ورقة التوت التي سقطت
في منتصف المثلث
أمضيت وقتاً ليس بالقليل على أرضية الكهف أحدق بسقفه المتشقق والجروح على أكتافي من أثر مخالب (جند) تنزف وعند الغروب دخل علي (جسار) بعدما استأذن وقال:
"لقد رتبت لك مكاناً آمناً يا سيدي"
فقلت له وأنا أحاول أن أقف وأخفي الجروح التي تسببت بها (جند) على صدري وأكتافي:
أين هذا المكان يا (جسار)؟
فقال: في مثلث الشياطين في عرض البحر.
فقلت له: لكن هذا المكان خطر جداً يا (جسار)
فقال: لا تقلق يا سيدي لقد رتبت لك إقامة على جزيرة لن يصل إليها لا إنس ولا جن.
فقلت له: وماذا عن الشياطين؟
فقال: وحتى أعتى الشياطين.
فقلت له: خذني إلى هناك حالاً يا (جسار) فلم أعد أطيق البقاء هنا مدة أطول لكن قبل أن تأخذني إلى هناك لا أريد لأحد أن يعرف بمكاني وخاصة (جند) هل فهمت يا (جسار)؟
فقال: جن؟!.. ولماذا يا سيدي؟
فقلت له: نفذ دون نقاش يا (جسار)!
فقال: أمرك!
نقلني (جسار) إلى مثلث الشيطان ونزل بي على جزيرة كبيرة وكان الوقت ليلاً والقمر مكتملاً والبحر هائجاً جداً.
أخبرني (جسار) قبل رحيله أن المكان آمن لكن يجب علي أن لا أترك الساحل ولا أدخل لوسط الجزيرة وسوف يرسل لي ما يكفيني من مأكل ومشرب كل يوم فأشرت له بالرحيل فرحل. كنت متعباً من مواجهتي مع (جند) والرحلة إلى الجزيرة لذلك غلبني النوم بسرعة ونمت على الشاطئ حتى الصباح. مضت الأيم وأنا على تلك الجزيرة لا أدخل وسطها كما حذرني (جسار) وكان يصلني يومياً مائدة من الطعام عند فجر كل يوم مع الرسول (بقلب). مر على وجودي في تلك الجزيرة مدة تجاوزت الشهر وفي فجر أحد الأيام جاءني (يقلب) على عادته ومع مائدة الطعام وقبل أن يهم بالرحيل سألته عن أحوال القبيلة فقال:
الحال مستقر و"العشرة المؤمنون" أصبحت هجماتهم أقل من السابق وهناك بعض المدونات التي تذكر أن خلافاً دب بين القادة العشرة وسيدي (جسار) سعيد بذلك، قلت له:
وماذا عن (جند)؟
قال: كما هي يا سيدي لم يطرأ عليها جديد.. هل تأذن لي بالانصراف؟
فأذنت له بالرحيل فرحل..
بعد مرور أسبوع من حواري مع (يقلب) بدأ الملل يغزو عقلي ويشتت فكري فقررت أن أتحدث مع (يقلب) في زيارته القادمة وآمره بإخبار (جسار) بأني أريد ريته لأني كنت أريد منه أن ينقلني لمكان أفضل. انتظرت (يقلب) في موعده المعتاد والذي كان مع شروق الشمس لكنه لم يأت. مضى يوم وآخر ولم يظهر (يقلب). بدأ الجوع ينهش في جسدي والعطش قد وصل لأقصى ما يمكن أن أتحمل ولم يكن حولي إلا المياه المالحة فخارت قواي على الأرض وغططت في نوم عميق. استيقظت على صوت يوقظني في المساء. ففتحت عيني لأجد (يقلب) واقعا أمامي وجسده مغطى بالجروح النازفة وكان يبحث عن النفس فحاولت إيقاظه لكنه لم يقل إلا بعض الكلمات قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.. قال:
"سيدي (جسار) مات و(جند) سلبت منه العرش"
حاولت إيقاظه لكنه فارق الحياة واختفى جثمانه من أمامي. كنت مرهقاً من شدة الجوع والعطش لم أكن أستطيع استيعاب كلامه وكنت أظن نفسي في حلم فمشيت وأنا أترنح نحو وسط الجزيرة كمحاولة أخيرة للبحث عن الطعام متجاهلاً تحذير (جسار) لأني كنت على وشك الموت على أي حال. دخلت بين أشجار الجزيرة وبدأت أمشي دون وجهة محددة حتى وقعت على الأرض من الإرهاق وغططت في نوم عميق مرة أخرى. لا أعرف كم أمضيت غائباً عن الوعي لكني استيقظت على صوت الرعد وانهمار المطر الغزير علي. بدأت بشرب الماء المتجمع في زوايا أوراق الأشجار الكبيرة التي امتلأت بها تلك الغابة حتى ارتويت.
توقف المطر بعد استيقاظي بفترة بسيطة واستعدت بعض عافيتي بعد شرب الماء المتعكر بالوحل والرمال. تجولت في تلك الغابة على أمل أن أجد شيئاً صالحاً للأكل، مشيت مسافة طويلة حتى بدأت الأشجار بالتناقص تدريجياً إلى أن وصلت لمنطقة خضراء خالية من الأشجار يتوسطها ما يشبه البيت المصنوع من الحجارة.
توجهت لذلك المنزل ببطء لأني كنت مازالت مرهقاً من أثر الجوع والمشي، عندما وصلت للمنزل الحجري لم أر له نافذة أو باباً كان أشبه بالحفرة أو البئر المغطى بالحجارة وكانت الحفرة عبارة عن مجموعة من الحجارة المصفوفة والتي تقود لأسفل الأرض مثل السرداب. ترددت في النزول لكني في لحظة يأس نزلت واستمررت بالنزول لما كان يقدر بثلاثة طوابق نزولاً، كان الظلام يزداد حلكة كلما نزلت حتى وصلت إلى نهايته ولم أستطع رؤية شيء فقررت العودة والصعود للأعلى. عندها سمعت صوتاً يأتي من خلفي يقول بهدوء:
"إلى أين يا ابن آدم؟"
فتوقفت مكاني ولم ألتفت خلفي فقال لي الصوت:
اجلس أريد التحدث معك..
فجلست على عتبة السلم الحجرية الباردة واحتضنت نفسي من الرعب وسكت، فقال الصوت:
"لا تخف يا ابن آدم لا أريد سوى بعض وقتك فأنا أراقب حياتك منذ فترة وقد آن الأوان أن نلتقي ونتحدث.."
فسكت ولم أرد عليه وكنت أنظر بتمعن في العتمة التي كان الصوت قادماً منها لكني لم أستطع رؤية شيء.. استمر صاحب الصوت بالكلام وقال:
"أبنائي لن يتركوك وشأنك لذلك لمَ لا تنضم إلينا وتنتهي من هذه المعاناة؟"
سكت ولم أرد عليه.. استطرد في الكلام وقال:
"صدقني أن الموضوع سهل ولا يتطلب منك الكثير فأنا يمكنني أن أمنحك القوة والسلطة والحصانة وأعطيك من العلم والحكمة ما يجعلك تسود وتخلد. ما أعرضه عليك هو شيء سعى لنيله الكثير ولم يحظ به إلا القليل وأنا اخترتك كي تكون من تلك الفئة المختارة.."
فتكلمت لأول مرة وكنت مازالت أحتضن نفسي من الخوف والبرد الذي حل بالمكان فجأة وقلت:
ومن أنت لتمنحني كل ذلك؟
فقال:.. أنا الوجه الآخر للعملة.
فقلت له: أي عملة؟
فقال: العملة التي تم قذفها في الهواء يوم ولادتك وسوف تحط على الأرض يوم مماتك.
قلت: وما هو المقابل؟
فضحك صاحب الصوت وقال:
لا يوجد مقابل يا ابن آدم..!
قلت له: لا شيء يأتي دون مقابل.
فقال: معك حق..
فسكت الصوت فترة ثم قال:
ما هو في رأيك المقابل المناسب لكل ما عرضته عليك؟
فقلت له: لا أعرف..
فقال: ماذا تملك؟
فقلت له: لا أملك شيئاً يستحق المقايضة.
فقال: على العكس تماماً.. أنت تملك أشياء كثيرة لكنك لا تملك العين لترى هذه الأشياء.
فقلت له وأنا أرتجف من البرد الذي بدأ بالازدياد:
وما الذي تريد مني أن اعطيك إياه؟
فقال: وعد..
فقلت له: وعد بماذا؟
قال: وعد بأن تبقى كما أنت وألا تتغير.
قلت له: لم أفهم قصدك..
فقال: ليس من الضروري أن تفهم يا ابن آدم لكن اقطع هذا الوعد وسوف ينتهي هذا الكابوس.
فقلت له: لماذا تتحدث في الظلام لماذا لا تخرج لأراك وأتحدث معك؟
فقال: اليوم ليس يوم خروجي يا ابن آدم وقد لا ترى ذلك اليوم وقد تراه.
لم أفهم كلامه فسكت.. ثم قال لي:
"حياتي مكرسة لكم وأنا على عهدي ما استطعت".
فقلت له: لماذا لا تقتلني وتنتهي من المشكلة؟
فقال: هدفي ليس قتلكم بل إرشادكم للطريق لقتل أنفسكم.
فقلت له: لماذا تتحدث بصيغ الجمع.. عن من تتحدث بالضبط؟
فضحك وقال: عنكم جميعاً..
لم أفهم كلامه وعاودت السكوت..
اشتد البرد في المكان لدرجة لم أستطع فيها التنفس بسهولة لكن خوفي جعلني أتسمر مكاني وبعد قليل عاد الصوت وحدثني وقال:
هل تعرف ما هو الجحيم؟
فقلت له: هل تقصد جهنم؟
فقال: لا.. أقصد الجحيم على الأرض
فقلت له: لا .. لا أعرف
فقال: أن تكون مقيداً بقوانين وضوابط تمنعك من الانطلاق بحرية.
فقلت له: لا وجود للحرية المطلقة وإن وجدت فهي مفهوم آخر للفوضى.
فقال: ما المتعة في ربط نفسك بعقيدة أو مبدأ لماذا لا تستمتع بحياتك قبل أن تذهب من هذه الدنيا؟
فقلت له: ولماذا أنت مهتم لهذه الدرجة؟ قد تكون متعتي في التمسك بمبادئي وقيمي وعقيدتي.. إصرارك على تغيير ذلك يثير الريبة.
فقال: أنا لست مهتماً بتغييرك.. أنا أريد تطويرك والارتقاء بك فوق إمكانياتك البشرة المحدودة. لم يندم أحد على قبول عرضي من قبل.
فقلت له: هل تؤمن بحرية الاختيار؟
فقال: نعم وهذا ما أحاول منحه لك.
فقلت له: أنا أختار ألا أقبل عرضك.. هل تستطيع احترام ذلك؟
سكت الصوت الذي كان يحادثني قليلاً ثم قال:
ستختار العبودية إذاً وتبقى أسراً لمعتقدك؟
قلت له: كلنا عبيد ولا يوجد أحرار لكن بعضنا اختار أن يكون عبداً لشهواته ورغباته والبعض الآخر اختار ا، يكون عبداً لله وحده.
سمعت صوتاً أشبه بالزمجرة الخفيفة ثم عاود الصوت الحديث وقال:
أنا لست عبداً لأحد!
فقلت: فعلاً فأنت أسير.
فقال: أسير؟!
فقلت: نعم.. أسير في مكانك.. أسير لأهدافك ومعتقداتك.. أسير لمن شغلوا بالك.. أنت لا تملك الحيرة لتعود لسابق عهدك لذلك تندفع نحو الهاوية التي حفرتها لنفسك وتريد أن تأخذ معك كل من في طريقك.
فقال: عن من تتحدث؟!
فقلت له: عنكم جميعاً..
فقال: هر تعرف من أنا كي تتحدث عني؟!
فقلت: حديثي موجه لفكرك واعتقادك بغض النظر عن شخصك وهيئتك وهويتك.
فقال: عد من حيث أتيت يا ابن آدم..
فقلت له: كيف أعود؟
قال: اسعد للأعلى واخرج الآن وسترى شجرة فيها ثمار لو أكلت منها فسينتهي كابوسك وستحصل على كل ما وعدتك به ولو لم تأكل منها فستعود لعالمك خاوي اليدين لكنك في كلتا الحالتين ستعود.
قلت له وقد هممت بالوقوف وأذرعي تحتضن صدري من البرد:
هل لي بسؤال؟
فقال: اسأل..؟
فقلت: ما هو اسمك؟
قال: أسمائي كثيرة.
فقلت: اختر واحداً منها وأخبرني.
فقال: "نودابا"..
خرجت من ذلك المكان ووجدت الشجرة أمامي وعليها الثمار كما أخبرني صاحب الصوت وكانت رغبتي كبيرة للأكل منها لسد جوعي لا للحصول على ما وعده لذلك لم أرحل في الحال وجلست تحتها أفكر هل آكل منها وأسد جوعي أم أتركها وأعود للشاطئ البعيد؟
وبعد تفكير قصير وقبل أن تخور قواي قررت تجاهل الشجرة والعودة للشاطئ دون أن آكل تلك الثمار. كانت رحلة العودة للشاطئ شاقة وسقطت خلالها أكثر من مرة وبعد مدة ليست بالقصيرة وصلت للشاطئ وأنا في حالة يرثى لها وارتميت على الرمال وغططت في سبات كنت أظنه الأخير. فتحت عيني عندما اشتدت الشمس عليهما ولم أكن أملك القوة على الحراك لكني رأيت على ذلك الشاطئ الذي لم يكن يبعد عني سوى أمتار قليلة رجلاً ذا لباس أنيق يلعب ويجري مع بعض الأطفال وعندما رأى الرجل أني استيقظت ضرب راحتي يديه في بعضهما بعضاً وضحك وقال للأطفال الذين معه
"لقد استيقظ أخيراً"
جرى الأطفال نحوي وهم يضحكون لكنهم عندما اقتربوا مني أصبت بالرعب والفزع من أشكالهم لكني لم أقو على النهوض للهرب. كان الأطفال بلا أعين أو أنوف كان منظرهم بشعاً جداً. وضع الأطفال أياديهم الصغيرة على أجزاء متفرقة من جسدي وبدؤوا بهزه وهم يضحكون ولم يفرقهم ويبعدهم عني إلا ذلك الرجل الأنيق حين قال:
"انتهى وقت اللعب يا أولاد عودوا للداخل".
رحل الأطفال كما أمرهم الرجل الأنيق ولم أستطع أن أرى أين ذهبوا لشدة إرهاقي وتعبي. لم أسمع سوى خطواتهم وضحكاتهم وهي تسير مبتعدة عني وعن الشاطي باتجاه وسط الجزيرة. جلس الرجل الأنيق بجانبي وفتح شيئاً أشبه بالقنينة الصغيرة وسكب محتواها في فمي وخلال لحظات استعدت عافتيي واستطعت بدعها بقليل النهوض والجلوس بجانبه. جلست ساكتاً أنتظر حديث هذا الرجل الأنيق لكنه لم يتكلم واكتفى بالنظر للأمواج المتضاربة وسماع صوتها القوي الذي لم يزاحمه إلا أصوات طيور الجزيرة. خرج الرجل عن صمته بعد ربع ساعة تقريباً وقال:
"مهما فعلنا فإننا لن نتفق.. لذلك تجدنا في صراع دائم.. كانت مهمتي في السابق شاقة لكن اليوم كثير منكم ينوب عني للقيام بها.."
سكت قليلاً ثم تبسم وقال:
بعضكم كاد يتفوق علي لدرجة أني خفت على منصبي!
أكمل الرجل حديثه بعد ما التفت إلي وقال:
"لقد اجتزت الاختبار بنجاح.. وحان وقت رحيلك"
فقلت له: عن أي اختبار تتحدث؟
أعاد الرجل النظر للأفق وقال:
"لا يهم ذلك الآن المهم أنك اجتزته والآن حان وقت عودتك من حيث أتيت لكن عندي طلب بسيط"
فقلت له: ماذا تريد؟
فقال كلاماً لم أفهم كثيراً منه لكني أظن أني فهمت مجمله.. قال:
"عالمنا قد يبدو متوحشاً وفوضوياً لكم لكنه يسير بنظام دقيق وهدف واضح وصريح وإلى أجل محتوم وكلنا يجب أن نسير وفق هذا الخط المرسوم لنا وبيننا وأنت تجاوزت هذا الخط رغماً عنك ونحن كذلك وحان الوقت كي تعود الأمور لنصابها وهذه المرة لن يكون لك خيار في القبول أو الرفض".
ثم أدار رأسه ناحيتي مرة أخرى وهو يبتسم وقال:
"وأرجو ألا ترغمني على إجبارك.."
فقلت له: لا أظن أني أملك حق الرفض؟
فضحك الرجل الأنيق ثم وق على قدميه ونفض تراب الشاطئ من على ملابسه ومد يده وهو مبتسم وقال:
هيا قم كي لا تتأخر يا ابن آدم!
أمسكت بيده وشدني للأعلى وقال:
اتعبني..
مشى الرجل بمحاذاة الساحل ومشيت خلفه حتى وصلنا لصخرة كبيرة كان نصفها على اليابس ونصفها الآخر داخل البحر وطلب مني الصعود عليها ففعلت. نادى الرجل الأطفال الذين كانوا معه من وسط الجزيرة وقال:
"هيا يا أولاد حان وقت الرحيل".
خرج الأطفال البشعون من الغابة وكان عددهم ستة وتجمعوا حوله يضحكون ويقفزون وفي لحظة رفع الرجل ذراعه للسماء وبدأ يتمتم فتحول الأطفال لشياطين ضخمة أكثر بشاعة من أشكالهم وهم صغار ما عدا واحدا ًمنهم فقد تحول لرجل بهيئة بشرية. همس الرجل الأنيق في أذن الطفل الذي تحول لرجل فهز ذلك الرجل رأسه بالموافقة ثم ركب على ظهر أحد العمالقة الخمسة والذي بدوره حملني بيده الضخمة ووضعني على ظهره بجانب ذلك الرجل وخلال ثوان كنا جميعاً نحلق في السماء. حلقنا مبتعدين عن الجزيرة وعن الرجل الأنيق تاركيه يلوح بيده من على ساحل الجزيرة وهو يبتسم.
رحلتي على ظهر العملاق
بصحبة الرجل المجهول
كنا نطير فوق بحر واسع وكان العملاق الذي حملني مع الرجل يتوسط الأربعة العمالقة الآخرين وكنت مذهولاً من هذا المنظر الذي لم أر مثله في حياتي. دنا الرجل بالقرب مني وأنا أنظر للأسفل في محاولة مني لاستيعاب ما يحدث ومد يده لمصافحتي وعرف بنفسه وقال:
"أنا (قرمز)"
صافحته ولم أتكلم معه. ابتسم الرجل ثم أكمل حديثه معي بسرد بعض الأحداث العشوائية والتي على ما أظن كان يريد قولها لي لغرض معين قبل وصولنا لوجهتنا.. قال:
"عندما قدم (جسار) للجزير وتوسل أبي أن يبقيك عليها لم يرد أبي له طلب لأن (جسار) قدم لنا خدمات كثيرة وقدم لمملكتنا تضحيات لن تنساها له لذلك وافق أبي بشرط ألا تدخل في وسط الجزيرة فوافق (جسار) على ذلك الشرط لكن عندما غدرت (جند) بـ (جسار) والذي كان في حماية أبي قرر أبي إزالة (جند) من خارطة الشياطين خاصة بعد تقديمها رأس (جسار) كعربون مهادنة لـ (دشار) وجماعته من الأقران المؤمنين بالإضافة إلى أنها وشت بالأقران السبعة الذين عاهدوك على الولاء مما دفع (دشار) بالتعاون مع (جند) لقتلهم جميعاً. سكت (قرمز) قليلاً ثم قال:
"اسأل ما تريد فأنا أرى الكثير من الأسئلة تدور في عينيك"
قلت له: كيف خان أتباع (جسار) قائدهم بهذه السهولة؟
قال: انقسم الجيش إلى قسمين بعد مقتل (جسار) ثلث منهم كان معه ومعارضاً لما حدث من انقلاب وثلثان كانوا مع (جند) لأن الشياطين تتبع الأقوى ومبدأ الولاء ليس من أولوياتها أو من اهتماماتها فهم أشبه بالمرتزقة ويتبعون من غلب.
قلت له: ودارت حرب بين الطرفين؟
قال: نعم وقد شارك (دشار) مع (جند) بجيشه وأعطى بذلك الغلبة لـ (جند) في سحق معارضيها.
فقلت له: وهل نسي (دشار) ثأره مني؟
فابتسم وقال: (جند) قتلت (دشار) بعد نصرها الساحق على حلفاء أخيها بلحظات وأخضعت جيشه بالقوة بعد ما فر منه من فر.
سكت قليلاً ثم قلت: وإلى أين نحن ذاهبون الآن؟
فابتسم وقال: لإحضار رأس (جند) لأبي ولكي نعيدك لوطنك سالماً.
فنظرت له باستغراب وقلت له: بكل بساطة؟
فقال والابتسامة مازالت على وجهه:
أنت لا تعرف أبي عندما يتضايق قليلاً..
سكت لبرهة ثم قلت: ومن هو أبوك؟
فقاطعني ليقف ويقول:
لقد وصلنا..؟
فوقفت معه ورأيت جبال أطلس في الأفق ورأيت الرجل يشير للعمالقة الأربعة بالتوجه نحو الكهف الذي به عرش (جند).
هذا المارد من ذاك الشيطان
نزل العملاق الذي كان يحملنا بالقرب من الكهف الذي كان به عرش مملكة "الكثبان" وتوجه العمالقة الأربعة ووقفوا بجوار الكهف ثم أشار لي (قرمز) وهو مبتسم قائلاً:
لندخل وننته من هذا الأمر بسرعة..
دخلت معه الكهف وكانت (جند) جالسة على العرش وحولها مجموعة من حراسها الأقوياء وعندما رأتني صرخت بقوة اهتز لها الكهف وقالت:
"اقتلوا ذلك المدون السافل الآن!!"
فاندفع الحراس نحوي بسرعة رهيبة لكنهم لم يلحقوا أن يمسوا شعرة مني لأن (قرمز) وبحركة من إصبعه أطاح برؤوسهم جميعاً دفة واحدة. نظرت (جند) لـ (قرمز) بغضب واحتقار وهي تقول:
من أنت أيها السافل وكيف تجرؤ على الدخول إلى هنا؟!
وكان (قرمز) خلال حديث (جند) يتفحص المكان مديراً ظهره لها وينظر إلى وهو مبتسم ويقول:
كنت أظن المكان أكثر فخامة من ذلك..
فصرخت (جند) وقالت:
ألا تعرف أنا من وابنة من؟!!
فالتفت (قرمز) نحوها وذهبت الابتسامة من على وجهه وقال بنبرة هادئة لكن صارمة:
بل أنت من لا تعرفين أنا من وابن من..
وفي لحظة اشتعلت (جند) وتحولت لرماد..
عادت الابتسامة على وجه (قرمز) وأنا كنت على وشك الإغماء من هول ما رأيت، اقترب مني ووضع يه على كتفي وقال:
حان وقت الرحيل يا (خوف)..
قلت له بهدوء: هل انتهى كابوسي؟
فقال وهو يبتسم: هل بقي أحد يريد النيل منك؟
فقلت وأنا أنظر لرماد (جند): لا أعتقد.
فضحك (قرمز) ضحكة خفيفة وقال:
لنخرج إذاً من هذا المكان الكئيب.
خرجنا من الكهف وكانت كل قبيلة "الكثبان" مجتمعة فخطب فيهم (قرمز) وهو يقف بين العمالقة الخمسة وقال:
"تفرقوا أيها "الكثبان" فقد حكم عليكم أبونا بأن تصبحوا شياطين سفلية إلى الأبد وكل من له لقب سينزع منه"
وفي لحظة وبدون جدال أو أدنى مقاومة اختفى جميع الشياطين والأقران من أمام (قرمز)..
قال لي (قرمز) وهو يمتطي ذلك العملاق الذي أحضرنا إلى جبال أطلس:
"لا تخبر إنسياً بما حدث معك يا (خوف) فلن يصدقك أحد لكن لن نمنعك من ذكر ما حدث لأننا واثقون من تجاهل الناس لما سوف تقوله"
فقلت له: وكيف تعرف أنهم سيتجاهلونني؟
قال: لست الأول وبالتأكيد لن تكون الأخير..
فقلت: وما الذي حدث معي بالضبط؟
فضحك (قرمز) بصوت مرتفع وقال:
وداعاً يا (خوف) ستكون في فراشك بعد ما تنام..!
رحل (قرمز) مع العمالقة الخمسة وبقيت أراقبهم حتى اختفوا من الأفق. جلست على قمة الجبل حتى غلبني النعاس ونمت. استيقظت في غرفتي.. لم أنهض من سرير.. دمعت عيني.. ابتسمت شفتاي وقلت في نفسي:
"الحمد لله".
الخاتمة
لا أعرف ماذا أقول أو بماذا أختم جزءاً لم أتيقن بعد من انتهاء أحداثه من حياتي أو حتى حدوثه من الأساس فالخاتمة الطبيعة من وجهة نظري لمثل ما مررت به هو شهادة وفاتي. الأحداث بالنسبة لي مستمرة وإن خلت من السحرة والشياطين فأنا كنت ومازالت أخوض حرباً أشد ضراوة من التي خضتها مع العالم الآخر وهي المعركة الفكرية مع العالم الذي يجب أن أعيش معه اليوم وغداً. المجتمع اليوم لا يقبل أي فكر جديد ولا يتعامل معه أو حتى مجرد النظر من زاوية مختلفة لأمور يرى أنها من المسلمات. التغير بالنسبة لي أمر طبيعي وضروري لأي تطور في أي مجال لكن البعض يتعامل مع التغير كخروج وانقلاب على مسلمات لا تتعدى كونها أعرافاً تكتسب قدساه كلما تقدمت في العمر. لذلك لست حريصاً على الإقناع أو الدفاع عن أفكاري كثيراً لأنها ستجد مكانها يوماً من الأيام بين الحقائق المثبتة ومع مرور الوقت ستكون ضمن التاريخ. هناك من يصفني بالمتحرر وهذا إقرار من الواصف بأني كنت مستعبداً لشيء مازال هو عبداً له، وهناك من يرى أن في أفكاري خطراً كبيراً على الجيل الصعد وكأن هذا الجيل خلق ليصعد على سلم مبادئه فقط. حرية التفكير جزء لا يتجزأ من حرية التعبير لذلك كانت هذه "الرواية" ضمن مجموعة الخيال العلمي فهي بذلك ستكسب قبولاً أكثر كونها مصنفة كمجرد أضغاث أفكار. مازالت مؤمناً برية التفكير وحرية الاختيار ومن يخشى على عقله من أفكاري ويحاربها فقط لكونها مختلفة عن ما يؤمن به فقد خاف على هشاشة طرحه من الانكسار وخلو مدرجاته من الذين لم تعد تغريهم تجارة الموت مقابل الحياة الأبدية. عندما يخسر المنطق والعقل مواجهته أمام الخوف يبقى العقل أسيراً للمعتقد أو العرف السائد ويبقى التغيير كالجين المتنحي لا يظهر إلا عندما تكون الظروف مناسبة ولا يمكن في الغالب التنبؤ بموعد هذا الظهور. أنا من مجتمع يرى أن أجمل ابتسامة لي يجب ان تكون عندما أموت وأجمل دمعة هي عندما أكون خائفاً لذلك سأعانق الخوف مبتسماً على أمل أن أموت كما ولدت.. خوف.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا