صمت الفراشات للكاتبة ليلى العثمان 2

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-08-12

صباح الخير أيها العصفور... 

"سو.. سو.. سو..." 

أجابني العصفور كعادته كل صباح، أصفر له، فيتقافز داخل القفص يرد علي بزقزقاته الحنونة. تعمقت علاقتي بعصفوري منذ أن بدأ يعتاد صوتي ولا يخاف. في زيارة أهلي الأولى أهدته لي زوجة أخي وهي تمتدحه "له صوت عجيب سوف يؤنسك بتغاريده الأحلى من الموسيقى". لكن العصفور لم يفعل، ظل صامتاً رغم كل محاولاتي. كنت حين أقترب من القفص يلوذ بطرفه. أطرق برؤوس أصابعي طرقاً ناعماً، ينتفض جسده، يقشع ريشه ويتقافز كالمخبول. وحين أمد يدي داخل القفص لأضع له الحبوب والماء يتكرمش في الطرف ولا يتحرك إلا حين أبتعد. انتظرت طويلاً دون يأس. كنت متلهفة لسماع صوته العجيب الذي جعل زوجة أخي تؤثرني وتهديني عصفورها. ظللت أحاول ولا أفلح. حتى كان ذلك النهار الذي تعبأت فيه روحي بالقرف بعد أن لامسني العجوز فجراً. لم أقترب من القفص، لم أضع الحبوب والماء، لم أصفر، ولم أطرق بابه. فجأة تلون سكون الغرفة بتغريد آسرٍ هز روحي المنطفئة وجسدي الحائل إلى الموت. شعرت بأن الدنيا كلها تفتح شبابيكها وتغدق غرفتي بآلاف الطيور، لم أصدق أن ما أسمعه من نغمات صادر من حنجرة واحدة. كان يتقافز بشكل يختلف عن قفزات الخوف. هل تراه سعيداً بألمي؟ أم تراه أفتقد قربي ولون وجهي؟ فكرت: هل أقترب منه أو أظل هاجعة في نقطتي التي تسمرت عندها؟ كنت فرحة بنطقه الأول فخشيت إن اقتربت أن يهلع ويخرس فأحرم من موسيقاه المذهلة. انتظرت ليتعب ويصمت فأقترب منه. فإن كان يريدني سيواصل، وإن كان مصدر سعادته في ابتعادي عنه فسوف يصمت. كان علي أن أمتحن نواياه. قمت متثاقلة متحذرة. اقتربت بخطوات متئدة وهو لا يزال يطلق موسيقاه. وصلت.. احتضنت القفص بكفي، ظل يغرد، صفرت فأطلق صفيراً. كررت فاستجاب. فرحت، شعرت بمعول السعادة يشق له القنوات داخل روحي وينتشي في كل شراييني. منذ ذلك اليوم الذي أدخل فيه البهجة إلى جفاف أيامي؛ وهو لا يصمت، إلا حين أطفئ كل أنوار الغرفة. صرنا صديقين. ألف كفي التي تدس إليه الحبوب، كان أحياناً ينط عليها يلتقط الحبوب قبل أن أضعها في الوعاء المخصص لها. أداعبه، أحاول اصطياده لأحس بدفئه وأبدد بعض برودتي، يستسلم لحظة ثم يقفز إلى الخشبة منتصف القفص. كثيراً ما كنت أجلس قبالته وهو يواصل غناءه وتغريده وأحتار: لماذا يغرد؟ كيف لمن خلقت أجنحته للتحليق والنور أن يشتهي الغناء؟ كيف لمن هو وحيد مثلي بلا أنيس ألا يشعر بالحزن ويلوذ بالصمت. هل اعتاد الأسر وارتضاه أم تراه يزاول مهنة الصبر ويسلي نفسه بالطريقة التي يجيدها؟ هل مات حلمه بالحرية أم ترى هذه الزقزقة والألحان حبات أحلامه المقتولة؟ هل نسي رؤوس الأشجار وأوكار الإناث الدافئة؟ لماذا لا تكون تلك التغاريد توسلات وأمنيات أن يخرج ويطير؟ روحي الكارهة للأسر دفعتني ذات صباح أن أطلق سراحه. فتحت كل نوافذ الغرفة. كانت الشمس دافئة، السماء زرقاء صافية، وهبوب النسائم يحمل عطر الحديقة، نهار تتحقق فيه كل منابع التوق إلى الحرية. فتحت القفص، وضعت الحبوب والماء وتركت الباب مفتوحاً. جلست أنتظر وكل ظني أنه سينطلق من الباب إلى إحدى النوافذ فاراً بفرحه وغنائه، لكن المفاجأة ألجمتني. خرج من قفصة، طار في أرجاء الغرفة، يعلو، يهبط، يصفر، يحط على أعمدة السرير ويطير.. على طرف الأريكة ويطير. كان في تجواله يحاذي النوافذ المفتوحة ولا يخرج. ثم، وكمن أرهقه التجوال، اندفع داخل القفص واستقر ساكناً. هو وعطية وأنا، ثلاث أرواح أسيرة، هذا الذي أفتح له أبواب الدنيا ليخرج يتأبى ويعود إلى القفص. وعطية لا يتوق إلى التحرر من السيد، لكن روحي وحدها تكره الأسر، تحلم بنوافذ وأبواب مفتوحة، تحلم بجناح أقوى من جناحي نسر. 

* * *

 

بعدما مخط مرتين، استدار إلي. بدأت أجهز نفسي لاستقبال ليلة مقززة كتلك السابقات التي يأتيني فيها بعد انقطاع فأحس وكأن جسدي على وشك السقوط في بالوعة منسية. أستعد بذلي لما يشبه سريان الدود داخل حلقي، ودبيب صراصير جائعة على رخام ساقي ولدونة بطني. أستسلم لكفه بلا حنان تهرش مناطقي البليدة، ولجسده القنفذي ينهال علي بلا مقدمات، ولعرقه المالح يتقاطر إثر محاولاته الصعبة قبل أن يتقيأ نطفه المريضة، ولصرخاته المجهدة حين يطلقها فور الانتهاء. تبقى رائحته تنهشني فلا أنام. لكنه تلك الليلة وبعدما استدار إلي شعرت بأن لديه حاجة أخرى يتأهب للإفصاح عنها. حين لم أحرك ساكناً، ركز عينيه حيث كانت عيناي تحطان على عصفوري الوادع في قفصه، أشار بإصبعه نحوه: 

- هذا العصفور مزعج. صوته يصل غرفتي أحياناً فأفزع من غرفة النوم. 

لم أرد. احتد صوته بعض الشيء: 

- طيريه وريحيني منه. 

حطت عيناي على النافذة المفتوحة. وددت أن أحكي له حكايته الغريبة حين رفض الخروج. لكنني فضلت ألا أكشف سر العشق الذي بيني وبين عصفوري فقد يسيئه هذا فيظلمنا معاً. حين طال صمتي وتحديقي بالنافذة التي تتراقص ستارتها جذلاند، دفع بذراعي آمراً: 

- قومي.. أغلقي النافذة. 

دون اعتراض قمت وفعلت.. ما إن ركنت رأسي على وسادتي حتى انكب بوجهه فوق وجهي وقد اتكأ على كوعه الأيسر. جاءني صوته متذمراً: 

- أراك تكثرين هذه الفترة من الخروج إلى الحديقة.

توجست شراً. لكنني تماسكت:

- لم تكن قد أمرتني بعدم الخروج.

- لا مانع أن تتسلي... ولكن!

ابتعد. أسند رأسه على ظهر السرير وشبه غضب في صوته:

- لا داعي للسوالف مع المزارع والعبد.

آآخ يا عطية الكلب! لا تكتم أمراً عن سيدك.

هكذا راودني تفكيري في اللحظة الأولى. فأردت أن أتأكد من ظنوني: 

- كيف عرفت؟ 

هزأ من سؤالي، وبغرور أعجف:

- تحسبيني غافلاً عما يحدث في بيتي؟

- تصدق كلام عطية. 

- العبد لم يقل شيئاً. 

سكت ثانية ثم أردف: 

- حتى حين سألته حلف أنها مرة أو مرتين. 

لم أصدق! عصفت بداخلي غبطة حارة طردت حقدي الكامن على عطية، تصورت لو أنه يقف الآن أمامي لما ترددت أن أركض إليه، أتعلق بعنقه وأهديه قبلة الشكر. لقد كذب على سيده ليحميني من غضبه أو ربما خشي إن هو اعترف بعدد المرات أن يحرمني سيده من الحديقة فيحرمه بذلك من وجودي، ومن حديثي الطريف معه، هل يشفق عطية علي أم تراه أحب رقتي التي لم يعتد على مثلها في هذا القصر المتحجر كل شيء فيه؟ امتناني الذي زها لعطية، جعلني لا أهتم أن أسأل عن الشخص الذي فتن علي - ربما إحدى الخادمات - المهم أنه ليس عطية، وهذا سيشجعني على الوثوق به أكثر وقد يلين بعد ذلك ويساعدني. غبطتي المتوارية داخلي أدفأتني، جعلتني أسلم عجوزي جسداً أقل يباساً وأكثر رقة بعكس ما عودته فانتشى سريعاً ولم يقدر على إخفاء فرحته: 

- أشوفك الليلة غير شكل. 

أمسكت بتلابيب فرصتي: 

- الهواء والشمس يجعلان الوردة تتفتح.

أطلق ضحكات إعجاب، طبطب على فخذي:

- زين.. زين.. كل يوم إمشي في الحديقة بس....ها..

وكأنه ندم حين رأى الفرح يمس وجهي فنبهني آمراً: 

- بس مالك شغل لا بالعبد ولا بالمزارع. 

لا يهم الآن... ليرعد بأوامره كما يشاء ما دام أطلق الإذن لي أن أتفتح في الحديقة. غادر إلى غرفته. تلك الليلة تركني لا كما يتركني في كل مرة حانقة قرفانة أسارع إلى الحمام لأشطف عن جسدي بقاياه وروائحه وأظل أنهش بلحم مشاعري المهانة، تلك الليلة تغيرت حالي. ظللت رابضة في السرير، فردت ساقي وذراعي حتى ملأت مساحة السرير العريض، تقلبت عليه تقلب مهرة مولودة للتو، لم أقم لأغتسل وكأن جسدي لم يمس ولم يتلوث ويهن. وبعكس كل الليالي التي تمنيتها أن تطول لأنام وأختصر زمن أسري. الليلة اشتهيت أن يطلع الصباح باكراً.

* * *

 

عطية...

غردت باسمه وأنا أشير إليه ليأتي، فأقبل طائراً مثل عصفورٍ سعيد. حدقت في عينيه فارتبك وكأنه حدس بشيء. بادرني معترفاً: 

- أمس لما سألني سيدي والله الـــــ... 

قاطعته بإشارة من كفي ليهدأ. أهديته ابتسامة حقيقية وأنا أشعر بامتناني الشديد له وطمأنته: 

- صدقك سيدك.. وسمح لي أن أخرج كل يوم إلى الحديقة. 

انفلت أسارير وجهه، تبدد ارتباكه وربما خوفه. نهنه بضحكة خافتة. قال: 

- أنا مسرور لأجلك. 

تخابثت أداعبه: 

- لأجلي فقط؟ 

لم ينبئ سواد بشرته إن كان قد تورد من خجل أو فرح. فر من أمامي بعدما لحظت ارتعاشه. ناديته: 

- تعال. 

عاد مسرعاً. وقف مرتعشاً وعيناه مطرقتان.

- قل للخادمة أن تأتيني بالشاي هنا. 

وأشرت إلى المظلة. 

غادرني واحساسي بفرحته يقويني. ويفتح المزاليج أكثر لأواصل لعبتي معه حتى ينتصر على خوفه ويفتح الباب فأنتصر على سجني. 

جلست... شعرت بالنسيم الربيعي يلملم عطر الحديقة كله وينفذ إلى صدري، تتسع رئتاي وتتفتح الرغبة أن أتأمل كل ما حولي، نباتات الصبار المجدلة أغصانها تغطي السور بكلاحة أوراقها السميكة وغلاظة أشواكها، تحرسه بصمتها وصبرها الذي لا يشابهه إلا صبري الثقيل، أشجار النخيل الباسقة يتهدل سعفها كضفائر نساء لا تجرؤ يد على لمسها أو قصها، حطت عيناي على شجيرات الدفلى الحاملة ورودها البيضاء والأرجوانية. كنت أحب رائحتها لولا أن أمي حين رأتها ذات يوم في مزهرية غرفتي أصابها ذعر جعلها تلقي بها من النافذة وهي تقول "هذا النوع من الزهور لا يوضع إلا على القبور". حين عبرت تلك الذكرى، حولت بصري عن ورود الشجيرات التي نشأ العداء بيني وبينها منذ ذلك اليوم. حظت عيناي على أحواض فم السمكة والقرنفل والبانسيه.. كانت ألوانها المتعددة باهرة، والفراشات الرشيقة تتطاير حولها وعليها بأجنحتها الزاهية، أخذت أتأملها، كم هي رهيفة وناعمة، ما نبست حتى من رفيف أجنحتها! هل خلقت الفراشات بلا صوت؟ وهل كتب علي في هذا القصر أن أمارس صمت الفراشات؟ 

شعرت بالغضب المتراكم في صدري يغلي ويفور، ليس على نايف العجوز بقدر ما هو على المتسببين لي بهذا الواقع المرير: أبي وأمي. آآه يا أمي. ماذا تراها تفعل الآن؟ أكيد كعادتها في ثوب البيت، تنقر الكوسا وتعجن لفطائر السبانخ. أو ربما تهيئ لأبي فتة الباذنجان التي يحبها، قال لي أبي ذات مرة "أمك غيرت من طباعي، بعد: "المكبوس".. و"المطبق" و"الجريش" عودتني على أكلات بلدها، ونسيت أكلاتنا".

* * *

 

لم أكن أدري كيف تزوج أبي بأمي. لكنها ذات مرة كانت تتسامر وزوجة أخي وهي تحيك خيوط الصوف. كنت على جانب الأريكة أقرأ رواية الأم لمكسيم غوركي. سمعتها تطلق نهدة "آآآه على أيامك يا حلب" سألتها زوجة أخي "بعدك يا خالتي تحنين لتلك السنوات؟" نهدة أخرى من أمي "يا بنتي الوطن غالي رغم هذا العمر في الكويت، لكن سبحان الله يظل لموطن الطفولة والصبا عطره الخاص". تحرشت بها زوجة أخي "هل كنت تتمنين لو تزوجت - حلبياً - وبقيت هناك؟" شهقت أمي كمن يطرد تهمة "ولو! بعد هالعمر أندم؟ يا بنتي وين بياخدك قلبك بيكون بلدك". لكزتها زوجة أخي مداعبة "كيف تزوجت عمي؟" أطلقت أمي ضحكة أشبه بالتغريدة وكأن ذكرياتها التي استفاقت تدغدغها قالت "نصيب يا بنتي... نصيب". تحرقت لأعرف الحكاية، طويت الكتاب، قفزت من مكاني والتصقت بأمي، جرؤت أن أقول "يبدو أن لك حكاية مشوقة!" ساعدتني زوجة أخي بفضول لا يقل عن فضولي "إيه خالتي إحكي لنا". حوصرت أتي بإصرارنا لكنها بدت وكأنها تتمنى أن تنبش أقفاص ذاكرتها وتنثر حبوبها الملونة. لم تكن بحاجة لمزيد من الضغط عليها، لكنها أبعدتني عنها. وقفت، واتجهت إلى المطبخ وكمن تخاطب نفسها "خليني أول أقصر شعلة البوتوغاز حتى لا تنحرق الطبخة ويزعل أبوك". 

كانت أمي، رغم الحب الذي بينها وبين أبي، تخاف منه، ألحظها دائماً تساير مزاجه وتوافق آراءه حتى دون تفكير. الكلمة التي يقولها تمشي عليها كما تمشي علينا وإن كان فيها بعض القهر لنا. أوامره تلبى وطلباته لا ترد. رغم ذلك كنت أرى أمي سعيدة وراضية، لا تتذمر، لا تغضب، ولا تشكو أوجاعها وكأنها اقتنعت بنصيبها واعتبرت أن هذا هو شكل العلاقة الزوجية الأمثل. أحياناً حين يصرخ تبدو وكأنها لا تسمع الصراخ، تظل هادئة أو تربت عليه بكلمات بسيطة لتهدئه "طول بالك شوي" أو "كل شيء بيصير هدي حالك" كنت في داخلي أحنق عليه. أتمنى لو أرد على صراخه بالصراخ، لكن خوفي لم يكن بأقل من خوفها، قلت لها ذات مرة "لماذا تسمحين له بأن يهينك أمامنا؟". غضبت وصرخت في وجهي "أبوك يوجهني ولا يهينني.. ثم هذا ليس من شأنك". كانت تلك آخر مرة أقض فيها مضاجع استسلام أمي. وما إنني وزوجة أخي نقض نوم سنواتها لتفتح لنا صناديقها المغلقة وتنبش ذكرياتها. عادت من المطبخ ولا يزال البشر يلون وجهها، جلست. أمسكت بسنارتها تحيك وتحدثنا: 

(كان فوق بيتنا طابق مفروش يؤجره مالكه كل صيف. وكان ذلك الصيف من نصيب عائلة "أبو محسن". زوجته، أبنه الكبير محسن، وثلاث بنات، وآخر العنقود أخ صغير. كان عمري حينذاك سبع عشرة سنة، أنهيت الثانوية بجدارة وأحلم أن أنتسب إلى الجامعة. لكن أمي كانت تحلم بأن تزوجني أبن خالتي المهندس. في اليوم التالي لسكناهم صعدت لأتعرف عليهم، غضبت أمي ونبهتني "هؤلاء أغراب ولديهم شاب في البيت لا تعاودي الكرة"، كنت قد تعرفت على أخته التي تماثل عمري، احتججت: "البنات لطيفات والكبرى بمثل سني"، أصرت أمي: "ولو... إذا أردت صحبتك ينزلن عندك فأخواك صغيران". نزلت البنات، توطدت علاقتنا، صرنا نخرج معاً، أعرفهن على معالم حلب، نتجول في الأسواق وتجلس في المقاهي المتناثرة. ثم تشكلت علاقة حميمة بين أمي وأمهن، صارت أم محسن ضيفة يومية على أمي، تجلسان لساعات تتحدثان وأحياناً تتشاركان في لف ورق العنب. صارت تتعلم من أمي فنون طبخنا وتعلم أمي طبخات كويتية، وتطور الأمر فصار أبو محسن ينزل مع محسن يسهران مع أبي في الشرفة الواسعة يلعبون طاولة أو يتناقشون في أمور عديدة. في تلك الليالي كنت ومحسن نتخالس النظر والابتسامات. نسج الحب خيوطه سريعاً. وقبل نهاية الصيف بقليل كان أبوه يخطبني من أبي. وافق أبي لكن أمي رغم حبها لعائلته صاحت وناحت: "كيف تغرب البنت؟". كنت أراقبها من شق الباب، أنتفض خائفة أن تؤثر على أبي فينصاع لها وأتعذب أنا. كان الحب قد ترسخ في قلبي المراهق، وسافرت بي أحلامي صوب دوحة محسن، فلم أعد أتصور العيش من دونه. لكن قلبي أرتاح حين بدا صوت أبي حازماً واثقاً وهو يتمسك بقراره قال: "ناس طيبين، أحوالهم جيدة، ويحبون البنت". لم تيأس أمي حاولت: "نحن لا نعرفهم إلا من شهرين. ما أدرانا كيف هي حيلتهم هناك". أبي أسكتها بحركة من يده: " شوفي. لا تحاولي. أعطيت كلمة ولن أتراجع فيها. زينب لمحسن". تحججت أمي: "يمكن البنت تريد أبن خالتها". عوج أبي شفتيه هازئاً من غفلتها: "مصيبة أنك لم تشعري بميل أبنتك إلى محسن". ذهلت أمي. صمتت لحظة ثم أشارت عليه: "يمكن تهيأ لك". ضحك أبي: "روحي أسأليها وستعرفين أنني على حق". لم تفلح أمي. زغرد قلبي. تم الزواج بسرعة. غادرت حلب ودموع أمي تغسل وجهها وهي توصي أهل محسن بي وتأخذ الوعد منهم ألا أنقطع عن زيارتهم كل صيف). 

لم تغب عني حكاية أمي التي تزوجت من الرجل الذي أحبته وتغربت لأجله وعاشت معه كل هذه السنوات على الحلوة والمرة، مما دفعني تلك الليلة التي آزرت فيها أبي ليزوجني من العجوز أن أختلي بها، أبكي بين يديها، أتوسلها وأذكرها: 

- أنت تزوجت أبي برغبتك. 

- "كان النصيب" 

- ليش ما تقفين معي؟ 

- هذه قسمتك ونصيبك.

- تزوجت شاباً وتزوجيني كهلاً قبيحاً؟!

فوجئت بلمعان غريب يشع من عينيها وما توقعت أن تقول:

- "عنده مصاري كتير، بكره بتعيشي أميرة".

- بس هذا عجوز على حافة قبر.

- "طيب بكره بيموت وترثي أمواله". 

عصفت بي الدهشة. لم أكن أتصور أن أمي تملك شهوة للمال تجعلها ترسم لغدي ما يفسد حاضري، كانت كمن ترقص على أحلام مجهولة فقصفت ظهر حلمي، تحقق لها ما أرادت. تزوج العجوز نايف، لكنني لن أنتظر بهذا العذاب حتى يموت فأحقق حلمها بالإرث. 

أقبلت الخادمة بالشاي، وضعت الصينية، أسقطت حبة السكر في الفنجان، مالت بخرطوم الإبريق، أخذ الشاي ينسكب بلونه الشفاف ناثراً بخاره الذي فاحت رائحته وتسربت إلى عمقي، فشعرت بدفء غريب أسرى بحلمي إلى حيث تواجهني البوابة الحديدية المغلقة، وأمنية تترنم في صدري "من لي بريش طير يكسو جلدتي فأطير".

* * *

 

كانت رغبتي في الخلاص من العجوز وقصره قد سيطرت بكل أبعادها علي وتملكتني، لكن عطية يرفض خيانة سيده. آخر مرة جالسته في الحديقة كنت أنوي أن أستخدم معه لعبة أخرى جريئة قد تفيد مع محروم مثله. الإغراء بالجسد! ألم أرغم على أن يلامس جسدي عنوة؟ تأملته وهو يجلس على العشب قريبا من قدمي حارساً يقظاً أميناً. قدمت له قطعة من كعكة البرتقال الهشة، تردد. أصررت عليه ففعل خجلاً. أمسك الصحن وثمة ارتجاف واضح في كفيه. بدأ يلتهمها رغم أنه لا يعاني من جوع. شحنت صوتي بالدلال: 

- لذيذة؟ 

سريعاً ابتلع حشوة ثغره، وقال: 

- شكراً.. لذيذة جداً. 

بدأت لعبتي: 

- في الحياة يا عطية أشياء كثيرة لذيذة، بعضها نراه، نتذوقه، وبعضها يغيب عنا. 

بحلق بوجهي بغرابة أشبه بالهبل. أدركت أن طاقة فهمه لا تستوعب، قلت: 

- أنت مثلاً يا عطية.. محروم من المرأة.. كيف تبقى بدونها؟ 

 لم يكن يتوقع كلامي وسؤالي الجريء! شرق بفتات الكعكة. انتابته موجة سعال متلاحق وشهقات طفرت معها دموعه ومخاطه. سارعت إليه أضرب على ظهره. هدأ، قدمت إليه كوب الماء، عبه بشراهة، أستل شهيقاً عالياً. فاجأتني نوبة ضحك. كنت فرحة بسلامته متأثرة بمنظره المثير. التفت نحوي: 

- سيدتي... كدت أموت. 

أظهرت اهتماماً شديداً:

- سلامتك من الموت.. لكن كيف شرقت؟

طأطأ وقد عقد ما بين حاجبيه: 

- سيدتي كلامك صعب و... 

تملكتني نزعة لإثارته: 

- هل ذكر المرأة يهزك بهذا الشكل؟ 

- سيدتي.. أرجوك.. ما أنا إلا عبد لا يحق له كسر الحواجز. 

تصنعت الغضب: 

- عليك أن تجيب عن السؤال. 

أسقط رأسه بين ركبتيه المتباعدتين، ضغط عليه بيديه، أدركت فظاعة الحالة التي يعانيها، حاولت أن أعطيه مفتاحاً للحديث: 

- ما طلبت من سيدك أن يزوجك؟

أتى صوته مدوياً من أعماق جبه:

- هو يزوجني على كيفه بين فترة وأخرى. 

شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. ماذا يخفي هذا العطية من أسرار؟ هل من كوارث أجهلها؟ رغم العاصفة الهوجاء التي حاصرتني تماسكت. جرؤت. مددت أطراف أناملي، شددت شعره الأجعد، لم أرحم ارتجافه، همست بعذوبة: 

- هيا يا عطية.. فضفض عن نفسك، أطلق همومك التي تكاد تخنقك. 

كان الذي قاله عطية أشبه بالحكايات الخرافية، لم أشعر بالغيظ الحارق على العجوز بقدر ما شعرت به على نفسي الغبية، كيف لم ألحظ هوايته بتغيير الخادمات، بين فترة وأخرى! كيف لم أحدس أين يكون في الليالي التي لا يقارب فيها فراشي ولا يتلذذ بطعم فاكهتي؟ كيف لم أشعر بتقلبات الخادمات من يأتين منكسرات، مهلهلات بأسمال بلادهن القريبة والبعيدة ثم يصبحن كالفراشات ملونات بالثياب وبالأصباغ، حتى طباعهن تتغير؟ كيف لم ألحظ تحول نبرات أصواتهن من الهدوء والخنوع إلى الفجور والضحكات الصاخبة، ودعاباتهن الوقحة التي التقطها مصادفة من المطبخ أو من حجراتهن المتناثرة في الدور الأول! بل كيف غاب عني ذلك الاصطفاء الواضح منه لجورجيت الصارخة بأنوثتها التي تتعمد إبرازها ليلاً ونهاراً. كانت ترتدي التنانير القصيرة أو البنطلونات السترتش التي تلتصق بفخذيها وتبرز استدارة مؤخرتها. وبلوزاتها الفاقعة التي تكشف عن صدرها وذراعيها. ولا تكتفي بذلك فطرقها في الإثارة متعددة، طريقة مشيها المثير ودلعها والتأوهات الشبقة في صوتها. كنت لا أطيقها. ليس غيرةً بل حقداً عليها منذ أن رفعت صوتها ذات مرة حين أنبتها بشكل اعتيادي ما كانت تعترض عليه. لكنها ذلك اليوم استنسرت ولم تهتم لوجوده معي في الصالة. صرخت لأخرسها فما كان منها إلا أن دفعت الطاولة الصغيرة حيث وضعت الشاي وقلبتها على السجادة، تصورته سيهب ليصفعها. يبصق في وجهها. يرغمها على الاعتذار أو يطردها من القصر كله. لكنه لم يحرك ساكناً، ظل يقلب بأوراقه ويدسها في حقيبته التي لا تفارقه، أردت أن أقتص لنفسي، هببت لألحق بها والنار تغلي في عروقي عازمة على شدها من شعرها وصفعها، لكنه في تلك اللحظة فقط استفاق من غفلته المتعمدة. صرخ: 

- وين رايحه.. تعالي. 

التفت إليه حانقة: 

- سأؤدب هذه الكلبة. 

أظهر كل ما لديه من غضب: 

- أرجعي.. ما لك حق عليها. أنا من يؤدب هنا.

- إذن قم.. أرني كيف ستؤدبها. 

نفض الكلمات بوجهي: 

- أعرف متى وكيف أؤدبها، لا أنتظر أوامرك، هيا عودي لمكانك. 

كان لابد أن أستعيد كرامتي المطعونة. انتظرت إلى الليل حين استفاقت حاجته إلى جسدي فتمنعت. ولأنه كان في قمة اشتهائه، انتهزت الفرصة. ظللت أرفض وهو لا ييأس وحين صرخ: 

- وتاليها معك؟ 

قلت:

- لن تمسني حتى ترد لي كرامتي وتطرد تلك الخادمة.

بدأ صبره ينفد:

- أنا الذي يقرر. الخادمة ستبقى. يا ليتك تصيري مثلها. 

قفز من الفراش بعدما لسعني بتلك الكلمة التي لم أكلف نفسي بمجرد استعادتها وتقليبها لأكتشف الخافي من الأمور. كان كل ما يهمني أن يغادرني ويريحني من طريقة افتراسه لجسدي. وآآآه.. كم كنت موهومة. تناسيت أنه الأعجف القادر على مذلتي وكسر نفسي وكرامتي. حسبت أنني سأنام مرتاحة وما ظننت أن تلك الليلة ستكون أكثر الليالي رعباً وغرابة!!. بعد دقائق دفع باب غرفتي، استويت في فراشي فإذا به مع جورجيت بقميصها الأحمر الشفاف القصير، رغم ما سببه لي منظرها من قرف فإن الفرح غلب علي، ها هو يشدها من فراشها لتأتي وتعتذر، فرحت. تصورت أنني استطعت ولو لمرة أن أحقق رغبة في نفسي، أن أجعله ينصاع لطلب مني، وما كنت أحسب أن هذا الحضور المفاجئ كان فصلاً من فصول استبداده وشذوذه!! كانت ضحكته أوسع من عرض وجهه: 

- ها.. جبت لك جورجيت. 

تهيأت روحي الفرحة لتسمع اعتذارها. لكنه قصم فرحتي وهو يواصل كلامه: 

- علشان تعلمك كيف تكوني أنثى. 

لم أدرك معنى كلامه. ولم أكن أتخيل أي شيء من الذي حدث!! 

دنا من السرير. أزاحني إلى طرفه، خلع ملابسه وأمرها:

- تعالي. 

اقتربت بدلال وقح، حظت على السرير بجانبه وهي تتدلع "تكرم عينك". أشار إلي وهو يقول لها:

- وريها كيف تكون المرأة. 

قفزت من السرير ملسوعة، اتجهت إلى الأريكة قرب النافذة أرتعد مثل فأرة تطاردها مئات القطط المتوحشة، حاولت أن أجنب عيني النظر، لكن عنف المشهد مثل سنارة حادة انغرزت في لحمي وأخذت تسحبني إلى اللجج الثائرة. ما الذي تفعله تلك المرأة المتجردة من كل خجل؟ كيف تستعذب الفعل دون تباطؤ ولا قرف!! صوته الأجش وهو مأسور بتوحش جسدها يصارع ليخرج إلي: 

- شوفي... تعلمي. 

هل فقد عقله حتى يتصورني أستطيع مضاهاتها بهذه اللعبة القذرة؟ هل يمكن لي أن ألوث روحي وجسدي كما تفعل؟ كانت جورجيت أشبه بذئبة جائعة، وكان هو أشبه بالطريدة تستهوي العواء. خمدا. والنار في لم تخمد. عرق مهانتي وروعي يغرقني، يثير قشعريرة برد وغثيان مر. أدركت أن لديه افتناناً كبيراً في تعذيبي وجرح كبريائي. أمرها أن تخرج، لم تغفل الحقيرة أن تسدد لي نظرة متعالية وشامتة، وقف يرتدي ثيابه وصوته كالموسى يذبحني: 

- حتى لا تحسبي تمنعك عني يهمني.. شفتي الحريم الحارات، مو مثلك لوح ثلج. 

خرج من الغرفة، صفق بابها، تاركاً خلفه صمتاً كثيفاً.

للصمت صدى غير مسموع، كآبة غير ملموسة، ظلمة غير مرئية، وأنا في أحشائه مضغة مرة عسرة فاقدة لكل خصائصها. يعصر رئتي، يفرغهما من هوائهما، يضخهما بدخان غليظ يدق كل عصب في جسدي فأحسني مشلولة عاجزة. ظللت على أريكتي متهتكة الروح، هشة العظام، نازفة دم كرامتي المهدورة، جاحظة غير مصدقة أن عيني قد شاهدتا هذا الفعل الفاحش. شيء واحد كان يرد عتي شقاء اللحظة، أنني لم أقدم له جسدي يوماً إلا قطعة من الثلج والحجارة. 

منذ ذلك اليوم تحاشيت جورجيت. لا أنده باسمها إن احتجت طلباً، لكنها كانت تتعمد استباق التي أناديها كمن تود إغاظتي وإثارة أعصابي. فأظل أزعق باسم الأخرى محتقرة حضورها. فتنسحب بعدما تطلق ضحكة فاحشة توحي بأنها في الأصل كانت مومساً أو راقصة رخيصة في ملاهي بلدها. 

كم كنت بلهاء.. مخدوعة! ما الفرق بيني - أنا السيدة - وبين الخادمات حين يكون السيد مشتركاً؟ حين يكون في فراشه البسيط كما في فراشي الوثير! أية قذارة كان يحملها إلي من صدأ ثغورهن وسيول فروجهن؟ كيف وهو الفاقد لفحولة الرجال يقدر أن يوزع جسده وهواه بين نساء القصر؟ وهذا لعطية المسكين الفاتح الأول لقلاع سيده الموصدة. يفعل مع كل واحدة ما فعله بي في ليلتي الأولى. 

وأنا...!! 

الغبية التي ظننته محروماً من اللذات فجئته لأستثيره لعله يفتح لي بوابة الرحمة التي ستطلق روحي إلى النور. مثله مثل سيده. يخوض في المجاري المتاحة. يكتفي بفعل الحرام الموهوب إليه ولا يداعبه الحلم أن تكون له زوجة وأطفال أحرار لا يرثهم سيده، حقدت عليه، تأسفت أني ساعدته لينجو من شرقته. ليتني تركته يموت كي لا أكتشف هذه القمامات التي أعيش فيها. نظرت إليه وهو ذليل في جلسته قرب قدمي يرتجف بعد أن كشف الستار والأسرار. لم يتمالك. سقط برأسه فوق ركبتي وتوسل: 

- أرجوك يا سيدتي.. لا تخبري سيدي بما قلت. 

نفضت رأسه عني وكأنني أنفض بزاقة رخوة. قذفت إليه بوعدي 

- اطمئن.. لن أضرك بشيء. 

غرب عن وجهي. نيران غضبي تتأجج وتحرق بقية صبري. قررت أن أتحدى العجوز وأتحداه، أبحث عن وسيلتي الخاصة لأخرج من حاوية القمامة.

* * *

 

كان بمقدوري أن أستغل اعترافات عطية، أهدده إن لم تساعدني على الهرب سأخبر سيدك بكل ما تفوهت به" لكنني لم أفعل. فأنا التي يسحق الظلم روحي لا أستطيع أن أكون ظالمة. إذا عرف العجوز فلن يرحمه، سأكون قد خرجت من الأتون فرحة بخلاصي مخلفة روحه المأسورة تئن وتلعنني وتطاردني بلهيب يوجع ضميري فلا أهنأ بحريتي، عطية لم يخطئ بحقي، هو مجرد فاعل وشاهد، علي أن أشكره رغم الذي أصابني من تلف، فهو قد حفزني أكثر لأفر من هذا الجحيم. 

في الليل فكرت: هل أخرج من القبر عارية حتى من كفن؟ أم أتدثر بالأشياء الثمينة التي أغدقها علي العجوز؟ لن تكون تلك الماديات التافهة أغلى على من عمري.. لكنني، ورغم احتقاري لها، قررت أن آخذها معي. 

قمت إلى خزانتي، أخرجت الصندوق الثقيل الذي تربض فيه كل مجوهراتي، فتحته، تلألأت أمام عيني أصنافه: ذهب، ألماس، ياقوت، فضة وعقيق. أصابني غثيان شديد، فهذا اللألاء لم يستطع يوماً أن يدفئ بردي ويسعد قلبي، أو يجعلني أهب جسدي طيعاً ليناً ومهادناً لرغبات العجوز. كانت هوايته اكتناز المجوهرات في خزانتي، حين يحملها إلي ويفتح علبها المخملية يأمرني بتعالٍ شديد أن أنظر إليها، يشعرني، بكلمات كالإبر، بأنه يتصدق علي، وحين لا يلمح اهتمامي وابتهاجي بما أرى يعفس وجهه، ينفض أصابعه الذابلة في وجهي ويقذف كلماته "بنت فقر ما تعرفين قيمة الأشياء" كنت أفرح بغضبه، أهينه وأنتقم لكرامتي حين أجعله يشعر بأن مال الدنيا كله لا يهزني ولا يدخل أي بهجة إلى حياتي. أتمادى أكثر، ألقي بها في الصندوق بلا اكتراث وأغلق عليها. وفي داخلي كنت أشعر بالأسى لأنها في الظلمة تابعة مثلي، لا تتحرك. 

تلك أول مرة أخرجها، أتفرج عليها، وأتساءل في سري: "أليست هذه بعض ثمن عمري الذي دفعته؟ أليست هي بعض الإرث الذي حلمت به أمي والسطوة التي أرضخت أبي فقدماني لقمة وضحية؟ هل أعود إليهما عارية من ثمني؟". أفرغتها كلها في حقيبة جلدية وجهزتها للحظة الهرب. 

لم أنم... 

أحسست بحكاك شديد في جسدي، كأن آلاف الحشرات التصقت به: برغش، بق، جراد، صراصير، نمل وديدان من كل الأشكال. وكأنني حين لامست تلك الأشياء المريضة قد أصبت بعدوى غريبة. تكالبت علي مخاوف راحت تتلاطم في فراشي. هل سأنجح في خطتي أم سيصطاد عطية رائحتي فيلاحقني ويفضحني بنباحه؟ إنها فرصتي الوحيدة، لا أريد أن أفشل فيها وإلا سقطت في الحضيض وعلى روحي السلام. 

تناهى إلي صوت الأذان حنوناً فائضاً بالنور والرحمة، تستل إلى عمقي، انفرش هالات تضيء بداخلي فتشع سعادة غريبة في كياني وروحي. أسرعت إلى النافذة، فتحت الستارة وأطلقت بصري إلى السماء. كان غبش الفجر كالغلالة الفضية، ثمة نجمات تأخر عن الرحيل، وجدتني أهمس بكل ما أوتيت من احتياج لخالق الأرض والسماء "يا رب..." التمعت نجمة، كررت "يا رب". ومع نهاية الأذان "لا إله إلا الله". شعرت وكأن ضفائر النور كلها مدلاة نحوي. 

انسحبت إلى فراشي وإحساسي أن المساحات الضيقة في داخلي تتسع، وأن الهواء الموبوء داخل رئتي ينقشع ويحتل مكانه الهواء النقي. شعرت أن روحي أكثر قوة، وجسدي أكثر بأساً. استلقيت على فراشي، تمددت بكل الاتجاهات سعيدة بامتلاكي له وحيدة دون وجه العجوز، لكن السؤال قرصني "أين تراه الآن؟ مع زنوبة! أو جورجيت! أو صوفي؟"... بقدر ما استطعت طردت المشاهد المتخيلة من رأسي واستعدت خطة هربي. تأكدت أني أحكمت كل خيوطها وردمت كل ثغراتها محاذرة من أي نأمة قد تشي بأمري. ظللت متوجهة بكل مشاعري إلى الله. أرجوه أن يكون نصيري ويفتح لي الطرق الآمنة. 

هي فرصة واحدة... 

كنت طوال الأسابيع السابقة لهربي أراقب أوضاع البوابة، أدرس جيداً الزمن الذي تفتح فيه واللحظات التي تترك فيها حرة قبل أن يزنرها عطية بالسلاسل والقفل الكبير. هي دقائق كخطفة العين، حين يصل العجوز يركض عطية، يفتح البوابة، تدخل السيارة، يركض خلفها، ينتظر حتى يترجل سيده منها ويسلمه حقيبة الأوراق ثم يعود ثانية ليغلقها. مسافتي وزمني قصيران، كل ما يتوجب علي عمله هو الاختباء قرب البوابة، خلف أشجار الصبار، لأطلق ساقي في اللحظة التي يهرول فيها عطية خلف سيده قبل الإغلاق. ماذا عن عيون الخادمات؟! لابد من إشغالهن بأية طريقة. لا أريد لواحدة منهن أن تخرج إلى الحديقة لأي سبب. أريد أن ينشغلن عن وجودي تماماً قبل مجيء العجوز. الأمر يحتاج إلى تدبير وخطة أخرى لا تخر من ثقوبها أية غفلة. 

في اليوم المرصود افتعلت ثورة داخل الصالون الكبير الذي كنت لا آبه بنظافته لشعوري بأنه لا يخصني. فهو مجرد مساحة باردة مليئة بالأثاث الفخم والتحف والسجاد الفاخر. تنازلت عن كراهيتي الثقيلة نحوه، تفقدته فإذا بالغبار ينام عليه، ناديتهن، ركضن نحوي وأنا أمر بأصابعي على الغبار، أصرخ وأقذف بالأشياء حتى خلقت فوضى تحتاج لساعات كي يستتب وضعها. أمرتهن بأن يتركن كل عمل آخر ويتعاون في إعادة الصالون نظيفاً ومرتباً. كان الغضب والاستياء يرتسم على وجوههن لكنهن التزمن بالأمر وبدأن. وهكذا أمنت وقتي. أسرعت إلى غرفتي، ارتديت ما خف من الثياب، حملت الحقيبة الجلدية وقبل أن أترك الغرفة ركضت إلى عصفوري. كان منكمشاً حزيناً كأنه شعر أن لحظة فراقنا قد أزفت، مددت كفي داخل القفص، استسلم لها طائعاً، قربت ثغري من منقاره فأخذ يصفر صفرات موجعة. همست له "علينا أن نتحرر معاً". دنوت به من النافذة، فتحتها، صار يرفرف بجناحيه محاولاً التملص من قبضتي ليطير إلى داخل الغرفة. اندفعت دموعي غزيرة، قربته إلى وجهي وأشبعته قبلات الوداع الأخير ثم أطلقته من يدي. شعرت بأنني اقتطعت قطعة من قلبي وحذفتها. أطلقت ساقي إلى البوابة العتيدة تدفعني رياح التوق إلى الحرية والشمس والهواء النقي. 

عطية كعادته مثل هذا الوقت، يؤدي صلاة الظهر. اختبأت بحذر خلف أشجار الصبار. كان الشوك ينغرز في لحمي فلا أكترث. انتظرت بارتجافي وقلبي يقرع حتى خشيت أن يدل على مكاني، هدير أعصابي يحاصرني لكنه لا يتغلب على عنادي وتصميمي، كانت لحظة الخلاص أقوى من خوفي المسيطر. لن يحتاج الأمر إلا لخطفة عين أنس فيها خارج السور مثل دودة تنسل من قلب ثمرة عجفاء وأنتظر حتى يغلق عطية البوابة ويبتعد، فأطلق روحي إلى الحياة. تلك الدقائق كانت زمناً رهيباً قاصفاً لكنه ما استطاع أن يميد بخلاياي المتيقظة حتى حانت اللحظة الحاسمة. 

نجحت.. نجوت.. تحررت. أسرعت خطوتي كعاصفة إلى الطريق المحاذي للبحر، كنت أشبه بمجنونة مفلوتة من غياهب مصح عقلي، حذائي يلعق تراب الطريق حتى وصلت مظلة الباص التي تكوم تحتها العمال الهنود والأسيويون. التقطت أنفاسي وشحنت قدمي ثانية لأتجاوز مسافة الرصيف إلى الجانب الآخر من الطريق. أحدهم صرخ بلكنة عربية متعثرة "ألحين يجي باص". 

باآآآص! أي باص هذا الذي سأحتمل رحلته الطويلة ووقوفه عند المحطات المزدحمة! أحتاج لصاروخ يشق الفضاء.. لطائرة تقتحم الريح.. السيارة عجولة تخطفني من فنطاس القهر إلى الرميثية حيث بيت أبي الذي لا أدري كيف سيستقبل فعلتي. الصيف حارق، الشمس فاتكة، والعرق ينبع مثل شلال هائج ليغرق جسدي، لكنه لا يستطيع أن يبلل جفاف ريقي. احتملت العطش والحرارة وأنا أستنجد بذراعي نحو السيارات الفارة وكأن شياطين تلاحقها. أشتمها بسري وأتوسل الله أن يسوق إلي من يتوقف ليرحمني وينقذني، اندفعت وسط الشارع. سيارة تقودها امرأة كادت تصدمني. زعقت عجلاتها وقبل أن تلوط بلسانها كنت أفاجئها وأنقذف داخل السيارة بمنظري الغريب، أتوسلها: 

- أرجوك.. هناك من يطاردني، خذيني إلى بيتي.

لمحت خوفاً وريبة على وجهها. تأكد ذلك حين فاح صوتها:

- آخذك إلى المخفر. 

صرخت:

- إياك أن تفعلي.. هيا سأدلك على بيتي. 

استسلمت لأمري، ربما تصورت أنني مسلحة فخافت. كان وجهها الكركمي ينبئ بذلك، وقد ارتحت لخوفها، فهذا سيرغمها أن تواصل سيرها. كنت أشعر بفضولها العنيف يكاد كل لحظة يبقر بطنه ويقذف بسؤال. لكنني لم أترك لها فرصة. كنت سارية بوجهي نحو الطريق لأدلها كيف تتوجه: "من هنا.. هذا الشارع.. يمين إلى تلك المحطة.. الآن إلى اليسار.. هنا عند تلك العمارات.. ادخلي يمين.. عند ذلك البيت ذي الحجر الجيري الأصفر قرب الشجرات المائلة". 

أربع سنوات إلا شهوراً ثلاثة. لم تصافح عيناي شارعاً ولا مباني ولا سماءً غير تلك التي أراها من نافذة القصر. تصورتني سأنسى الطرق التي توصلني إلى بيت أهلي لكن حلاوة الروح التي ارتدت إلي لحظة الهرب أيقظت كل تلافيف ذاكرتي، فتحت الخرائط المغلقة وبعثت بروائح زمني القديم حيث تربيت، وكبرت، وسمنت.. وباعوني، حين توقفت السيارة عند الباب نزلت وحشوت رأسي داخل السيارة، أردت أن أشكر المرأة بالطريقة التي وجدتها كفيلة بأن تجعلها تشعر بالأمان والراحة. كل ما كان يهمها هو أن تعرف سر هذه المجنونة التي فرضت نفسها عليها وجعلتها ترضخ لأمرها حتى أوصلتها. نطقت بصوت يلامس البكاء: 

- شكراً.. سيجازيك الله خيراً. إنني هاربة من بيت زوجي إلى أهلي. لقد أنقذت حياتي. 

مع الدهشة التي ارتسمت على وجهها انطلقت ضحكتها:

- أيا.. الشيطانة!! منظرك كان يؤكد أنك هاربة من عصابة.

- أكثر.. والله كان أكثر.. شكراً لك.

أخرجت رأسي وركضت صوب باب البيت.

* * *

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا