عندما يكتب سيناريو حياتك ..
شيطان!
أحضر والد يحيى قطعة حديد صلبة.. وقام بكسر الحقيبة..
وبدأ بتفتيشها.. حتى وقعت عيناه على جواز أفغاني ..
فتحه وكانت المفاجأة التي أسعدتنا جميعاً..
لقد كان جوازي الذي قام باستخراجه سيئ الذكر أبو الفاروق.. ومن خبرة أبو يحيى قال لنا إنه جواز شبه حقيقي ..
الصورة التي كانت بالجواز ليست صورتي.. وإنما صورة ابنة سلوى.. لم تكن تشبهني لتلك الدرجة بهذه الصورة بالذات.. ولكن حتى هذا الشرير.. لم يلاحظ الفرق في الصورة بيني وبينها.. هكذا هي الصور الشخصية دائماً..
لا تظهر كما أنت بالطبيعة ..
بعد مدة من التدقيق..
أخبرنا شيئاً مهماً ولافتاً يخص حقيقة الجواز!
وهو أنه على ما يبدو أن اسمي ومعلوماتي التي تخص اسمي الجديد (إيمان) هي لفتاة ميتة ولم يتم تسجيل حالة وفاتها رسمياً.. أحياناً بعض العوائل تدفن موتاها بطرق غير رسمية.. وتبيع أوراقهم الرسمية ومقتنياتهم من أجل المال وهرباً من عذاب الفقر.. لم يقوموا سوى بوضع الصورة الشخصية.. وهذا ما جعله حقيقياً من ناحية البيانات.
والأهم أنه على الأرجح أن أبا الفاروق لم يوثق زواجنا رسمياً..
فعلاً.. مصائب قوم عند قوم فوائد!
سأله يحيى:
- ما الذي سوف نفعله الآن؟
رد عليه والده بعنف:
- اخرس يا غبي.. لا تتدخل أبداً كي لا توقعني في مصيبة أخرى.. سوف نبدأ العمل من الغد!
سأله يحيى مندهشاً وأنا صامتة أحاول فهم ما يقوله:
- عمل؟! عمل ماذا؟
- فتاة مثلها في بهذا العمر الصغير.. يكون الطلب عليها كبيراً.. ستكون خادمة لبعض البيوت التي سوف أحددها لها..
صمت يحيى وبادلني النظرات وهو عاجز!!
ولم أستوعب ما قاله ذلك الغبي.. حتى أخرجت الحديث من داخلي وأنا محبطة قائلة:
- أرجوك يا عم.. أريد العودة إلى أهلي.. استحالة أن أعمل أعمالاً شاقة كهذه.. أريد أمي فقط.. أرجوك ..
كنت وقتها أحدث جداراً إسمنتياً.. لا يشعر.. ولا يفهم.. ولا حتى يعير لحديثي أي اهتمام.. حاول يحيى التدخل وإقناعه بأنني طفلة مختلفة عن باقي الأطفال الذين يعملون معه، وأن وجودي معه لن يجلب له الفائدة المرجوة..
لكنه لم يحرك ساكناً.. إلا عندما حرك يده وصفع يحيى على وجهه للمرة الثانية بكل برود.. ثم قال شيئاً مجنوناً صدمني بقوة:
- لن تكوني خادمة حقيقية. سوف تكوني خادمة صورية!
الشقة التي سوف أتفق مع قاطنيها على عملك لديهم.. سوف تكون مهمتك الحقيقية فيها.. أن تحفظي مداخلها ومخارجها وممراتها الداخلية.. عدد الغرف.. مكان المطبخ.. عدد أفراد العائلة.. وموعد نومهم وموعد استيقاظهم وحتى موعد إفطارهم قبل خروجهم للدوام.. خصوصاً الرجل.. صاحب الشقة!
ماذا تتوقعون من ردة فعل فتاة صغيرة من هكذا طلبات؟
بالطبع حلت علي لحظة صمت، ونظرات تحديق في وجهه المستفز.. إلى أن انفجرت ردة فعل يحيى أمامي!
لقد سقط على الأرض وهو يتوسل والده:
- لا يا أبي.. أرجوك.. لا تفعلها.. لا تدخل هذه الطفلة في هكذا خطر كبير لا تستطيع تحمله!
نظرت إلى يحيى ثم نظرت إلى والده الذي طالبه بالصمت ..
وكررت نظراتي تجاههما ونبضات قلبي الحائف ترتفع شيئاً فشيئاً.. سألت يحيى ما الذي يقصده والدك.. لكنه لم يجب عن تساؤلي.. واستمر بتوسل والده الذي ركله بقدمه بكل قوة وطالبه بالصمت مرة أخرى ..
كنت أظن أن هروبي المفاجئ من تحت بطش أبي الفاروق ..
هو طوق النجاة الذي أنتظره.. لكن يبدو أنني خرجت من حفرة.. وسقطت في حفرة أكبر ..
يبدو أنني أمام شيطان.. قرر أن يكتب أحداثي القادمة!
في كل يوم يمضي.. أفكر في أهلي.. ويصبح أملي قليلاً..
يختلف فيه أملي تماماً عن اليوم الذي قبله.. ويسكن الإحباط بداخلي.. وأطلب من الله لو أنني أحلم وأنتظر والدتي أن توقظني من هذا الحلم اللعين.. لكنه للأسف كالعادة ..
يكون كل ما يحدث حقيقة ..
مر الوقت سريعاً بشكل لم أفهمه..
حتى أتى الصباح.. أذكر أنني نمت على الأرض حتى العصر، وكذلك يحيى الذي رفض أن يحدثني بسبب صدمته.. حيث اختار زاوية من الزوايا.. ونام مرهقاً..
أيقظنا والد يحيى وطلب منا أن نغسل وجهينا ونتناول ما تبقى من طعام البارحة.. وحصل ما طلبه فعلاً حتى اجتمع بنا..
وأخبرني بأنني سأعمل خادمة يومياً من العصر وحتى العشاء عند عائلة أفغانية وضعها المادي جيد..
وسوف يوصلني هو ويحيى كل يوم ويأخذاني عند انتهائي من العمل بعد صلاة العشاء..
وكرر علي قائمة المعلومات التي يجب علي جمعها!
ولم يسمح لي بمعرفة السبب.. قائلاً سوف تعرفين قريباً..
وهددني بأن أي محاولة غبية.. سوف تجعله يقتلني مباشرة!
قالها لها وعيناه تتطاير شراً ..
دمعت عيناي وزادني خوفاً.. وسط تذمر يحيي الذي كان عاجزاً بشكل لا يوصف.. أحضر لي ذلك المجنون ملابس نظيفة يبدو أنها مستعملة.. كانت أكبر من حجمي قليلاً..
فكما يقول هذه العائلة لن تقبلني بملابس متسخة كالتي علي ..
أخذت حماماً سريعاً ولبست ووضع لي الحجاب بنفسه ..
وأصبحت جاهزة.. قال لي بعدما نظر إلي بفرحة:
- أنت من اليوم.. الخادمة إيمان!
لم يفارقني الخوف.. فلقد كنت مقبلة على تجربة مجهولة..
فمن يصدق أن طفلة سعودية.. تعمل خادمة في منازل عائلات أفغانية! وفي أفغانستان نفسها!!
ذهبنا.. ووصلنا إلى المنزل.. رفض أن يدخل معي..
حتى أنه منع يحيى بعدما اقترح أن يرافقني..
طلب مني أن أصعد للطابق الثاني من البناية وأضرب الجرس الخاص بشقة رقم خمسة..
وعندما أخبرته بأنني لا أتحدث لغتهم.. أخبرني بأنهم يعلمون ذلك.. فالإشارة تكفي للخدم كي يقوموا بعملهم..
توجهت وحدي كما أخبرني وقدمي ترتجفان ..
حتى وصلت إلى الشقة المقصودة..
طرقت الباب.. ففتحت لي سيدة.. في الأربعينيات تقريباً..
ابتسمت لي.. علمت هي بأنني خادمتها.. وعلمت أنا بأنها ربة المنزل ..
أشارت إلي بالجلوس على كرسي خشبي في الصالة..
ثم ذهبت إلى الداخل..
بدأ الفضول لدي يحرك عيني للنظر إلى أرجاء الصالة الصغيرة.. كفضول أي فتاة صغيرة..
كان الوضع مرتباً جداً.. ورائحة العطر جميلة ..
وكذلك الطعام.. الذي تنبعث رائحته من المطبخ الذي يقع بابه أمامي مباشرة..
عادت السيدة وقدمت لي الغداء.. كوب لبن.. وصحن متوسط الحجم يحمل في وسطه الأرز الأصفر وقطع دجاج مبهرة وبعض الخضار المقلي.. رائحته فقط تأسرك.. فكيف طعمه إذاً؟
فرحت كثيراً ولم أصدق عيني..
ثم وضعت الى جانبي بعضاً من المناشف والمنظفات الكيماوية ..
طلبت مني بعد انتهائي من الطعام.. بأن أقوم بغسل الصحن والكوب.. ثم أشارت نحو أحد الحمامات..
فهمت أنها تريد مني أن أنظفه.. ابتسمت لها وأنا مشغولة البال مع صحن الطعام، وأشرت برأسي بالموافقة..
ثم هجمت على الصحن بشراهة.. قضيت عليه تماماً..
كان لذيذاً بشكل لا يوصف..
أفضل وألذ طبق تناولته منذ اختطافي ..
وبالفعل، قمت بعد ذلك بتنظيف طبقي والاتجاه نحو الحمام والاجتهاد في تنظيفه بطريقة غير صحيحة.. فهذه كانت المرة الأولى التي أقوم بها بهكذا أعمال ..
لاحظت ذلك السيدة.. ولم تغضب مني.. بل إنها تعاطفت معي لصغر سني.. وقامت بتعليمي كيفية استخدم الأدوات..
تعلمت بسهولة وبسرعة وقمت بالمهمة..
ثم أمرتني بترتيب بعض الأغراض والملابس ..
وتنظيف الأرضيات.. وبعض الأمور الأخرى ..
حتى شعرت بأن ظهري يكاد ينكسر..
قمت بكل ذلك.. وأنا مشغولة البال بطلبات والد يحيى الغريبة!
كانت الشقة سهلة وليست معقدة..
ثلاث غرف وحمامين ومطبخ وصالة صغيرة..
مر الوقت حتى اقتربت صلاة العشاء.. واقترب معها وقت مغادرتي..
فجأة.. أحدهم فتح الباب.. دخل علينا ضابط شرطة!
يرتدي زياً عسكرياً جميلاً..
وقبّل السيدة على خدها وكانت فرحة بذلك..
ثم قدمتني إليه.. ووضع يده على يدي اليمنى بكل حنان وأعطاني علبة علك بالفراولة.. أخرجها من جيبه..
وهو يبتسم..
علمت أنه زوجها.. ثم ودعتهما وغادرت بكل هدوء ..
ولم أكن أتخيل أبداً أن تكون تفاصيل ذلك اليوم بتلك الطريقة المريحة والجميلة جداً.. تمنيت لو أنني أستطيع النوم عندهم..
ولكن كان يحيي ووالده ينتظراني عند نهاية الطريق..
ويجب علي أن أعود معهما ..
ركبت السيارة وسألني والد يحيى مباشرة عن التفاصيل ..
كان أشبه بالتحقيق.. وكنت أجيبه بكل شيء مجبرة..
حتى سألني عن أبنائهم.. وأخبرته بأنني لم أجد أحداً..
فكانت ردة فعله طبيعية، حيث قال:
- يبدو أن تحرياتنا صحيحة.. لقد أبعدهم إلى خارج البلاد.. كي يضمن سلامتهم!
ثم أدار محرك السيارة وغادرنا..
نظرت إلى يحيى والحيرة تكسو وجهي.. كان يتجنب النظر إلي.. وحتى الحديث معي.. كان خائفاً من شيء ما مثلما بدا لي ..
وصلنا إلى المنزل.. وخلدت الى النوم مباشرة وأنا مرهقة جداً.. على أرض صلبة.. فليست لدي وسادة ولا حتى لحاف..
كنت أتحسس بيدي على ظهري المتألم.. ولكنني كنت مرتاحة نفسياً بعض الشيء.. وأترقب الغد بلهفة.. كي أعود الى تلك العائلة الطيبة جداً.. بدلاً من الجلوس هنا وحدي ..
في هذا المكان المتسخ.. وغير المريح ..
تكرر الحال.. وكانت تلك الفترة هي الأفضل بالنسبة لي منذ وقت بعيد.. حتى شعرت بأنني نظيفة الجسد والرائحة على غير العادة ..
حيث كانت تلك السيدة.. تسمح لي بالاستحمام إذا لاحظت أن ملابسي أو شعري متسخين..
طيبة جداً.. وكذلك زوجها الضابط.. الذي دائماً ما يبتسم في وجهي كلما رآني..
بدأت أشعر بتأنيب الضمير بعد خمسة أيام تقريباً من عملي لديهم.. وأنا أنقل المعلومات الى والد يحيى..
وتساءلت بيني وبين نفسي.. لماذا أنقل كل تلك المعلومات له.. لم أتعود على تلك الأفعال.. أمي علمتني العكس.. لكنني أطبق أفعالاً لم أتعلمها يوماً ..
حتى وصلت بي تلك التساؤلات الصامتة..
إلى تساؤلات مهمة.. أهمها:
لماذا لا أستغل تواجدي لديهم.. وأخبرهم بقصتي؟!
زوجها الضابط.. سوف يساعدني حتماً..
خصوصاً إذا استمع الى قصتي العجيبة.. وكيف وصلت إلى هنا ..
لولا الحرق الذي بلساني.. لما كنت أواجه أي صعوبة في الحديث.. ولكن ذلك التشوه يجعلني أفكر بصعوبة عن إيجاد الطريقة المناسبة لإنقاذ نفسي..
بالإضافة إلى أنني لا أتحدث سوى اللغة العربية ...
صعبة من كل الطرق.. ولا يؤدي أي منها إلى روما..
ولكنني قررت المحاولة ..
في ذلك اليوم ..
وعند عودة زوج السيدة كالعادة للعشاء.. وقبل خروجي ..
اقتربت منهما وبدأت في الحديث وبالإشارة بيدي شارحة لهما ..
أخبرتهما بأنني لست من هنا وبأنني مختطفة.. وذرفت الدموع ليس تمثيلاً.. وإما بصدق.. وسط استغرابهما..
كانا يردان علي بلغتهما الأفغانية.. ولا أفهم شيئاً ..
حتى كررت عليهما كلمة واحدة: سعودية.. سعودية..
لم يفهما ذلك إلا بصعوبة.. حين قال لي الزوج الضابط باستغراب: سعودية!!
ثم نظر إلى زوجته والحيرة عليهما..
تناقشا وهما ينظران إلي.. شعرت بأمل أخيراً يجتاح عروقي ..
دقائق صمت سادت.. شعرت اهتمامهما بأمري ..
طلب الرجل معرفة رقم هاتف أهلي كما فهمت منه..
وذلك عندما كرر لي كلمه واحدة وهو يشير إلي:
- تلفون.. تلفون..
ولكنني أجبته من خلال الإشارة بأنني لا أعلم شيئاً..
للأسف.. لم أكن أحفظ رقم منزلنا.. ولا حتى رقم هاتف المحمول الخاص بوالدي!
وهذا ما زاد الأمر صعوبة علي..
لم يكن يملك هاتفاً محمولاً في عائلتنا سوى والدي..
ولا أذكر في يوم أني قد اتصلت عليه..
لذلك لم يدر في خلدي أهمية حفظه ..
حتى هاتف منزلنا.. لم تكن تستخدمه سوى والدتي..
عندما تتصل على جاراتها أو على خالاتي..
أكبر ما كان يشغلنا أنا وأختي.. هو أننا كيف نقضي اليوم في اللعب..
على جهاز الكمبيوتر.. أو بالعرائس التي تنام معنا..
للأسف.. لو أنني كنت أحفظ رقم هاتف منزلنا..
لاختصرت الكثير والكثير من الوقت ومن المعاناة..
واصل الرجل حديثه مع زوجته..
حتى جلسا أمام الهاتف.. واتصلا على رقمٍ لا أعلم من صاحبه..
وبدأت السيدة بالحديث لمدة دقيقتين تقريباً..
ثم ابتسما لي بعد إنهاء المكالمة..
وتحدث معي الزوج بكلمات لم أفهمها.. لكنني شعرت بأنها كلمات تحمل من التهدئة والحنان ما يجعلني أصدق بأنهما نقيان من الداخل..
ثم قامت الزوجة بإعطائي صندوقاً بلاستيكياً صغيراً يحتوي على بعض الطعام.. وقبلتني.. وطلبا مني المغادرة كي أعود في اليوم التالي!!
في الحقيقة أحبطت بعض الشيء.. لكنني قلت في نفسي..
مجرد أنني أخبرتهما.. وجعلتهما يجريان اتصالاً من أجلي.. هي خطوة للأمام ليست بالسهلة.. وسوف أواصل ما بدأت به غداً..
غادرت كي لا أتأخر على يحيى ووالده..
اللذين ينتظراني كالعادة..
وصلت إلى السيارة وركبت في المقعد الخلفي كالعادة..
وفي جزء من الثانية..
وجدت نفسي ملتصقة بالزجاج الأمامي للسيارة!
سُحبت من شعري بكل قوة!!
حتى شعرت بتحرك جذور شعري من مكانها!
ضُربت ضرباً مبرحاً.. لم أتعرض له من قبل في حياتي!
كل هذا العنف.. تسبب به والد يحيى!
وسط بكاء يحيى الذي أزاح بوجهه بعيداً كي لا يشاهد المنظر..
ثبت والده وجهه بوجهي بعدما رمى صندوق الطعام..
وبدأ بالصراخ بكل قوة:
- ألم أحذرك من المحاولة؟ ألم أحذرك؟ هل تريدين الموت؟.. أقسم أنني لن أتردد في قتلك..
كنت أبكي من غير صوت.. لم أشعر بأي هواء كي أحاول استنشاقه..
للأسف..
المكالمة التي أجرتها السيدة.. كانت مع والد يحيى!
كانت بحسن نية ظناً منهما بأنهما سيساعداني..
لم أصدق ذلك.. بل إنه لم يخطر على بالي أبداً..
بأن والد يحيى هو من كان يحدثهما في تلك المكالمة..
علمت بذلك صباحاً.. بعدما عدنا إلى المنزل..
أخبرني يحيى وهو غاضب من فعلتي..
تحدث معي والآلام تدب في جسدي كدبيب النمل..
قال لي إن الزوجين اتصلا بوالده الذي يجيد اللغة الأفغانية بعض الشيء.. والعديد من اللغات بسبب اندماجه في مجتمعهم.. وأخبراه بحسن نية بأنك تريدين شيئاً لم يفهماه..
وبأنك ترددين كلمة السعودية كثيراً.. علم والدي بأنك تحاولين إخبارهم بحالتك.. فأصابه الجنون فوراً وقام ما قام به معك.. توسل إليّ يحيى بأن أصبر حتى يحين الوقت المناسب للنجاة من الواقع المؤلم الذي وقعت به..
وطلب مني بألا أكرر ذلك التهور، فوالده أبسط ما لديه القتل..
خفت كثيراً من حديث يحيى.. هل فعلاً بأنه قد يقتلني؟
بدأت فعلياً في التفكير من هكذا ردة فعل قد تصيبني..
فقلبي ما زال قلب طفلة.. فتاة صغيرة لا تتحمل الرعب..
لم أكن أستطيع الذهاب إلى العمل في هذا اليوم..
بسبب الآلام التي خلفتها تلك الضربات..
ولكن ذلك الجشع العنيف كان مصراً.. فذهبت مرغمة.. ولكن لم تلك المرة كمثل كل مرة!!
عندما أوصلني والد يحيى مع ابنه.. جذبني من يدي بكل قوة.. ووضعني في المقعد الأمامي إلى جانب يحيى.. تألمت كثيراً..
ثم أعطاني كيساً صغيراً جداً.. أصغر من عقلة الإصبع.. بداخله بودرة!!
وقال لي مباشرة وهو ينظر إليّ بنظرات حادة مرعبة:
- خبئي هذا الكيس جيداً.. كما تقول المعلومات التي قمت بجمعها طوال الأيام الماضية.. بأن السيدة تنتهي من إعداد طعام العشاء بعد صلاة المغرب تقريباً.. وبعد ذلك بساعة يعود زوجها الضابط إلى المنزل ليتناولا الطعام.. لذلك.. عليك التسلل إلى المطبخ خلسة.. قبل وصوله ونثر هذه البودرة عليه..
خفت كثيراً من طلبه.. ونظرت إلى يحيى وأوشكت على البكاء.. أمسكني من شعري وهددني بالضرب مجدداً..
ثم قال:
- أي محاولة رفض أو مراوغة منك سوف أعلم بها.. لأنني سوف أراقبك جيداً.. نفذي ما طلبته منك كي تحافظي على حياتك.
ارتعد جسدي من تهديداته المتواصلة.. ونزلت من السيارة وأنا أتبادل النظرات العاجزة مع يحيى.. كيف لي أن أتصرف.. كيف لي أن أفكر أصلاً..
لذلك.. وسط عجزي.. وضعفي.. وصغر عمري..
أقولها وبحرقة.. وجدت نفسي أنفذ ما طلبه مني حرفياً!
دخلت الشقة..
لاحظت السيدة اختلاف حركتي.. وعلمت أنني أتألم..
ولم تسألني لماذا.. ريما احتراماً لخصوصيتي وعدم إحراجي بذلك.. لهذا كانت رحيمة بي.. جعلتني فقط أقوم بترتيب الملابس النظيفة.. ثم أدخلتني المطبخ بعد المغرب ووضعت لي قليلاً من الطعام الذي أعدته وذهبت لأداء الصلاة..
للأسف.. لم أصن ثقتها بي.. لقد وضعت البودرة وأنا أقاوم دموعي.. لم أكن أعلم ماذا تحمل.. لكنني كنت متأكدة من أنها شيء غير جيد..
عدت إلى مكاني.. ومر الوقت ببطء حتى أتى وقت مغادرتي..
عاد زوجها الضابط إلى المنزل..
قبلني هذه المرة على خدي.. وودعني وهو في غاية السعادة..
عدت إلى السيارة وأنا جداً حزينة وغاضبة من نفسي..
سألني والد يحيى إن قمت بالمهمة.. فأجبت بنعم..
ثم أعادنا إلى المنزل وأغلق الباب علينا جيداً أنا ويحيى..
وغادر..
حدثت يحيى.. وأنا أشير بيدي متسائلة:
- ما الذي سوف يفعله والدك..
أجابني وهو مشتت الفكر وقال:
- لا أعلم.. لكنه حتماً سيفعل شيئاً سيئاً.. ربما سوف يسرقون منزلهم.. أتمنى أنها سرقة فقط ..
تعجبت من أمنيته بأن يكون ما يخطط له والده سرقة فقط!
وكأنه يتوقع أنه قد يقوم بعمل شيء أبعد من ذلك!!
بقيت على أعصابي طوال الليلة.. وأدعوا ربي بأن يحمي الزوجين الطيبين..
حاولت النوم على الرغم من القلق الذي انتابني..
لم أنم نومة طبيعية منذ اختطافي..
لقد اشتقت حقاً لفراشي.. لوسادتي التي طُبع عليها شخصية الطفلة هايدي الكرتونية.. يبدو أنني أحمل واقعها.. لكن بطريقة مختلفة.. كنت قد اشتقت لألعابي.. للدمية التي أهدتها لي جدتي..
اشتقت إلى تفاصيل مشاجراتنا أنا وأختي..
وإلى غضب والدي.. وضربه لنا ضرباً خفيفاً كنوع من التأديب.. وكذلك لتدخل والدتي رغم ذلك للدفاع عنا.
أتذكر هذه المواقف الجميلة.. لكنني بدأت أشعر بضبابية ذاكرتي تجاهها.. يبدو أن غيابي وانقطاعي.. ومرور الأيام من دون أن أشعر.. أشياء تجعلني لا أتذكرها إلا مرات قليلة متفرقة ..
وهذا قد يجعلها بالنسبة لي.. ذكريات أشبه بالحلم..
مؤلم حقاً..
شعرت بالنعاس.. فتمددت ثم غلبني النوم..
حتى استيقظت صباحاً..
وجدت يحيى يتناول الإفطار.. طلب مني مشاركته..
ولم أتردد لشعوري بالجوع..
كان صامتاً.. ووجهه حزيناً.. حاولت أن أتحدث معه..
ولم يعرني أي اهتمام.. حالته النفسية كانت سيئة جداً..
ولست بأحسن حالاً منه طبعاً..
انتهينا من تناول الإفطار.. وقال لي بعدها وبكل هدوء ومن دون مقدمات:
- لقد وصلني خبر سرقة منزل الزوجين..
حزنت حقاً.. لكن أذكر جيداً أنني لم أصدم كثيراً من الخبر.. فلقد كنا نتوقع حدوث ذلك كما أخبرني قبل ذهابي إلى النوم..
قلت له باندفاع.. فوحده من يفهم حديثي:
- لا أعلم كيف سأقابلهما اليوم.. كم أنا حزينة ومحرجة من مواجهتهما.. أخشى أن يشكا في أمري..
- لن تقابليهما بعد الآن..
-.. ولماذا؟
- لقد تمت سرقتهما.. ومن ثم إحراق الشقة وهما بداخلها نائمين.. لقد تفحما ..
أعتقد أنه لا حاجة من شرح ردة فعل طفلة على خبر كهذا!
بكيت حتى خرج الدم من فمي.. لم أشعر بشيء بعدها..
ركضت إلى داخل الغرفة.. ووضعت رأسي على الأرض وواصلت البكاء بحرقة.. كرهت نفسي بشكل لا يتصور..
حتى سمعت صوت الباب.. ثم صوت ذلك الحقير..
لقد عاد وكأنه منتصر!!
خرجت من الغرفة ووجدته جالساً بجانب ابنه..
اندفعت نحوه وأنا أبكي.. أريد أن أضربه ولو ضربة واحدة..
أو فعل أي شيء كي أطفئ نار القهر التي بداخلي..
لكنني أضعف من ذلك.. جسدي النحيل لا يقوى مقاومة شيء.. صفعني على وجهي وصرخ عليّ.. طالباً مني الهدوء..
لم أصدق الخبر..
هل يعقل أن الزوجين الطيبين قد فارقا الحياة؟
وبتلك الصورة البشعة؟!
وهل يعقل أنني أنا من ساهمت بذلك؟!
كنت أبكي.. وهل يفيد البكاء؟
ما أجمل نعمة البكاء..
لا أعلم ماذا كنا سوف نفعل لولاها؟
مهما كانت حجم المصيبة.. البكاء وحده..
كفيل بأن يفتت كتل الهموم التي تقبع داخل قلوبنا..
لكنه للأسف.. يفتتها فقط.. ولا يزيلها!
كنت أضرب نفسي وألعنها.. وألعن والد يحيى..
ويحاول يحيى تهدئتي.. ولكن بلا فائدة..
هذه الحادثة.. كانت نقطة تحول جذرية ثانية في دمار نفسيتي.. بعد حادثة حرق لساني.. في البداية..
مرت الأيام.. وأنا لم أفارق مكاني في المنزل سوى لقضاء حاجتي.. حتى الطعام لا آكله إلا عندما أصل إلى مرحلة صعبة من الجوع.. حتى يحيى.. على غير العادة لم أكن أطيق أن أتحدث معه.. وكان حزيناً بذلك..
حاول معي كثيراً.. حتى تجاوبت معه قليلاً بعد أسبوع تقريباً من الصمت المطبق.. فرح بتجاوبي معه.. وشعرت كما لو أنه مستعد بأن يجيبني على أي سؤال سأطرحه عليه..
فقط لكي أتحدث معه..
سألته أن يخبرني لماذا حدثت كل تلك البشاعة للزوجين؟
أخبرني وهو منكسر وخافض الرأس:
- أخبرتك بأن والدي يعمل في أي شيء يوفر له المال.. مهما كان ذلك العمل بشعاً.. وهذه المرة كان الضحية ذلك الضابط.. وزوجته دفعت ثمن وجودها معه.. رفضت أن تتركه وسط التهديدات التي تعرض لها.. لذلك قررا أن يبعدا أطفالهما خارج البلاد..
سألته وأنا متعطشة لمعرفة الإجابة:
- ولماذا يريدون قتله؟
- إنه أحد ضباط الجيش الأفغاني الذين ساهموا بقتل الكثير من رجال جماعة طالبان!
نظرت إليه بصمت.. وحركت يدي بطريقة مفادها..
ما الذي تقوله فأنا لم أفهم شيئاً.. فواصل حديثه بشكل مبسط:
- طالبان مجموعة مقاتلين متشددين دينياً.. يقاتلون الأمريكان وكل من يعاونهم.. وعلى رأسهم رجال الأمن والجيش وغيرهم من الحكومة الأفغانية.. لذلك تعرفوا على هوية الضابط وعلى بيته وقرروا الانتقام لزملائهم الذين قتلوا بسببه.. وكلفوا معارفهم بالبحث عمن يساعدهم ووقع الخيار على والدي.. الذي استخدمك على ما يبدو لتنفيذ حيلته الخبيثة.. مستغلاً حاجة زوجة الضابط إلى خادمة ..
اللعين!! لقد جعلني طعماً لهما!
لم يخطر على بالي أنني سأنجز مهمة قذرة وبشعة كهذه!
لن أغفر لنفسي.. ولن أغفر لوالد يحيى النذل الحقير..
سوف أنتقم مع أول فرصة قد تسنح لي..
لم أصدق أنني أحدث نفسي بهذه الطريقة المرعبة!
لقد حولني من طفلة بريئة.. إلى طفلة تسعى للانتقام!!
لم يمهلني ذلك الوغد أن أجمع فوضى آلامي..
ولا أن يجفف الوقت دموعي..
حتى أخبرني بأن هناك عائلة جديدة تريد خادمة!
لا يعقل ما يقوله هذا المجنون بكل جرأة..
يريد تكرار فعلته.. ومن خلالي أيضاً!
كل ما أستطيع فعله للرفض.. هو أن أبكي..
لقد جفت ينابيع دموعي.. ولم أعد أشعر بتلك الراحة التي تخلفها الدموع بعد الانتهاء منها..
تأثرت نفسيتي كثيراً..
لم أعد أشعر بلذة ذلك الطهر بداخلي.. بروح الطفولة البريئة..
قبل حادثة الاختطاف.. كنت أعشق الحركة واللعب..
هوسي باللهو.. هو من تسبب في ذهابي إلى مؤخرة مصلى النساء.. ومن ثم اختطافي بتلك الطريقة المرعبة..
أصبحت هادئة من الخارج.. مضطربة بحدة من الداخل..
كنت أنسى عمري الحقيقي.. وأشعر كما لو أنني امرأة كبيرة..
وكيف لا أشعر بذلك وأنا أبكي بشكل شبه يومي ليلاً ونهاراً..
ولا أجد أي ردة فعل تعاطف من الذين تسببوا في نزول دموعي!
جلست على الأرض وضممت يديّ على ركبتي..
وحركت رأسي بالرفض.. كان يمسك زجاجة مشروب غازي في يده.. ألقاها تجاهي بقوة.. فاصطدمت بالجدار..
إلى جانب رأسي مباشرة ..
تهشمت تماماً وكان صوتها كالانفجار الذي شل سمعي!
صمتُّ مرتعبة.. ومصدومة.. غير مصدقة للموقف..
وكذلك يحيى الذي تصلب تماماً في مكانه ..
قال وهو ينظر إليّ مهدداً:
- لا أتحمل لعب الصغار.. المرة المقبلة سوف تكون في منتصف وجهك الصغير.. عندها سوف يتهشم مثل الزجاجة تماماً..
واصلت صمتي.. فالصمت في هكذا موقف.. أبلغ تعليق..
هذا التخويف الرهيب الذي يمارسه..
للأسف يؤتي أُكله معي.. أجد نفسي منصاعة لأوامره..
خوفاً من العقاب الشديد الذي لا تتحمله فتاة صغيرة ..
مر اليوم سريعاً..
حتى أتى وقت العصر.. وقت ذهابي للعمل لدى العائلة الجديدة.. الإحباط الذي اعتراني ذلك اليوم..
كان يجعلني أرضخ للأمر الواقع.. وردة الفعل العنيفة من قبل هذا المجرم تجاهي.. تزيد من طاعتي له..
خصوصاً أنني كنت أقنع نفسي بإمكانية عثوري على فرصة جديدة للنجاة.. ربما من خلال هذه العائلة الجديدة..
أتى ذلك الوغد.. كي يلقي تعليماته.. ويعيد طلباته..
علمت منه أن رب هذه الأسرة أيضاً.. ضابط بالجيش الأفغاني.. استطاع أن يقنع عائلته بعلاقاته بالعرض المغري لعمل خامة لديهم بسعر زهيد.. تماماً نفس الحيلة التي دخل بها من خلالي.. إلى منزل أسرة الزوجين القتيلين..
ركبنا السيارة أنا ويحيى ووالده.. وقبل أن نغادر..
حدث أمر ما!!
أقبل علينا رجل وهو يركض ويصرخ!
لقد كان شخصاً يبدو أنه من سكان البلد..
كان مرتبكاً.. وكما لو أنه يحمل خبراً غير سار لوالد يحيى..
تحدث الرجل معه بلغته الأفغانية التي يجيدها ذلك الحقير..
ولاحظنا أنا ويحيى الخوف الذي ساد على وجه والده!
كان يسأله ويجيبه.. يحدثه بعنف ويرد عليه بخوف..
لم أفهم شيئاً أبداً.. حتى غادر الرجل..
تحدث الحقير غاضباً وهو يضرب مقود السيارة بكلتا يديه:
- نحن الآن في خطر!
سأله يحيى بتعجب:
- ما الذي يريده ذلك الرجل.. ماذا يحدث؟
- هذا الرجل له علاقات قوية ببعض رجال الأمن..
استطاع بمعرفته أن يتعرف على ردة فعلهم تجاه حادثة مقتل ضابط الجيش وزوجته..
- وما الذي أخبرك به؟
- لا أعلم كيف فاتني أن أستكشف محيط البناية.. لقد كانت هناك كاميرات مراقبة ثبتها ذلك الضابط على البناية بعد تلقيه العديد من التهديدات.. وللأسف صورت تلك الكاميرا لحظات توصيلنا لإيمان إليهم.. وكذلك لحظات انتظارنا لها ليلاً.. حصلوا عليها وشاهدوا كل شيء.. وهم الآن يريدون معرفة سر تلك الفتاة العاملة! التي كانت تتردد عليهما.. يقصدون إيمان طبعاً.. أخبرني بأنهم يبحثون عنها.. وعثورهم عليها.. يعني عثورهم علينا.. وبالتأكيد ذلك يعني نهايتنا!!
صدمة حقيقية.. ما الذي يقوله هذا المجرم؟
لماذا نهايات هكذا أشخاص ترتبط بي؟!
ونجاتهم تكون في زيادة عذابي؟!
ما هذا الحظ اللعين الذي يلازمني؟!
هل سوف أتورط في الحادثة؟
لقد صورت الكاميرا ملامحي بالتأكيد!
دخلت مجبرة إلى هذه البلاد.. لا أحمل اسمي الحقيقي، ولا حتى جنسيتي.. وبعد كل هذا.. يبدو أنني على وشك أن أحمل تهمة ليست تهمتي!!
سأله يحيى.. الذي كان مصدوماً أكثر مني لما قاله والده:
- ما الذي سوف نفعله الآن؟
- سوف نوقف كل العمليات.. لن تذهب إيمان إلى تلك الأسرة الجديدة المستهدفة.. يجب أن نختفي جميعاً عن الأنظار..
فرحت كثيراً بذلك القرار.. على الرغم من المصيبة التي سمعتها للتو.. إلا أنني ارتحت قليلاً من عدم ذهابي إلى العمل لأداء مهمة قذرة جديدة..
ضد أسرة تدافع عن وطنها في ظروف معقدة..
ولكن تلك الراحة النفسية لم تدم طويلاً؟!!
وكأنه يأبى أن أرتاح ولو قليلاً.. يأبى تماماً..
حيث تحدث بعد أن فكر وهو قلق جداً:
- سوف نعود إلى بلدنا.. اليمن.. بقاؤنا هنا خطر على حريتنا..
تحدث يحيى ببراءة.. وكان تساؤله منطقياً:
- وإيمان؟ كيف نتركها وحدها هنا؟
- إيمان أول من سوف تغادر هذه البلاد.. فبقاؤها يعني ضياعنا.. سوف نأخذها معنا.. لن أجعل طفلة مثلها تتسبب في نهايتي على أيادي رجال الأمن هنا ..
نظر إليّ يحيى مصدوماً وبادلته نظرات الصدمة..
مع هذا الرجل.. لا هدوء.. لا توقف للصدمات..
قراراته دائماً.. صادمة.. ومفجعة.. ومن دون أي تمهيد..
ماذا يقول هذا المجنون؟ اليمن!!
وماذا أفعل في اليمن.. أريد أن أعود إلى بلدي..
لا أعتقد أن فتاة في عمري قد سافرت كل تلك البقع وهي مجبرة.. وبطرق غريبة لا تصدق كتلك التي مررت بها..
هذه المرة لم أبكِ.. لأنني لا أريد البقاء في هذه البلاد فعلاً..
فما شاهدته يفوق طاقتي.. وبقائي هنا قد يعرضني للوقوع تحت طائلة العقاب.. وأنا مظلومة..
سأل يحيى والده سؤالاً جداً مهم:
- تعلم يا والدي أن التنقل بين أفغانستان وباكستان ممكن.. ولكن كيف سوف تنقل إيمان إلى اليمن؟ خصوصاً أن عمرها الصغير لا يسمح لها أن تسافر من دون أهلها..
تساؤل يحيى كان مهماً فعلاً.. علمت ذلك من ردة فعل والده تجاهه.. لم يطالبه بالصمت هذه المرة ولم يعنفه..
صمت قليلاً.. ثم نظر إليّ نظرة لا تحمل خيراً!
ثم بدأ يشرح الطريق لليمن بصوت عالٍ كنوع من التفكير..
وفهمنا من حديثه أن المسافة بين أفغانستان واليمن بعيدة جداً.. والمرور براً غير ممكن.. وعن طريق البحر خطر جداً.. وإن حاولنا فهي مغامرة مجنونة وتحتاج إلى وقت طويل جداً.. والأهم من ذلك عواقبها ستكون وخيمة بالتأكيد..
حتى وصل إلى أن قال:
- أحياناً.. إذا أردت أن تفعل شيئاً مخالفاً.. وتخشى من عدم نجاحه.. افعله نظامياً.. تلك أفضل طريقة لإبعاد الشبهات.. سوف نغادر أفغانستان بطريقة رسمية!
لم نفهم شيئاً أنا ويحيى.. ثم واصل حديثه وقال:
- الفتاة تملك جوازاً موثقاً لدى الحكومة الأفغانية باسم شخصية حقيقية لم يتم تسجيل حالة وفاتها.. شخصية إيمان.. سوف تغادر معنا بجوازها الأفغاني بكل سهولة!
واصل يحيى حواره مع والده وسط صمتي المبرر..
فأنا لا أفهم مثل هذه الأمور المعقدة.. كل ما أعرفه أنني أريد أن أتخلص من هذا الكابوس.. قال يحيى:
- أنا سوف يسمحون لي بالسفر معك بصفتي ابنك.. لكنهم سوف يسألونك عن إيمان.. ما صفتها معنا؟
أجابه بكل جرأة وبرود:
- زوجتي!!
صدمة جديدة ألقاها في وجهي ذلك الشيطان اللعين..
ما هذه المخلوقات التي أقابلها في طريقي..
أحياناً تكون ردة الفعل تجاه بعض المواقف المفجعة هادئة.. وغريبة.. بشكل غير متوقع..
ريما من هول وقعها.. قد تكون تعدت مرحلة الصدمة..
هي أكبر من ذلك.. لذلك لم أتفوه بأي شيء..
كانت ملامحي المتحنطة من الصدمة.. تتحدث بتعابيرها..
نظر إليّ يحيى بشفقة وخوف.. ثم سأل والده وهو يتلعثم مصدوماً.. وبكل براءة:
- لكنها متزوجة!
- عقد زواجها لم يوثق.. وتأكدت من ذلك بنفسي..
- ماذا يعني ذلك؟
- يعني أنه زواج صوري.. سأرتب كل شيء يخص زواجنا نحن.. وسوف أوثقه رسمياً.. وعندها سنستطيع المغادرة بشكل نظامي في أسرع وقت..
قبل أن يتوصلوا إلى هويتنا.. ولا أعتقد أنهم سوف يصلون إليها بسرعة..
بعد انتهائه من خطته القذرة.. التي من المستحيل أن تخطر على بال شخص طبيعي.. كانت تدور في مخيلتي بعض المعلومات المدرسية التي اكتسبتها.. تذكرت أن اليمن يلاصق حدود بلدي السعودية..
شعرت ببساطة.. من أن وصولي إلى هناك.. سوف يكون أكثر أماناً لي من تواجدي هنا.. في هذا المكان البعيد جداً عن كل شيء..
لذلك، قلت وبصوت منخفض ومن دون تردد:
- موافقة..
صُدم يحيى من ردة فعلي.. لكنه لم يعلق أبداً..
لأنه يعلم أصلاً أن والده إذا قرر.. فإن الاعتراض لا فائدة منه سواء منه أو حتى مني أنا صاحبة الشأن..
يبدو أن خوفنا من العقاب.. جعلنا نتقبل فكرة ذلك اللعين..
وبالفعل.. خلال يومين فقط.. أتم كل الأمور..
كتب عقد الزواج بواسطة صديق له متنفذ في هكذا أمور..
ووثقه كما أخبرني يحيى الذي كان حزيناً لما وصلت إليه..
وكان محرجاً مني لأنه كما يقول لي إنه يرى كل شيء ويقف عاجزاً أمام مساعدتي..
وكنت أهون عليه ذلك الإحساس بالذنب.. ببعض الكلمات..
حيث أخبرته مراراً بأننا جميعاً لا نقدر على فعل شيء..
لقد أصبحت رسمياً.. زوجة والد يحيى؟
إنه الزواج الثاني لي.. وأنا لم أكمل حتى الرابعة عشرة بعد!
ومن دون علم أهلي!!
من يصدق ذلك! أنا شخصياً لم أصدق.. ولن أصدق..
مر اليوم سريعاً.. تم ترتيب الحجوزات وموعد الرحلة..
صباح اليوم التالي.. توجهنا إلى باكستان.. عبر الحدود بشكل نظامي.. فهناك بالقرب من الحدود كما أخبرنا يوجد مطار أكثر أماناً في مدينة بيشاور.
وبالفعل.. حصل ما خطط له.. نجحنا ومررنا..
كان كل شيء نظامياً.. على الرغم من شكوكهم في ملامحي العربية.. إلا أن الكحل الذي أحاط بعيني واللباس الأفغاني ساهما في تقبل شكلي لديهم كما حدث سابقاً معي..
استغرقنا ساعات حتى وصلنا إلى المطار..
دخلنا والخوف قد تمكن مني كعادته..
بعضاً من الوقت.. وتجاوزنا نقاط التفتيش في المطار..
وهذا هو المهم..
فجوازي الأفغاني ووثيقة الزواج كانا كفيلين بأن يخرجاني من هذه البلاد.. بلا شكوك..
ركبنا الطائرة..
كان والد يحيى يجلس وسطنا.. ويحيى على يمينه..
وأنا على يساره.. هذا الموقف شبيه تماماً بما حصل لي سابقاً..
وجودي بالطائرة بهذا الشكل.. أعادني إلى ذكريات رحلة قدومي إلى باكستان.. بداية ضياعي.. عندما خرجت من وطني للمرة الأولى مع العجوز سلوى وزوجها بواسطة جواز ابنتهما..
هما سببا كارثتي وكل ما وصلت إليه من آلام..
ولم نطمئن ثلاثتنا.. حتى أقلعت الطائرة..
وأصبحنا في الهواء أحراراً.. لقد نفدنا!
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا