الطفلة إيمان
بداخل الأوراق.. ما لا تتوقعه.. كن متهيئاً للصدمات!
رواية
حازم بن راشد
وجدت نفسي..
أستمع إلى مشاكل الجميع.. إلى جراحهم..
ولم أجد من يسمعني!
هل هذا قدري حقاً؟
* * *
هذا ثالث إصدار من إصداراتي..
اكتبه.. وأنا مُتعب جداً!
مُتعب جداً.. حتى التعب..
إن شئتِ.. أطلقي عليها اسم.. "ثلاثية العتب"!
إهداء..
ليس كل شيء يقال.. لذلك..
سأتركه هذه المرة فارغاً من الكلمات.. مليئاً بالتخمينات!
(...)
إهداء..
إهداء إلى وطني..
أراكَ كل يوم تتجدد.. وتصبح أفضل..
ولكنني أنتظر منك الكثير والكثير..
ليس طمعاً.. وإنما حباً.. وعشقاً..
حفظك الرب..
إهداء..
إلى كل طفل متضرر على كوكب هذه الأرض..
وبالأخص.. إلى الأطفال الذين اختفوا فجأة!
.. إهداء خاص إلى قرائي الأعزاء..
هذا إصداري الخامس بين أيديكم..
كنتم وما زلتم.. الدافع المحفز لاستمراري منذ بداياتي..
أشكركم.. جميعاً.. فرداً فرداً..
فلن تكون امرأة..
إلا معي..
إلا معي..
نزار قباني
* * *
الشيء الوحيد الذي يجعلنا نجبر الكسور..
.. هو الكتابة..
الكتابة وحدها تمنحنا هذه الفرصة..
واسيني الأعرج
أحياناً ..
قراءة الأحداث البشعة في الحياة مفيدة!
لأنها تخبر بأن حالنا.. أفضل بكثير عن حال غيرنا..
وعندها.. سوف نترك السوداوية المقيتة..
التي نختلقها لأنفسنا كل يوم!
وسوف نفكر بعد ذلك بإيجابية..
في ثواني.. تحولت حياتي!
ما حدث لي.. لا يصدق.. لم أستطع تصديقه..
ولا أعلم لماذا أنا بالذات حصل معي كل هذا!!
لكنني سأخبركم به.. وعليكم التركيز.. والحذر!
وقبل أن تواصلوا القراءة.. سوف أطلب منكم طلباً..
تأكدوا من أن صغاركم الذي معكم الآن جميعهم بأمان!!
سواء كانوا أشقاءكم أو أبناءكم.. أو حتى أقرباءكم!
لا تتركونهم في الشارع.. أو في المول أو حتى بالمصلى وحدهم!
وهم مازالوا أطفالاً أبرياء..
هل تأكدتم؟ أتمنى ذلك.. فالأمر جدي فوق ما تتصورون!
إن كنتم لا ترغبون بفقدانهم إلى الأبد طبعاً!!
افعلوا ما طلبته منكم دائماً.. ومن دون تهاون!
سأدخل في الأحداث من دون تمهيد..
أنا فتاة سعودية.. لم أهنأ بطفولتي..
خاطفتي!.. هي السبب في كل تفاصيل دماري!!
امرأة عجوز باكستانية الجنسية.. اسمها سلوى..
في عام 2005م..
كنت ابنة الثالثة عشرة حينها.. برفقة أهلي.. عائلة صغيرة مكونة من والدايّ وأختي الصغرى وأنا..
كنا متوجهين عصراً من جدة إلى مدينة الباحة براً..
لقضاء إجازة قصيرة كما أذكر..
وكعادة أي عائلة تسافر بالسيارة.. توقفنا عند محطة تزويد الوقود.. من أجل التزود ببعض المواد الغذائية وغيرها..
لكن موعد صلاة العصر.. تسبب بإغلاق كل تلك الخدمات. كما هو النظام.. وعليه قررنا أن نصلي العصر، ثم نأخذ ما نريد، وننطلق بعدها لبداية رحلتنا..
أوصلنا والدي أنا وأمي وأختي إلى المصلى المخصص للنساء.. وذهب هو لمصلى الرجال..
لم تمضِ دقائق حتى أُقيمت الصلاة..
وكعادتي الشقية.. انتظرت دخول والدتي في الصلاة..
بعدما وقفت أختي الصغيرة التي تصغرني بثلاث سنوات إلى جانبها.. كي أرجع إلى مؤخرة المصلى وأبدأ في اللعب والتجول..
كان كل شيء ممتعاً بالنسبة لي.. حتى نزولهم للسجود!
لم أشعر بشيء!!
سوى بانقطاع أنفاسي! وبسرعة ظلام دامس اغتال عيني!
لم أفتحهما سوى على منظر سقف خشبي متآكل!!
قمت مفجوعة.. ونظرت بسرعة على يميني ويساري..
وإذ بامرأتين من الجنسية الباكستانية في غرفة..
وفتاة عمرها من عمري تقريباً!
العجوزتان بشعتان بكل ما تعنيه الكلمة من بشاعة ..
تنظران إليَّ بطريقة مخيفة ..
ابتسمت إحداهما بعد أن نظرت إلى الأخرى..
وظهرت أسنانها المرعبة.. وكانت إحداها لونها ذهبية..
والصف العلوي يكاد يكون كله مفقوداً.. والبقية متناثرة بشكل عشوائي..
تحدثتا مع بعضهما بفرح بالغ.. وبلغة لم أفهمها أبداً..
وفي أقل من ثوانٍ بعد هذا المشهد المخيف..
علمت أنني.. مخطوفة!
لقد تم تنويمي بواسطة منديل مخدر تم وضعه على أنفي في غفلة مني.. وخرَّت حينها كل قواي بهدوء..
ولم يشعر أي أحد من النساء المنهمكات بأداء صلاة العصر بأي شيء من الذي حصل لي..
انفجرت باكية ..
حاولت الهروب.. ولم أجد سوى الالتصاق بأحد الجدران المتسخة.. وارتفع صوتي بالبكاء وأنا مذعورة غير مصدقة ما شاهدته.. وبدأت أصرخ: ماما.. ماما..
أصبتهما بالتوتر والغضب.. فقامت تلك العجوز صاحبة السن الذهبية.. واندفعت نحوي.. وشدتني من شعري بقوة.. ثم أغلقت فمي بيدها المجعدة.. كي تكتم صراخي.. لم أستطع التوقف.. وشعرت بأن نبضات قلبي تكاد تصل إلى حنجرتي.. كما شعرت كذلك باختناق أنفاسي شيئاً فشيئاً..
حتى خُيل إلى أنني أصبحت أبكي من غير صوت..
دخل على ذلك الإزعاج رجل كبير في السن.. من نفس جنسيتهما.. وصرخ بأعلى صوته:
- سلووووووووووى!!
تركتني مسرعة.. فسقطت على الأرض وواصلت بكائي..
محاولة التقاط أنفاسي.. ثم واصل كلمات بصوت مرتفع
وكأنه يحذرها.. وما كان منها سوى الاستجابة!
علمت من ذلك أن سلوى.. هو اسم هذه العجوز..
وعلمت بعد ذلك أنها زوجته.. والفتاة الصغيرة ابنتهما.. والمرأة العجوز الثانية شقيقته..
اقترب مني وتحدث معي بلغة عربية مكسرة..
طالباً مني الهدوء وعدم الصراخ كي لا أتعرض للضرب!
أخرج المرأتين من الغرفة.. وخرج وراءهما.. ثم أغلق الباب عليّ.. وعلمت حينها أنني لست مختطفة وحسب.. بل محتجزة أيضاً!
الصدمة التي أصابتني.. لم تفارقني.. والرعب الذي حلّ بي جعلني أواصل بكائي بصوت منخفض خوفاً من غضب الرجل ومَنْ معه..
كنت أنادي أمي كثيراً.. تعودت عليها أن تجيبني مباشرة..
ولكن هذه المرة.. لم تجبني!
رأسي كاد ينفجر وقتها.. فلم أستوعب ما كنت عليه..
آخر ما أذكره أنني كنت ألهو في المصلى، والآن أتواجد في منزل قديم مع أناس عرباء!
كنت كما لو أنني أحلم حلماً مخيفاً..
وأنتظر موعد استيقاظي.. الذي رفض أن يحضر..
لم أنَم تلك الليلة أبداً.. حتى أتى وقت الظهيرة في اليوم التالي.. فنمت مجبرة من فرد الإجهاد..
لكنني لم أتعمق في النوم.. حتى فتح أحدهم الباب بطريقة عنيفة.. جعلتني أفزع من نومي.. لقد كانت العجوز سلوى..
قدمت لي الطعام.. ولك أنقبله.. بل ركلته برجلي وأنا غاضبة وأبكي.. ووجدت صوتي يرتفع بالصراخ لا إرادياً..
أغضبتها كثيراً.. غضباً مخيفاً.. فاعتدت عليّ بالضرب
طالبة مني السكوت.. ثم خرجت متوترة وأغلقت الباب..
وبعدما هدأت.. اضطررت لتناول ما تبقى من الطعام الذي لم يسقط على الأرض بعد.. قبل أن يقضي عليّ الجوع.. فالعناد قد يكون مع كل شيء.. إلا مع الطعام..
تكرر ذلك يومياً.. وفي كل مرة يُفتح عليّ الباب..
كنت أتمنى لو أرى أمي أو أبي.. لكنها تكون كالعادة..
العجوز سلوى..
واصلت البكاء والصراخ المزعج والعناد بشكل متواصل.. وكنت أتلقى بسبب ذلك الضرب.. والتهديد..
فأستجيب في البداية.. ولكن لا تمر ساعات حتى أعاود خلق التوتر لهم كما أن شيئاً لم يكن..
هذا الشيء.. أصاب سلوى وزوجها بالقلق.. والخوف من افتضاح أمرهما.. فالحي الشعبي مكتظ بالبيوت المتقاربة..
لذلك، لم أبقِ لهم مجالاً للصبر أكثر من أسبوع!
حتى دخل عليّ الغرفة في ذلك اليوم بعد منتصف الليل.. زوج سلوى المسن وهو يحمل بيده لاقطاً نحاسياً!
ومن دون مقدمات وبكل بساطة.. اقترب مني وقبض عليّ.. مدنني أرضاً وأمسك بكلتا يدي ووضعها تحت ركبته!!
حاولت المقاومة ولكن لا أمل.. شعرت وكأنني فأرة تافهة.. تحت رحمة ضبع كاسر..
إلى أن دخلت سلوى ومعها منجل جمر يسطع احمراراً!
لم أصدق ما رأيته.. وشعرت بالخطر حينها..
عندها قمت بالصراخ والبكاء.. لكنه أغلق فمي بإحكام.. كي يكتم صراخي وتوسلاتي!
التقط جمرة حمراء تفوح حرارتها.. نفخ عليها قليلاً ..
ثم اقتحم فمي بإصبعيه.. وأخرج لساني.. وبكل جبروت..
كوى لساني ثلاث مرات متتالية في أماكن متقاربة!!
انتفض جسدي بقوة.. وشعرت بتشنج.. كما لو أنني أسلخ من الداخل ..
لا يمكنني التعبير.. أو وصف الذي شعرت به وقتها ..
لقد شعرت بأنني لا أشعر شيئاً!
قام بعدها بمسح وجهي بالماء بشكل متكر ...
ولم يتركني إلا بعد دقائق.. بعدما شعر بأنني خاملة..
رغم أنني لم أنقطع عن البكاء القوي أبداً..
كل هذا حصل.. وسط نظرات سلوى التي لم تتحرك أبداً
ولم تتأثر من المشهد..
لقد فعلا ذلك كي أصبح ملكهما.. ولكي تقل خطورتي أيضاً من الاعتراف ربما أو الحديث مع أي أحد في الحي.. ربما..
أغمي علي بعدها. ونمت نوماً عميقاً في مكاني نفسه الذي تركني فيه ..
حتى حل الصباح..
استيقظت من الألم الفظيع الذي يلازم لساني..
بكيت.. حاولت أن أصرخ بكلمة: أمي..
لكنني لم أستطع حتى أن أبلع ريقي..
جلست ثم بدأت أتحسس لساني.. حاولت النطق مرة أخرى..
فكانت الكارثة التي آلمت قلبي!
لا أستطيع نطق الكلمات بشكل سليم!!
لقد تشوه لساني!
بكيت على حالي.. ثم دخلت علي الغرفة العجوز سلوى بعدما سمعت بكائي.. وبيدها عصا..
هددتني بالضرب إن ارتفع صوتي بالبكاء أو غيره..
أغلقت فمي بيدي.. وحاولت أن أكتم صوتي كي لا تغضب مني.. وأنا مرعوبة جداً.. حتى ابتعدت عني..
لم أصدق ما حصل لي ..
مرت الأيام.. قرابة الأسبوعين..
قل بكائي شيئاً فشيئاً.. حتى الألم في لساني اقترب من الاختفاء ..
وأصبحت ملابسي متسخة بشكل لا يطاق..
كانوا لا يسمحون لي بالاستحمام.. فقط يتركونني لقضاء حاجتي ..
في تلك الفترة.. بدأت العجوز سلوى السماح لي بالخروج من الغرفة، والجلوس في الصالة الصغيرة مع زوجها غريب الأطوار! فقط بعد صلاة العشاء وحتى قرابة منتصف الليل..
لاحظت وجود العديد من الغرف الأخرى ..
لكن الذي شد انتباهي منذ اليوم الأول الذي أصبحت أجلس فيه معهم.. هو الذي كان يحدث يومياً
عند الساعة الحادية عشرة مساء!
في ذلك التوقيت.. كان يتوافد على البيت مجموعة أطفال!
منهم أسيويون وأفارقة وعرب!
يقفون صفاً.. بكل هدوء وخوف.. ثم يبدؤون بتسليم الرجل المسن الكثير من المال!
ومن ثم يتوجهون نحو غرفهم للعشاء والنوم!!
كان يطبطب على رؤوس بعضهم.. كنوع من الثناء ..
ويضرب بعضهم الآخر بعصا خشبية يمسكها بيده..
عقاباً على تقصير لم أفهمه..
تكرر ذلك الشيء أمامي.. حتى علمت أنني قد وقعت بين أيادي عصابة تسول.. تتسول في بلدي!!
يقودها هذا الرجل المسن.. برفقة زوجته العجوز ..
بدأ الخوف يزداد..
حتى أتى ذلك اليوم الذي بدأ الرجل بتمشيط جسدي بنظراته المرعبة.. ويتحدث مع زوجته بلغتهم..
إلى أن ذهبت سلوى وأحضرت فتى يمني الجنسية ..
يدعى يحيى.. لا يتجاوز عمره الخامسة عشرة تقريباً..
تحدثا معه بلغة عربية سيئة..
وطلبا منه أن يأخذني معهم صباحاً ويهتم بي!!
لم أنم جيداً تلك الليلة.. بسبب القلق الذي أصابني ..
وفعلاً.. أتى الصباح.. أيقظوني من نومي..
فتحت عيني بصعوبة.. كانت سلوى ويقف بجانبها يحيى..
طلبت مني مرافقته وحذرتني من التصرف بحماقة..
كانت تقول ذلك وهي تقرص ساعد يدي بقوة كي ترهبني ..
لكنني رفضت.. وبدأت في البكاء.. فأنا لا أعلم إلى أين سوف يأخذني..
قامت بضربي وتهديدي.. فأفعال يدها معي كانت أكثر
من أقوال فمها.. إلى أن تدخل يحيى..
وتحدث معي بلغة واضحة.. طالباً مني الهدوء ومرافقته لـ "العمل"!
لم أفهم ماذا يقصد بالعمل ..
استغرق إقناعي قرابة النصف ساعة..
أقنعني بأنها مجرد ساعات فقط.. وسوف نعود بعدها..
وافقت وأنا ارتعش خوفاً ومجبرة..
كانت ملابسي تفوح رائحتها بشكل لا يطاق، وشعري الذي تعودت أن تهذبه لي والدتي قبل خروجي من المنزل كل صباح ..
لم أجدها كي تهذبه لي تلك المرة..
خرجت مع مجموعة من الأطفال ومعنا ابنة سلوى أيضاً..
كنت قلقة جداً.. استقبلت عيناي أشعة الشمس التي تخترق الثغرات الموجودة بين البيوت.. لم أتحمل قوتها ..
خصوصاً أنني لم أشاهدها منذ قرابة الشهر ...
لفت نظري.. عندما خرجت من المنزل مباشرة قبل أن أتحرك.. منظر الشارع الغريب الذي كنا فيه ..
أذكر البيوت الشعبية المتهالكة..
جدرانها متشققة.. مياه المجاري سائبة على الأرض.. والروائح الكريهة كانت تحتل كل الهواء.. لم أتحمل كل ذلك أبداً على الرغم من أنها لم تمر الا بضع دقائق فقط.. فكيف من يعيش هنا ويتجول يوميا؟
كانت أشكال وجوه المارة غريبة ومخيفة!
أفارقة من أصحاب البشرة السمراء.. والكثير من الأسيويين.. وكلهم يرتسم على وجوهم الضيق والانشغال ..
لم ألاحظ عليهم تأثرهم بالرائحة.. وكأنها الرائحة الطبيعية بالنسبة لهم.. طلب مني يحيى ألا أبتعد عنه مهما حصل.. وهددني بأن أي محاولة للهرب سوف يرجعني بقوة إلى المنزل، وعندها ستتولى أمري العجوز سلوى..
أرهبني بكلامه هذا..
فمن يشاهد تفاصيل وجه سلوى عندما تغضب..
يفكر ألف مرة قبل أن يفعل تصرفاً يغضبها ..
تحركنا سيراً على الأقدام.. قرابة النصف ساعة..
لم أقو على المواصلة.. حتى أخبرني بأننا قد وصلنا!
رصيف.. شارع.. إشارة مرور.. سيارات ..
هذا كل ما كان أمامي!
طلب مني أن أنتظر تحت ظل الشجر ..
ثم سألني باستغراب قبل أن يذهب:
- أنت سعودية؟
أشرت له برأسي بأن ما يقوله صحيح.. ثم قال:
- وجودك لديهم مشكلة.. كم هي غبية سلوى بتصرفها هذا.. بالتأكيد أن أهلك لن يتوقفوا عن البحث عنك.. لذلك عثورهم عليك يعد خطراً على العصابة.. وقد تكون سبب نهاية وجودهم.. استحالة أن يتركوك بسهولة..
تحدثت بصعوبة متحديةً تشوه لساني:
- لم أفهم شيئاً.. ماذا تقصد؟
رفض مواصلة الحديث، ثم قال وهو على عجلة من أمره:
- راقبي ماذا أفعل أنا والأطفال، وسوف تفعلين مثلنا تماماً بعد دقائق ..
تغيرت إشارة المرور إلى اللون الأحمر.. ثم انتشروا بسرعة بين السيارات، وكأنهم أسماك صغيرة تخترق الأمواج..
يطلبون المال من قائدي المركبات قبل أن تضيء الإشارة باللون الأخضر.. ثم يعودوا ركضاً إلى الرصيف!
فعلوها أمامي مرتين.. وفي المرة الثالثة طلب مني يحيى أن أبدأ بالانخراط معهم!!
لم أصدق أن الأطفال المساكين المتسولين الذين كنت أشاهدهم من وراء زجاج سيارة والدي.. سوف أكون هذه المرة بينهم ومعهم!
لم أتقبل طلب يحيى أبداً.. لذلك رفضت وأنا غاضبة ..
فاشتاط غضباً هو أيضاً وبدأ يهددني بإخبار سلوى ..
لكنني كنت عنيدة.. ولم أملك إلا أن أبكي وأصرخ بقوة..
ما ساعد ذلك على لفت أنظار المارة..
فخاف من حصول مشكلة بسببي.. فأمر مسرعاً الأطفال بالتوقف والعودة إلى المنزل فوراً.. ثم قام بسحبي من يدي اليمني وساعده طفل آخر كان يمسك يدي اليسرى..
ونحن في طريقنا للعودة..
كان أكثر ما يشغلني هو حال عائلتي..
كنت أفكر كيف هو وضعهم.. كيف مرت عليهم هذه الأيام من دوني.. اقتربنا من انتهاء الشهر.. ليس بالسهل عليهم..
هل ينامون؟ أم يجبرهم أرق التفكير والقلق والفقد على النوم..
حزينة أنا عليهم.. أكثر من حزني على حالي ..
وصلنا البيت بسرعة..
دخلنا البيت وتفاجأت سلوى وكذلك زوجها من عودتنا مبكراً على غير العادة..
أخبرهم يحيى بما حصل وبأنني السبب في ذلك..
ثار جنون الرجل.. فقام بضربي مباشرة ضرباً مبرحاً ..
كان يصرخ علي بكلمات باكستانية.. لا أفهم منها شيئاً..
كنت أتألم وأصرخ وأطلب منه التوقف ..
ولاحظت أنه لا يتوقف من توبيخ سلوى وضربها على كتفها.. كما لو أنه يلومها.. لأنها هي من قامت بخطفي وإحضاري الى بيته.. يبدو أنه يفضل الأطفال الأجانب ..
حتى قام بإدخالي للغرفة ودفعني بقوة.. ثم أغلق علي الباب.. وواصلت البكاء وأنا مكسورة القلب والحال..
كرهت يحيى ذلك اليوم بشكل لا يوصف.. فهو من تسبب لي بهذا الموقف السيئ ..
قرابة الساعتين حاولت فيها تهدئة آلامي ..
حتى دخلت علي العجوز سلوى لتنفس عن غلها تجاهي..
وتكمل ما بدأه زوجها الحقير..
كانت عنيفة معي.. تضربني وتهددني.. وتطلب خضوعي..
وليس هناك أكثر ألماً من الضرب على الألم نفسه..
كنت أريدها أن تتوقف وتبتعد.. لذلك كنت أهز رأسي بالموافقة ..
وأصرخ بأنني سأفعل ما تطلبه ..
وعندما يأتي الصباح ويحين موعد الذهاب مع الأطفال..
كنت أعاود تكرار مسلسل البكاء والنواح والصوت العالي مرة أخرى ..
ويتم إخراجي بالقوة.. ويعيدني يحيى من منتصف الطريق..
بلا فائدة.. تكرر ذلك ثلاث مرات في أيام متباعدة..
عنادي هذا جعل الزوجين في حالة بركان من الغضب..
وبعد فترة قصيرة من التوتر الذي ساد البيت بسببي..
أذكر تلك الليلة جيداً..
التي كان فيها الأطفال ضحية غضب سلوى وزوجها مني!
عادوا بعد يوم منهك..
قاما بضرب الأطفال بشكل جماعي بمن فيهم يحيى ...
أفجعني صراخهم وبكاؤهم وتوسلاتهم من وراء باب الغرفة التي تم احتجازي كالعادة بداخلها.. وبدأت الرعشة بالتوغل داخل عظامي..
قلبي ارتجف.. وشعرت وكأنه جهاز كهربائي هزاز ..
قد تنتهي بطاريته في أي لحظة ...
حتى فُتح الباب علي..
إنها سلوى.. تقف وفي يدها عصاها!
رأيت الشر يتطاير من عينيها.. عندها كادت تنقطع أنفاسي.. كانت أشبه بالوحش المجعد الغاضب.. الذي انتفش شعره فجأة.. معلناً الخطر والعداء!
ضعف الإضاءة في الغرفة.. جعل منظرها أكثر رعباً..
شهقت وانخرطت في البكاء.. وبدأت أتراجع إلى الخلف ..
فالبكاء.. هو سلاحي الوحيد القوي الذي أملكه..
وقبل أن تتقدم تجاهي..
سمعنا جميعاً صوت طرق باب البيت بقوة وبشكل متتابع!!
استدارت سلوى وتوجهت نحو زوجها الذي توقف عن ضرب الأطفال.. وقام بفتح الباب بحذر ..
كان رجلاً من نفس جنسيتهم!
يصرخ بقوة ويخبره وهو مرعوب شيئاً ما..
ثم هرب!!
طلب الرجل المسن من يحيى بأن يخرج الأطفال بسرعة من البيت.. وأن يهربوا!
صرخ يحيى على الأطفال وهو يقول محذراً:
- تفرقوا.. مداهمة أمنية قادمة إلى الحي!
توجهت سلوى نحو غرفتها وأحضرت حقيبتين..
حمل زوجها واحدة.. وحمل الفتى يحيى الأخرى ..
وأمسكتني سلوى بيدها بكل قوة وبيدها الأخرى ابنتها..
وتتبعنا شقيقة زوجها أيضاً..
ثم خرجنا نركض من البيت من دون مقاومة مني!
الصدمة لم تجعلني في كامل تركيزي..
شعرت منها وهي تمسكني بقوة.. وكأنني أهم طفلة لديهم من بين كل هؤلاء الأطفال..
صدق يحيى.. فعثورهم علي.. يعني دمار تجارتهم ومستقبلهم بالبلد.. يبدو أنني وبال عليهم!
هربنا جميعاً..
إلى خارج الحي العشوائي قبل وصول رجال الأمن ..
كنا نركض وسط الممرات الضيقة والظلام في كل مكان..
لا أذكر أي شيء من ذلك الهروب.. لم يعلق في ذاكرتي سوى بعض الأنوار الخافتة القليلة جداً، التي كانت تعتلي بعض أبواب المنازل الشعبية يميناً ويساراً ..
ركضنا كثيراً حتى وصلنا إلى سيارة صغيرة.. كانت تنتظرنا في نهاية الممر.. ولم تمر سوى دقائق حتى وجدنا أنفسنا خارج الحي ..
أوصلتنا السيارة إلى منزل في أحد الأحياء البعيدة..
لأحد أصدقائهم من نفس جنسيتهم أيضاً.. كانت سلوى وزوجها غاضبين جداً وخائفين..
فجأة ونحن في الداخل رن الهاتف المحمول..
لم يصدق الرجل المسن ما سمعه.. حتى انفجر غضباً ..
كان يحدث المتصل بلغة عربية مكسرة.. ثم أنهى المكالمة وطلب من سلوى وشقيقته الانتظار برفقة عائلة صديقه، ثم أشار إلي وقامت هي بالقبض علي معصمي بقوة.. ثم تحدث مع يحيى قليلاً وغادر وحده مستعجلاً ..
جلسنا وجلس إلى جانبي يحيي.. سألته بصعوبة وكان يفهم بعض حديثي:
- ماذا يحدث؟
أخبرني بصوت خافت:
- معظم الأطفال وقعوا في قبضة رجال الأمن والكثير من مخالفي الإقامة.. حتى المنزل قاموا بتفتيشه.
- ولماذا أنا هنا؟ لماذا لم يتركوني أهرب مثلما تركوا الأطفال؟
نظر إليّ بعدما ابتسم، ثم قال:
- كلهم أطفال من جنسيات أجنبية.. إلا أنت.. سعودية!
- ماذا يعني ذلك؟
- سبق وأن أخبرتك.. العثور عليك.. يعني العثور عليهم!
لقد حفظت وجوههم.. وربما سوف تخبرين الأمن عنهم.. بخلاف الأطفال الأجانب.. قد يصمتون ويتم ترحيلهم.
شعرت حينها بأن إمكانية عودتي إلى أهلي صعبة..
فأنا بذلك العمر الصغير.. كنت أجبن من أن أهرب متجاهلة تهديداتهم بحقي..
أن تهدد طفلة.. فكأنك بالضبط.. تهدد وردة..
تخيل أن تشاهد شخص يهدد وردة!
هل هذا يعد منظراً لائقاً قد تتقبله نفسك؟
لا أعتقد ..
مرت فترة أعتقد أنها قرابة الأسبوع ..
في تلك الأيام.. كان يحيى يخرج برفقة الرجل المسن صباحاً.. ولا يعودا إلا عصراً.. كنا نأكل وجبة واحدة فقط..
حتى أتى ذلك اليوم الذي شاهدت فيه أربعة أطفال من المجموعة نفسها التي كانت تعمل معهم.. يسلمون المال للرجل.. على ما يبدو أنهم ما تبقى من الناجين..
تقلص دخلهم كثيراً.. فقد كان المال يأتيهم سابقا من قرابة خمسة وعشرين طفلاً.. وأصبح فجأة يأتيهم من أربعة فقط!
هذه المشكلة جعلت العجوز سلوى تتضايق من وجودي دون عمل.. فأنا عالة عليهم.. أحصل على الطعام حتى وإن كان قليلاً وسيئاً.. لكن من دون مجهود..
وكان زوجها يضربها كلما تحدثت عني.. أو تعدت علي..
لأنها سبب وجودي بينهم ..
لم أكن أعلم ما يدور..
حتى أتي ذلك اليوم الذي أخبرني فيه يحيي.. بخبر صادم!
أخبرني بأن سلوى وزوجها قد قررا أن يذهبا إلى جهة بعيدة جداً ..
حتى تهدأ الأمور.. ومن ثم يعودا إلى مكة بحجة العمرة باسمين جديدين!!
لم أفهم ما كان يقصده، ولكنني قلت له بغباء.. بعد تسرب الفرح إلى داخلي قليلاً:
- إذاً سوف يعيداني إلى أهلي؟
أجابني بسخرية:
- أنت أول المغادرين برفقتهما.. بل أهمهم ..
تلاشت بوادر الفرحة سريعاً وكأنها لم تكن.. لم أستوعب ما قاله لي.. وكعادتي بكيت.. وكان يطلب مني السكوت..
إلى أن دخلت سلوى أثناء حديثنا.. وشدتني من شعري وأحضرت سكيناً ووضعته على عنقي وتحدثت معي محذرة بأنها سوف تذبحني إن لم أكن مطيعة!
تمنيت حينها وأنا أبكي.. أن أشتمها بصوت عال..
لكن لساني المحروق.. لا يجعل أي كلمة تخرج بشكل مفهوم.. كنت أصرخ بشكل محزن.. ولكن لا فائدة ..
كم هو مؤلم ..
بأن تقول كل شيء يفور بداخلك.. ولكن بصمت..
ما اخطر ذلك على النفس..
إن أبشع أنواع الغضب.. هو الغضب بصمت!
كانت الأيام تمر بشكل ممل..
حيث كان يحيى يخرج للتسول والتجول صباحاً ويعود ليلاً..
تعجبت من حالته.. حتى أتت اللحظة التي كان فيها يجلس بالقرب مني.. سألته بعد جهد من إخراج الكلام:
- لماذا أنت هنا؟ أين أهلك؟
لم يعرني أي اهتمام.. كررت عليه السؤال وأنا أشرح له بيدي ما أريد أن يجيبني عليه.. ثم طلب مني أن أصمت ..
لكنني كنت مصرة.. حتى تحدث غاضباً:
- ليس لدي أهل هنا.. أهلي كانوا في اليمن..
- ولماذا لا تكون معهم؟ لماذا أنت هنا؟
- لا أريد أن أذكر شيئاً من ذلك.. أنت تزعجينني بهذه الأسئلة.. بل تؤلمينني..
لم أكن أقصد أن أجرح يحيى أبداً.. سألته لمجرد الفضول كأي طفلة في عمري.. تستغرب مما ترى وتسأل.. كي تدرك ما يحدث حولها ..
لاحظ تغير ملامحي.. وكأنه تضايق من طريقة كلامه معي.. صمت قليلاً.. ثم تحدث:
- والدي سلمني لأحد المهربين.. مقابل ثلاثة آلاف ريال سعودي..
- مهرب! ثلاثة آلاف ريال! لم أفهم!
تنهد وهو ينظر إلى أعلى.. وقال:
- نحن عائلة فقيرة بشكل لا يوصف.. مكونة من أبي الرجل القاسي والشديد.. وأمي وست فتيات وأنا الولد الوحيد فقط.. لم يكن لوالدي المقدرة على توفير لنا ما نحتاج اليه من طعام.. أو حتى مستلزمات الدراسة.. لذلك كان يرفض ذهابنا إلى المدرسة.. ويجبرنا على العمل ونحن صغار كي نكمل الحياة.. لذلك، كان لا بد له أن يخضع لآخر الحلول الصعبة.. ذلك الحل الذي أجبر الفقر فيه الكثير من العائلات على الخضوع له في مدينتنا باليمن..
وهو التعامل مع أحد المهربين باليمن..
- وماذا طلب منه؟
- في البداية طلب منه والدي سلفة مالية.. ولكنه رفض وعرض عليه فكرة قذرة يستخدمها مع الكثير من العوائل الفقيرة هناك.. طلب منه أن يعطيه أحد أطفاله مقابل ثلاثة آلاف ريال.. كي يرسله إلى السعودية للعمل.. وبعد سنة من العمل هناك يكون قد انقضى الدين الذي على والدي.. واضطر والدي الى الموافقة بعد أن ضغط على نفسه وعلى أمي التي بكت كثيراً وتوسلت إليه.. لكن الفقر كان أقسى.. ووقع الخيار علي للأسف.. لأنني الذكر الوحيد..
أخبرني يحيى بأنه تم تهريبه برفقة العشرات من الأطفال عبر الحدود اليمنية - السعودية!
من طرق وعرة جداً.. لا يتحملها أحد.. أكثر من عشر ليال صعبة وموحشة.. حتى وجدوا أنفسهم بالقرب من جازان.. ومن ثم انتظروا شهراً تخلله الضرب والإهمال من قبل المهرب حتى تم توزيعهم على أصدقائهم داخل المملكة.. منهم من قُبض عليه ومنهم من فلت بأعجوبة ..
كان يحيى أحد الناجين.. وصل إلى جدة ولم يصدق ما رأته عيناه من جمال المدينة وتطورها بشكل أخافه في البداية.. لكنه صُدم عندما علم أنه قد وصل إلى عصابة تسول.. التي يقودها هذا الرجل وزوجته.. وليس للعمل بعمل شريف - كما أخبر والده - ذلك المهرب القذر الكاذب الاستغلالي.. ولكن.. ليس هناك مجال للرجوع إلى الخلف.. لذلك تعلم منهم بسرعة وانخرط معهم كي يساعد والده على تسديد دينه وإعالة أسرته..
أخبرني بحسرة أنه أكمل سنتين في جدة.. ولم يعد إلى اليمن.. ولم يرَ أمه ولا أباه ولا حتى إخوته.. لقد تعود على الحياة هنا.. على التسول.. حتى أصبح مقرباً من رئيس العصابة.. كان يجمع المال ويسلمه إلى الرجل المسن كي يرسله إلى والده.. ولم يكن متأكداً إن كان المال يصل بالفعل إلى والده أم لا.. لكنه لا يملك غير ذلك الحل ..
أحزنني كثيراً يحيى..
فسألته بحزن وحسرة على ما وصل إليه:
- لماذا لا تعود أو تتواصل مع والدك وأهلك؟
أجابني إجابة صادمة.. كانت كالصفعة:
- والدي الحقير؟ لقد علمت من أقارب يعملون هنا.. أنه قام بتزويج أخواتي جميعهن إلى رجال كبار في السن فقط من أجل المال.. وقام بتطليق والدتي لكثرة اعتراضها وعادت إلى قريتها البعيدة، وهي خاسرة كل شيء.. حتى أنا.. اكتشفت أنه كان يعلم أنني سوف أعمل لدى عصابة تسول!.. كان فقط يخدعني كي أذهب بهدوء ..
لم أستوعب ما قاله يحيي.. هل يعقل أن يصل الأمر إلى أن يبيع الأب ولده من أجل المال؟ ليس المال هو السبب المباشر.. إنه الفقر.. قهر الفقر والحاجة يجعل الإنسان في أتسع الظروف ويجبره على اتخاذ أبشع القرارات..
بل ويجعله يتحول من شخص طبيعي.. إلى كائن لا نتوقع بشاعة أفعاله!
تلك الليلة كانت آخر ليلة أتحدث فيها مع يحيى!
بعد يومين تقريباً وفي الصباح الباكر ..
دخلت عليّ سلوى بأسلوب فج كعادتها..
وألبستني من دون نقاش ملابس باكستانية نسائية!!
ووضعت لي الكحل بشكل مكثف.. وبعض المساحيق الخفيفة!
وطلبت مني أن أصمت وأرافقها بهدوء وإلا سوف تطعنني بقلم صغير حاد جداً.. هددتني به.. ثم وضعته في حقيبتها الصغيرة!
خرجت معها إلى الشارع.. كان زوجها ينتظرها بسيارة في المقعد الأمامي بجانب السائق.. وفي مؤخرة السيارة حقيبتان كبيرتان ..
حيث طلب مني الهدوء.. وأن أنفذ ما يطلبانه مني دون شوشرة.. وإلا سوف يشوه وجهي!
كل تعاملهما معي بالتهديدات، ضغط نفسي رهيب لا تتحمله طفلة مثلي..
خفت كثيراً.. وشعرت برجفة داخلية انعكست على يدي ..
كنت أتساءل لماذا كل هذه التهديدات المتتالية فجأة؟
ولماذا ألبساني هذا اللباس النسائي الباكستاني؟
حتى وقعت عيناي على المرآة الأمامية للسيارة التي تنقلنا ..
صُدمت!
لقد كنت أشبه ابنتهما كثيراً!!
ولن يلاحظ الفروقات.. سوى من يدقق لفترة طويلة!
كانت تختلف عني بأشياء بسيطة..
عيناها واسعتان.. وحاجباها كثيفان.. وشعرها طويل جداً ..
لكنني أحببت شكلي الحقيقي، بالذات عندما ألبسوني مثل لبسها، وأكثروا من وضع الكحل حول عيني..
ولكني لم أهدأ من الخوف..
مر الوقت ببطء.. حتى وصلنا إلى مطار الملك عبد العزيز الدولي.. لم أشاهده من قبل.. كانت المرة الأولى لي.. شعرت بالرهبة!!
نزلنا وودعنا الرجل الذي أوصلنا.. أخرجت العجوز سلوى القلم الحاد مرة أخرى، وحذرتني وهي تنظر إلي بغضب وبنظرات مرعبة.. بأنها سوف تقتلني طعنا.. إن تصرفت تصرفاً يزعجها!
وقام زوجها بتكرار التهديدات ..
وخيرني بين الهدوء.. أو القتل.. فما كان مني سوى بلع ريقي الذي عجز عن التجمع بفمي من شدة الخوف..
دخلنا المطار.. كنا نسير خلف زوجها وهو يسحب الحقيبتين.. وأنا لم أقفل فمي من الدهشة.. أسير وأنظر حولي..
وقفنا في أحد الصفوف، وقام الرجل المسن بترتيب كل شيء، وإنهاء الأوراق اللازمة بشكل نظامي!.. أعطى سلوى جوازين وأخذ هو جوازه وتقدم نحو مدقق المعلومات بالجوازات.. وأخبره بأن هذه عائلته!
طلب الجوازات وسأل الرجل عن صفتنا ..
فأخبره.. زوجته وابنته.. نظر إلى الصور الشخصية بالجوازات.. شعرت بداخلي بعدم الراحة..
تصاعدت أنفاسي.. وتمنيت لو أنني أستطيع الحديث..
لكن إعاقتي بلساني تمنعني حتى من الجرأة على النطق ..
شعرت سلوى بارتباكي.. فقبضت على يدي التي تمسكها بقوة.. ونظرت إلي بنظرات حادة.. فهمت من خلالها تهديدها الصامت ..
نظر إلي الرجل الذي يمسك الجواز.. ابتسم لي..
ثم ختم الجوازات.. ومررنا بسهولة!!
لقد انطلت عليه الحيلة ...
حيلة الشبه البسيط الذي يجمعني بابنتهما..
لم أصدق ذلك! هل يعقل أنني مررت؟
فليس هناك ما يدعو الرجل للشك تجاه هذين القذرين..
الأوراق سليمة.. هذه مشكلة الأوراق.. للأسف..
لا تحمل سوى الكلمات.. لكنها لا تنطق بالحقيقة الكاملة..
ويستغل ضعاف النفوس أي ثغرة لتمرير خبثهم..
تساءلت مع نفسي.. كم طفل أو طفلة واجهوا الذي واجهته؟
أليست هناك حلول أخرى غير الأوراق تكشف ألاعيبهم؟
جلسنا قرابة الساعتين بمقاعد الانتظار..
كنت فيها أراقب الجميع والحقائب الكثيرة..
وأنظر الى الطائرات المتوقفة خلف زجاج صالة الانتظار!
علمت حينها أننا ننتظر رحلة سفر!
وقفت وبدأت بالتمتمة والصراخ بصوت منخفض تجاه سلوي، وأخبرها بأنني لا أريد.. وبدأت أردد كلمة (ماما)
ثارت غضباً علي.. ولم يتمالك زوجها نفسه ..
حتى قام وصفعني على وجهي وأجلسني الى جانبه بقوة..
وقرص ذراعي بقوة وهو يهددني بالموت إن كررت تلك الأفعال.. كتمت بكائي الذي لم ينقطع..
وسط نظرات العديد من المسافرين من الجنسية الآسيوية الذين يشاركوننا الجلوس في صالة الانتظار.. لم يكترث أحدهم لي ولا لدموعي ..
يجب أن أعترف.. بأنني كنت جبانة ..
كلما تذكرت هذا الموقف في المطار.. سألت نفسي..
لو أنني تجرأت.. وهربت بسرعة وركضت باتجاه أي رجل أمن.. لما وقعت في هذه الدوامة كلها!
ولكنني كنت خائفة.. بل مرعوبة ..
لذلك.. لا تحضر مثل هذه الأفكار في هكذا أحداث..
لا تتحملها بنت صغيرة..
بعض المواقف المخيفة..
تجبرك على خوضها.. رغبة بالانتهاء منها!
تشعر كما لو أنك أسير لأحداثها المفروضة عليك!
إن أصعب العجز.. أن تتمنى أن تعود حقاً..
ولكن.. لا تعرف أي طريقة تساعدك على العودة..
كل ما كنت أفعله.. ليس بتخطيط مني..
بل بتخطيط من قبل الغير.. كنت خاضعة.. ومسيرةً.. فقط
حضر موعد ركوب الطائرة.. كانت خطواتي ثقيلة..
ولساني المحروق أثقل من أي وقت مضى ..
كلما رأيت رجل أمن.. تمنيت لو أنني أستطيع أن أحدثه ..
ولكن حديثي لن يفهمه أحد بسهولة.. وفوق كل هذا.. نظرات سلوى التي لا تفارقني.. وقبضة يدها التي تكاد تكسر عظام ساعدي ..
دقائق حتى وجدت نفسي على أحد كراسي الطائرة بجانب النافذة.. وعلى يميني سلوي وعلى يمينها زوجها الحقير ..
كنت أقاوم دموعي وأمسحها بالشال.. وأصارع أنفاسي التي تحرك صدري للأمام بقوة.. وكلما أخرجت نفساً.. قرصت فخذي تلك اللعينة.. قرصة مؤلمة ..
حتى قامت بإخراج قنينة ماء.. وأجبرتني على الشرب منها.. لقد كانت مخلوطة بنوم!!
لم أشعر بأعضائي.. حتى اغتالها الخمول.. وغرقت في النوم!
نفس الطريقة التي خطفتني بها من أهلي.. عندما خدرتني بواسطة منديل كانت قد وضعت به مخدر "منوم" ..
فعلتها معي تلك المرة.. بواسطة إجباري على شرب الماء.
ولكن هذه المرة.. لم تخطفني من أهلي.. بل خطفتني من وطني!
بعد ساعات لا أعلم عددها.. وعيت..
شعرت بخمول في جسدي.. كانت سلوى وزوجها نائمين..
حركت قدمي بصعوبة لثقلهما من مفعول المنوم.. ووقفت بهدوء على مقعدي، وشاهدت المقاعد الأخرى بالطائرة.. كان معظم المسافرين يغطون بالنوم ..
ما عدا القليل منهم.. كل مشغول بما يخصه من أمور ..
أحد الذين يجلسون في المقاعد التي خلفنا مباشرة..
سمعته يتحدث مع شخص الى جانبه..
عرفت من لهجته أنه مصري الجنسية!
هادئ الوجه.. ملتح.. يرتدي قبعة دائرية بيضاء اللون..
فرحت جداً والخوف يتحرش بقدمي.. نظرت إلى الحقيرين اللذين إلى جانبي.. كانا لا يزالان يغطان في نومهما.
ثم نظرت إلى الرجل.. ونظر إلي.. ابتسم بوجهي وأمسك يدي وقبلها بكل طيبة.. تحدثت معه بصوت منخفض جداً وشفتاي ترتعشان:
- أرجوك ساعدني..
لكنه لم يفهم من حديثي ولا حتى كلمة واحدة..
سألني بصوت مرتفع قليلاً:
- ماذا تقولي يا صغيرة؟
نظرت والرعب يبطش بي نحو سلوى وزوجها ..
لم يتحركا أبداً.. ثم أشرت إلى الرجل متوسلة بيدي بأن يخفض صوته ..
استغرب من تصرفاتي.. ثم قمت بتكرار طلبي والإشارة إلى من هما بجانبي وأنا أقول ببطء والدموع تتجمع بعيني:
- أنا مخطوفة.. أرجوك ساعدني ..
لم أستوعب حينها ما قام به ذلك الغبي!
اقترب بجسده من الكرسي ثم أيقظ زوج سلوى بحسن نية!!
التفت زوجها إلى الخلف ثم إلي..
وفهم أني كنت أحدثه! واستيقظت سلوى!
أخبرها غاضباً.. فقامت بإغلاق فمي بيدها بقوة.. ثم ثبتتني على جدار الطائرة جهة النافذة وأمسكت ذراعي وعضتني عضة قوية من دون رحمة.. صرخت صرخة قوية جعلت كل من بالطائرة يبحثون عن المصدر! رغم أنها أغلقت فمي كما أخبرتكم.. بكيت وما زالت تغلق فمي بقوة ..
حتى اقتربت إحدى المضيفات ووصلت إلينا ..
عندها ضمتني سلوى إلى صدرها.. ووضعت على وجهي شالها.. وتحدثت مع المضيفة وهي تضحك بلغتهم الباكستانية.. ثم ذهبت المضيفة..
أبقتني على صدرها قرابة الدقائق الخمس كي لا أخرج أصواتاً.. كان صدراً لا يحمل أي إحساس بالحنان.. وكأنه صدر جهنم ..
دفعتني إلى مقعدي وهددتني مرة أخرى بأنني لو كررت تلك الأفعال.. فإنها سوف تقتلني فعلاً!
بقيت ساكنة أحاول مداراة صوت بكائي وأمسح دموعي..
ويدي اليسرى تغطي مكان العضة باليد اليمني..
التي كانت ينزل من تشققاتها بعضاً من الدم!
ثم نظرت نظرة سريعة من الفراغ الذي بين المقعدين نحو الرجل المصري.. لم يبد أي ردة فعل متعاطفة معي!
فقدت الأمل حينها.. واقتنعت بأن محاولاتي ليست سوى مضيعة للوقت.. لن أستفيد منها سوى الضرر الجسدي والنفسي.. لذلك.. قررت الهدوء.. حتى جاء موعد الطعام.. وشكرت ربي بأنهما لن يمنعاني منه..
التهمت كل ما كان يحمله الطبق.. وعدت للنوم من الإرهاق ..
استيقظت خائفة ..
بسبب صوت ضرب عجلات الطائرة بالأرض..
لقد وصلنا باكستان!
وصلنا إلى مدينة تسمى (إسلام أباد)!!
ولا أدري ماذا سوف ينتظرني!
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا