الطفلة إيمان 2 لحزام راشد

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-08-20

 

رسمياً.. أنا نحو المجهول!!

 

عادت قبضة يد سلوى الخشنة للالتفاف حول معصمي كالأفعى.. واستمر الإحباط يلازمني ويتصاعد شيئاً فشيئاً..

نزلنا من الطائرة.. الشمس تشير إلى أننا تجاوزنا وقت العصر.. فكان الجو حاراً بعض الشيء..

وكان بالنسبة لي.. كل شيء مختلفاً!

اللغة الغريبة التي لا أعرفها.. وجوه الناس التي تتسابق للنزول من السلم.. أشكال رجال الأمن.. وحتى رائحة الهواء..

لم أعتد على هكذا تفاصيل مختلفة..

ولم أصدق هذا التغيير.. ولكنه حصل.. حصل للأسف..

دخلنا إلى المطار ..

كان مزدحماً.. وأصوات البشر عالية جداً.. أصواتهم جلبت لي التوتر.. وقفنا في طابور ختم الجوازات..

كانت بالنسبة لي هي الفرصة الأخيرة للحياة..

لعلهم يكتشفون أمري.. ويعيدوني إلى بلدي قبل أن أعبر..

اقتربنا شيئاً فشيئاً.. وحضر دورنا..

بكل بساطة ومن دون تدقيق واضح.. تم ختم الجوازات والسماح لنا بالدخول!

مررت نقطة التدقيق على الهويات..

بشخصية ليست شخصيتي وباسم ليس اسمي..

وبجنسية ليست جنسيتي.. وبلسان معطوب..

كل هذا حصل.. بشكل رسمي لا يحمل أي مخالفات!

لقد دخلت رسمياً إلى المجهول!!

استقبلنا أحد أقاربهم بسيارته..

أذكر أنها كانت رحلة برية شاقة ومملة حتى وصلنا إلى منزلهم!

لا أعلم بأي مدينة كان.. لكنه كان منزلاً بسيطاً جداً ..

للأسف لم أهتم بأسماء المدن ولا القرى التي مررنا بها ..

كان لا يعلق بذاكرتي.. سوى ما تلتقطه عيناي.. ليس غير ذلك.. فكل ما كان يهمني كطفلة.. هو أنني ..

متى سوف أعود؟

كانت معاملتهم لي في منزلهم المزدحم ..

من أسوء ما يكون ..

حيث كانوا يجعلونني أساعد النساء في الطبخ وغيره..

ولا يسمحون لي حتى بالحديث أو اللعب مع أطفالهم ..

وكنت أتساءل مع نفسي.. إلى متى هذا الحال؟

لن تصدقوا لو أخبرتكم بأنني بقيت معهم على هذا الحال ..

قرابة الأشهر الخمسة!!

فيها من التعنيف واليأس والعمل ما فيها مع فتيات عائلتهم ..

لقد كنت مقهورة جداً من هذا الروتين المقزز ..

حتى حدث ذلك الحدث الجذري!

دخلت علينا العجوز سلوى بعد العصر تقريباً..

وطلبت مني أن أتجهز في أبهى حلة!

وأمرت إحدى الفتيات بأن تساعدني..

كان تجهيزاً جميلاً على الرغم من بساطته ..

أجمل ما فيه رائحة ذلك الورد الناعم الذي وضعوه حول عنقي ..

سألت إحدى الفتيات بلغة عربية مكسرة كما تحدثني سلوى ...

لكنها لم تفهم كلامي.. تخيلوا أنني لا أتحدث معهم سوى بلغة الإشارة البسيطة.. والتي نادراً ما يفهموني من خلالها ..

ساعة تقريباً حتى تجهزت..

دخل زوجها المسن.. نظر إلي بنظرات مخيفة!

لم أخشَ نظراته طوال وجودي معهم مثل هذه المرة!

ابتسم.. ثم اقترب مني، وسحبني من يدي..

وسرت معه من دون أي مقاومة ..

كان يسير بسرعة، وكنت أرفع اللباس الباكستاني الذي ألبسوني إياه كي لا يسقطني.. ولكي لا يسقط أيضا الشال من على ظهري.. فأعدله مسرعة بيدي الأخرى..

حتى وصلنا إلى خلف المنزل!

كان هناك حصير خشن مفروش.. وجدار المنزل يعكس الظل عليه.. ويجلس في أخره.. ثلاثة رجال!

توسطهم رجل يقترب من الخمسين سنة.. طويل اللحية.. يغطي رأسه بعمامة.. ويحمل السواك!

ضحك كثيراً عندما شاهدني.. وردد بحماس:

- ما شاء الله.. ما شاء الله..

أخبرني بأن هذا الرجل يدعى أبو الفاروق.. أفغاني الجنسية!

تحدثوا جميعهم.. ثم أخرج أحد الرجال الثلاثة ..

جوازاً جديداً وسلمه للوغد زوج سلوى..

نظر إليه وهو مندهش ومستغرب.. ضحك فرحاً..

ثم جعلني أشاهده لثوانٍ.. وقال لي ببساطة.. اسمك إيمان!

كان يحمل صورتي!.. أو بشكل أدق.. صورة ابنتهما!

علمت بعد ذلك أنه جواز أفغاني.. استخرجه لي بطريقته الخاصة ..

ثم أعاد للرجل الجواز.. وقام أحدهم بإخراج كتاب من حقيبته.. وطلب من زوج سلوى التوقيع.. ووقع ثم تسلم من الرجل الخمسيني أبو الفاروق مبلغاً من المال..

وقاموا بمصافحة بعضهما.. وهم فرحين!

حدث كل هذا.. في قرابة العشر دقائق فقط!

ثم سلمني لهم.. بدأت في البكاء كعادتي.. أصرخ وأرفض من أحدهم لمسي.. وسط صراخهم علي جميعاً وكأنهم يقودون نعجة نحو المسلخ!

أرغموني على ركوب سيارتهم الكبيرة بعض الشيء في الصندوق الخلفي المغطى.. ولم يجعلني أتوقف على البكاء..

سوى رؤيتي لفتيات وفتيان يقتربون من عمري!

يجلسون بنفس المكان! قرابة الثمانية أطفال ..

كانوا متسخي الثياب، ومغبري الشعر والوجه..

ينظرون إليّ بصمت.. والحزن قد احتل ملامحهم الطفولية..

ثم تحركت السيارة.. بعدما انتقل إليّ صمتهم من دون أن أشعر.. ولكن دموعي لم تتوقف..

علمت حينها وأيقنت.. بأن ذلك القذر المسن وزوجته اللعينة سلوى.. قد باعاني!!

لقد كان آخر يوم أراهما فيه.. من بعد شهور طويلة من الاختطاف ..

سارت السيارة القديمة على طرق متعرجة.. وسط ذلك الجو الحار.. وبقيت على حالتي وقتاً طويلاً ..

حتى رأيت أن

كل الأطفال قد خلدوا إلى النوم بسبب الإرهاق وغروب الشمس.. فغفوت مجبرة بينهم..

نومة عميقة وطويلة بعض الشيء.. لم تكن مريحة..

ولم يوقظني منها سوى أصوات الأطفال.. كانوا يتحدثون مع بعضهم.. كان الجو مظلماً.. حاولت النظر من بين بعض الفتحات.. فلم أستطع رؤية أي شيء.. من شدة الظلام.. نور السيارة فقط كان في الأمام ..

سألتهم بالإشارة إلى أين متوجهين ..

فما سمعت منهم سوى كلمة مكررة: أفغانستان!!

معقول!!.. أعلم أنها دولة ولكنني لا أعلم أين موقعها ..

لم أصدق ما أنا عليه.. في كل مرة أتفاءل بالعودة ..

أجدني أبتعد أكثر!.. وأصبح في وضع أخطر!

لا أعلم كيف تجاوزنا الحدود.. ولكنها حتماً كمثل الطريقة التي أخبرنا بها يحيي سابقة.. عندما تجاوز الحدود اليمنية - السعودية!.. بطرق غير شرعية.. حمدت الله أنني كنت نائمة وقتها ..

لا أصدق!.. لقد دخلنا إلى أفغانستان!

استمر هذا الوضع حتى وصلنا إلى منزل غريب..

مكون من دور واحد وبه فناء كبير جداً.. مسور بطوب وأسمنت.. أدخلوا السيارة الى ذلك الفناء.. ثم أنزلونا بقوة كالبهائم..

أمروا الأطفال جميعهم بالدخول إلى غرفة خارجية بالقرب من أحد الجدران البعيدة.. وأغلقوا الباب عليهم..

وبقيت أنا وحدي أراقب المشهد بعدما رفضوا دخولي معهم!

تمدد الرجلان على فراشهما الذي وضعاه أمام الباب لحراسة الأطفال.. ومن دون أن أنتبه.. حملني الرجل الخمسيني بقوة على كتفه.. كما يحمل أرنباً صغيراً!

بعدما أمسك بإحكام يدي وقدمي.. وتوجه نحو غرفة خارجية ملاصقة للمنزل!

أذكر أني صرخت بقوة غير طبيعية.. حتى شعرت كما لو أن حبالي الصوتية قد انصهرت.. لم ينزلني من على كتفه.. إلا على سرير!!

كان في وسط غرفة ضيقة ويكثر بها الغبار..

ثم أغلق الباب علينا بالمفتاح!

بكيت وحاولت الهروب ولكن لا مفر.. كان يضحك وتجاعيد وجهه تتشكل على شكل شيطان مرعب.. أسنانه الصفراء.. فاقع لونها! ..

منظر بشاعته.. استحالة حتى وصفه بالكابوس..

أشار إلي بيديه الاثنتين.. بعدما وضع السبابتين بجانب بعضهما ..

وبدأ بتحريكهما وكأنه يريد أن يوصل معلومة لي..

كان يحدثني بالإشارة لأنه لا يجيد لغتي العربية ..

فكان يحاول وهو يبتسم ويردد كلمات ...

حتى سمعته وسط ارتفاع صوت بكائي وهو يقول مكرراً:

- زواج.. زواج!

هنا أصابتني الهيستيريا!!.. وقمت بالركض يمنياً ويساراً محاولة الخروج.. لكن الجدران أقوى من جسم طفلة لم يتجاوز عمرها الثلاثة عشرة عاماً تقريباً..

أمسك بي بسهولة.. وسط مقاومتي.. حاول أن يجامعني!

ولكنني كنت أشرس مما أتوقع..

قوة مفاجئة حلت علي.. لا أعلم كيف حصل ذلك..

قاومت كما لو أنه الموت يريد أخذ روحي وأرفضه ..

لم يعجبه ذلك.. فثار غضباً وضربني.. فارتفع صوت بكائي أكثر ..

حتى تركني.. جلس على الكرسي وهو يشتمني..

والإرهاق واضح على وجهه من تعب الطريق الطويل ..

لقد أفسدت ليلته.. كما أفسد زينتي وملابسي..

فما كان منه إلا أن يتمدد وأعطاني ظهره وتغطى باللحاف..

ثم خلد إلى النوم!

شعرت حينها بأنني نجوت.. ولم أتوقف عن البكاء المتقطع..

فلا أدري ماذا سوف ينتظرني في اليوم التالي معه!

بقيت سهرانة.. واستمر هو في نومه..

ولم يوقظه سوى صوت أذان الفجر..

الذي ردده أحد أصدقائه في الخارج.. فقام وكأنني لم أكن بجانبه.. ثم خرج لكي يصلي صلاة الفجر معهم!!

بقيت على حالتي.. أبكي وأبكي وأبكي وأدعو ربي بالنجاة ..

إلى أن شعرت بضوء الشمس يداعب خدي..

ثم انهال على مسامعي فجأة صوت!!

أصوات أغنام!

تحركت ببطء وحذر.. واقتربت من النافذة الحديدية..

أبعدت قطعة القماش التي وضوعها كالستار.. ثم نظرت ..

كان الفناء ممتلئاً بالمواشي!

وكانت هناك سيارات كبيرة، يدفع أصحابها المال

لأبي الفاروق.. ثم يقبلون يده ومن ثم يتم تحميل بعض من الأغنام.. علمت حينها أنه تاجر مواشي ..

من طريقة تعاملهم معه.. علمت أنه شخصية مهمة ..

بعد انتهائهم.. أعطى أحد رجاله المال في حقيبة..

ثم نظر نحو النافذة التي أقف خلفها.. وشاهدني..

فتوجه إلي وهو يبتسم.. ركضت إلى آخر الغرفة بعد أن أخذت اللحاف وغطيت نفسي وأنا أرتعد خوفاً..

فتح الباب بالمفتاح.. ثم دخل.. كان يمسك بيده اليمنى إبريقاً فارغاً.. وفي الأخرى كيساً به الكثير من الملابس..

حاول الاقتراب مني ولكنني صرخت باكية بصوت عال..

غضب من تصرفي.. فقام برمي الإبريق بالقرب من قدمي، وكيس الملابس جانباً.. وأشار إلى الحمام الخارجي..

فهمت منه أنه يطلب مني الاستحمام..

انتظرت حتى تأكدت بأنه ليس هناك أحد.. سوى بعض الرجال الذين يراقبون تحركاتي عن بعد.. ثم ذهبت مسرعة إلى الحمام وأغلقت الباب الخشبي المتهالك علي.. بعدما أخذت الإبريق والملابس ..

كنت أحتاج إلى ذلك الاستحمام كي أطهر نفسي من رجس محاولات ذلك الوغد..

ملأت الإبريق وسكبت الماء على رأسي وأنا أبكي بحرقة ..

لم أصدق أنني تزوجت في هذا العمر!

وبطريقة كهذه.. كنت أبكي وأنادي بصوت متقطع..

أمي.. أمي.. أريد أمي..

ولكن صيحاتي هذه.. كانت تصدر من بقعة مجهولة بالأرض ..

لا أعرفها.. لا أعرف عنها سوى أنها بعيدة جداً عن وطني.. وحتى عن أذهان عائلتي.. وأذهان رجال الأمن الذين من المتوقع أنهم لا يزالون يبحثون عني لإعادتي إلى أهلي ..

فمن سيخطر على باله منهم..

بأن ابنتهم خرجت باسم منتحل لجواز صحيح غير مزور!

ووصلت إلى باكستان؟ ومن ثم إلى أفغانستان!

وأصبحت بأوراقها الرسمية فتاة أفغانية.. تدعى إيمان!

وهي متزوجة.. استحالة طبعاً..

انتهيت من الاستحمام الطويل..

ثم عدت إلى الغرفة وأنا محبطة ومدمرة..

مر اليوم المؤلم.. ومرت بعده العديد من الأيام..

هذه طبيعة الحياة.. تمر الأيام.. الجميلة والسيئة..

تنتهي بانتهاء الليل.. ولا يبقى منها سوى الذكرى..

المحظوظ من تبقى له الذكريات الجميلة..

والمنكوب.. من تبقى لها الذكريات البشعة!

لا أعتقد أن هناك أبشع من ذلك اليوم الذي مررت به..

وأنا في الثالثة عشرة من عمري!

لم أفارق الغرفة أبداً.. حتى الطعام.. كان يدخله رجاله ويضعونه وراء الباب ثم يغلقونه..

وآخذه وأكله كله.. كنت أجوع بسرعة غريبة..

رغم انسداد شهيتي من كل شيء..

لم يكونوا بخلاء معي.. سوى بعدد الوجبات..

التي كانت واحدة فقط.. وجبة الغداء ..

كانت دائماً تحمل الدجاج.. والأرز وكوب حليب وكوب ماء ..

ما أزعجني حقاً.. هو أن هذه القائمة.. كانت يومية.. متكررة.. لدرجة أنني كرهت الدجاج.. حتى أنني كلما سمعت صوت الديك.. أشعر بلوعة.. ولكن ليس أمامي سوى استغلال تلك الوجبة الوحيدة ..

ذلك القذر يغيب يومين ويأتي إلى الغرفة يوماً فقط..

في اليوم الذي يتواجد به..

كان يدخل الغرفة ويلقي السلام وهو مبتسم..

ثم يخلد إلى النوم من دون أن يلمسني!

وعندما يبدأ في النوم.. استحالة أن أستلقي بجانبه..

كنت أسهر وأنا مستلقية على الأرض.. وأقاوم النوم..

حتى يأتي الفجر.. كي يخرج للصلاة ومن ثم أستسلم للنوم فوراً ..

ما عدا اليومين اللذين كانا يغيب فيهما.. فإنني لا أتردد من النوم طوال الليل..

وعند طلوع الشمس.. كنت أقوم بالجلوس عند النافذة وأراقب كل من يأتي ويذهب.. أجمل الأيام التي تسعدني.. هي لحظة تفريغ الأغنام في الفناء ومن ثم تصريفها لدى التجار..

كنت أشاهدها وأنا مستمتعة..

ولكن ما شد انتباهي.. وهو المهم هنا!

الأطفال!!

كانوا يخرجون عند اكتمال الشمس ويقفون صفاً واحداً..

ويتناولون فطوراً بسيطاً.. قبل أن تأتيهم سيارة في خلفها صندوق مكشوف يركبون فيه!

ثم يعودون قرابة المغرب.. ويسلمون الأموال إلى أحد الرجال الحراس في هذا المكان!

المشهد نفسه تقريباً الذي شاهدته وعشت تفاصيله في مدينة جدة!

هي عصابة تسول أخرى.. مقرها أفغانستان!

وقد يكون لهم مقر أيضاً في باكستان ..

حيث يتواجد اللعينان.. سلوى العجوز وزوجها!

علمت حينها أنني قد وقعت بين أفراد عصابة دولية..

ولكن.. هذه المرة لم أكن عضوة في الفريق ..

وإنما كنت أرقى من ذلك.. كنت ..

حرم زعيم هذا التنظيم المعتمد على التسول!!

 

صدفة.. صدمة!!

قرابة الشهر.. وأنا أشاهد ذهاب الأطفال للتسول..

وكذلك تصريف الأغنام تارة أخرى..

تمنيت لو أني أرافق الأطفال كي أشغل نفسي قليلاً..

وأن أستغل أي فرصة قد تسنح لي بالهرب ..

ولكن كانت الحراسة مشددة على والباب مغلقاً دائماً..

لا أخرج إلا ثلاث مرات متفرقة لقضاء حاجتي أو الاستحمام ..

حتى أتى ذلك اليوم ..

. في إحدى الليالي الهادئة.. كنت ممددة على السرير..

أتأمل السقف.. والسرحان يلاطف ملامحي..

إلى أن تسللت إلى مسامعي أصوات ضرب طبل وضحكات!

قمت مسرعة باتجاه النافذة وأبعدت الستار..

لم أستوعب المشهد!

أنوار معلقة.. جلسة أرضية بها رجال.. جميعهم ملتحين!

يحمل كل منهم سلاحه.. وتوسطهم أبو الفاروق!!

يجلسون على شكل صفين متقابلين ..

ومعهم رجلان يضربان الطبل بأسلوب جميل ومعه بعض الأصوات شبه الموسيقية لا أعلم مصدرها..

والصدمة التي لم أتوقع مشاهدتها..

ست فتيات صغيرات في السن يرقصن بالمنتصف!!

في سني تقريباً.. يرتدين فستانين ملونة بألوان كثيرة ..

لم يكن يملكن أجساد فاتنات بذلك القدر.. لكنهن يحملن بعض الجمال على وجوههن التي تزينت بالمكياج الكثير كما رأيت..

أجمل ما فيهن شعرهن القصير الناعم الذي يتحرك مع الرقص بإثارة!

سألت نفسي.. كيف لرجال ملتحين ويواظبون على الصلاة يفعلون تلك الأفعال.. أليست محرمة لديهم؟

وواصلت التأمل في حركاتهم المضحكة.. كي أبعد الملل ..

كان بعض المستمتعين بالمشهد.. يقفون للمشاركة مع الراقصات الصغيرات..

أحدهم كان يهذب لحيته وهو يرقص ويقترب من أجسادهن..

في منظر مضحك بالنسبة لي..

دققت في وجوه الراقصات وسألت نفسي مرة أخرى وأنا بذلك العمر ...

لماذا قبلن على أنفسهن هذا الوضع المخزي.. مع رجال بشعين لهذه الدرجة؟

أين أهاليهن؟ هل مررن بنفس ما مرت به؟

وبينما كنت أحدث نفسي وأنظر إليهن..

لاحظت شيئاً غريباً!

لاحظت بعض التصرفات الغريبة وهن يتراقصن!

ملامح الفتيات ليست طبيعية.. كذلك أجسادهن!

دققت.. وكررت التدقيق حتى تأكدت.. بعد أن صعقت..

لم تصدق عيناي ما شاهدته..

لم أتأكد من ذلك إلا بعد اقترابهن بعد انتهاء حفلة الرقص.. تجاه دورة المياه التي تقع بالقرب من غرفتي..

وسمعت أصواتهن.. لم يكن فتيات!!

إنهم فتيان!!

ويلبسون أزياء نسائية!

دهشتي جعلت فمي مفتوحاً وساكناً لا يتحرك، كذلك ملامحي..

أحد الفتيان الذين تجاوزوا بالقرب من نافذة غرفتي..

نظر إلي نظرات مطولة.. وكأنه مستغرب!

رغم أنه أنا التي من المفترض أن تستغرب فقط..

فجأة أبعد نظراته.. وأسرع في خطواته..

بعدما صرخ عليهم أحد الرجال..

فرغوا من دورة المياه، ثم عادوا إلى نفس المكان..

تعالت ضحكات أولئك الرجال الملتحين ومعهم ذلك الأحمق أبو الفاروق.. منظم هذا الاحتفال المقزز ..

حتى هدأت الضحكات وتحولت إلى خلافات محتدمة بعض الشيء ..

انتهى النقاش بتقسيم الفتيان الراقصين على بعض الرجال!

ثم ذهب كل شخص مع الفتى في سيارته الخاصة ..

بمن فيهم ذلك الحقير ..

عدت إلى السرير.. وأنا لم أصدق ما شاهدته أبداً..

هذا المشهد الشاذ.. تكرر أمامي ثلاث مرات ..

في كل أسبوع حفلة.. يحضر فيها كل مرة أصدقاء جدد..

يبدو من ملابسهم النظيفة والمرتبة بأن لهم مكانتهم أيضاً..

خصوصاً أنهم يحملون أسلحة..

مرت الحفلتان الأولى والثانية تماماً مثل العادة ..

لكن الحفلة الثالثة ..

كانت مفصلية للوضع الذي كنت عليه قرابة الشهرين!!

دخل أبو الفاروق علي الغرفة ليلاً.. ثم ابتسم..

وهو يكلمني قبل ذهابه للحفلة.. لم أفهم شيئاً..

كانت معه حقيبة صغيرة..

وضعها على الطاولة.. ثم فتحها وأخرج منها عمامة صفراء ولبسها أمامي ثم وضع بعض العطر سيئ الرائحة..

وعدل موضع سلاحه تحت ملابسه..

ثم أغلق الشنطة بالرقم السري.. وتركها على الطاولة ..

لمحت بداخلها العديد من الأوراق.. لكنني لم أتعرف على أي شيء ..

غادر الغرفة.. بعد أن أغلق الباب..

ثم اندمج في الحفلة مع أصدقائه.. وجلست أنا بالقرب من النافذة.. أشاهد تصرفاتهم كرهاً للملل ..

فجأة.. نشب عراك كبير..

سببه اختلافهم على الظفر بأحد الفتيان الراقصين كي يكون شريكه بهذه الليلة!

وصل هذا الخلاف إلى تبادل إطلاق النار..

أول طلقة اخترقت صدر الفتى الراقص.. سقط أرضاً مدرجاً في دمائه!!

واستمر تبادل الطلقات.. ما خلف سقوط بعض القتلى

وهروب البقية!

أصابني الرعب.. منذ بداية الشجار.. فهذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها صوت طلقات الرصاص.. ركضت تحت السرير وأغلقت أذني وعلا صوت بكائي وأنا أرتعد رعباً..

دقائق.. ووسط تواصل إطلاق النار ..

كسر أحدهم قفل الباب من الخارج.. ودخل علي..

أخرجت رأسي لا إرادياً كي أشاهد من هذا ..

لقد كان أحد الفتيان الراقصين..

ذلك الذي نظر إلي مستغرباً في تلك الليلة الماضية!

أمسك بيدي وأخرجني من تحت السرير وتحدث بالعربية ..

طالباً مني أن أتبعه بسرعة ..

ومن دون شعور وقعت عيناي على شنطة أبي الفاروق الصغيرة.. فأخذتها معي من غير تردد..

وبالفعل.. تمكنا من الخروج من سور الفناء.. وما زال صوت إطلاق النار مستمراً.. ركبنا إحدى السيارات.. وأدار المحرك وهربنا.. كان الظلام دامساً.. بالكاد أرى يدي ..

وكان الفتى الراقص يقود السيارة بسرعة مجنونة ..

مسحت دموعي وأصبح كل اهتمامي متي سيوقف السيارة هذا المجنون.. أصبحت أراقب الطريق..

وأنا أشعر بأن ما حدث كابوس يرفض النهاية ..

بعد ساعة من القيادة المجنونة في منتصف الليل..

توقفنا.. ثم طلب مني الهدوء!

وشعرت بصوت نبضات قلبي تتعالى.. والخوف جعلني أتصبب عرقاً..

نزل من السيارة وذهب خلفها..

فتح الشنطة الخلفية لها.. وكنت أسترق النظر ..

مستغلة بعضاً من ضوء القمر.. رغم صعوبة ذلك..

بدأ في تبديل فستان الرقص.. ثم بدأ بغسل وجهه

من المساحيق النسائية.. وعاد وركب السيارة ..

قام بمد يده إلى الأعلى.. نحو الكشاف الضوئي المعلق بسقف السيارة. ثم أضاءه. ونظر إلي!..

لقد كان ..

يحيى!!

ما الذي يحدث؟ سألته مندهشة ومندفعة..

وأنا أشعر كما لو أنه حلم مضطرب:

- يحيى؟!.. ماذا تفعل هنا؟.. هل أنت هو أم أنت ذلك الــ ...

- يكفي.. أنت ما الذي أوصلك إلى هنا؟

- دعك من قصتي.. يحيى هل أنا أحلم.. لا أستوعب أنه أنت؟

رد غاضباً بعد أن أغلق ضوء الكشاف وبعد أن أدار محرك السيارة وانطلق:

- نعم.. نعم.. إنه أنا يحيى ولا تسأليني عن شيء.. جاوبيني كيف وصلت إلى هذا الرجل.. حسب علمي أنك غادرت مع سلوى وزوجها إلى باكستان كي لا يتورطان في قصة اختطافك.. ولكي يعوضان الخسارة المالية التي ألمت بهما بعد مباغتة رجال الأمن منزلهما.

لقد صدمني بكل ما تعنيه الكلمة.. أجبته بصعوبة وأنا أنظر إليه باستغراب وما زالت صورته في مخيلتي وهو يتراقص بجسده كالفتاة وبكامل زينته أمام الذكور.. وكان يفهم حديثي الصعب كعادته:

- نعم صحيح.. ولكن الحقيرين باعاني إلى تاجر أفغاني.. وعلمت أنهما زوجاني إياه مقابل مبلغ مالي.. على أنني ابنتهما.. واستخرج لي جوازاً جديداً أفغانياً بواسطة علاقاته الخاصة كما فهمت.. وأطلق عليّ اسم إيمان!

- الحقيران سلوى وزوجها لا يترددان باستغلال أي فرصة تأتي لهما من أجل المال..

- هل تعلم أين هما؟.. أو ماذا سوف يفعلان بعد أن تخلصا مني؟

- سمعت من والدي أنهما سوف يعودان قريباً إلى السعودية.. عن طريق مؤسسة تجارية أو تأشيرة عمرة للحرم المكي..

- قلت والدك! هل رأيته؟

لم يجب عن تساؤلي.. كان متعمداً.. ولم أجادله حينها، حيث واصلنا التقدم بالسيارة وسط الظلام.. وفي كل مرة أسترق النظر إلى يحيى.. كان ينظر إلى بسرعة ويطلب مني أن أدير وجهي.. بدا لي أنه محرج مني كثيراً..

أخبرني كي يشغلني عن النظر إليه.. بأن هذه السيارة للرجل الذي يعمل عنده.. وهو من قتل في الشجار الذي نشب بالفناء قبل قليل ..

وعندما سألته لأي وجهة ذاهبين.. أخبرني بأنه سوف يضع السيارة على الطريق الرئيسي.. ومن ثم نركب أي سيارة كي توصلنا إلى بيت والده في منطقة قريبة بعض الشيء..

على الرغم من غرابة أمر يحيى ومن تقلباته المزاجية ..

إلا أنني شعرت بالأمان معه.. فهو الوحيد الذي بقي لي من الذين التقيتهم في جدة..

وصلنا قرب الشارع الرئيسي.. أوقفنا السيارة جانباً..

وطلب مني أن يحمل الحقيبة نيابة عني..

وافقت لأن جسمي النحيل المرهق لا يقوى حتى على حمل نفسه ..

طلب مني الانتظار وذهب من أجل الاتفاق مع أحد سائقي السيارات الكبيرة التي تنقل الفواكه..

وفعلاً.. اتفق بعد أن أعطاه المال لشخصين ..

أشار إليّ بالاقتراب.. وركبنا بصعوبة في الصندوق الخلفي ..

لم نكن وحدنا.. كان معنا العديد من الرجال ..

بدأت نظراتهم تتوجه إلى رغم الظلام الذي يحيط بنا..

ولا يفرق سواده سوى بعض الأنوار البسيطة التي تنير الشارع على استحياء ..

وضع يحيى الحقيبة في حضني وجلس أمامي..

أعطاني ظهره كي يقطع نظراتهم تجاهي..

لم يخفف توتري.. سوى استنشاق رائحة المانجو الزكية..

التي ملأت صناديقها العربة.. تمنيت تذوقها.. ولكن يُمنع منعاً باتاً لمسها كما أخبرني يحيى ..

ساعات متعبة لا أذكر عددها.. حتى وصلنا..

ساعدني يحيى على النزول.. بعد أن حمل الحقيبة..

وبدأنا في المشي.. باتجاه تجمعات سكنية في حي فقير ..

كنت كالعادة.. لا أسأل عن اسم القري أو المدن..

وهذا كان خطأ مني.. لأنني كما أخبرتكم كنت على قناعة للأسف.. وقتها بأن معلومات كهذه لن تفيد فتاة في عمري ..

كنت فقط أحفظ بعض الأسماء التي ينطقونها أمامي ..

فتعلقت في ذاكرتي.. حتى اليوم..

تجاوزنا الحي ومشينا كثيراً حتى تعبت قدمانا..

إلى أن وصلنا إلى أحد المنازل الصغيرة البسيطة المعزولة!..

طرق الباب.. ففتح لنا بواسطة شخص.. كان وجهه مليئاً بالنوم ..

فتح عيناه وكما لو أنه شاهد عدواً يكرهه!

صرخ بصوت عال بلغة عربية هذه المرة فهمتها:

- يحيى!! ما الذي أتى بك إلى هنا في هذا اليوم وبهذا الوقت بالتحديد؟ ومن هذه الفتاة؟

- أبي.. أمر خطير حصل سأخبرك به في الداخل..

صفعه بيده على خده صفعة جعلت جسدي يرتعش!

ثم أدخلنا وهو يصرخ علينا! لقد كان والده.. فاجأنا باستقبال يليق بنا، لقد أوصل بداخلي الانطباع الأول لما ينتظرني معه من مفاجآت أخرى ..

بدأ يحيى بحك خده المضروب وهو يتحدث باللهجة اليمنية مع والده ويخبره بكل شيء حصل.. الشجار الذي حصل، وسقوط القتلى بمن فيهم الرجل الذي يذهب ويعود معه يحيى في سهراته ..

فهمت من ردة فعله والده.. بأنه على علم بما يقوم به ابنه من التشبه بالفتيات والرقص!

نظر إلى والده.. ثم سأله عني.. وهو يضع يداه على رأسه من هول الصدمة التي خلفتها أخبار يحيى السيئة..

أخبره بأنني زوجة أبي الفاروق.. سعودية الجنسية.. وبأنني كنت معه في فريق التسول الذي يشرف عليه سلوى وزوجها في جدة.. وبأن القدر الأسود هو من أوصلني إلى هنا.. بواسطة انتحال شخصية الجواز باكستاني.. ثم بواسطة جواز أفغاني مزور..

لم يثر الرعب بنفس أبو يحيى أي شيء..

سوى ذكر ابنه لاسم أبي الفاروق!!

وكأنه ذكر اسم الموت أمامه!

لاحظت ارتباكه وارتعاده.. واصل صراخه على ابنه

وهو يردد ممسكاً برأسه:

- لماذا أتيت بهذه الفتاة إلى هنا.. سوف يقتلوننا جميعاً

إن علموا بما فعلته أيها الغبي!!

بعد جملته هذه.. شعرت بالرعب فعلاً..

بكيت وبدأت أترجاه بأن ينقذني وأن يعيدني إلى أهلي ..

حتى صرخ علي طالباً مني السكوت..

ثم نظر إلى الحقيبة التي كان يحملها يحيى بعدما وضعها على الأرض.. سأله:

- ما هذه الحقيبة؟

- إنها للفتاة..

سألني والتوتر لم يفارقه:

- حقيبة رجالية كهذه لماذا تحملينها معك؟ وما بها؟

أجبته بخوف وبصوت منخفض وأنا أشير بيدي بجهلي التام بالذي تحمله بداخلها:

- لا أعلم..

- لا تعلمين؟ إذاً هي ليست لك؟

تدخل يحيى عندها وقال:

- لا إنها لأبي الفاروق..

ارتبك كثيراً وازداد توتره.. وبدأ يضرب رأسه بكلتا يديه..

وهو يصرخ: لقد ضعنا.. لقد انتهينا..

ويحيى بقي صامتاً خائفاً من أي ردة فعل عنيفة..

مرت دقائق من الجو المتكهرب والمقلق ..

حتى قرر الخروج وحده للسؤال عن الكارثة ومعرفة ما حدث بالتفصيل.. وكيف عليه أن يتخلص مني بعدما وصفني بالمصيبة التي حلت عليه!

طلب من يحيى أن يعطيني الطعام وأن نبقى في المنزل

ولا نخرج أبداً مهما حدث..

وقال لنا صراحةً: إن أي تهور قد تنقطع أنفاسنا بعده!

ثم حمل سلاحه وخبأه تحت يده.. ثم خرج وأغلق الباب وراءه.. وحل الصمت المطبق بينا ..

سألت نفسي بصمت.. هل أنا مصيبة فعلاً؟!

زوج سلوى كان مستاءً وخائفاً من وجودي ..

والآن يتكرر هذا الأمر مع والدي يحيى!

ما الذي يجعلني أكون كل هذا في نظرهم؟

لماذا لا تتركونني وشأني إذاً؟

قام يحيي كي يسخن بعض الطعام..

وبدأت أنا في البكاء.. كان حملاً ثقيلاً ما مررت به تلك الليلة ..

لم أتوقع يوماً أن أفقد حضن أمي.. وصوت أبي.. واللعب مع أختي الصغيرة.. وأن أعيش لحظات مخيفة وقاسية كهذه.. اشتقت لمدرستي التي أستطيع فيها اقتناء الروايات من مكتبتها التي أحب مع صديقاتي..

كم أعشق قراءة الروايات البسيطة حقاً.. ولكن.. يبدو أنني أصبحت أعيش أحداث رواية صعبة لم يسبق لي بقراءتها ..

والدتي لا تفارق مخيلتي.. كانت تخبرني كل صباح قبل ذهابنا للمدرسة.. وهي تضفر شعري الخشن قليلاً.. بأنني سأتزوج من أمير يأتيني على فرس أبيض.. وبأنها هي من سوف توصلني إليه.. بعدما تجهز لي تسريحة شعري الخاصة بالملكات.. وكنت أبتسم خجلاً ..

ولم يخطر على بالي أبداً.. أني سأقع تحت لعنة مسن شاذ..

تحت مسمى الزواج.. ومن دون علم أهلي..

ما حدث لي سبب شرخاً عميقاً في شخصيتي للأسف ..

وضع يحيى الطعام على الأرض.. خبز ومرق وبعض الخضار.. ولم أكن أرغب بأكل أي شيء.. لكن الجوع أحيانا يجبرك على مخالفة شهيتك المفقودة ..

فتأكل من دون إحساس بالطعم.. فقط لتملأ معدتك ..

أكلنا سوياً ...

وطلب مني يحيى ألا أقلق.. حتى أتى على بالي سؤال ..

كعادتي المتطفلة.. قاطعته وهو يتحدث:

- يحيى.. أخبرني.. ماذا تفعل مع والدك في أفغانستان؟

ولماذا كنت ترتدي ملابس نساء وتقوم بدور راقصة؟

شعرت باحمرار وجهه.. كان خجلاً من نفسه وغاضباً..

حتى أزاح بنظره جهة اليسار كي لا تقع عيناه بعيني.. وقال:

- والدي مهرب أطفال وسلاح.. يستغل الأطفال من كل الجنسيات.. خصوصاً أطفال اليمن لدينا ...

يعمل على تهريبهم لعصابات التسول خصوصاً بالسعودية.. الأقرب للحدود.. ويهرب مختلف الجنسيات بين الدول الآسيوية والأفريقية أحياناً لاستخدامهم من قبل المقاتلين أو التجار.. سواء في الحروب أو في الجنس.. خصوصاً الأطفال اليمنيين ..

الحقيقة لم أفهم شيئاً.. لكنني أذكر كلامه جيداً..

قلت له بعدما شعرت بتهربه من الإجابة:

- لا يعنيني كل هذا.. ما يعنيني هو أنت.. ما دورك هنا؟

ناداني باسمي.. فرفضت ذلك وأخبرته بأن اسمي يرتبط بشخصيتي الطاهرة.. ولن أسمح لأحد بأن يذكره حتى أعود عند أهلي.. لذلك.. ذكرته باسمي هنا.. بأوراقي الرسمية ..

إيمان..

ابتسم.. وقال والخجل قد كساه متألماً:

- لك ما تريدين يا إيمان.. أنا هنا أقوم بدور الباشا بازي

- نعم؟ ماذا يعني ذلك أخبرني؟

تلعثم قليلاً.. وتردد بالحديث.. ولكن إصراري عليه جعله يتحدث باختصار:

- والدي معي.. شخص مرعب.. وشديد.. ولا يعرف الرحمة.. ولكنه جبان مع الآخرين.. عندما وصلنا إلى هنا.. تورط مع أحد التجار غير الشرعيين في البلد.. وأجبره على أن يأخذني الإشباع رغباته مقابل نجاته ..

- رغباته!!.. ماذا تقصد؟

- أعتقد لا داعي للشرح.. لقد شاهدت بعينيك كل شيء..

لم أصدق ما قاله.. فهمت أنه يقوم بأعمال غير لائقة.. وهذا التحليل السطحي أقصى ما قد تتوصل إليه فتاة بعمري..

سألته ببراءة:

- وكيف يقبل والدك بذلك؟ ولماذا تبقى معه؟

أجابني بحرقة:

- بعد حادثة المداهمة بجدة.. حضر والدي لكي يأخذني.. سافرنا بشكل نظامي.. انخرط والدي بالعمل مع أحد المهربين بعدما تعرف عليه جيداً من خلال تلبية طلباته.. وهو يكسب المال هنا بعلاقاته القديمة التي كونها من عمله في التهريب.. لا تسنح فرصة يجني منها المال إلا ويسعى إلى كسبها.. لذلك هو منبوذ لدى عائلته.. حتى والدتي لم تتحمله وذهبت إلى قريتها كما أخبرتك سابقاً.. وأنا ابنهما الذكر الوحيد التعيس.. أخبرني بأنه تزوج فوراً بعد مغادرة والدتي.. وكأن شيئاً لم يكن.. وكما ترين يا إيمان.. أنا مجبر على مرافقته.. فليس لي مكان آخر سوى معه.. لقد وصلنا إلى أفغانستان منذ مدة ليست بالقصيرة.. وسوف نعود كما أخبرني في أي وقت يراه هو مناسباً.

علمت بعد حديث يحيى أن مصيبته لا تقل عن مصيبتي ..

ولكن الفرق بيننا أنني تعرضت للظلم من قبل أغراب..

وهو يتجرع الظلم من قبل أقرب الناس إليه.. والده!

مؤلم جداً.. هو حالنا.. في بلاد ليس لنا فيها أي شيء ..

أنهى حديثنا الحزين دخول والده المفاجئ.. كان مبتهجاً..

ومن دون مقدمات سجد سجود الشكر وقام وهو يقول:

- لقد قتل أبو الفاروق مع مجموعة من الرجال.. أصيب بطلقة في عنقه من بعد ذلك الشجار.. وهذا الشيء قد أزال نصف الخطر علينا..

الحقيقة فرحت.. كانت فرحة غريبة علي.. للمرة الأولى في حياتي أفرح لمقتل إنسان!!

وقلت في نفسي حينها.. يبدو أنني سأفقد إنسانيتي شيئاً فشيئاً لو استمررت بوجودي هنا بين هذه الأشكال غير الطبيعية ..

نظرت إلى يحيى وكانت ملامحه تعكس ما بداخله من فرحه.. خصوصاً أن سيده الذي كان يستغله لتفريغ عقده وملذاته قد فارق الحياة أيضاً ..

 

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا