكون من دم حيض المرأة النشط. ولم يقابل هذا الاعتقاد بأي معارضة علمية إلا من علماء القرآن والحديث المسلمين في العصر الإسلامي على أساس الآيات القرآنية. كما فند القرآن الكريم أيضاً الاعتقاد اليهودي القائل بأن إتيان المرأة في فرجها من جهة ظهرها ينتج عنه طفل أحول. أضف إلى ذلك رفص الاعتقاد الذي ظل سائداً – حتى قرب نهاية القرن التاسع عشر – وخلاصته أن الجنين كامل التكوين يكون موجوداً بصورة مصغرة في المشيج الذي ينشط عن طريق الحيوان المنوي. وكان هذا كله ضد ما أثبته العلم الحديث والذي وافقت حقائقه آيات القرآن الكريم المعجزة، ابتداءً من عام 1858 على يد ريدي، ثم عام 1864 على يد باستير، ثم ما أثبته علم الوراثة بعد ذلك حول وجود الجينات (محمد طاهر وآخرون، 1985).
ويحدد القرآن الكريم موضع النطفة الأمشاج أو اللاقحة في رحم الأم، وهذا ما أجمل المفسرون على معنى قوله سبحانه وتعالى "القرار المكين".
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13].
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات: 20-21].
ويرى عدنان الشريف (1987 – 1988) أن للقرار المكين ثلاث معانٍ قرآنية تبعاً للمعاني الثلاث للنطفة.
أ. رحم المرأة: بشرط أن يفهم معنى الماء المهين أو النطفة في الآيات القرآنية السابقة بمعنى البويضة المخصبة، والتي تمثل الطور الأول في تكوين الجنين. ففي الرحم لا يستقر إلا هذه البويضة الملقحة. وكل من الحيوانات المنوية والبويضة سرعان ما تموت إذا لم تتلاقح في أنبوب الرحم.
ب. مبيضا المرأة: بشرط أن يفهم الماء المهين أو النطفة بمعنى ماء المرأة في الآيات الكريمة "فمن الوجهة العلمية يستقر ماء المرأة أي نطفها في المبيضين عندها منذ الشهر الرابع من حياتها حتى تخرج النطف دورياً من المبيضين مرة كل شهر بعد بلوغها سن النضج الجنسي الذي يمتد عادةً بين سن التاسعة وسن السادسة عشرة كحد أدنى وحد أقصى" (عدنان الشريف، 1987).
ج. الحويصلة المنوية عند الرجل: بشرط أن يفهم معنى الماء المهين أو النطفة بمعنى ماء الرجل. فمن الوجهة العلمية يستقر ماء الرجل الذي تفرزه خصيتاه بصورة دائمة منذ بلوغه سن النضج الجنسي في الحويصلة المنوية ويخرج منها وقت الاستمناء.
ويؤكد علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء أن الرحم والمبيضين والحويصلة المنوية هي كلها قرار مكين (أو مكان آمن) لاستقرار النطفة التي تبقي في هذه الأعضاء لوقت معلوم في كل حالة. والرحم والمبيضان والحويصلة المنوية هي أماكن آمنة للنطف من خلالها موضعها في الجسم. فالرحم والمبيضان عند المرأة والحويصلة المنوية عند الرجل تقع في الحوض وهو عبارة عن جسم عظمى يحيط بها من جميع الجهات، كما أنها معلقة بأحزمة وأربطة متينة ومرنة في نفس الوقت، وهي تتصل بمختلف العضلات والاعضاء الموجودة في الحوض. ويزداد فهمنا للمعنى المعجز للوصف القرآني "القرار المكين" إذا علمنا التفاصيل الدقيقة التشريحية والفسيولوجية للرحم والمبيضين والحويصلة المنوية وهو ما لا يتسع له نطاق هذا الكتاب، ويمكن للقارئ المهتم الرجوع إلى الكتب الطبية المتخصصة.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا