صمت الفراشات للكاتبة ليلى العثمان 4

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-08-17

عند باب القصر استقبلنا عطية مكسوراً لا كما كان يقف بقوته. سيارات كثيرة كانت مرصوصة في ساحة القصر، أمي لكزتني: 

- "مش قلت لك! شوفي كيف وصلوا قبلنا".

انتابني بعض الخوف، اقتربت من عطية:

- ما هذه السيارات؟ 

- أولاده.. أزواجهن وزوجاتهم كلهم هنا. 

لم أرغم نفسي على التفكير المسبق بكيفية استقبال الغرباء الشركاء بينما وجه أمي يتلون بالخوف والغضب. عطية أشار لأبي: 

- الرجال كلهم في الديوانية. 

اتجهت مع أمي وإيمان إلى مدخل القصر وشعور بالقرف يتلبسني ويذكرني بدخولي الأول فأقرر لحظتها "لن أحتفظ به مهما فعلت أمي". دخلنا الصالة الكبيرة فواجهني سواد العباءات. فاحت رائحة العجوز، اخترقتني، كدت أغيب لولا أن اندفعت النسوة إلي يعينني بوالدهن ووالد أزواجهن. جلست وإحساسي أنني صاحبة القصر رغم كراهيتي له. ولأبدأ بإبراز موقعي ندهت بأعلى صوتي للخادمة: 

- زنوبة. حضري القهوة والشاي للرجال.

انطلق صوت إحدى الجالسات (ما كنت أعرف هل هي أبنته أو زوجة أحد أبنائه): 

- ماء فقط. هذا عزاء.

أمي بصوت حاولت أن يخلو من العنف:

- "بس يروحوا المعزين أهل البيت بيشربوا". 

هبط صمت ثقيل على الصالة، انتشر رويداً رويداً مثل غبار المساءات المعتمة، بدت النسوة المتلفعات بالسواد أشبه بفراشات معبآت بسنون القدور القديمة. صامتات صمت القبور. لا حركة سوى نظرات تتفرسني ونوايا ملجومة يعلم الله وحده إن كانت بريئة أو آثمة. فضت إحداهن الصمت أخيراً واقتربت مني وبصوت يفوح بالحياد قالت: 

- سأعرفك علينا. 

تتالت الأسماء. عيناي تتابعان الوجوه، أغلبها غير حزين ولا دامع، بعضها رسم حزناً مصطنعاً، والبعض لا تعابير عليه سوى الدهشة من صغر سني وجمالي، فأنا الغريبة التي يرونها لأول مرة. لم ألحظ عداء يطل من عيونهن فالعداء لا يتشكل إلا بالمعاشرة، شعرت ببعض الراحة وقليل من الامتنان للميت الذي نفاني في القصر. إنه يجنبني الآن شروراً كان من الممكن أن تؤذيني ركاماتها لو كنت عاشرتهن، أتأمل الوجوه وأتساءل في داخلي "إن لم يأت الشر منهن هل يأتي من الرجال أولاده وأزواج بناته؟ لم أشعر بأي خوف، كنت أشد أزري بأمي القوية، أنظر إليها، إلى عينيها المتربصتين بالوجوه، بحركتها المتعمدة لتوحي للجالسات بأن المكان يخص أبنتها سيدته الوحيدة. كنت أشفق على أمي من أحلامها القادمة، فقد كانت في منآها عن أحلامي بعيدة عما أفكر فيه وأخطط له. 

تصرفت أمي بالقصر وكأنها مالكته. لم تنتظرني كي أنتقم من جورجيت. سارعت إليها في المطبخ أمرتها أن تلم أغراضها لترحل: "ما بدي أشوف خلقتك بعد اليوم" حين شاءت أن تفتح فمها كانت يد أمي تطبق بكفها على صدغها الأبيض: "ولا كلمة الختيار اللي كنت بتدللي عليه راح وارتحنا" هذا الفعل من أمي جعل الأخريات يجفلن، يدركن أن زمان الدلال والفساد قد أنتهى، وأن الراعي الذي رعين كالأغنام في حظائره حرات متعاليات قد غاب. وبغيابه تتغير الأمور حسب ما أريده وتريده أمي. صوتها الحاد حذرهن: "اللي ما بيعجبها الحال هون تتفضل وتفارقنا". حين لمحت الانكسار في عيونهن شعرت بكبريائي المفقود يعاودني، شمخت برأسي أمامهن وأكدت على كلام أمي "زمن الدلع وقلة الأدب أنتهى". 

ثلاثة أيام تعبأ فيها القصر بالمعزين والمعزيات، حاصرني سواد العباءات وصمته الأشبه بليل خائف. وثرثرات ما كنت أقتطف منها إلا جملاً متناثرة لا تعنيني في شيء، بينما كان وعي أمي متيقظاً لكل ما يدور بحيث كنت أسمع صوتها يدخل في نقاشات حول أمور الحياة والموت. تعرج من خلالها إلى أمور التركة والقصر، القصر بالذات، حلم أني أن أمتلكه وأتربع على عرشه، كنت أجلس على كومات من الشوك، أنتظر اللحظة التي ينطلق بها أذان المغرب لينفض مولد المعزيات وأهرب إلى غرفتي تاركة لأمي مهمة إحساسها بملكية المكان لتشرف على إعادة ترتيبه وإصدار أوامرها للخادمات. 

حين ارتميت لأول ليلة على فراشي الموبوء بذكرى العجوز شعرتني متخففة من تلك الأثقال التي كانت تهمد كل ليلة على صدري يضاعفها همود جسده على جسدي في ليالي رغباته المتوحشة وقرفي المتواصل. هي الليلة الأولى التي شعرت فيها بأنني غزالة حرة سعيدة غاربة عمن ظلام ساد حياتي. لم أشأ أن أفكر باستعراض سنوات القهر، أردت أن أنفض رفوف ذاكرتي منها، أمزق سجلاتها الداكنة وأهيلها لأحلامي القادمة. لم أفكر بشأن التركة ولا بالذي سيؤول إليه شأن القصر. كنت منذ لحظة هربي منه قد اتخذت قراري ألا أعود إليه، وإن فرضت علي شهور العدة الرجوع فلن أبقى فيه يوماً واحداً بعد انتهائها. سأفلت منه باحثة عن شواطئ الراحة بعيداً عن مشاكل التركة ورنين المال. حلقت بخيالي خارج سرب البهرجة، سرحت أجدل أحلامي المنفرطة: التحاقي بالجامعة، العمل، وحلمي بالسكن وحدي في شقة صغيرة تطل على دفء البحر وصفائه في الصيف، وترتعد جذلي لجنونه في ليالي العاصفة.. كان فضاء أحلامي ممتداً أمامي، مضيئاً، مزخرفاً بالألوان.  

احتملت شهور العدة بكل كآبتها، حاولت أمي أن أتمسك بالقصر لنفسي من ضمن نصيبي، لكني خيبت أملها. تركنا القصر وفي داخلي شعور التشفي من حلمها القديم، انتظرت أسبوعاً ثم أفرجت عن قراري الرهيب: 

- سأستقل بحياتي في شقة على البحر. 

اضطرب وجه أمي. تشظى وجه أبي بغضب أعنفه هول الفاجعة، صرخ غير مصدق: 

- هل يخطر ببالك أنني سأوافق؟ ماذا سيقول الناس؟ 

بهدوء أجبت: 

- لا يهمني كلام الناس.

سيصيبني شر ألسنتهم حتى وإن كنت داخل قمقم. 

أضافت أمي حانقة: 

- "أرملة شابة وحلوة تسكن لوحدها!! ما عملتها واحدة قبلك حتى تعمليها". 

لم أجنح بثورتي لأواجه ثورتهما. لم أجدني مضطرة للصراخ والجدل لأكسب موافقتهما. تمالكت كل هدوئي لأشعرهما بأنني قد اتخذت قراري ولن أحيد عنه مهما قدما من حجج أو وضعا من عراقيل. كان شعوري بمكانتي الجديدة يدفعني أن أتحدى، وأتصرف بقوة، فأنا الآن ولية النعمة التي سيرغدان فيها. أخي فيصل ساندني، قال كلاماً لم يعجبهما، وعزف على الوتر ذاته الذي استندت إليه، دس بعض العبارات التي ألمحت أنهما بحاجة لما ورثت وذكرهما بظلمهما القديم لي: 

- لنادية أحلام قتلتموها. دعوها تغفر لكما حين تحققها.

تابعت بشجاعة أكثر: 

- سأكمل تعليمي ومن ثم سأشتغل. 

احتدت أمي: 

- "أنت مش بحاجة للشغل، صار عندك خير الله" 

حدقت بها أذكرها: 

- المال الذي أذلني لن يسعدني، أريده من جهدي وعرق جبيني.

الصوت القوي الذي واجهت به أمي وأبي جعلهما يستسلمان لقراري، في تلك اللحظة شعرت بأنني دفعت كل الأبواب الموصدة، وأن جناحين قويين قد نبتا صارا يحرضانني على الطيران نحو حياة جديدة أمتلك وحدي مقبض دفتها بلا دسرٍ تحكمني، كانت اللحظة التي تقافزت فيها كل طيور أحلامي الموعودة، كل يطير باتجاه وعيناي تلاحقان مسارها مؤملة أن أجد لكل عصفور وعصفورة عشهما المناسب. 

في الليل واجهت نفسي بالأسئلة الدقيقة: هل أنا قادرة حقاً على المضي وحدي في الدروب الشائكة؟ ماذا أمتلك غير المال الذي سيحقق لي حلم الشقة؟ كيف سأواجه الحياة التي انعزلت عنها والناس الذين لا فكرة لدي عن سلوكهم، أفكارهم، ونواياهم تجاه امرأة بمثل وضعي؟ امرأة ناعمة كالوردة لكنها بلا خبرة تؤهلها للحفاظ على وريقاتها حتى من رعشة النسمة؟ كيف أزرع الثقة في نفسي؟ كيف أثبت لأمي وأبي أنني الكفء لتحمل هذه المسؤولية التي اتسعت أمامي وبدأت أشعر بثقلها كلما جلست إلى نفسي؟! هل أتراجع؟ هل أركض إلى غرفتهما وأرتمي بين ذراعيهما مثل طفلة خائفة تطلب حمايتهما من المجهول فأقع ثانية فريسة لسيطرتهما وتسيير حياتي كما يشاءان؟ 

لم أشعر بهذا الأسى والرعب حين واجهتهما بقراري، لكنني وأنا أواجه نفسي أدركت كم تكون مواجهة النفس صعبة، والاحتكام لعقل - مثل عقلي - لم يسبر خبايا الحياة بعد ولا يخلو من اضطراب وتذبذبٍ صعباً. رأيتني وحدي في نفق معتم ليس فيه غير بؤرة ضوء وحيدة وبعيدة يتسرب منها إلى سمعي شقشقة عصافير حزينة وهدير أمواج ثائرة. وما بين البين تسحرني أشجان نايات وثغاء خراف صغيرة سارحة في البراري. 

الضوء يغريني لأنشد إليه، وأنا مشدودة للواقع الذي لن يسهل التمرد عليه ولا الخروج على قوانينه الصعبة المحبطة. لماذا ألوم أمي الخائفة على من قذائف الألسنة الجارحة وظلم الدنيا؟ لماذا أكسر قلب أبي وأسلخ عنه هيبة الأب الراغب في أن تكون له الكلمة الأولى في البيت؟ 

وحيدة أتقلب بأساي وأعاتب نفسي: هل تتلبسني فكرة الانتقام منهما؟ هل أصاب روحي التوحش فغدوت مثل لبؤة تريد افتراس من أصابها بسهم أو طلقة رصاصة؟ شعرت بأنني تسرعت في طريقة إعلامهما بقراري، وقد يكون انفلت من مكمنه لمجرد التشفي من ظلمهما القديم وليس من منطلق الثقة والقدرة على مواجهة الحياة التي لم أخض معركتها بعد! والتي هي بالتأكيد أقوى من عودي الطري وأوسع من خبرتي اللاشيء. 

لم أستطع أن أنام، خيم الصمت على الغرفة، ربض على قلبي، شعرت بأوداجه تنبلق وتشمت بي وفي داخلي يربض شيء تجاه أمي وأبي يثير شفقتي عليهما ويؤكد لي أنهما لم يناما بعد. وأنهما المهانان يذرفان دموعاً أليمة تجعلهما ربما يتمنيان لو لم يمت العجوز لأظل مستورة في قصره - القبر - ولا أولد ولادة جديدة تحاول أن تخترق بنزقها قانون الأبوة والأمومة والمجتمع. 

ضاق بي الفراش، شعرت كأنه يبصقني، يأمرني أن أغادره حيث القلبان المكسوران. لم أنتظر. شحنت خطاي إلى غرفتهما. صدقت ظنوني، كان النور المضاء يرسم خطاً أسفل الباب.. طرقته. اندفق صوت أبي حنوناً وكأنه كان بانتظاري: 

- أدخلي يا نادية. 

فاضت نحوي رائحة غريبة لا أدري أين شممتها! هل كانت رائحة أول طفل لأخي خارجاً للتو من رحم إيمان؛ أم رائحة صدر اختمر بالحليب أو ثغر مليء بالقبلات؟ رائحة أشهى من أي شيء شممته. رائحة أبوين تفك مشاعرهما الرحومة أغلال مشاعري المتجبرة، تحررني لأندفع إلى فراشهما حيث يتلاصقان بكل معاني الحب الذي ربطهما بخيوطه الحريرية. وجه أمي المحزون أنبأني أن دموعها ما زالت تجيش في صدرها. أبي الأشد جأشاً مسحت ابتسامته بعض ظلال حزنه. أوسع لي بالفراش مشيراً أن أجلس وسرب صوته مثل نايٍ حزين: 

- هل أنت أرقة مثلنا؟ 

أحنيت رأسي وهمست: 

- أعرف أنني سبب أرقكما. 

تنفست أمي عتابها:

- "كيف بتنام عين الوالدين الخايفين على ولادهم؟" 

لم أنبس.. كنت خجلي. أحتاج لدهر كي أخفف خجلي. واصلت أمي عتابها: 

- "ولو يا نادية! أول ما شطح نطح؟ وبمن! بأمك وأبوك؟".

أبي الذي لمح خط الدموع النازف على خدي توسل أمي:

- لا تزيدي عليها. 

اندفعت إلى صدر أبي، انفرط غيم دموعي هائجاً ذارفاً كل ملحه، ذراعه اليسرى أحاطت بكتفي ويمناه تعابث شعري بحنان افتقدته أربع سنوات، وصوت أمي الكابح نشيجه يغمر لحظتي: 

- "بس يا حبيبتي.. حاجتك بكا إحنا مسامحينك". 

هذا التذوق الجديد لحنانهما جعلني أدحر شراسة قوتي الطارئة. صرخت من بين فواصل دموعي: 

- لأ...لأ...لأ... أنا غلطت.

أبي برفق حاول أن يخفف عني: 

- "نحن لا نلومك. أربع سنوات من السجن والقهر حجبت النور في منابع قلبك وشحنتك بالتوق إلى الحرية. 

أمي أكدت:

- إحنا مش ضد حريتك. بس مش دغري بدك تعيشي لحالك!" 

انسللت من حضن أبي. اقتربت من أمي تحسست وجهها: 

- أحلم يا أمي أن أكمل تعليمي، أشتغل، أسكن شقة صغيرة على البحر. عفن القصر لا يزال يسكنني، أريد أن أتحرر، أغتسل وأتخفف منه. 

بدا وجه أبي جاداً: 

- اسمعي يا نادية، بالنسبة للدراسة نحن لسنا ضدها، كذلك بالنسبة للعمل إن كان هذا واحداً من أحلامك، لكن السكن لوحدك.... فهذا شيء فوق احتمالنا وفوق... 

قاطعته أمي: 

- فوق احتمال المجتمع كله.. بعدك صغيرة على هالخطوة الكبيرة". 

أبي أمسك بكفي عصرهما بحنان شعرت به يتسرب إلى كل عروقي ويدغدغني: 

- شوفي يا بابا إن كانت رغبتك في شقة على البحر، فأنت قادرة على ذلك دون تعريض نفسك للأذى والكلام. 

- كيف... كيف..؟

بلهفة أردت أن أستل إجابته.. قال:

- سترثين والحمد لله مالاً كثيراً، تستطيعين شراء عمارة على البحر. تسكنين الروف - ونسكن أنا وأمك في أحد الأدوار، والباقي تؤجرينه "وزيادة الخير خيرين" وهكذا تحمين نفسك من شرور الألسن وتحمينا من الخوف عليك. 

تأكد لي كم كنت فقيرة الخبرة سريعة القرار. ها هو أبي بكل ما منحته الدنيا من خبرة وسقاه الله من حنان يقدم الحل المناسب الذي يحقق لي ولهما الراحة والسعادة. شعرت بالفواصل كلها تذوب، الصخور العالقة تتفتت، التعالي الذي ارتكزت عليه بحماقتي بنهار، والزمن يغدو جميلاً حتى لكأنني شعرت بالفجر يشرق قبل أوانه، صوت أمي الذي خلع حزنه وارتدي ثوب الارتياح يزغرد في أذني: 

- "خلاص.. من بكره طوف على هالسماسرة بتلاقيهم أكتر من الهم على القلب، وشوف لها عمارة". 

أبي قال مالك والحمد لله كثير، ولم يقل المال.. أمي قالت شوف لها عمارة ولم تقل شوف لنا عمارة. أشعراني بحقي وبسيادتي. هل كان من اللائق أن أستغل مكانتي وثرائي لأتصور أنني "ولية نعمتهما والحاكمة بأمري؟". انهمرت على صدر أمي، تنفست عطوره، تلذذت بكوني طفلة تندس في شرايين الأم وتنهل رضاها. ثم اندفعت نحو وجهها أغمره بقبلاتي المناة بدموعي، وهي تشهق ببكاء فرح وتردد من أعمق عمقها: 

- "الله يرضى عليك ويوفقك ويعوضك كل خير".

* * *

 

يفتح الله كوة في السماء خاصة لدعوات الأمهات. يهيئها للتحقق ويرشها مثل غيمة حبلى تساقط خيرها علينا. هكذا عوضني الله خيراً كما طلبت أمي. لم أكن وأنا المخنوقة في قصر العجوز أشعر بأي طعم للمال، ولا كنت أتصوره الهبة الضرورية للحياة، لكنني بعد أن تنفست حريتي أدركت ما الذي يمكن أن يحققه للإنسان. لقد صار المفتاح الكريم الذي فتح لي أبواب الحياة المغلقة والسعادة الغائبة. وصار أبي الذي أوكلت إليه إدارة ميراثي الدفة التي توجه كل السفائن نحو جزر الأحلام التي تمنيتها. أشتري لي عمارة رائعة من ستة أدوار تطل على بحر منطقة " الشعب". حين رافقنه وأتي لنراها أول مرة أسرعت إلى المصعد ملهوفة. ناداني: 

- انتظري. ألا تريدين أن تري ساحتها وملاحقها وأدوارها السفلى؟ 

أشرت إليه أن يلحق بي هو وأمي وصوتي مترنماً بالفرح

- كل ما يهمني أن أرى الروف الذي سأسكنه. 

لم يتباطأ المصعد بنا، كان وهو يرتفع أشبه بجناح طير خرافي يحملني إلى السماء السادسة ثم يفتح لي باب جنتي الصغيرة. 

اندفعت إلى الزجاج الممتد بطول الصالة وعرضها، كان بهيا دافئاً وكأن الشمس اختبأت فيه ولم ترحل، ألصقت وجهي به، رسمت أنفاسي دائرة من البخار، مسحتها وأرسيت نظري نحو البحر، كان شديد الإثارة، هائجاً، ترقص أمواجه وكأنها تحتفل بقدومي. أذرع النخيل المرصوصة على الرصيف المحاذي للبحر تدفعها الريح تجاهي فأحس بها تهديني تحيتها وعطر قلبها والرمل اللامع يعدني بأن يكون سريراً ناعماً لأحلامي. تطايرت في الشقة مثل فراشة لا تدري أين تحظ. أمي وأبي يتضاحكان وأنا أهزج بصوتي أخطط للشكل الذي ستكون عليه: (هنا سأضع أريكة عريضة مواجهة لوجه البحر، هنا سأعلق لوحة كبيرة لمهرة تركض في البراري، هنا سأضع مكتبة صغيرة ومكتبي الذي سأدرس عليه، وهنا.. وهنا.. نباتات خضراء وأقفاص عصافير وشمعدانات من كل الأحجام.) 

علق أبي وهو يضحك: 

- هل ستعيشين على ضوء الشموع؟ 

انتصبت أمامي في لحظة أسقف القصر بكل أثقالها من الإضاءات. قلت لأبي: 

- لا أريد ثريات الكريستال ولا الأباجورات بتماثيلها الصامتة: 

أسرعت إلى الغرفة التي ستكون لنومي. فوجئت بلون جدرانها الرمادي، شعرت وكأنني داخل كوة من الدخان أتعفر برماد حريق قديم، تتكالب نحوي أذرع وألسنة كل الأشياء التي أمقتها، تفرض حضورها البشع. وجدران القصر المكفنة بالورق المذهب والأخشاب المنقوشة الداكنة تضغطني، شعرت بالاختناق، قفزت بطلبي إلى أبي وأنا أنفض الرماد العالق بي: 

- أرجوك.. غير اللون. أريد كل الجدران بيضاء كالغيم. لعله بقلب الأب الذي شعر باختناقي، وضع إصبعه على أرنبة أنفه: 

- "على هالخشم".. كل ما تطلبينه يتحقق.

تأملت مساحة الغرفة، رسمت خريطة أثاثها، التفت إلى أمي:

- سأشتري سريراً مفرداً. 

اعترضت أمي: 

- "شو!؟ بدك تعملي حساب للمستقبل. بكره بتتزوجي وبتفرحي بشبابك". 

كهربني افتراض أمي، لم أكن شفيت بعد من جروحي، ولا الجسد أتم اغتساله من وباءات ذلك السرير المريض. كيف تفكر الأمهات؟ ألن أفرح بشبابي إلا إذا أقترن برجل؟!. لم أعط أمي فرصة لتزهر بأحلامها النابتة، هربت نحو المطبخ متظاهرة بأنني لم أسمعها، سبقتني إليه، انتصبت أمام بابه، فردت ذراعيها بطولهما لتمنع دخولي، فاض إصرار حنون من كلماتها: 

- "ماراح تطبخي، هون بس لتحضير وجباتك الصغيرة، راح تأكلي معنا كل ما تشتهي وتطلبي". 

أسعدني اقتراحها، فهي تعلم جهلي بأمور الطبخ، وستريحني بذلك من روائح الطعام التي ستفسد علي عطر الشقة، ولم يكن شأن الطبخ وحده الهم الذي شغل بال أمي، فبعد تجولنا في الشقة أبدت رغبتها واقترحت علي: 

- "مش أحسن تجيبي خادمة تساعدك؟" 

كمن لسعني عقرب جائع:

- أرجوك يا أمي.. لا تزعجيني بذكر الخادمات.

لم تعر رجائي اهتماماً، واصلت لتقنعني: 

- "أنت لحالك راح تتعاملي معها، ما في عجوز يدلعها ويفسدها". 

تعرف أمي عقدتي من جورجيت وخادمات القصر، رغم ذلك تحاول إقناعي بضرورة وجودهن، لكنني بئت بمحاولاتها إلى الفشل. قررت أن أكون وحدي من يمتلك المكان، وحدي من يرتب سريري ويمسح الغبار. وحدي من يسقي النباتات ويغسل الستائر والمفارش. كنت أنوي أن أبني علاقة دائمة مع كل شيء يخصني، وأريد لكل الأشياء أن تعتاد لمستي ورائحتي وحناني، حتى إذا غبت عنها تشتاقني، تتلهف علي، وإذا انشغلت عنها تراودني بأية طريقة كي أعود إليها. أتحسس روحها ونظافتها وأرتمي على أي أريكة أو سجادة أو كرسي دون أن يلسعني الإحساس بأن جسداً آخر أغتنم فرصة غيابي ودست رائحته إليها. في قصر العجوز كان كل شيء، يخصني أو لا يخصني، مباحاً للخادمات، حتى سريري لم يسلم من نزوة جورجيت التي تمرغت عليه أمام عيني. 

حقق أبي رغبتي، سكن الدور الخامس، وأصررت على أن يلتئم شمل أسرتي التي حرمني منها العجوز؛ فطلبت من أخي أن يسكن وأسرته الصغيرة في الدور الرابع. كان فرحي بأولاده لا يقل عن فرحي بالشقة، أحضرت لهم المراجيح والألعاب الأخرى المسلية، واشتريت لهم خيمة صغيرة يلوذون إليها حين تشتد حرارة الصيف. كنت في خروجي ودخولي أرى ساحة العمارة وكأنها مدينة ملاهٍ مصغرة تفجر سعادة أبناء أخي وأطفال السكان الآخرين الذين أكرى لهم أبي بقية الطوابق. أحس بطفولتي تنبض بحرارة فلا أخجل أن أتركها تعبر عن نبضها. صرت أشارك الأطفال لهوهم، مرحهم، غناءهم وحتى صراخهم، وكنت ألمح في نظرات أمي وأبي إشفاقاً على سنواتي التي لم أعشها، وفي نظرات عطية ألمح ابتهاجاً وغبطة وكأنه يتشفى من ذلك العجوز الذي كان يدفن شبابي في مفصلة قصره المعتم. 

اخترت لشقتي أفتح الألوان وأزهاها، ملأتها بالنباتات والزهور وأقفاص العصافير ذات الأصوات المغردة. وحين وضعت عليها أخر اللمسات جلست أمام البحر أستحم في فضائها الحب وأجوائها المأهولة بصمت حنون غير ذلك الذي عانيت منه في القصر. هنا صار للصمت لون، شكل، صوت وعافية ولذة ترعشني، أحسست بصمت النباتات عطوراً تفوح، صمت الجدران موسيقى ترسم عليها لوحات متحركة صمت الأثاث أنفاس عرائس لم يفقدن بكاراتهن بعد. 

غرقت في صمتي اللذيذ. موجات البحر تتلألأ بضياء الشمس المنثور عليها غلائل شفافة. حين تقبل الموجات بزبدها الضاحك أحسها تهديني غناء وحكايات بحارة عادوا محملين باللؤلؤ، وحين تنسحب منطفئة من الزبد أحسها مثل أيدٍ عطوفة تسحب أورام حزني فيتخفف قلبي من أثقاله وذكرياته الداكنة، يمرح في مساحات الحدائق المليئة بالعصافير. تلك هي أحلامي تشق طريقها بلا منعطفات ولا منغصات. تتلون الأيام باهرة رضية، لا أثر فيها لشحوب الأمس ورائحة لياليه الخانقة. أنا مليكة شقتي الأليفة المنكشفة على وجه الصباحات الدافئة، وأنا العصفورة التي نبت زغبها، وأنا الفراشة التي اكتملت ألوانها وعافت صمتها. 

أصحو كل يوم كما النحلة أعوف روائح الأحلام المتخمرة على وسادتي. ألاصق الزجاج المطل على البحر، أستل شهيقاً عميقاً أحصد معه رائحة البحر ولونه، أختزنهما داخل رئتي، أحس وكأنني اصطدت ألف سمكة صغيرة وهيأت لها قلبي بحيرة زرقاء. أنحدر إلى شقة أمي، تستقبلني رائحة التوست المحمص، الحليب بالهيل، وطبق البيض - البريشت - ينتظرني حاراً. ألتهم فطوري على عجل. أمي تفرح بشهيتي ولا تواري خوفها: 

- "على مهلك يا بنتي لا تغضيه".

- فطورك رائع يا أمي. 

بفرح يضاهي فرحي 

- "صحتين على قلبك".

تفلت مني ضحكة صغيرة تثير اهتمامها:

- "ليش مني تضحكي؟"

- أحسني شرهة. أتخيل كيف سيكون شكلي لو امتلأت. 

ريما خشيت أني أن أمارس ريجيماً وأمتنع عن طعامها اللذيذ، أضافت لصحني مزيداً من البيض وهي تطمئنني: 

- "كلي.. لا تخافي السمنة وراثة، وأنا وأبوك عودنا رفيع". 

تأملتها وهي تدهن قطعة التوست بالزبدة والمربى، صدرها الأبيض يترجرج فأحس وكان بعض أسماكي الفرحات قد هربن من بحيرة قلبي إلى قلبها، وجهها الفائض بالبشر حرك سؤالي إليها: 

- ماما.. هل أنت سعيدة؟

- "وليش لأ... وأحلام بنتي قد تحققت".

قلت بصوت لا يخلو من حزن:

- كان هذا على حساب حلمك.

أطلقت نهدة... هزت كفها كمن تطرد ريحاً:

- "قصدك القصر؟.. ما بدي أتحسر على شي راح". 

كنت موقنة أن حسرة أمي لن تروح، كان الكلام أحياناً يفلت منها ويفضح تلك الحسرة. يوم أكملت تأثيث شقتي دارت فيها. أبدت إعجابها بذوقي وتنهدت: 

- "والله بتستاهلي قصر".

ويوم تجولت معها في ساحة العمارة الواسعة سألتها:

- ما رأيك أن نزرع أشجار برتقال و...

قاطعتني بشبه ازدراء: 

- "شو مفتكرة هالساحة حديقة قصر! يا دوبها تكفي شوية نباتات وزهور". 

كنت أرتاح لأنني بدأت أتجاوز ذكريات القصر السامة، وكنت أحاول أن أدفع بأمي لتنساه، لكنه وقد سكن خاطرها ظل يلوح كلما لاحت فكرة أو تناهت ذكرى، وكلما صافحها وجه عطية. في البدء تشنجت أعصابها، لم تحتمل فكرة توظيفه وسكنه كحارس في ملحق العمارة. عارضت بشدة: 

- "ما بطيق أشوفه.. دايماً بتزكر كيف تجرأ وجلدك بالسوط". 

أسرفت وقتاً لأقنعها، وقد ساندني أبي في ذلك: 

- لا تقطعي رزق الرجل.. ألا يكفي أنه رفض القصر واختار العمل عند أبنتك؟ 

أخي أكد لها أن من نعرفه خير ممن لا نعرف.

استسلمت أمي لكنها ظلت تتحين الفرص لتتصيد له الأخطاء، تزجره أو تضاعف العمل عليه وكأنها بهذا تنتقم لي من فعلته القديمة.  

لم يتركنا عطية منذ أن تركنا القصر، ظل يتردد علينا في بيت أبي وكنت أفرح بزيارته، بصوته، بذلك اللون الغريب الذي يطفو على وجهه حين يراني ويلح في كل مرة أن يؤدي لي ولأهلي أية خدمات. وحين قررنا الانتقال إلى العمارة وجدتها فرصة لتحقيق رغبته. أوكلت إليه جلب عمال لتنظيفها وعليه مهمة الإشراف. فأصر أن يتولى بنفسه كل العمل. لم يكتف بهذا، بل أهتم اهتماماً شديداً بأثاث أمي القديم الذي أصرت عليه وحاذر أن ينخدش منه ولو عود صغير رغم يقينه أن أمي لا تحبه، آلمني أن تنقل أمي عفشها القديم، تمنيت أن تجدد كل شيء وهي تنتقل إلى مكان جديد، حاولت إغراءها: 

- في السوق موديلات وألوان حديثه.. غيري. 

تمسكت أمي بكل صغيرة وكبيرة في بيتها، دمعت وهي تتأوه بالكلمات: 

- "مش كفاية راح أغير البيت؟ عفشاتي هدول فيهن كل ذكرياتي مع أبوك. والله ما بغيرها". 

كيف تصل حدود الحب أقصاها عند أمي!؟ فلا تترك حتى غلاية القهوة القديمة المثقوبة ذات اليد المكسورة، حين أردت أن أحذفها بكيس القمامة اندفعت إليها وخطفتها من يدي كالملسوعة، أغاظني سلوكها فاحتديت: 

- يا أمي مش معقول! حتى هذه؟

ضمتها إلى صدرها بحرارة وكأنها تضمني أو تضم أبي. بكت وهي تقول: 

- "شو بيعرفك إنتي بقيمتها؟ هاي أول غلاية عملت فيها قهوة لأبوك. جبتها معي من حلب". 

كدت أفرط بالبكاء. ماذا حملت أنا من القصر؟ لم يكن فيه أي شيء عزيز على قلبي. حتى مصاغي الذي حملته كان لمجرد إحساسي بأنه جزء من ثمني. أتعمق بعشق أمي لحاجياتها وتمسكها بها فأحزن لأنها قذفتني إلى القصر ولم تمنحني فرصة لأحب أي شيء فيه فأحس بمثل إحساسها. لهذا قررت أن أقيم علاقة ودودة بيني وبين أشيائي الصغيرة والكبيرة وأحبها كما تحب أمي غلايتها المثقوبة. 

حين أنهى عطية عمله، قدمت له مظروفاً حشوته بمبلغ كبير. لم تمتد كفه ليأخذه. أصررت عليه: 

- خذ يا عطية هذه إكرامية بسيطة.

لمحت وجهه مثل غيمة ترذرذ دموعها. وشجاني صوته الرخيم: 

- سيدتي.. إن كنت تنوين إكرامي فاقبليني عندك حارساً للعمارة. 

فوجئت! كيف لم أفكر بهذا الأمر؟ حتى عندما سألتني إيمان ماذا ستفعلين بعطية لم يحرك سؤالها أي اهتمام به. هو الآن يفتح بوابة أخرى قد تأسره ثانية في مدار زوجة السيد. حاولت أن أفهمه هذا، وأن أشعره بأن يكون حراً، لكنه أخذ يرجوني فأحسست بتشبثه بي صادقاً. وتساءلت في داخلي: هل يخشى مواجهة الحياة وغربة لا يدري إلى أين تنأى به؟! أم لأنه يريد أن يكفر عن ذنبه القديم أو... هل هناك سر آخر أجهله؟! فرحت بطلبه، ورغم أنه كان بعض ميراث سنوات القهر التي أردت أن أدفن كل ما يذكرني بها فإنني بحماس شديد رحبت به وخصصت له راتباً شهراً عالياً أفزع أمي، اعترضت فشجبها أبي غاضباً: 

- هذا مالها. وهي حرة فيه. 

خدش كلام أبي مشاعري فكأنه يتهمني بسطوة المال علي. أردت أن أدفع التهمة عني

- ليس لهذا السبب يا أبي. أنت تعرف أن نايف وهبه مبلغاً كبيراً، إنني فقط أقدر له وفاءه وتفضيلي على القصر الذي ولد وعاش فيه. 

وجود عطية في العمارة - وأنا التي خبرت دقته وأمانته - بعث الأمان إلى قلبي. كان شعوري بأنه يريد التكفير عن ذنبه القديم يدفعني أن أساعده ليبرأ منه. ولم يساورني شك بأن ذاكرته، وإن احتفظت بمشهد جلدي بالسوط، إلا أنها لم تحفظ شيئاً من تفاصيل جسدي الذي اقتحمه مرغماً. فمن يرغم على أن يحرث الأرض لا تهمه صغار حجارتها ولا تشققات جلدها ولا حفظ خرائطها.

* * *

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا