ها نحن نتسكع في منزل قديم مهجور بكل وقاحة !! .. ولو قلتها لنفسي قبل أسبوع مقسما بأغلظ الأيمان بأنني سأدخل هذا البيت لما صدقت .. جنون أليس كذلك ؟! .. المثير أننا دوما نمارس الجنون دون أن نشعر للحظة أنه كذلك !!..
رحت بشعاع البطارية أمسح البيت بهدوء شديد .. لحظة .. هل تشمون هذه الرائحة مثلي ؟؟! .. ليست رائحة القمامة .. بل رائحة عضوية لم أرتح لها تملأ الجو وتشعرني بالغثيان .. (زياد) يشمها أيضا .. أنا لا أعرف كيف تبدو رائحة العطن .. ولم أشمها في حياتي .. ربما هي رائحة العطن التي يسببها نقص التهوية !! .. نمشي بهدوء شديد للغاية وظلانا ساقطان على الحائط كأن عملاقان يراقبان ما نفعل .. وقد ضاقت عيوننا لأقصى حد من أثر الغبار والعرق .. حتى أن (زياد) قد خلع قبعته ووضعها تحت إبطه المبلل بالعرق .. جو لزج حار وعرق يتخلل مسام جلدك وأنسجة ثيابك .. بل وروحك ذاتها !! ..
- هناك الكثير من الخرائب هنا ..
قلت هذا لنفسي في خفوت عندما دست على بقايا مزهرية تفوقني عمراً دون شك لتتحطم بقاياها مرة أخرى .. ابتعدت عن بقايا المزهرية لأدوس على مرآة عتيقة ملقاة على الأرض وقد تساقط طلاؤها تماما .. من الصعب المشي هنا دون أن أدوس على شيء !!
.. ثم إن البحث عن أي شيء وسط هذه الخرائب يشبه البحث عن عود من القش وسط كومة من القش !!! .. ولا يوجد أي خطأ في الجملة ..
شعور غريب ينتابني بأنني مراقب .. كيف يشعر الإنسان أنه مراقب ؟! .. ومتى تنبت له هاتان العينان في مؤخرة عنقه ؟! .. إنهما موجودتان منذ الأزل لكنه لا يعرف بوجودهما .. وأحيانا يطلق عليهما الحاسة السادسة .. المشكلة أن تلك الحاسة العجيبة التي لدي أسمعها تقول لي بوضوح تام: لا تبق أكثر من هذا .. فر كأنما الجحيم يطاردك يا أحمق .. إنك تفعل - وبإصرار- كل ما تخشاه .. يجب أن ترحل .. ارحل يا أحمق !! هذا ما قاله لي الصوت الغامض في مؤخرة رأسي !! .. وكان ما قلته له هو: لكن الوضع جدا مختلف الآن .. لست وحيدا هنا كما حدث لي في السابق .. فكفاك سخفا .. إنك تجعل مني جبانا !! .. شعرت بأن النداء في مؤخرة رأسي يقول في نفاذ صبر: وهل كذبت عليك من قبل (ة=ة=! .. الحق أن لا !! .. التفت باحثا عن (زياد) .. أرى ضوء بطاريته في الصالة .. بينما أنا في غرفة قريبة منه .. وهذا أعطاني نوعا من الاطمئنان .. لا أرى في الغرفة التي دخلتها سوى تمثال قديم محطم لم يبق منه سوى الرأس .. وبرغم هذا كان شكله مريعا .. إذ يبدو لي وكأنه يرمقني بكراهية .. وفي أعماقي تحرك ذلك الخوف الغامض غير المبرر الذي يشعر به الناس تجاه التماثيل .. ذلك الخوف الغريزي الذي لا نستطيع وصفه .. إنها النظرة الثابتة الموحية بالموت والحياة في نفس الوقت .. والأسوأ هو ذلك الشعور !! .. شعور قوي بدأ يداهمني أن هناك أحد غيرنا في المنزل .. للحظة بدأ الهلع يتسلل إلى نفسي .. سيخرج أحدهم من مكان ما لينقض علينا .. أفزعني الخاطر فالتفت إلى الوراء .. لكني لم أجد شيئا !! .. لقد بدأ الرعب يسيطر على عقلي .. وجعلني أغفل أمر (زياد) الذي تصرف بغباء وابتعد عني ذاهبا للبحث في غرفة أخرى .. لماذا كان تصرفه هذا ينم عن غباء ؟! .. لأن هناك وبعيدا عنا .. ثمة باب مخفي لا نعرف عنه شيئا يقود إلى قبو (سرداب) !! .. ولو دققت النظر أكثر واعتدت الظلام لعرفت أن باب ذلك القبو يفتح ببطء ليسمح بمرور أحدهم .. يحدث كل هذا دون أن ندري بالطبع !!! .. أما أنا .. فلم يصل خوفي إلى درجة الهلع وفقدان العقل إلا عندما انتبهت إلى الجدران الرمادية الباردة في الغرفة التي دخلتها .. إذ توجد عليها بقعة سوداء !! .. بقعة سوداء تشبه ما يمكن أن يحدث لو أن هناك من سكب زجاجة حبر على الجدار !! ولسبب ما قرر جهاز الهلع النائم في عقلي أن يستيقظ .. وأن يعمل بقوة .. خصوصا عندما دققت النظر .. لقد تبين أن هذه البقعة السوداء ليست سوى بقايا دماء !!! .. بل أن هناك ثقوبا على الجدران عرفت بسهولة أنها آثار رصاصات !! .. لقد حدثت مذبحة في هذا البيت وفي هذه الغرفة بالذات !! .. بدأ الفأر يلعب في عبي .. بل وبدأت الفئران كلها تعبث تحت عباءتي !! .. وفقدت حماسي تماما في مساعدة (زياد) حتى بدا لي البيت كابوسا من كوابيس قصص الرعب !! .. إنني جبان يا سادة .. جبان ولكن لن ألوم نفسي .. أي إنسان في موضعي سيخاف .. وسيخاف كثيرا .. فإذا لم أرتاب في آثار دماء وجدتها في بيت مهجور كهذا بعد منتصف الليل .. فبم أرتاب إذا ؟! ..
الضوء يرتجف في يدي .. و:
(زياد) .. يجب أن نرحل .. لن نجد شيئا هنا ..
خرج صوتي عاليا رغما عني .. لماذا تعلو الأصوات دائما في الظلام إلى هذا الحد حتى لتثير خوف المتكلم نفسه ؟! ..
فأكملت في خفوت وبطء شديد:
ربما .. ربما .. حضر شريك شقيقك وأخذ (البضاعة) في أحد الأيام الثلاث السابقة ..
لم أسمع رده !!! .. وانتبهت لأول مرة أنني لا أرى أي أثر لضوء بطاريته .. وقبل أن أتخذ أي رد فعل سمعت الصوت !! .. صوت ارتطام قوي جدا .. التفت مذعورا..
(زياد) !!! ..
قلتها صارخا بهلع .. وقد جعل الصدى صوتي مرعبا أثار رجفة حقيقية في عروقي !! .. لن ينفع الصراخ .. خرجت من الغرفة لأذهب إلى حيث سمعت صوت الارتطام وقد تحولت ساقاي إلى عودين من المكرونة .. من اللحظة الأولى شعرت بأنني لن أحب ما سأراه .. لكنني مع هذا اقتربت أكثر وأنا أرتجف بقوة .. شعري مبتل وثيابي غارقة بالعرق بسبب حرارة الجو .. ثم إن توتري الداخلي جعل دمائي تغلي .. و ... كان (زياد) ملقيا على الأرض .. والدماء تفور من رأسه !!! .. وقبل أن أتخذ أي رد فعل ... سمعت صوتا قادما من مكان ما .. تصلبت في مكاني .. وقد تلاشى تفكيري تماما .. سأركض في الظلام ناحية الشباك حيث دخلنا لأبتعد عن هذا الكابوس .. يجب أن أجتاز ممرا إلى صالة المنزل ومن ثم إلى النافذة التي دخلنا منها .. ولكن !! .. شيئا ما ينتظرني هناك .. كيف عرفت ؟! .. بسبب ذلك الصوت !! .. صوت أنين قادم من الصالة .. ليس أنين .. بل هو عواء !! .. عواء مريع متحشرج .. حسنا إذا .. إنها واحدة من تلك اللحظات التي يفوق فيها الأدرينالين في دمك نسبة دمك نفسها !! .. وتتخلى فيها عن عقلك وتبدأ بالركض كالمسعور !!! .. ولكن إلى أين سأركض ؟؟! .. وكيف سأركض ؟! .. إن قدماي لم تعودا تقويان على حملي .. قبضتي تتوتر .. والرجفة في يدي الممسكة المصباح تلقي ظلالا مجنونة في كل صوب !! .. أطفأت البطارية حتى أختبئ من ... !! .. لا أعلم سأختبئ من ماذا !! .. لكن يجب أن أختبئ .. وهنا بدأ سباق العميان .. جريت كالمجنون إلى غرفة تبين أنها حمام قديم .. واختبأت وراء الباب .. كان الظلام دامسا .. وبعد لحظات .. حين اعتادت عيناي الظلام .. استطعت تمييز أشياء شنيعة لا أعرف كنهها .. الصراصير ؟؟! .. يا للهول .. هذه الكائنات تسبب لي هلعا ما بعده هلع .. تصلبت تماما في مكاني وأنا أتجنب الالتصاق بالحائط خلف الباب .. قد تلصق بي هذه الكائنات الشنيعة ..
أذكر جيدا عندما كنت في السابعة من العمر .. حين دخل صرصورا طائرا إلى غرفتي من الشباك المفتوح .. وقبل أن أتخذ أي رد فعل .. انطفأ التيار الكهربائي !!! .. عندها شعرت بأنني أريد أن تنشق الأرض وتبتلعني وبدأت أجري بهلع خارجا من غرفتي !! .. ها هو الرعب الوحشي المجنون يهاجمني هذه المرة دون أن أستطيع التعبير عنه وأنا مختبئ في مكاني خلف هذا الباب !! .. لحظات لا تنسى وذكرى قاسية أخرى ستتخذ مكانها على رفوف ذكرياتي .. هذا بالطبع إذا عشت لأتذكر !! ..
كذا كنت أقول لنفسي وأنا مختبئ خلف الباب أعب الهواء في جشع من شدة الرعب كما يعب الجمل الماء بعد صيام طويل !! .. أتمنى ألا يكون صوت لهاثي عاليا إلى الحد الذي .... يا للهول !! .. صوت الحشرجة المخيف .. هذا (الشيء) يدخل الحمام .. رائحة أنفاس عطنة تقترب !! .. إنه يعلم أنني مختبئ خلف الباب!!!! .. و .. عزيزي القارئ .. سأظل أذكر ما حييت ذلك المشهد الدرامي للظهور المفاجئ لهذا (الشيء) !! .. كائنا غريبا لا يبدو بشريا على الإطلاق يغطي الشعر وجهه وجسده .. وصدره يموج بحشرجة شيطانية مقيتة .. أما وجهه فمنتفخ بشكل مخيف وواضح .. وعلى الرغم من أنني عجزت عن رؤية الملامح بوضوح وسط هذا الظلام .. إلا أنني استطعت أن أرى العينين .. عينان ثاقبتان مخيفتان حمراوان كالدم !! .. والأسنان نخره إلى حد مرعب .. أما الشعر فمنكوشا ثائرا مخيفا مختلطا بالطين والغبار !!! .. هل صوت الحشرجة مخيف فعلا بالصورة التي أصفها لكم ؟! ..لا أدري .. فالإيحاء يلعب دورا في هذه المواقف !! .. إن هذه الأوصاف مخيفة عندما تسمع عنها .. فماذا لو رأيتها وحدك وسط الظلام في بيت مهجور ؟! .. ماذا ستفعل ؟! .. ستصرخ ؟؟!! .. أنا لم أصرخ .. لأن لساني انعقد تماما .. والكلمات انحشرت في حلقي .. حتى ظننت أن روحي قد خرجت من جسدي لثوان قبل أن تعود إليه !! .. ثم .. رفع (الشيء) يديه نحوي فإذا بهما أطرافا تشبهان مخالب ذئب !! .. أو هذا ما بدا لي !! .. لحظة !! .. هناك بقعة سوداء في مركز الإبصار !! .. ثم العرق يصبح باردا على جبيني .. هل أنا أموت ؟!! .. على الأرجح لا .. إنني أفقد وعيي .. كنت أظن أن فقدان الوعي يحدث في الأفلام فقط !! .. أو يحدث للآخرين فقط .. لكنه بالفعل آت ولا ريب .. يجب أن أقاوم .. يجب .. أن .. أقا.. و .. و .. وساد الظلام المكان !! .. وفقدت الوعي بالطبع ظانا أنني لن أستيقظ مرة أخرى !! .. لكنني كنت أفيق من آن لآخر لأدرك أن هناك من يجرني جرا على الأرض !! .. ظلام دامس يغلفني .. لكن اليد التي تجرني مازالت مستمرة في مهمتها !! .. وبعدها يتم دفعي دفعا لأتدحرج على سلم قصير الدرجات إلى أن أصل إلى الأرض .. عندها فقط .. فقدت الوعي تماما.
عرفت فيما بعد أن الإغماءة دامت بضع دقائق .. لكنني حسبتها يوما !! .. كيف استيقظت ؟! .. صوت متوتر يناديني بخفوت .. أفقت للحظات لأعرف أين أنا .. أين أنا ؟! .. كم الساعة الآن ؟! .. لا شيء يضايقني أكثر من اختلال ساعتي البيولوجية .. هذا يزيد من حالة الدوار لدي .. مرت لحظات قليلة دون أن أعلم أين أنا وماذا حدث لي بالضبط !! .. ولماذا يؤلمني جسدي بهذا الشكل !! .. إن ذهني كالضباب لا أستطيع لملمة شتاته لأفكر أو حتى أشعر بالرعب .. ثم .. ذات الصوت المتوتر الخافت ينادي بإلحاح وسط الظلام الدامس:
(خالد) ؟! .. (خالد) ؟! .. استيقظ بالله عليك !!
قالها (زياد) بعصبية أيقظتني تماما وأشعرتني بخطورة الأمر .. فغمغمت في إعياء لم يخلو من الخوف وأنا أردد الجملة الخالدة التي يقولها كل من يفقد وعيه:
- أين أنا ؟! .. ماذا حدث ؟! ..
رد بخوف وألم:
لا أدري ؟! .. إنني أنزف بغزارة يا (خالد) .. الدماء تغمر وجهي وأكاد أن أفقد وعيي مرة أخرى !! ..
قالها وهو يبكي خوفا .. لم أرد عليه .. فقد أثار هلعي شيئا آخر .. لقد انتبهت للتو أن يداي مقيدتان بإحكام خلف ظهري .. والأمر ذاته مع ساقاي !! .. و(زياد) أيضا مقيد كما علمت .. لم أحاول حتى فك قيودي بعد أن جمدني الرعب ..
ظللنا مقيدين في الظلام لحظات قليلة دون أن نعرف أين نحن بالضبط .. إن الظلام غير عادل .. ويجعلك في وضع واه هش .. وربما لهذا يحب رجال الاستخبارات أن يضعوا المتهم في غرفة مظلمة ويسلطوا عليه الكشافات فلا يرى شيئا في حين يراه جميع مستجوبيه..
و .. عندما اعتادت أعيننا الظلام .. عرفت أين نحن .. إننا في القبو على الأرجح !! .. لم أكن أعلم أن منزلا كهذا يحوي قبوا !! .. لا شيء يوحي بهذا من الخارج .. ولكنه قبو صغير بدائي الصنع .. أصغر حجما قليلا من غرف الخدم في (الكويت) .. وسقفه منخفض يكاد أن يحتك برأسي إذا وقفت !! .. وجدرانه رملية مدعومة بالأخشاب !!! .. إنه أقرب إلى حفرة كبيرة !! .. ثم .. ما هذه الرائحة الكريهة ؟؟! .. آه .. الآن عرفت .. ففي إحدى زوايا القبو رأيت طنا من كل ما يمكن تخيله من المهملات !! .. وبقايا عظام حيوانية .. هل هي عظام قطط أو كلاب !! هذا ما يبدو !! .. لا عجب من رائحة العفن الكريهة التي تتسلل إلى الخياشيم وتجعل من تنفسي عملية بطولية .. إن المكان شبيها بكهوف الدببة ومليئا بالحشرات بالإضافة إلى فأر أو فئران !!!! .. إنني أخشى الفئران والصراصير لدرجة الموت .. ولكن الخوف من هذه الكائنات أصبح ترفا غير متاح لي الآن بوجود هذا (الشيء) .. عيناي تتحركان في محجريهما بجنون .. لأرى بقربي كتب ملقاة في إهمال وكراهية .. وعدد هائل من الصور الفوتوغرافية التي لم أستطع تمييز محتواها بسبب الظلام .. وعدد هائل آخر من الأوراق المبعثرة !! .. ثمة شيء غريب مريب يدور في هذا البيت !! .. ثعابين القلق بدأت تنهش ذهني .. إن جدتي ستموت هلعا إذا جاء الفجر ولم تجدني في فراشي !! .. كيف سأشرح لها موقفي ؟! .. هذا لو خرجت من هنا حيا .. أفكر بهذا والدموع تغرق وجهي من شدة الخوف .. هل هي دموع أم عرق ؟! .. من الصعب أن أميز بينهما في هذا الجو القاتم .. فالعرق غمر جسدي تماما .. حتى شعرت وكأن روحي ذاتها غارقة في العرق .. و .. عندها فقط رأيته .. أو فلنقل .. رأيتها .. وعرفت كنه (الشيء) الذي هاجمنا !! .. فتاة .. أقول إنها فتاة على سبيل الدقة التشريحية فقط .. لكنني أكثر منها رقة وفتنة ونظافة !!! .. هل أنا أحلم ؟! .. قطعا لا !! .. إنها فتاة تحمل مصباحي اليدوي الذي سقط مني عندما فقدت وعيي .. لقد ساعدني ضوء المصباح على رؤيتها بشكل أفضل .. كانت ترتدي ثيابا قذرة ممزقة في أكثر من موضع ومهترئة تماما لا يمكن أن تعرف لونها الأصلي .. أما جسدها فكان نحيلا نوعا ولكن تبدو عليه علامات القوة والشراسة !! .. رائحة أنفاسها العطنة تلفح وجهي على الرغم من أنها لم تقترب مني بعد .. إنني واثق أنها تنفث البكتيريا مع كل زفير !! .. لقد وصفت لكم شيئا من وجهها سابقا .. لكنني سأضيف إلى هذا وأقول أنه أبشع وجه آدمي رأيته في حياتي .. حتى أن شكل الرجل الفيل* قد يبدو وسيما إذا ما قارناه بهذا الوجه ..
وجه تملؤه تجاعيد مخيفة تملأ ما حول الشفتين وركني العينين الجاحظتين مع علامات واضحة لحياة خشنة جدا !! .. ذقن غير حليق .. فتاة تحمل ذقنا ؟؟!! .. نعم .. لقد بدت شبيهه بالشياطين البشرية في رسوم القرون الوسطى !!! .. و .. هذا الأنف المتآكل .. أتراه الجذام ؟؟! .. ربما .. لحسن الحظ أن حالات الجذام المشوهة هي حالات (محروقة) لم تعد معدية .. بينما الخطر كل الخطر في المريض الذي يبدو مثلي ومثلك ..
كانت غاضبة كالبركان ترمقني بكراهية وهي تمسك فأرا بيدها .. لن أخبركم ما فعلته بالفأر .. تستطيعون تخمين ذلك بأنفسكم !!!! ولكنه مشهد مقزز لن أنساه مدى الحياة .. ثم .. ضحكت ضحكة شامتة حاقدة متلذذة يتطاير منها اللعاب لن تصدقها ما لم ترها !! .. الغريب أنه لم يكن لهذه الفتاة صوت .. بل كانت تئز كمحرك الثلاجة !! .. اقتربت الفتاة من (زياد) الذي بدأ يتوسل إلي أن أنقذه .. وقد لاحظت أن قدمها حافية قذرة جدا تستطيل منها الأظفار بصورة مخيفة .. و ..
شرعت تتحسس ثيابه وهو يحاول التملص والابتعاد عنها !! .. إنها تخرج شيئا من بين ثيابه !! .. يبدو لي ككيس صغير من البسكويت .. راحت تلتهمه بطريقة جنونية وكأنها لم تذق طعاما كهذا منذ سنة !!! .. فرغت من أكلها فوقعت عيناها علي !! .. شعرت بالغثيان بسبب نظرتها التي التصقت بوجهي وكأنها بصقة !! .. هذا أول إنسان أعرفه يجب أن تستحم بعد أن ينظر إليك !!! .. اقتربت مني وهي تغرس مخالبها في شعرها وتهرش رأسها .. كأنما تحاول انتزاع فروة الرأس ذاتها ..
* جون ميريك (الرجل الفيل) .. إحدى أشهر حالات التشوه في تاريخ الطب .. وهو شخصية حقيقية عاشت في القرن الماضي وكان يعاني من تشوه خلقي مريع جعله أقرب إلى فيل بشري .. حتى أطلق عليه بالفعل لقب: الرجل الفيل .. ومن العجيب أن المطرب العالمي غريب الأطوار (مايكل جاكسون) قد دفع مبلغا فادحا لشراء مومياء هذا الرجل الفيل.
قامت بعدها بتحسس ملابسي باحثة عن شيء يؤكل على الأرجح !! .. وأنا بدوري أحاول التملص وأحبس أنفاسي بسبب هذه الرائحة المقيتة .. إنها تمسك أذني اليمنى بقوة .. آآآآآآآآه .. لم أصدق أن
أذني على هذا القدر من المرونة التي تسمح لها بأن تدور حول محورها ثلاث مرات دون أن تنقطع !! .. يظهر أن عدم وجود طعام معي قد أغضبها وزاد من هياجها !!
كل شيء غريب منفر وكأنني في كابوس لا يريد أن ينتهي !!! .. تركتنا لبضع دقائق .. لينطلق صوتي الباكي الغاضب وسط الظلام كالسهام الحارقة تجاه (زياد) الذي كان -مثلي- يبكي رعبا:
أيها الأحمق .. منذ هذه اللحظة نحن مرشحان قويان لنموت .. لو سارت الأمور كما أتوقع فلن نعيش لنرى شمس الغد .. ما كان يجب أن أستمع إلى معتوه مثلك !! .. أنت مجرد خنزير وغد .. أنا لا أكره شيئا في العالم سوى أمثالك الذين يتظاهرون بالذكاء ولا يتركون الناس وشأنهم .. بينما هم في الواقع يقودون أنفسهم والآخرين إلى كارثة .. أنت مجرد وغد .. هل تريد رأيي فيك ؟!! .. أنت وغد .. وغد .. وغد !!.
ثم سمعته يقول بغيظ باك:
أقسم بالله العظيم أنك لو لم تخرس حالا لنهضت وهشمت رأسك القبيح .. من يدري ؟! لعلك تصير أجمل بعد هذه العملية !! .. إن رأسي ينزف والدماء تغطي وجهي أيها الحقير .. فلست بالمزاج الرائق لسماع تفاهاتك !!..
كدت أن أرد لأسمعه بأقذع ما قد يسمعه في حياته لكني صمت !! .. نحن أغبى حمارين يمكن العثور عليهما .. لا أدري كيف يعيش الحمقى
مثلنا .. برغم كون كل احتمالات الحياة ضدهم ..
أقول ل(زياد) بعصبية:
لماذا تبكي أيها اللعين ؟؟ ..
فيرد بعصبية مماثلة:
من الألم أيها الأحمق .. و .. و .. من التوتر العصبي .. ليس الموقف سهلا .. وإلا فلماذا تبكي أنت أيضا ؟؟! ..
بالفعل .. لقد اختلطت دموعي بالعرق كما تعلمون .. وخوفي جعل أنفاسي لاهثة .. فلم أنتبه لبكائي !! ..
عادت الفتاة .. فتجمدنا في مكاننا وصمتنا تماما ونحن ننظر إليها بذعر !! .. لمحت شيئا يتوهج قليلا في يدها في هذا الظلام .. كاد قلبي أن يتوقف رعبا بعد أن رأيت ما تحمله .. إنه سكين .. أو مبضع .. لا أدري بالضبط .. لكنها لم تكن تحمله بغرض تقشير البرتقال لي بالطبع !!! .. اقتربت من (زياد) .. ثم قامت بكل بساطة - وقبل أن ينتبه هو نفسه - بغرس السكين في عنقه أمام عيني المذعورتين !!! .. النصل يمزق رقبته !! .. بل سمعت صوت اللحم وهو يتمزق !! .. كان هذا مريعا !! .. لعل الصوت كان أشنع من المشهد ذاته !! .. الغريب أن (زياد) لم يصرخ !! .. ولم يرتجف !! .. ولا أعتقد أنه استشعر ذرة خوف !! .. ربما لأنه لم يتوقع هذا على الإطلاق .. فيما بعد عرفت أن علماء الفسيولوجي يقولون إنها مادة (الإندروفين) التي يفرزها المخ في لحظات النهاية كي يقلل من ألم الإنسان .. لكنني أسميها رحمة السماء .. ورأيانا لا يتعارضان في شيء !! .. وعلى كل حال .. لو صرخ (زياد) فلا أعتقد أن أحدا سيسمعه هنا .. فالقبو يبدو لي معزولا تماما يسمح بحدوث أي شيء داخله !! .. لا تسألوني عن حجم الدم الذي انفجر فجأة من عنق (زياد) !! .. فهذا أمر مفروغ منه .. ولا تسألوني عن الهلع الذي شعرت به .. فهذا أمر مفروغ منه أيضا ..
وفي لحظات قليلة رأيت (زياد) ساكنا مفتوح العينين ونظرة الموت الذاهلة ترمق السقف!! .. أطلقت صرخة رعب هائلة وأنا أتخيل النصل يمزق لحم عنقي أو نسيج صدري ثم لحم الصدر نفسه .. ثم .. ثم ..هل فقدت الوعي ؟! .. لحسن الحظ لم أفعل .. فغريزة البقاء كانت أقوى .. لأنني كنت عالما بأنني لو فقدت الوعي فلن أستيقظ مرة أخرى !! ..
اقتربت الفتاة نحوي .. وقبل أن أتخذ أي رد فعل .. هوت صفعة على خدي لتفقدني صوابي حتى شعرت أنها أطارت جانب أسناني الأيسر كله .. شعرت بحنق مجنون .. والصفير لا زال في أذني عاليا من قوة الصفعة ..
رحت أصرخ:
أيتها الحقيرة ؟! .. من أي بالوعة أتيت ؟!! ..
لم ترد علي .. وبدا أنها لم تفهم كلامي أصلا !! .. ثم .. وضعت يدها القذرة المشعرة على فمي وشعرت بشيء بارد على وريد عنقي .. إنه السكين الذي قتلت به (زياد) .. انتابتني حالة من الهستيريا .. رحت أصرخ بجنون وأتلوى .. وأحاول أن أفك قيودي .. وهي تحاول بدورها وضع السكين على رقبتي !! .. أو تحاول طعني وأنا أتملص بشراسة لم أظن أبدا أنني أملكها .. إن كل إنسان يمكنه أن يكون شرسا إذا ما وجد الدافع .. وهل هناك دافع أقوى من أن أمنع هذا (الشيء) المخيف من قتلي ؟!! .. ثم .. وفي جزء من الثانية .. وفي رد فعل سريع سببه تمسكي بالحياة .. قمت برفس بطنها بركبتي .. بكل قوتي .. فصرخت صرخة مخيفة شرسة .. حتى أن اللعاب تجمع أكثر فأكثر عند جانبي فمها فصار النظر إلى وجهها عذابا !! .. وبخوف جنوني ورغبة جنونية أكثر في التمسك بالحياة .. التحمنا بقوة وهي ممسكة بالسكين .. كانت رائحة فمها كريهة جدا لا تطاق عندما اقترب وجهها مني .. لكني لم أكن في حال يسمح بالاشمئزاز .. ورحت كالمسعور أحاول فك قيودي .. وتمكنت ذلك بالفعل .. ربما لأنها لم تقيدني بإحكام .. أو لأن الله - سبحانه وتعالى - أعطاني القوة لهذا .. عموما فإن هذه الأمور لا تقاس بالورقة والقلم .. و .. استطعت أخيرا أن آخذ منها السكين بعد صراع رهيب تبين لي من خلاله أنها قوية بحق وتقاتل بشراسة .. ولكن .. خيّل إلي للحظة أنها تبدو خائفة أكثر مني !! .. هذا لا يهمني .. إن الحالة النفسية لقاتلي لا تهمني كثيرا !! .. لا زلنا ملتحمين في صراع بدا لي غير متكافئا على الإطلاق .. شخص ضعيف واهن كحالي و(مخلوق) مخيف متوحش ..
عضلاتي تتقلص .. أنفاسي تضيق من رائحتها الخانقة العفنة وقوتها البدنية .. وعروق عنقي تنفجر .. لكنني أتماسك .. شفتي السفلى تنزف من أثر أسناني .. ولا بد أن عضلات ذراعي تتمزق .. ولكن كل هذا لا يهم .. يجب أن أدافع عن نفسي .. إنها تمسك بيدي الممسكة بالسكين .. ولكنني كنت ممسكا بها باستماتة .. وبكل قوتي أبعدت يدها .. وقمت بعدها بأصعب عمل قد أقوم به في حياتي .. طعنتها في بطنها !! .. فانطلقت بصراخ في انفلات أعصاب تام جعلني أشعر وكأنني فجرت بركان بشري .. إذ صرخت وصرخت وهي تتألم ممسكة ببطنها .. أعتقد أن من طعن الفتاة لم يكن أنا .. بل هلعي المجنون !! .. أرى في عينيها نظرة لا أجرؤ على وصفها .. هي مزيج غريب من الغضب والحزن لن تصدقه ما لم تراه .. أما أنا .. فقد دفعتها بعيدا ونهضت لألتصق بالحائط غير مصدق ما حدث .. غير مصدق ما فعلت !! ..
كنت متجمدا في مكاني .. ويدي اليمنى لا زالت ممسكة بالسكين الملوثة بالدماء التي انفجرت من بطنها .. وقد تكاثف العرق المالح فوق أهداب عيني ولم تعد رئتاي قادرتان على جلب المزيد من الأكسجين لقلبي .. الدم المندفع من مضخة قلبي يضرب سقفا في رأسي .. والألم يغزو كل جسدي .. لكن لا وقت لذلك !!.. أمسح العرق بكتفي لأن يداي ملوثتان بدمائها .. وأنظر إلى الفتاة مرة أخرى .. لا بد أن شيئا ما تحرك في أعماقها .. هل أنا أتخيل أم إنها تبكي ؟!! .. بكاء مخيف وكأنه عواء .. بدت في عينيها نظرة حيرة .. عدم فهم !! .. ثم تمد يدها إلي تطلب مني إنقاذها وكأننا في فيلم عربي !! ..
هذا منطقي لأنني
أنا نفسي لا أفهم ما يحدث !! .. وتوقف بكاءها بعد لحظات .. و .. توقف قلبها !! .. لم أجرؤ على الاقتراب منها بالطبع .. لقد ماتت .. وانتهى كل شيء قبل أن أفهم ما يحدث في هذا البيت الملعون !! ..
وقبل أن أفكر بأي شيء آخر.. بدأت أحاول استعادة روحي التي كادت أن تخرج من جسدي من شدة الرعب .. رحت ألهث بقوة وأنا لا زلت مستندا إلى جدار القبو الرملي .. وقد اندفعت الدماء من جديد كالشلال إلى وجهي .. جو صامت كئيب ساد المكان .. كأنني استهلكت كل عواطفي في الخوف .. الآن كما نقول في (الكويت),َ ذهبت السكرة وجاءت الفكرة !! .. ماذا سأفعل في هذا المأزق الرهيب الذي وضعت نفسي فيه ؟! .. نظرت إلى جثمان (زياد) بألم .. وشعرت برهبة تجاه السر الإلهي الغامض الذي يجعل هذا (اللحم) يفكر ويتحرك .. هذا السر قد ترك جسد (زياد) ورحل .. قبل لحظات كان المسكين حياً يفكر ويحلم ويحدثني ويغضب مني .. والآن صار جسده مجرد دمية فارغة !! ..
فكرت في الخروج من المنزل والاتصال بالشرطة !! .. لكنني ألغيت هذا الاحتمال .. سيكون لدي رجال الشرطة أسئلة كثيرة .. ماذا كنا نفعل في هذا البيت المهجور ؟! .. ولماذا اقتحمناه ؟! .. أسئلة لا تقف أجوبتها في صالحي أبدا .. فحتى لو ألقيت اللوم على (زياد) - رحمه الله - فسأكون أنا الملام في النهاية ولن يلومه أحد .. فالموتى دائما على حق !! .. سينتهي بي المطاف بسرير مريح في سجن (طلحة) أو ربما في رعاية الأحداث .. لا أعرف ما سيقوله القانون بشأني !! ..
ورحت برعب أتخيل مانشيتات الصحف: (خالد سليمان ال...) .. كان طالبا يبشر بالخير .. ثم لم يعد يبشر به !! .. أو: طبيب المستقبل تحول إلى قاتل ينقب عن العذاب البشري والموت والدماء !! ..
لقد وضعت نفسي في ورطة حقيقية !! .. هل أذهب إلى البيت وأنسى الموضوع تماما ؟! .. مستحيل بالطبع !! سيعرف رجال الشرطة كل شيء .. فلا أحد يستطيع خداعهم .. ولي أن أتصور كم مليون بصمة تركت !! .. وكم مليون بطاقة مدنية سقطت من جيبي !! .. وكم مليون ورقة تحمل اسمي هنا .. إن المسألة لن تتجاوز بضعة أيام .. وأنا أعرف نفسي وجبني .. لا تنقصني سوى لافتة على جبيني تقول: أنا نادم يا سادة .. لقد فعلتها !! ..
لا زلت جالسا في القبو شاعرا وللمرة الأولى بالإنهاك الشديد .. إن من يمشي ألف ميل لا يشعر بالتعب إلا بعد انتهاء الرحلة .. لم أعد خائفا من الظلام أو من وجود هاتين الجثتين !! .. لأن الخوف من ضياع مستقبلي وحياتي كلها لا يدع في النفس مكانا للخوف من أي شيء آخر !! .. ماذا فعلت ؟! .. ماذا فعلت يا (خالد) ؟! .. اغرورقت عيناي بالدموع شأن كل عاجز .. وراحت تنهمر على خدي (إنها الدموع هذه المرة بكل تأكيد وليس العرق) .. ورحت أندب حظي وأشتم نفسي وألعن غبائي .. أنا لا أفعل شيئا إلا وضع نفسي في المتاعب .. وكأنني أتقاضى راتبا من أجل هذا !! .. لقد تصرفت بغباء !! .. أكره الغباء الذي يجعل المرء يرى باب مواربا بعد منتصف الليل ومع هذا يدخله .. إنني لا أتعلم من أخطائي أبدا .. لا أتعلم !! .. هل سمعتم عن الرجل الذي حرق أذنيه بمكواة الملابس مرتين .. أعني مرتين .. وهو يظنها سماعة هاتف ؟! .. كان ما حدث لي تفسيرا من هذا النوع إذا كنتم قد قرأتم قصصي السابقة ..
ثم أنظر إلى الفتاة .. وأحدث نفسي بصوت باك:
- من أنت ؟! .. ماذا تفعلين هنا ؟! .. لماذا تعيشين حياة كهذه ؟ !! .. كأنك قادمة من عصر الكهوف !! ..
كم هو غريب أمرها .. إن هذا البيت ليس مكانا منسيا إلى هذا الحد .. فهو بالتأكيد ليس كهفا في جنوب أفريقيا .. أو مقبرة في وادي الملوك .. فمن العسير أن يعيش أحد فيه دون أن نعلم عنه شيئا !! .. يبدو لي أن الفتاة قد عاشت هنا فترة طويلة جدا .. لماذا لم تخرج من البيت ؟! .. كيف أصبح شكلها مخيفا بهذه الصورة ؟! .. لماذا تتصرف بهمجية ووحشية ؟! .. ليتني أعلم !!!.
زفرت بقوة لأفرغ كل انفعالاتي .. ثم .. يجب أن أتوقف عن البكاء والنحيب وندب حظي .. يجب علي أن أفعل شيئا وأتصرف !! .. إن البكاء على اللبن المسكوب لن يغير شئ !! .. وهكذا بدأت أفكر .. إن أول ما علي فعله هو الخروج من هذا البيت اللعين .. لم أكن أعرف كم من الوقت قضيناه في القبو .. فكل الأوقات تتشابه في السراديب خصوصا تلك المعزولة تماما عن الخارج .. ولكن أعتقد أن الوقت لا زال ليلا .. يجب أن أخرج تحت ستار الظلام وقبل زقزقة عصافير الفجر .. يجب أن أبتعد عن مسرح الجريمة التي لم أرتكبها .. أو ارتكبتها رغما عني وأجهل حتى الآن كل شيء عن أبعادها .. ولكن قبل أن أخرج .. خطر لي خاطر هام جدا !! .. لو تجاهلت كل ما حدث هنا وهربت لظللت أحترق بنيران الفضول طوال عمري .. فمن حقي البشري أن أعرف شيئا عن هذه الفتاة وهذا البيت بعد أن ملئت هذه القصة عقلي وروحي بالألغاز !! .. ثم ماذا عن الشرطة .. هل ستكشف ما حدث هنا كما أتصور ؟!! ..
يجب أولا أن أحاول إزالة بعضا من علامات الاستفهام المتعلقة بهذه الفتاة !! .. قد يساعدني هذا في إيجاد حل للمأزق الذي وضعت نفسي فيه .. ثم تذكرت الأوراق !! .. السرداب مليء بمئات الأوراق التي تمتلئ بدورها برسومات طفولية مع العشرات من الصور الفوتوغرافية التي سأجد الوقت الكافي فيما بعد لأشاهدها .. فربما تقودني لمعرفة ما يحدث هنا !! .. وبيد باردة كالثلج من شدة الخوف رحت أبحث في محتويات السرداب .. وأجمع الأوراق ..
أوراق .. وأوراق .. ورسومات وصور فوتوغرافية لا تنتهي .. وكاد أن يغمى علي فرحا حين وجدت دفتر مذكرات نسائي !!! .. سيفيدني هذا كثيرا .. كثيييرا !! .. عم أبحث ؟؟!! .. لا أدري .. أي شيء قد يكشف لي ما يحدث هنا .. و- بالطبع - لم أجسر على لمس الجثتين الملوثتين بالدم .. فهما ملوثتان بالموت أيضا .. وأي لمسة يمكن أن تنقل لي العدوى .. أي عدوى ؟؟! .. لا أدري أيضا .. إنها عدوى فحسب !! .. ومن مكان ما كنت أسمع أغنية انجليزية لا أدري هل لها وجود حقا أم إنها تتردد بجنون في عقلي الباطن فقط !!! .. و .. ما هذا الشيء المبتل ؟؟!! .. آه !! .. إنها الدماء تسيل من منخري .. لماذا ؟! .. ربما هي حالتي النفسية .. أشعر وكأن روحي ستخرج من جسدي !! ..
أصبحت الأوراق رزمة كبيرة في يدي .. حملتها بصعوبة مع دفتر المذكرات .. ثم خرجت من القبو .. ولأول مرة أنتبه إلى بابه المخفي الذي يصعب أن يجده أحد .. لم يكن الباب عامودي .. بل أفقي !! .. وكأنه غطاء لحفرة إذا كنتم تفهمون ما أعني !! .. فهو إذا ليس قبوا بالمعنى المعروف .. بل حفرة .. حفرة كبيرة الحجم !! .. أمر غريب .. غريب بحق !!..
خرجت من نافذة المنزل التي دخلنا منها .. لأسمع صوت زقزقة العصافير التي بدأت تلقي عبارات التحية لبعضها !! .. وبدأت أشعر أخيرا بالهواء النقي البكر يتسرب إلى رئتي التي كدت أن أبصقها بعد أن امتلأت برائحة العفن !! .. إن النهار يوشك على البدء .. يظهر أنني قضيت في هذا البيت قرابة الثلاث ساعات .. ثلاث ساعات فقط ؟! .. لقد بدت وكأنها دهرا !!! .. توجهت إلى السور .. أتسلقه كالمجنون كي أصل إلى شقتي قبل أن يراني أحد .. أتسلق بحذر كي لا يسقط دفتر المذكرات والأوراق والصور والرسومات التي وضعتها تحت إبطي .. و .. هووووب .. الوثبة على الأرض خارج حدود البيت !! .. سقطت على ذراعي .. وعلى كفي المفتوحة بقوة غير عادية فتبعثرت الأوراق .. وشعرت بألم يمزق معصمي .. فيما بعد سأعرف أن يدي ستنتفخ وتنزف وتصاب برضوض !! .. كل هذا سيحدث وسأستمتع به !! .. أما الآن فالوقت وقت الفرار .. الفرار ولا شيء سواه .. رحت أجمع الأوراق من على الأرض وكأن كل شياطين العالم تطاردني .. ثم عبرت الشارع الخالي تماما لحسن الحظ والهواء النقي يذكرني بأن هناك عالما في الخارج .. الجميع لازالوا نائمين في سرور لا يشعرون بما يحدث .. هذه مزية أن تكون أحمق !! .. جميع الناس يظنون أنهم يعرفون كل شيء وأن الجزء الأخير من أسرار العالم الذي لا يعرفونه لا يستحق المعرفة !! .. كيف لو عرفوا ما كان يحدث في هذا البيت ؟! .. إنني واثق الآن أن هناك فظائع جرت على كل شبر من الأرض التي نمشي فوقها .. لكننا لا نعلم أو نتظاهر بعدم العلم ..
عدت إلى البيت مغبرا غارقا في العرق وأنا أنتفض بقوة من هول المغامرة !! .. درجة الحرارة تقترب من 40 درجة مئوية دون شك .. ومع هذا فأنا أرتجف !! .. والمرء لا يرتجف في هذا الجو إلا لو كان محموما .. أو خائفا مثلي !! ..
فتحت الباب بهدوء آملا ألا أفاجأ بجدتي فتصطدم بوجهي الكالح الملوث بالغبار والعرق والخوف !! .. لحسن الحظ كانت لا تزال نائمة .. ثم .. على أطراف أصابعي تسللت إلى غرفتي .. نظرت إلى الساعة .. إنها الرابعة صباحا .. وأنا مرهق منهك .. دعك من ريقي الذي جف كزجاجة صمغ منسية !! .. أشعر أن كل ما في الكون من عصائر لن يكفي لإطفاء ضمأي .. وإزالة المرارة التي في حلقي .. رحت أجرع الماء كالجمل من الثلاجة الصغيرة الموجودة في غرفتي .. ثم ذهبت لأخذ حماما ساخنا جعل أعصابي تذوب تماما .. ولكن لفترة قصيرة مع الأسف .. فبعدها مباشرة بدأ التوتر يسيطر على قلبي مرة أخرى .. لقد تركت جثتين في ذلك البيت الملعون .. كيف سأخبر أهل (زياد) بموت ولدهم ؟؟! .. كيف ؟؟!!! ..
ذهبت لأرقد في الفراش مستشعرا تلك اللذة التي يشعر بها كل إنسان حين يدفن قدميه الساخنتين في الأغطية الباردة .. أرمق السقف شاعرا أنني في دوامة .. إنني تائه تماما .. كم أنا وحيد في هذه الدنيا !! .. كم أنا وحيد .. ليتني أملك عائلة تحميني من هذه المصائب فأسلّم لها رقبتي بلا تردد .. ترقرقت الدموع في عيني رغما عني .. هل أسكت عن كل ما حدث ؟! .. السكوت عن الأمر وتناسيه سيجعل أهل (زياد) يموتون قلقا على ولدهم .. أشعر أن هذا عمل غير أخلاقي بكل المقاييس .. لا يمكن أن أتصرف بقذارة ضد قناعاتي وأؤذي الآخرين .. كما لا يمكنني أن أبلغ الشرطة وأحطم مستقبلي !! .. إنني في ورطة لا أعرف منها فكاكا !! .. نهضت مرة أخرى واتجهت إلى شرفة غرفتي وقد بدأت الشمس تشرق .. وبالطبع بدا كل شيء مبهجا مشرقا !! .. حتى لتتساءل رغم عنك: لماذا كنت مذعورا البارحة ؟! .. في شمس الصباح يبدو كل الرعب الذي عشته في ذلك المنزل أمرا ضبابيا سخيفا .. لا يمكن أن يحدث شيء كريه تحت هذه الشمس الودود الصديقة !! .. فكرت .. وفكرت .. لكني وجدت أن التفكير بإرهاق وبمعدة خاوية أمرا مستحيلا .. فذهبت إلى المطبخ .. وملئت معدتي بسندويتشات الجبن التي صنعتها .. ثم .. وجدت نفسي أتثاءب بقوة .. إن المعدة المليئة مع الإرهاق تلعب دور أقوى المخدرات المعروفة .. كما أن إيقاعي الحيوي في أسوأ معدلاته ولن أستطيع التفكير بذهن مكدود .. وبالفعل .. نمت !! .. نمت نوما طويلا من شدة الإرهاق الذي تغلب على القلق والخوف .. ولم أستيقظ إلا بعد آذان الظهر !! .. عندما أيقظتني جدتي الحبيبة من النوم لتناول الغداء .. قبلت جبينها كالمعتاد ونهضت للاغتسال والصلاة ثم إلى الغداء محاولا أن أبدو طبيعيا
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا