صمت الفراشات للكاتبة ليلى العثمان 3

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-08-17

فاح عطر شقتي. ملأ صدري بنسيمٍ هو خليط من رائحة وحدتي وأماني وحريتي. ارتميت على غطاء سريري الوردي، أغمضت عيني، وبدأت أسترجع ما قاله الطبيب. كفي تتحسس عنقي حيث تختبئ داخله حنجرتي، وحبال صوتي. هل تراني تأخرت؟ الطبيب بعد أن فحصني أكد أن لا وجود لأورام. "هي زوائد أشبه بالجلي الرخو ولابد من إزالتها".

قبل شهرين، حين صرخت بإحدى طالباتي المشاغبات، أختل توازن صوتي، بدا مبحوحاً خشناً أشبه بصوت الرجال. خرجت من الفصل، اتجهت إلى المستشفى الحكومي حيث يعمل هذا الطبيب. غرفة الانتظار مكتظة بالنساء المنقبات والمحجبات، وبالرجال ذوي اللحى والدشاديش القصيرة. كنت الشاذة الوحيدة التي تجلس ببنطلونها القصير وبلوزتها ذات نصف الكم. الممرض ذو اللحية الطويلة يخرج بين لحظة وأخرى لينادي أسم إحداهن أو أحدهم، أشير إليه فلا يهتم، ينظر نظرة حاقدة ويقول: 

- انتظري.. جئت بلا موعد.

فرغت الغرفة، توقعت أن يناديني، لكنه خرج يتقدمه الطبيب بلحية طويلة هو الآخر، وقفت فلم يتوقف، ركضت إليه وصوتي بالكاد يخرج من حنجرتي: 

- دكتور.. أرجوك. 

هشني بكفه: 

- شوفي طبيب آخر.. مواعيدي انتهت.

تركني مطروحة بحيرتي وغاب. 

ذهبت إلى شباك الاستقبال، تفرست في وجوه العاملات باحثة عن وجه حنون أتوسم خيره، وحين وجدته: 

- من فضلك أريد أي طبيب. 

اندهش وجهها:

- من ساعتين كنتي هنا وحولناك إلى الدكتور عبد الرحمن.

- رفض بعد كل هذا الانتظار. 

- أكيد "هو متعصب شويه، لا يرحب بالسافرات.

- لكنه طبيب وواجبه أن... 

قاطعتني 

- يا أختي هذا طبعه. حتى الممرض...

حدقت بي.. وأكملت: 

- أظنك لاحظت، نفس النوعية. 

- والآن.. أرجوك.

- ولا يهمك سأحولك إلى طبيب مصري طيب وخدوم. 

فحص حنجرتي بدقة وأخبرني أنني أعاني من تضخم في الحبال الصوتية ثم طمأنني: 

- لا يحتاج الأمر الآن إلى عملية. فقط العلاج مع الامتناع عن التدخين. 

لم ألتزم بالامتناع عن التدخين. بعد شهور كانت حالة حنجرتي تسوء فوجدتني مضطرة أن آخذ بنصيحة من عانى مثل حالتي، وأن لا أسلم حنجرتي إلا إلى الدكتور عبد الرحمن. 

كيف سأعود إليه وهو الذي لا يرغب في استقبال السافرات أمثالي؟ ترددت لكنني ولحاجتي إليه اتصلت فجاءني الرد: 

- لقد استقال من المستشفى وفتح عيادة خاصة. 

طرت إلى العيادة في السالمية. عمارة فخمة مليئة باليافطات الحمراء بأسماء الأطباء دخلت باب العمارة، الأرض رخامية لامعة، على يميني صيدلية فخمة. انتظرت عند باب الأسانسير طويلاً. أحدهم نزل من الدرج. لفتني أن الأسانسير معطل. اتجهت إلى الدرج أقطع المسافة إلى الدور الثالث. عيادة رقم 8. دخلت 

عاملة الاستقبال محجبة. 

- صباح الخير.

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

لم أستغرب طريقة ردها على تحيتي. قلت:

- أريد أن أقابل الطبيب. 

- لحظة.. أعبئ لك البطاقة.

- لأ.. لو سمحت قبل أن تعبئي البطاقة أريد أن أراه.

استغربت: 

- ألم تأت للعلاج؟ 

اضطررت أن أكذب: 

- بل لموضوع خاص. 

هزت برأسها. تركت مقعدها. خرجت من بابها الجانبي متجهة إلى غرفة الطبيب بعدما ألقت علي بأمرها مشيرة إلى صالة الانتظار: 

- لو سمحت انتظري. 

انتظرت وألف وسواس يتناطح في داخلي، هل إذا أعطته تفاصيلي سيرضى أن يقابلني؟ 

فوجئت بها مبتسمة تشير إلي: 

- تفضلي. 

بعض ارتعاش أصابني، توقعي أن يرفض استقبالي زال. فماذا عن توقعي أن يعالجني؟ هل سيتكرم علي بذلك؟! 

طرقت الباب ودخلت. وقف وصوته طلق عذب:

- أهلاً وسهلاً.. تفضلي. 

وأشار إلى الكرسي المقابل. 

جلست غير مصدقة! هو نفسه، بطوله، بلحيته المنزلقة تغطي كل عنقه. يرحب بي، يدعوني إلى الجلوس. الصورة القديمة تأتي، تتحرك من اليمين إلى اليسار مخترقة صورته الجديدة أمامي. هل تراه يتذكرني؟ لا أحسبه كذلك. ففي ذلك اللقاء الماضي لم يكلف نفسه حتى بالنظر إلى وجهي. ما الذي تغير؟ هناك في المستشفى كان طبيباً، وهنا في عيادته هو طبيب أيضاً!! لم يحتج استغرابي إلى عصر ذهني. الأمر واضح، هو هناك طبيب حكومي يقبض راتبه فيصبح من حقه أن يقبل أو يرفض، هنا هو صاحب مصلحة، عبادة خاصة تدر عليه من آلام الآخرين، مستعد أن يقبل أمثالي ممن لا يلتزمن بالزي الذي تقبله قناعاته. الأمر الذي حيرني أكثر؛ هذه الوداعة والابتسامة والترحيب وما تلاها من حديث رقيق، وخفة ظل واضحة، وفحص دقيق حنون جعلني أحدق به أكثر. ألتقط تفاصيل وجهه: عينان واسعتان جميلتان، رموش كثة ملتوية، أنف دقيق طويل بعض الشيء لكن باستقامة شامخة، شفتان بارزتان ورديتان، ولحيته التي رأيتها جميلة غير تلك التي نفرت منها أول مرة. وجدتني أرتاح إليه وأوافق على التفكير بإجراء العملية. 

قبل أن أغادره حزينة على صوتي، ناوشتني نفسي أن أذكره بذلك اليوم البعيد، لكني تراجعت، خشيت أن يتأذى فيرفض أن أكون واحدة من زبائنه حتى وإن كان المبلغ الذي سأدفعه بدل أتعاب العملية كبيراً. 

أخذت أقلب أموري. الحيرة تتنازعني. هل أجري العملية أم أهرب؟ هل صحيح ما قاله إنني إن لم أفعل سيتحول الأمر إلى عقبى غير حميدة؟ لن أهرب من قدري. ما أعانيه شيء بسيط لا يدعو للهرب، ذلك الهروب من قصر العجوز كانت دوافعه ضرورية، كان يجب أن أحاوله منذ الشهور الأولى. لا أدري لماذا صبرت طيلة أربع سنوات!! لو كنت قادرة على استشراف مستقبلي - المضيء - بعد الهرب لكنت فعلتها. لقد حررني هروبي، ليس من حياة القصر وحدها، بل من أدران العجوز ذاته.

* * *

 

أخذت أطرق الباب بتلاحقٍ مجنون. حين فتحت أمي الباب شهقت غير مصدقة، تمنيت في لحظة أن تفتح ذراعيها لأسقط بينهما عصفورة متعبة لألقى الحب والدواء لكنها لم تفعل. اندفعت إلى الباب تطل إلى الشارع متوقعة أن يكون العجوز بأثري، وحين لفحها فراغ الشارع صفقت الباب بعنف وصرخت بأعلى صوتها: 

- "يا مجنونة! شو سويتي؟"

ألقمتها ردي بحنق وصراخ مماثل: 

- هربت... هربت. 

ضربت بكلتا كفيها على رأسها:

- "يا خراب بيتنا. بدك تعملي لنا مشكلة مع جوزك؟"

وأعلت بصوتها تنادي أبي:

- "تعال شوف بنتك وعملتها السودة." 

خرج أبي بسرواله والفانيلا، صوت أمي يعلمه خبر هروبي خلال عبوره المسافة ما بين الغرفة ومكان وقوفي حاضنة حقيبتي الجلدية. اندفع إلي هائجاً. أمسك شعري الملبد بعرقي، شدني، أسقطني على الأريكة ملعلعاً: 

- هل فقدت عقلك؟ كيف تجرؤين؟ ماذا سيفعل بنا الرجل؟ التفت إلى أمي: 

- هاتي دشداشتي وغترتي. سأعيدها حالاً وإلا اعتبرنا مشاركين في فعلتها. 

اندفعت أمي تلبي أمره مؤازرة موقفه. صرخت:

- لن أعود. أقتلني هنا ولن أعود. 

أمي خرجت حاملة ثياب أبي وهو يهوي علي بالكلمات القاسية وأنا أتوسله: 

- أرجوك.. أرجوك أسمعني فقط. أعرف حكايتي وتعاستي ثم أحكم علي. 

زمجر بصوته:

- لن أسمع أي شيء. ستعودين لزوجك ورجليك فوق راسك. 

انطلقت من مكاني إلى أمي الواقفة، احتميت خلف ظهرها، قبلت كتفها، توسلتها: 

- أرجوك يا أمي قولي له أن يهدأ ويسمعني. لن تصدقا ما ستسمعان. 

هبط الغضب بوجه أبي. أمي بادرته: 

- "خلينا نسمعها وبعدين نتصرف". 

جلسنا صامتين، فتحت قربة سنواتي أمامهما دون أن أهمل نقطة ولو بحجم حبة رمل.. أفشيت أسرار الأيام والليالي منذ الليلة الأولى التي فتح عطية فيها قلعتي؛ وما تلاها من أشكال القهر والظلم؛ وجلدي بذلك السوط ومشهد الخادمة في فراشي واعترافات عطية لي بكل ما خفي عني. كنت وأنا أحكي أشبه بذبيحة معلقة بسيخ حديدي يدور فوق ألسنة النار تشويه وتحرقه. وبصوت أليم نحو أبي: 

- لقد بعتني يا أبي وعذبتني.

أحنى أبي رأسه، وأمي كفكفت دمعاً انساب صادقاً، همست لأبي: 

- "يا روح قلبي شو أتعذبت".

ثم هدرت بصوتها وهي ترفع كفها في وجه أبي:

- "هذا حيوان. والله ما بترجع". 

شعرت في لحظة أن عاطفة أمي كلها تتحول تجاهي. انتهزت الفرصة، ركضت إلى الحقيبة، فتحتها، أفرغت محتوياتها على السجادة، تناثرت وكأنها الأخرى سعيدة بالإفراج عنها، ملأت الدهشة عيني أمي، انخطفت كلها إلى ذلك اللألاء الباهر، غادرت أريكتها، انكفأت على ركبتيها تناثرها وتقلبها كأنها على شاطئ جزيرة مسحورة تنبر رمالها وتتكشف كنزاً دفنته الساحرات وصوتها المذهول بين شهقاتها: 

- "يا الله!... شو هاد؟" صوت أبي الجش يكشط غلاف أذني:

- وليش جايبه هالبلاوي معك؟ 

أمي اعترضت وهي ترفع كمشة من الكنز بين كفيها تقربها من نظر أبي: 

- "بلاوي؟ هاي بتسوالها ألوف". 

خرج صوتي رخواً:

- هذا حقي.. ثمني الذي دفعته من عمري. خذوه واعطوني حريتي. 

أبي الذي أثاره كلامي اعترى وجهه الغضب. أشار لأمي:

- أعيديها إلى الحقيبة وأجلسي نفكر ماذا نفعل بهذه المصيبة! 

لم يشر إلي، فلم أكن المصيبة التي حطت عليه، بل تلك التي ينتظرها.. ردة فعل العجوز حين يكتشف هربي ويأتي ليدوس على رؤوسنا. 

أخذ أبي يطرق بكفه اليمنى على فخذه بعنف وعصبية واضحة، بينما كفه الأخرى تدق على زاوية رأسه كأنه يريد فتح صواميل عقله التي شلتها المفاجأة باحثاً عن مخرج يقيه شر العجوز، أمي توجست خوفاً على أبي من الموقف. قامت إليه، جلست على طرف الأريكة، حاوطت بذراعها كتفيه، وحاولت تهدئته: 

- "صل على النبي يا رجل.. كل عقدة وإلها حلال". 

صرخ أبي:

- "هذي مو عقدة وتنفك... هذا لحيم حديد شيفكه؟"

- "يا ابن الحلال صحتك بالدنيا.. هلق بيرتفع السكر عندك". 

زاد بالضربات على فخذه: 

- أي سكر؟ السعر أرحم. هذا مر وعلقم! هذا منشار وقف بحلقي. 

وتواصل المحاولة:

- إهدأ حتى تعرف تفكر وتقدر تواجهه وأنت قوي".

تدخلت: 

- يا أبي.. أرجوك أن... 

قاطعني صارخاً:

- أنت تسكتين. لا أريد أن أسمع صوتك. 

أثارني الأمر وكهربني. لم أطق احتمال أن أسكت، فررت من مكاني، ابتعدت. خشيت أن ينالني ويضربني، صرخت بكل قوتي: 

- لن أسكت بعد اليوم.. يكفي الذي سكته! 

عيناه المفجوعتان بصراخي اتقدتا. وقبل أن يفلت لسانه كنت أواصل: 

- والله إذا فكرت أن تعيدني إليه سأقتل نفسي وأجلب لك مصيبة أكبر. 

التفت إلى أمي غاضباً:

- شفتي بنتك؟ "فوق شينها قوات عينها". تهددني.

فزعت لي أمي. ناصرتني: 

- "إيه شو يا رجال؟ البنت قاست وما بدها ترجع. لازم تساعدها". 

هبط غضب أبي قليلاً، عركته الحيرة: 

- شلون أساعدها!! أروح أقتل - هالشايب - علشان أخلصها؟ 

أمي متأففة: 

- "ما حدا قال لك تقتله، خليه يطلق البنت".

- وتحسبينه يرضى؟ هذا ما ينكسر باسه. 

أمي التي عادت إلى مكانها مقابل أبي دقت بكفها كمن تدق كومة ثوم:

- "غصب عنه يرضى وإلا المحاكم بتشوف شغلها" 

كنت بين أمي وأبي أشبه بطريدة محاصرة يستجديان وسيلة للخروج بها من خيوط الشبكة الخشنة دون أن تجرحهما أو تلتفت عليهما. وأنا تنقلني أفكاري إلى حيث القصر، أتخيل وقع فعلتي على العجوز وعطية والشر القادم إلي. ثم أرتد إلي مشهد أمي وأبي الحائرين بين الرضوخ لنجدتي أو إلقائي في براثن العجوز. وقلبي المتأسي يواصل دعاءه أن يضخ الله كل الرحمة في قلب أبي ليشفق علي وينجدني مكفراً بذلك عن جريمته الظالمة بحقي. 

الوقت يمر عاصفاً رغم انسياب الهدوء المؤقت. أبي يواصل نفيخه وهو يردد: لا حول ولا قوة إلا بالله.. حسبي الله ونعم الوكيل.. ماني قادر أصدق كل هذا يطلع من شيبة النخرة.. وين أروح بعمري؟.. شقدر أسوي.. هذي مصيبة وطبت على رأسي. أمي بكلماتها تطبطب عليه: 

- "هدي يا رجل.. الله يعينك، بدك ترحم حال هالبنت المنكوبة وترحم حالك. يعني شو بدو يسوي؟ رح يقطع روسنا؟ الله يقطعه. واحد نذل وبلا ضمير. لازم يطلقها ورجله فوق رأسه. أنت بس خليك قوي، ما تخاف لو شو ما عمل. هدده بالمحاكم، اللي مثله ما بحب الفضايح". 

هما في الفكرة، وأنا في السكرة الكاوية أدوخ. أتمنى لو تحدث معجزة ما تخرجنا من هذا الطوفان الجارف. كنت من طرف خفي ألمح وجه أبي المصفر، أحس بأوداجه تنتفض، وبأنفاسه تضطرب وهو يسترق النظر إلى وجهي المربد حائراً بين أن يشفق عليه أو يحقد. يصارع كي يستقر على حال، وأنا!! تتآكلني الوساوس: هل تنتصر أبوته ويخلصني رغم كل الذي سيناله من عقاب العجوز؟ أم تنتصر أنانيته فيعاود بيعي ليأمن الشر؟ شفقتي تزداد عليه رغم أنه سبب مصيبتي وسبب ما نحن فيه الآن. في داخلي إحساس بأنه يميل إلى مساعدتي، لكني لم أؤمل نفسي بشيء حتى لا أصاب بالخذلان منه. بعد صمت قاسٍ خرج صوته وكأنه قادم من عمق بئر. خاطب أمي: 

- الأفضل أن أذهب إليه. سأحاول التفاهم معه بهدوء.

أمي وافقت وكأنها وجدت حبل النجدة:

- أحسن.. والله بيعينك. المسألة مش سهلة". 

قبل أن يتحرك أبي زعق جرس الباب متواصلاً متحداً بطرقات الأيدي العنيفة وكأن خلف الباب من يطلب النجدة من أمر جلل. انتفضنا ثلاثتنا كمن مسنا تيار كهربي، أدركنا أنه العجوز بعاصفته. وطأة المفاجأة شلت أبي. أمي وهي تحاول أن تتماسك أشارت له أن يفتح الباب. ركض أبي، شفقتي عليه تتفاقم، ما الذي سيواجهه الآن؟ أمي دفعتني وصوتها المرتجف:

- "أدخلي أنت غرفة النوم، أبوك سيتفاهم معه".

مثله لا يعرف التفاهم. إن غضبته شديدة، لن أنسى قسوة سوطه بيد عطية، ولا ضربه وتعنيفه. هل ستتجاوز ثورته على أبي قذارة اللسان أم تتجاوزها فيرفع كفه؟ أكيد أن أبي لن يرفع سيفاً ليدافع عن كرامته! يا ويلي على أبي سأتسبب في إهانته وطرده من العمل. 

ارتجت صالة بيتنا بصوت العجوز: 

- وينها الكلبة بنت الكلب؟ 

صوت أمي يتحدى خوفها: 

- "إحفظ لسانك وإلا بقطعه". 

أبي يحاول: 

- إهدأ يا عم نايف.. نتفاهم. 

عج صوته مختالاً:

- من أنت حتى أتفاهم معك؟ طلع الكلبة. 

من شق باب غرفة النوم كنت أدس عيناً واحدة أتلصص على حريق الصالة، عجين الكلام يترجرج منتفخاً وهابطاً، وأنا تتلاعب بي برودة روحي الآملة في الخلاص، ورعود جسدي التائقة إلى الحرية. كان عطية يحاوط جسد سيده خاشياً عليه من السقوط، لكن قوة العجوز التي تولدت من بارود الغضب كانت أشد، يحاول الإفلات وتهديده الصارم: 

- "إن ما ذبحتها وشربت من دمها ما أكون رجال ابن رجال" وبعد تهرب مني؟ 

صرخت أمي تذكره: 

- "من أفعالك السودا" 

طعن أمي:

- بنتك عايشة أحسن عيشة، وأنتم عايشين من خيري. 

 استبد غضب أمي: 

- "طز.. وين هالعيشة؟ بنت مثل فلقة القمر محبوسة مثل النعجة ونازل فيها ضرب وتعذيب". 

طارت أمي إلى عطية. أمسكت بتلابيبه:

- "وأنت يا عبد الشوم كيف تجلد بنتي بالسوط؟" 

هبط وجه العجوز، تأكد بأنني أفشيت خبايا القصر وجرائمه. أمي واصلت تصفع عطية، وجهه، صدره وهو مستسلم حزين مرتجف. أبي يشدها، ذراع عطية التي تحاوط العجوز تراخت، فوجدها فرصة للإفلات، تحرك نحو الباب الذي أختبئ خلفه وكأنه لمحني، وجهه الحافل بأبشع التعابير يقترب وصوته: 

- أطلعي يا كلبة. 

قبل أن يصلني. كنت أخرج إليه حاشدة نفسي بقوة خارقة، مصممة أن أستد منه عذاب السنوات الأربع. صرخت بكل عنفي: 

- تعال وريني.. والله أقتلك. 

جفل وجهه، أمتي ركضت إلي، وقفت بيننا حائلة دون حدوث ما تخشى عواقبه. أبي أشار لعطية أن يمسك بسيده. لكن العجوز دفع بأمي، وأمسك بذراعي يلويها. لم أتردد. أمسكت بذراعه الأخرى لويتها وأنا أهدده: 

- والله أكسرها. أترك ذراعي. 

أصدر آهة ألم، ركض أبي، فك حصاره وهو يثور بوجهي:

- هل جننت؟  

انتهز العجوز الفرصة:

- حتى تعرف أنها مجنونة خالصة. 

أمي ردت عني: 

- "ومين جنها غير أفعالك يا الوسخ.. كمان الخادمة بفراشها؟!  

تلبست العجوز ثورة. اندفع ثانية إلى مثل ذئب استعدت أنيابه لالتهامي. تشجعت، استبسلت للدفاع عن نفسي، مددت ذراعي ودفعته عني، طار مثل ريشة، سقط على الأرض وارتض بذراع الأريكة الخشبي، صرخ، هرع إليه عطية ليلملمه وصوته تخترقه الدموع: 

- عمي... عمي.. اسم الله عليك. 

ابتلع الخوف وجه أمي وأبي. العجوز يتراجف ويئن وقد زاغت عيناه. عطية يتوسل: 

- هاتوا ماء. 

أسرع أبي بالقنينة، عطية بعجالة يرش وجه سيده ويخاتلني بنظرة عتاب. والعجوز يستفيق، يثرثر بكلمات التهديد غير المتوازنة تارة لي وتارة لأبي. ساعده عطية على النهوض، بالكاد حملته ركبتاه. نظر إلى أبي بحقد شديد: 

- "والله أعلقها طول عمرها وما تشوفون شي مني. 

حاول أبي:

- يا عمي نايف الله يرضى عليك البنت ما تبيك طلقها.

نظر إلى أبي بازدراء:

 - وأنا ما أبيها لكن راح أعلقها وما أطلق.

لم يتعثر الكلام على شفتي:

- راح تطلقني غصباً عنك.. هناك محاكم. سأفضحك.

ألوى ليخرج وهو يردد:

- نشوف. أنا والا أنت وأهلك! 

صفق الباب. وجم السكون على البيت. أبي أسقط جسده المنهك على الأريكة وهو ينفخ. أمي بجواره تثرثر: 

-"حسبنا الله ونعم الوكيل فيك، يخرب بيتك شو نذل. الله لا يردك". 

جلست قبالتها، دموعي تنساب، شهقاتي تتواصل، صوتي يستنهض حنان أبي: 

- بابا الله يخليك.. خلصني منه.

أمي ساندتني وهي تطرق خفيفاً على ركبة أبي:

- "بكرة بتروح لمحامي شاطر وبترفع عليه قضية". 

زفر أبي. خرج صوته واهناً محتدماً بالحزن: 

- ارحموني.. أنا تعبان ولا قدرة لي على التفكير.

نهض متوجهاً إلى غرفة نومه. وقبل أن يلجها التفت إلى أمي:

- لو سمحتي أريد أن أنام. إبتي مع أبنتك ولا تزعجاني. 

حين أغلق الباب أحسسته كمن يدخل إلى متاهة بالغة السواد. حزنت لأجله. وجدتني في لحظة سامية أتطهر من كل الذي أضمرته له من مشاعر حاقدة. شيء في داخلي تأكد أنه الآن سينزوي في وحدته ليتأسف على ما سببه لي من ظلم. وسيتخذ قراره وينتشلني من الجبن الذي أسقطني فيه. 

تلك ليلتي الأولى في بيت أبي، انطرحت على السرير البسيط، لا شراشف من الحرير، ولا وسائد الديباج التي تهرشني أحسست السرير باتساع حديقة حافلة بشتى الألوان والروائح. صمتٌ شفاف شمل الغرفة مثل زجاج يكشف ما خلفه، يؤرجحني بين ليلتي الخضراء المؤملة بخلاصي، وتلك السنوات الباهظة بمرها. 

أخذت أستعيد تفاصيلها خاصة تلك اللحظات التي يهب علي فيها مثل ريح متوحشة يزفر رغبته كالطور الأحمر، فأشعر وكأنني داخل قبر يهال علي فيه التراب والحصى، فلا أرى غير وجهه المطفأ، ولا أحس سوى كفيه الخشنتين تخرمشان جسدي، ولا أسمع إلا طقطقة أسنانه وعظامه وهو يلهث ليصطاد نشوته. انتفضت حين وصلت بي الصورة هذا الحد، فاجأني عطش غريب، تسللت إلى المطبخ، عببت ثلاث زجاجات من الماء وكأنني صائمة عنه منذ شهور. عدت إلى سريري، أويت إليه مثل فراشة متحررة من الظلمة والصمت. ارتكزت على وسادتي وكأنها صدر أمي وأخذت أدعو الله أن يخلصني ويخلص أبي من ورطة أوقعته فيها. بكيت قبل أن أستسلم للكرى آملة أن أغطس في نوم عسلي طويل.

* * *

 

هناك فاجعات جميلات، إن كان زمن المعجزات قد أنتهى؛ فها هو النهار يطل برأسه ويفاجئ بمعجزة جديدة وكأن دعاء قلبي المحروق اخترق السموات السبع أسرع من البرق فشملني الله بحنانه ورحمته. أفزعتني أمي وهي تهزني: 

- "قومي.. عطية بالصالة" 

- عطية.. خير؟! 

وجه أمي لا يخلو من سعادة مكتومة:

- "الله خلصك وخلصنا". 

أي خبر تزفه أمي؟ ماذا تعني أن الله خلصنا؟ توارت قبل أن تشفي غليل دهشتي. هببت من الفراش بذعري ودهشتي، ارتديت ملابسي بأسرع ما أمكنني وخرجت إلى الصالة، كان أبي جالساً مسقطاً رأسه بين كفيه وعطية أمامه ينشج بنحيب متواصل، توجهت إليه بالسؤال الذاعر: 

- شنو صار يا عطية؟ 

رفع وجهه المبتل، عيناه متورمتان، شفتاه ترتعشان كما صوته الغارق بالدمع: 

- عمي.... مات. 

تهاويت على الأريكة، لا أدري ما الذي أهواني! المفاجأة أم الفرح الذي سرعان ما انتشر كالمخدر في روحي، كيف أصدق؟ كيف حدثت الفاجعة الجميلة! 

- كيف يا عطية؟

عطية لا يقوى على الكلام. أبي تولى عنه: 

- بعدما وصل القصر تعب، أحضروا له الطبيب فقرر نقله إلى المستشفى. ساعتان وحدث هبوط في القلب. 

غير مصدقة وشامتة:

- إيه... كان يريد أن يعلقني فعلقت روحه. 

أبي بشزر أمرني: 

- تأدبي... لا شماتة بالموت. 

ثم نحو أمي:

- أتصلي بفيصل، الدفن قبل صلاة الظهر، علينا أن نذهب إلى المقبرة. 

تخيلت القبر، أيهما تراه أضيق من الآخر: القبر الذي دفنني فيه وكان يسعى لتدجيني في حظيرته إلى الأبد أم هذا الذي سيفتح الآن؟ تحركت شماتتي بتلك العظمة الفارغة التي تضخمت في نفسه وها هي الآن قد تحطمت، لم تداهمني ولو ذرة حزن، لم تتكرم دمعة ولو مصطنعة أن تنزلق من مكمنها، كان الفرح الطاغي يردم الهوة ما بين الأمس المضني وواقعي اليوم. شيء كالسحر ينفيني عن كل ما حولي، أصير مثل الفراشة التي ترقص في مهرجان ألوان يطلق أسهمه النارية، يضيء الكون، يصخبه ويجلله بأثواب عرس، حتى عطية لم أشفق عليه، لم أفكر بالمصير الذي ينتظره ولم أجد رغبة أن أقول كلمة عزاء واحدة له. ما يدريني أنه رغم كل حزنه الحقيقي يشعر أيضاً بالراحة والتخفف من ثقل السيد على العبد الموروث. حين انتصب ليخرج انتصبت. وحين اتجه ليخرج تبعته. وعند الباب التقت نظراتنا. عيناه الدامعتان يلتمع فيهما شيء غريب أشبه بالود المكبوت وبالسؤال الحائر "ما مصيري؟". تحامل على نفسه وهمس بذلك الصوت الذي يتردد كالموسيقى في داخلي: 

- ها أنت ارتحت منه.. لقد تعذبت معه.

فرحت بشهادته. جرؤت وقلت بصوت خفيض:

- أنا سعيدة يا عطية. لا تلمني. 

هز رأسه: 

- لا ألومك، لكن تعرفين أنني... 

قاطعته:

- أدري كم كنت تحبه. رغم أنه لا يستحق. 

- إنها عشرة عمر!

قالها بألم، أردت أن أخفف عنه وأذكره:

- عشرة الذل والقهر. أنت الآن مثلي، ستكون حراً.

عاط بنشيج عال، اندفع إليه أبي أحتضنه مواسياً:

- صل على النبي يا عطية. نعرف كم كنت تحبه!

ترجرج صوت عطية الباكي:

- وما كنت أحسب أنه يحبني بهذا القدر. 

اعترضت غاضبة: 

- يحبك؟ أنسيت الذل والضرب؟

بين زخات دموعه تقاطرت كلماته:

- يا سيدتي لقد عوضني فأدركت كم يحبني. 

اشتعل فضولي: 

- كيف؟ بم عوضك؟ 

- حين فاجأته الأزمة أمرني أن أفتح الخزنة، وأحضر له مظروفاً. فتحه وقال هذه شهادة عتقك ومبلغ كبير باسمك في البنك. 

في تلك اللحظة شعرت أن قليلاً من حقدي على العجوز يتلاشى. ها هو رغم كل فساده وجبروته فكر بعطية الذي قام على خدمته، وإرضاء غروره ومساعدته في متعته. أما أنا! فقد ورثت كل شيء تماماً كما حلمت أمي. حظي أنه مات سريعاً وإلا لكان حرمني من الثروة انتقاماً من فعلتي. الآن فقط قدرت لأمي نظرتها البعيدة. 

خرج عطية وفرح كبير يتمرجح في كل أوصالي، ناداني أبي، أرتسم حزن كبير على قسمات وجهه، تنهد ثم قال: 

- أسمعي يا نادية. قد نكون أنا وأمك ظلمناك... سامحينا. 

التهبت في قلبي شفقة صادقة عليه. كان الفرح الذي يعربد في داخلي قد شفط حقدي وغضبي عليهما، ها قد جاء خلاصي، أغلق باب الظلم وأشرع باب الحرية والثروة معاً. همست لأبي بحب كبير: 

- لقد نسيت كل شيء يا أبي. 

احتضن وجهي، حدق بعينين مغرورقتين بالدمع وشدد على كلماته: 

- أريدك أن تتأكدي أن الأمر لم يكن "صفقة" وطمعاً في المال. 

آآآه يا أبي. لم ينس ما تفوهت به. يبدو أن كلمتي القاسية ظلت تحرث في قلبه وتؤرقه منذ أن خرجت من نعيم بيته إلى جحيم العجوز. أرخيت بصري خجلاً منه. رفع وجهي وأكد: 

- كنت محكوماً بسلطته.. سامحيني.

انفجرت بالبكاء، ألقيت برأسي على ركبتيه أتوسله: 

- أرجوك يا أبي لا تعذبني، كنت أعرف أنك مرغم لكني دفعت ثمن خضوعك لسطوته. 

طبطب على ظهري وهو يعدني:

- سنعوضك عن كل ما عانيت. 

دخلت أمي. اندفعت مرتعبة من نشيجي. هدأها أبي، طلب منها الجلوس، أمرني بحنان أن أكفكف دموعي وأستمع لما يقول، فاح الجد من صوته: 

- اسمعي يا نادية. أنت الآن أرملة. عليك أن تعودي إلى بيت زوجك لتقضي شهور عدتك هناك. 

ارتعبت: 

- أبي.. ماذا تقول؟ أي عدة؟

أمي تدخلت لتوضح:

"عدة الأرملة أربعة شهور وعشرة أيام" 

اعترضت:

- هل بعد أن نجوت من القصر أرجع إليه؟ 

أمي بإصرار:

- طبعاً ترجعين.. وإلا بتك أولاده يحتلوا القصر؟"

نظر إليها أبي غاضبا ولائماً: 

- أين يشطح بك تفكيرك؟ الشرع يفرض هذا، عدة المرأة في بيتها. 

لم تعبر جملة أمي عبور الهواء، لحظتها استفقت وتذكرت هناك شركاء لي في الإرث. ثلاثة عشر وريثاً، سبعة من زوجته الأولى التي طلقها وستة من زوجته الثانية التي ماتت. ذات ليلة حدثني عنها بعبور سريع، كيف أحبها وعاش معها سبع عشرة سنة سعيداً، وحين توفاها الله ظل يرعاهم حتى كبروا. تزوجوا واطمأن عليهم، اشترى القصر وعاش فيه وحيداً، لم يفكر بالزواج ثانية. حظي التعس أن أبي عمل عنده مديراً لشركاته. دعاء مرة إلى بيتنا، التقطت عيناه شبابي الغض، تصور أنه سيحيي رميمه ويجدد عجف سنينه فتمت الصفقة. 

سرحت بخيالي بالشركاء الذين لم أر وجوههم، كلهم أكبر مني بسنوات أو بمثل عمري، ماذا سيفعلون بي؟ ماذا ينتظرني؟ أمي رفعت صوتها لتوقظني: 

- "قدامك مشاكل كتيرة. لازم تكوني هناك وإلا بكره بياكلوكي". 

أبي ليطمئنني:

- لا تخافي أنا وأمك سنكون معك حتى تنتهي شهور عدتك. 

شعرت بآلة حادة تعصر قلبي، أنا التي نمت البارحة ملء جفوني وفتحتها على الضوء الفاتن. تصورت أن يوم حريتي المقبور نفض ترابه الحامض وانفتح للنور، أجدني ثانية سأعود إلى القبر ليأسرني بشهور العدة، هل يستحق الحداد عليه؟ كم شعرت أننا نحن النساء مهيضات الجناح. 

بكيت حريتي المصادرة لحظة ولادتها. أمي حاولت أن تواسيني: 

- "يا بنتي تحملتي كتير.. احتملي شوية شهور". 

قبل أن أنطق بكلمة دق الباب، فتحت أمي، اندفع أبناء أخي الثلاثة نحوي. بفرح التصقوا بي وفاح نداؤهم الذي افتقدته أكثر من سنة "عمتي.. عمتي". أزاحهم أخي فيصل احتضنني بحب كبير، ربت على كتفي بحنان، رفع وجهي حصره بين كفيه، حدقت به. لم ألمح أية مشاعر للأسف على الميت. قال جملته المقتضبة التي اختصرت فرحه بخلاصي: 

- لا تجوز عليه سوى الرحمة. ارتاح وريح. 

زوجته إيمان اختطفتني إليها. تعانق شوقانا، تمازجت دموعنا. همست بأذني خاشية أن يسمعها أحد: 

- ألف مبروك. 

ليلة زواجي من نايف لم تنطق إيمان تلك الكلمة. كانت حزينة كأنها تنعي شبابي وهي اليوم تبارك لي، تدرك أنه يوم فرحي الحقيقي الذي تجوز فيه التهنئة. 

حين خرج أبي وأخي إلى المقبرة انشغلت أمي تعد الحقائب، تبعها الصغار فكانت فرصتي للاختلاء بإيمان. سردت عليها باختصار عذابات السنوات الأربع وهي غير مصدقة لما تسمع. تبكي تارة ممرورة بمراري؛ وتارة مستغربة من قدرة احتمالي. وبين وصلة وأخرى ترفع كفيها إلى السماء وتردد: الحمد لله.. الحمد لله الذي خلصك. 

بحزن قلت: 

- وتصوري بعد أن نجوت يريدون أن أعود إلى القصر وإلى وجه جورجيت. 

بحماس قالت:

- أول شيء تطردينها من القصر. أنت الآن سيدة المكان. ثم كمن تذكرت:

- وعطية! ماذا ستفعلين به؟ (وضحكت) هل سترثينه أنت الأخرى؟ 

ما كنت قد فكرت بأحد غير نفسي، لكني وجدت شيئاً أهمس به: 

- عطية مسكين و.. وفي. والله إنه يحبني. 

واستني: 

- يعينك الله كلها شهور وتمضي ثم...

قاطعتها: 

- سأبدأ حياتي يا إيمان. أول شيء سأكمل تعليمي.

انتشر الفرح على وجهها: 

- أحسن قرار. لكن! 

وصلني خوفها فقلت:

- لا تخافي أنا الآن أكثر قوة. المال بيدي. 

شدت على كفي بإعجاب. لحظتها دخلت أمي وهي تضرب كفا بكف: 

- "خايفة يكونوا سبقونا وراحوا القصر بتكون مشكلة".

لم أرتح لكثرة اهتمامها بالقصر، عبست وقلت: 

- لنفترض.. أليس من حقهم أن يتقبلوا العزاء في قصر والدهم؟ 

تضايقت أني فقد اكتشفت أنني لا أضمر لهم شراً ولا كراهية: 

- "ناقصك تشجعيهم. هي ثلاثة أيام وبعدين لازم يفارقوا".

تدخلت إيمان: 

- يا خالتي لا تستبقي الأحداث. ربما لم يفكروا بذلك أصلاً. 

أصرت أمي وهزت صدرها كمن ترقص:

- "لأ.. بيفكروا ونص. إن عملوها مش راح أسكت".

- يا أمي. الله يخليكي. لا نريد مشاكل معهم. 

- "أنا مش راح إبدا. بس إذا بدأوا...". 

قاطعتها: 

- أبي وأخي يتصرفان. 

همست باستسلام وهي تغادر: 

- "طيب بنشوف. بكرا بنقعد تحت الحيط وينسمع الزيط". 

شعرت بالقوة. أني لا يهمها غير أن يبقى القصر لي ولها. خوفها من أبناء زوجي سيضاعف قوتي، تلك نقاط ضعفها التي سألعب عليها لعبتي، لقد تحقق الآن لها حلمها الكبير "بكرا بيموت وترثيه"، الآن دوري أن أشجر أحلامي بالشكل الذي أريد، أنتهى زمن الصمت والخنوع، إن استسلمت لأي أمر منذ البداية أكون بذلك فتحت قبراً جديداً لشبابي، لحريتي، ولأحلامي الشاسعة. 

أفضيت لإيمان بأحلامي. شجعتني وأكدت: 

- أخوك فيصل سيقف معك بالتأكيد، تعرفينه لم يكن راضياً عن زواجك، وكل تلك السنوات كان يلوم والديك ويعلن أنهما ظلماك. 

شعرت بالارتياح والأمل أنني سأجد ظهراً أستند إليه.

* * *

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا