ليلة تحريك البيادق
مضت الأيام وأصبح يومي روتينياً بين لقاءاتي مع (جند) في الليلة وتدوين للوساوس عند الشروق والغروب والنوم أغلب النهار بالإضافة إلى زيارات متقطعة من (دجن) والتي كنت أتوقف إليها لأنه الوحيد الذي كان يستطيع إضحاكي في تلك الفترة. بدأت أنسى موضوع الهروب خاصة وأن (دجن) طمأنني في إحدى زياراته أنه لا يوجد تحركات من جهة قبيلة "الصوارم" أو قبيلة "الأباطحة" بعد تحالفهم بل على العكس حدث نوع من الهدوء النسبي بين القبائل. بعد عدة أشهر وفي يوم ماطر وأنا أقرأ ما كتبته بعد تدوين وساوس المغرب لمحت اسم (ملاس) بين السطور ففتحت عيني أكثر وركزت انتباهي وقرأت ما كتب فوجدت أن (ملاس) قد تمكن من قتل أحد أبناء مازع وكان اسمه (صان) والعشيرة مقلوبة لهذا الخبر وبعد ساعات من قراءتي لهذا الخبر دخل علي أحد الحراس الموكلين بحراستي وقال:
"سيدي المدون الأميرة (جند) لن تتمكن من الحضور الليلة وأنا ومن معي من الحراس تم استدعاؤنا لحضور مراسم الجنازة لذلك لا تخرج الليلة من دارك كي لا تصاب بأي أذى".
قال الحارس هذه العبارات ثم اختفى.
لا أنكر أني شعرت بالخوف في البداية لكني في الوقت نفسه شعرت بالارتياح لأني استعدت الحرية التي سلبت مني منذ فترة طويلة ولو كان ذلك لبضع ساعات. وبينما كنت في نشوة هذا الإحساس خرجت لخارج الدار أتنفس هواء الجبل الأخضر العليل وفي لمح البصر خرج (دجن) وقال:
يلا هذي فرصتنا الوحيدة يلا خلنا نروح!
فقلت له بتعجب: إلى أين؟
قال: ما عليك أنا مرتب كل شيء بس تعال!
مد (دجن) يده في إشارة لي كي أمسكها وفعلاً امسكتها فوجدت نفسي أمام منزل (سالم) فأدرت نظري نحو (دجن) وقلت له:
ما الذي نفعله هنا؟
فقال: لا تخاف ادخل وما جاك بوجهي.
فقلت وأنا في طريقي للدخول:
وجهك لا يتحمل كل ما أصابني بسببك.
فضحك (دجن) وخف صوت ضحكه كلما تقدمت داخل منزل (سالم) أو في الحقيقة منزل ابن (سالم). جلست في مكان أشبه بالمجلس المخصص للضيوف وبعد دقائق ظهر لي ذلك الرجل الذي أوصلني لمنزل (عمار) في زيارتي الثانية فوقفت مفزوعاً فقال:
"اجلس يا بني فأنا لن أوذيك.."
جلست وعيني عليه لم تفارقه لثانية وبعد دقائق من الهدوء بيننا بدأ يتكلم الرجل معي وحكى لي أنه قرين (سالم) وحكى لي كذلك القصة التي أخبرتني بها (جند) لكنه أضاف بعض الإضافات التي كانت تجهلها (جند) مثل أنه حاول بعد موت (سالم) أن يذهب لـ (مازع) ويقتله لكن الحراس حوله كانوا أكثر من أن يواجههم كلهم وحده فعقد العزم على تجنيد من يشاركه هدفه في قتل (مازع) من الأقران المتحررين والمنشقين من القبائل الثائرة على (مازع) وخلال تلك السنين جمع (ملاس) مجموعة لا بأس بها من الأقران والشياطين لكنهم مازالوا أقل من أن يخوضوا معركة ضد (مازع) وقبيلته.. سكت قليلاً بعد حديث (ملاس) معي ثم قلت:
وما علاقتي أنا و(دجن) بالموضوع؟
فقال: بعد مقتل (صان) على يدي سيكون اهتمام (مازع) الآن منصباً على الثأر لابنه وسوف تكون حمايتك آخر اهتماماته وقبيلة "الأباطحة" و"الصوارم" قد عقدوا العزم على قتلك خلال الأيام المقبلة و(مازع) وقبيلته لن يخوضوا حرباً خاسرة من أجلك وستقتل أنت و(دجن) في لحظات.
فقلت: وماذا تريد مني أن أفعل؟
قال: ساعدني في كسر شوكة (مازع)..
فقلت: كيف.. أنا مجرد إنسي ضعيف ولست بقوتكم؟
قال: مكني من قتل (جند) وبذلك سينهار (مازع) وستتمكن من الهجوم عليه وهو مصدوم بمقتل ابنته بعد مقتل ابنه بيوم واحد فقط.
فقلت: مستحيل.. لن أساعدك على قتل (جند)!
فصرخ في وجهي وقال:
هل اصبحت تدافع عن الشياطين الآن.. أم أنك وقعت في حب ابنة (مازع)؟!
فقلت: لا هذا ولا ذاك لكن لا أريد أن أشارك بقتل أحد حتى وإن كان شيطاناً.
فقال: لقد شاركت في قتل (عمار) بمساعدتك لـ (دجن).
فقلت له بصوت مرتفع: (دجن) خدعني ولو كنت أعرف نيته لما ساعدته!!
فقال: لا ترفع صوتك في وجهي أيها المدون!!
فسكت..
بعد ثوان استأنف (ملاس) الحديث معي وقال:
هل تعرف أن (دجن) قتل (عمار) بأمر مني؟
فقلت: ماذا؟!.. بأمر منك؟
فقال: نعم.. ف(دجن) قريب متمرد مثلي ويريد الانتقام من (جسار) لما حدث بينهما في الماضي لذلك كان من السهل تجنيده.
فقلت: وأنا ارفض أن تجندني وإذا كنت تريد قتلي فافعل.
سكت (ملاس) فترة بعد ما رأى أني مصر على عدم المشاركة في قتل (جند) ثم قال:
أنا لن أقتلك لكن قبيلة (يعرم) وحلفاءهم سيفعلون ذلك بدلاً عني.
فقلت: فليكن.. هذا ليس سبباً لأقتل (جند) أو غيرها.
سكت (ملاس) مرة أخرى ثم قال:
حسناً.. لن نقتل (جند) لكن إذا أردت حماية مني ومن معي يجب أن تساهم معنا في المواجهة مع (مازع).
فقلت: وكيف أساهم في مواجهة بين شياطين؟
فقال: أعرنا قرينك..
فقلت: ماذا .. قريني؟
فقال: كما سمعت.. سوف أحرر قرينك ليشارك معنا في الهجمة على (مازع) وبهذا تكون واحداً منا ونتكفل بحمايتك.
فقلت له: وإذا رفضت؟
فقال بغضب: سنرميك عند قبيلة "الأباطحة" كي يمزقوك أنت وقرينك ولا تظن للحظة أني لن أفعلها!
في تلك اللحظة بدأت عيني ترمش بقوة فوضعت يدي على عيني فقال (ملاس) وهو يبتسم:
هذا قرينك يرجوك أن توافق فهو خائف على نفسه أكثر منك.
فقلت ويدي مازالت على عيني:
سأوافق بشرط..
فقال (ملاس): ليس لك الحق في وضع شروط خاصة وأن حاجتك لنا أكثر من حاجتنا لك.
فقلت له: دون هذا الشرط لن أوافق وأنا أعني ما أقوله.
نظر (ملاس) للأرض لدقائق وكأنه يفكر في كلامي ثم قال:
ما هو شرطك؟.. وتذكر أني لست ملزماً بتنفيذه.
قلت له: شرطي هو أن تجيب على سؤال واحد بكل صدق دون كذب.
فقال: سؤال؟.. ما هو سؤالك؟
فقلت: بما أن (دجن) تحت حمايتكم فهو لا يحتاج حماية من "الكثبان" فلماذا قام بكل ما قام به كي يوفر لنفسه حماية من القبائل الأخرى مادام في حمايتك؟
سكت (ملاس) وكأنه لا يريد الإجابة ثم قال:
لأنه كان يريد حمايتك أنت.
فقلت: أنا؟ ولماذا يريد حمايات فأنا مجرد إنسي جمده في الماضي؟
قال (ملاس) وهو يهم بالنهوض:
لا أعرف اسأله هو.. اعطني جوابك الآن أيها المدون هل أنت معنا؟
فوافقت على مضض لأن خياراتي كانت معدومة وبدأ (ملاس) بقراءة طلاسم تحرير القرين علي فتحرر. ظهر قريني أمامي وكان نسخة مطابقة لي لكنه فاقد إحدى عينيه. ابتسم ثم اندفع نحوي وعانقني قريني وقال: "شكراً.. أعدك أن أكفر عن ذنبي في مقتل (يعرم)"
وضعت يدي وأنا مرتبك ومتعجب جداً على كتفه وقلت:
"لا بأس فقط حاول ألا تموت".
رحل (ملاس) وتبعه قريني وبعدها دخل علي (دجن) وقال:
وأنا بعد لازم أروح معاهم...
فقلت: إلى أين؟
فقال: بعد ما انضم قرينك معانا خلاص صرنا مستعدين للهجوم على (مازع) وقبيلته.
فقلت له: كم عددكم؟
قال: مئة قرين متمرد ثلثهم مؤمن والباقي شياطين"
فقلت: وقبيلة "الكثبان"؟
قال: خمسة آلاف شيطان نصفهم أقران متمردة والباقي شياطين سفلية بالإضافة لـ (مازع) وأبنائه.
فقلت له: ألا تعتقد أن الكفة ليست في مصلحتكم؟
فقال: إحنا ما راح نواجه القبيلة كلها إحنا راح نهجم على (مازع) مباشرة ونضربه ضربة رجل واحد و(ملاس) حط خطة محكمة لهذه الهجمة.
فقلت: وماذا لو قتل قريني في هذه المعركة؟
فقال وهو يبتسم:
لا تخاف وصينا ابن (سالم) أنه يرجع كتلك لأهلك..
وبعدها اختفى (دجن) للحاق بهم.
دخل علي ابن (سالم) بعد أن رحل (دجن) للحاق بـ (ملاس) وجيشه ولم أحتج لسؤاله عن شيء لأنه كما يبدو كان يعرف كل شيء من اللحظة الأولى التي قابلني فيها أول مرة وأخذني للمقبرة.
جست معه في صمت حتى اقترب الفجر وطلبت منه ريشة ومحبرة كي أدون الوساوس الفجرية فقال:
لا داعي لذلك الآن، فقبيلة "الكثبان" مشغولة بكل جنودها في محاولة لتخليص (مازع) من تقدم (ملاس) بمن في ذلك شياطينها المكلفة بالوسوسة.
فقلت له: ماذا تقصد...؟ هل بدأت المواجهة؟!
فقال: نعم منذ اللحظة التي لحق بها (دجن) المجموعة
فقلت: وما هي الأخبار؟
فقال: سقط منا الكثير لكن ضحاياهم أكثر.
فقلت: وماذا عن قريني هل مات؟
فضحك ابن (سالم) وقال:
كيف مات وأنت أمامي الآن؟
ثم سألته عن القماش الأبيض الذي كان بين يديه وعن سبب إحضاره معه فقال:
هذا كفنك في حال موت قرينك ستسقط هنا أمامي ويجب أن أدفنك فوراً حتى تتضح الصورة. فبلعت ريقي الذي جف من الخوف وبقيت أنتظر نتائج تلك المواجهة. أغمض ابن (سالم) عينيه ودخل في حالة من الكمون. بعد ساعة من الانتظار بصمت نطق ابن (سالم) وهو مغمض العينين وقال:
"المعركة تنقلب ضدنا.. خسرنا الكثير من الأتباع.. (جسار) و(جند) هما آخر أبناء (مازع) الذين لم يسقطوا حتى الآن و(مازع) محاط بألف شيطان و(ملاس) يأمر (دجن) وقرينك بالتقدم نحوه."
جلست أسمع تلك الأخبار المتقطعة وأنا أرتجف وأرتعد أنتظر اللحظة التي يسقط فيها قريني السقط معه. استمر ابن (سالم) بالتمتمة بأخبار المعركة حتى قال:
"أصيب (ملاس) و(دجن) يقف بجانبه يذود عنه"
فكانت ردة فعلي الوحيدة هي بقول:
وقريني ماذا حل به؟!
لكن ابن (سالم) لم يكن في وعيه كي يرد علي. استمر ابن (سالم) في سرد الأحداث حتى قال كلمة هزتني وزادت الرعب الذي فاض به صدري حيث قال:
"الأباطحة" وحلفاؤهم دخلوا المعركة عندما علموا أن قرينك مشارك فيها وأمروا شياطينهم باستهدافه"
هنا وفي تلك اللحظة بدأت بالتشهد والاستغفار وأنا أرتجف من الخوف لأني أيقنت أن ساعة الرحيل عن هذه الدنيا قد حانت. وأنا في تلك الحالة أصبت بالإغماء وغبت عن الوعي. استيقظت عند الظهر في مجلس بيت ابن (سالم) وكان المكان هادئاً ولا أثر لابن (سالم) في المجلس ولم أر سوى كفني ملقى أمامي.. بعد قليل دخلت علي حفيدة (سالم) الصغيرة ومعها بعض الطعام ووضعته أمامي وقالت وهي مبتسمة:
"كل" .. ثم رحلت..
أخذت أبحث بنظري في الغرفة عن أحد ليخبرني بما حدث فلم أجد فنهضت ولم أتناول الطعام الذي أحضرته حفيدة (سالم) خرجت خارج الدار لكني لم أجد أحداً كذلك، سمعت أذان الظهر الذي لم أسمعه منذ مدة طويلة فتوجهت للمسجد كي أصلي بحثا ًعن الراحة، بعد انتهاء الصلاة بدأت أبحث بين المصلين بنظري عن ابن 0سالم) ولم أجده لكني سمعت الإمام يقول:
"الصلاة على الميت يرحمكم الله"
فصليت معه موتبعت الجنازة وسألت أحد المشيعين عن اسم المتوفي فقال:
"إنها (فاطمة) ابنة الشيخ (سالم) يرحمه الله"
فتوقفت عن السير في الجنازة حتى ابتعدت عني ولم أكن أعرف ماذا أفعل، كنت محتاراً بين العودة لمنزل (سالم) أو العودة لمنزل (عمار) أو العودة لبلدي. كنت مشتتاً وغير قادر على اتخاذ قرار. وأنا في حيرتي هذه في وسط الشارع ظهر لي (دجن) ولأول مرة أفرح لرؤيته وقال لي بتوتر واستغراب:
وش موقف كذا في وسط الشارع؟!
فقلت: لا أعرف.. ماذا تقصد؟
فقال: تعال.. تعال خلنا نروح لبيت (سالم)1
ذهبنا لبيت (سالم) ودخلنا للمجلس الذي كان فارغاً ثم جلسنا وكنت أنتظر تفسيراً من (دجن) عن ما حدث بالأمس ونتيجة المواجهة لكنه ضل صامتاً ينظر للباب فبادرته بالسؤال وقلت:
ماذا حدث بالأمس وأين قريني وقرين (سالم) وابن (سالم).. ما الذي حدث؟
سكت (دجن) وكان يبدو متوتراً ثم قال:
والله ما أدري أيش أقول لك لكن السالفة تعقدت..
فبدأ قلبي بالخفقان وقلت له:
أخبرني كفاك مراوغة أرجوك..!
فقال: طيب خلاص بقول لك لكن خلك هادئ ولا تقاطعني.
فقلت له بحسرة.. تفضل لن أقاطعك..
أحداث المعركة كما رواها (دجن)
قال لي (دجن) إنهم ذهبوا مع (ملاس) والمجموعة التي معه لمكان تجمع قبيلة "الكثبان" وكانت الخطة هي الاقتراب من مكان (مازع) قدر الإمكان والانقضاض عليه فجأة بكل قوتهم لكن تسللهم كشف قبل وصولهم للنقطة التي كانوا يريدون الهجوم منها فدخلوا في معركة طاحنة مع "الكثبان" وأدرك (ملاس) عندها أنهم سيهلكون لو استمروا في القتال معهم خاصة وأن (مازع) بدأ بتحصين نفسه بإحاطة مكانه بالشياطين المقاتلة وأمر جميع أبنائه بالتجمع حوله فقرر (ملاس) أخذ ثلث المجموعة والذهاب لمكان (مازع)في مهمة شبه انتحارية وكان من ضمن الذين اختارهم (ملاس) هم (دجن) وقريني وقرين ابن (سالم) وقرين أخته (فاطمة).
توجهت المجموعة الانتحارية التي اختارها (ملاس) للهجوم على مكان تحصن (مازع) ودارت معركة دموية راح ضحيتها كل أبناء (مازع) ما عدا (جسار) و(جند) وقتل منا قرين (فاطمة) واصيب (ملاس) إصابة بليغة لأنه كان يندفع بقوة نحو (مازع) رغبة منه في حسم المعركة بقتله لكن الشياطين حول (مازع) كانوا أقوياء وكانوا لـ (ملاس) بالمرصاد. استمرت المعركة لساعات وبدأت بوادر النصر تظهر بتساقط الحراس حول (مازع) ولكن انقلبت الأمور عندما تفاجأ (ملاس) وأتباعه بدخول قبيلة "الأباطحة" للمعركة وهم يصرخون: "الثأر (ليعرم)" فعلم الجميع أنهم سيستهدفون قريني في البداية فارتبكت صفوف (ملاس) ومن معه وبدأ "الأباطحة" بالهجوم عليهم كي يصلوا قريني وانشغل (ملاس) وأتباعه في صد هجوم "الأباطحة" والدفاع عن قريني مما تسبب في خسارة كبيرة بين صفوف أتباع (ملاس).
استغل (مازع) وجيشه انشغال (ملاس) وأتباعه برد هجوم "الأباطحة" على قريني والفوضى التي أصابت أرض المعركة لإعادة ترتيب صفوفهم ومشاركة "الأباطحة" في الهجوم على قريني الذي كان يقاتل بجانب (ملاس) وبعد قتال طويل سقط ضحيته الكثير تم محاصرة (ملاس) وفرقته الانتحارية. ما زاد الأمر سوءاً هو أن المجموعة التي تركها (ملاس) لصد جيش "الكثبان" خلفهم قد خسروا مواجهتهم وقتلوا جميعاً مما جعل جيش "الكثبان" المتبقي من تلك المواجهة بغير اتجاهه نحو الفرقة البسيطة التي كان يقودها (ملاس) والتي كانت ما تزال تواجه جيش "الأباطحة" وحراس (مازع) وحدها.
بدأ (ملاس) ومن معه بالمقاومة ولأن صفوفهم كانت ممتلئة بالأقران المؤمنين استطاعوا مقاومتهم لفترة طويلة أسقطوا خلالها الكثير من شياطين "الأباطحة" و"الكثبان" لكن كثرتهم وتكالبهم عليهم كان يقوم لهزيمة حتمية. عندما أدرك (ملاس) ذلك وأن المسألة كانت استنزافاً حقيقياً لمجموعته التي ستسقط لا محالة بعد فترة من الزمن وإن طالت قرر أن يغير خطته ونادى قرين ابن (سالم) وهمس في أذنه ثم اختفى قرين ابن (سالم) بسرعة. بعد دقائق من اختفاء قرين ابن (سالم) جاءت أوامر من (إينار) زعيمة قبيلة "الصوارم" لقبيلتها بنقض عهدهم مع "الأباطحة" والدخول في المعركة لمساعدة (ملاس) والتركيز على قتل (مازع). انقلبت المعركة وبدأ "الصوارم" بتوجيه ضربات موجعة لجيش "الأباطحة" وجيش (مازع) من الخلف وكان جنودهم يتساقطون واحداً تلو الآخر.
بعد عراك طويل كانت الغلبة لـ (ملاس) وجيشه ومن معه من "الصوارم" وتم إبادة جيش "الأباطحة" وجيش (مازع) بأكمله عدا من فر وهرب من أرض المعركة بمن فيهم (جسار) و(جند). قبضت الفرقة المنتصرة على (مازع) وعلى زعيم قبيلة "الأباطحة" وفصلت رؤوسهما عن أجسادهما على مرأى ومسمع الجيش. تقدم (تكاش) قائد جيش "الصوارم" وأحد أبناء (شند) زعيم قبيلة "الصوارم" السابق الذي قتله (مازع) في بيت (عمار) ورفع رأس (مازع) وهو يصرخ بين الحشود ثم وضع رأس (مازع) تحت أقدام (ملاس) وقال له:
"أختي (إينار) تشكرك على مساعدتنا كي نصبح القبيلة المتسيدة بين القبائل وتقدم لك رأس (مازع) في المقابل".
هنا قاطعت (دجن) وقلت له:
وما هو المزعج في الأمر؟ هذه أخبار مفرحة.. لقد انتصرنا!
فقال (دجن):
خلني أكمل لك إيش اللي صار بعد كذا..
فقلت له: تفضل..
شرح لي (دجن) كيف أنه بعد الانتصار الساحق لهم قررت قبيلة "الصوارم" العودة وسحب جيشها وبقي بعد ذلك (ملاس) وأتباعه يبحثون عن الناجين فلم يجدوا إلا 24 تابعاً كان من ضمنهم قرين ابن (سامل) و(دجن).
فقلت لـ (دجن): وماذا عن قريني؟
فقال إنهم توقعوا أنه قتل في المعركة خاصة وأن معظم شياطين "الأباطحة" كانوا يستهدفونه في حموة القتال، فظنوا أني مت وبدأ ابن (سالم) في مراسم دفني لكنه تفاجأ عندما وجدني مازالت أتنفس فتركني مكاني وذهب للتحضير لجنازة أخته.. سكت (دجن) بعدها ثم قال:
حتى أنا تفاجأت لما شفتك بين صفوف المشيعين لجنازة (فاطمة).
سكت قليلاً ثم قلت:
ما معنى هذا الكلام؟.. أين ذهب قريني؟!
فقال (دجن): قرينك هج وما ندري وين راح.
فقلت: نعم؟!!.. هل تقصد أنه هرب؟!.. ولماذا يهرب؟!
قال (دجن): ما أدري.. لا تسألني..
فقلت بغضب: ومن الذي يعرف إذاً؟!
فقلت: نعم؟!!.. هل تقصد أنه هرب؟!.. ولماذا يهرب؟!
قال (دجن): ما أدري.. لا تسألني..
فقلت بغضب: ومن الذي يعرف إذاً؟!
وخلال نقاشنا الذي بدأ يحتدم دخل علينا (ملاس) ومعه قرين ابن (سالم) وآخرون وقال:
"قرينك وقع في أسر من تبقى من قبيلة (مازع) و"الأباطحة" وهم الآن يساومون عليه".
.. فصمت قليلاً ثم قلت: وماذا يريدون في المقابل؟
قال: يريدون من قتل ثلاثة من إخوانهم في المعركة وقتل (عمار) وقتل رئيس زعيم قبيلة "الأباطحة" نفسه.
فوجهت نظري إلى (دجن) الذي كان ينظر لـ (ملاس) وهو مصدوم.
فقال (ملاس):
اتخذوا قراركم قبل المغرب إما أن نسلم لهم (دجن) ونستعيد قرينك أو سيتم إعدام قرينك عند منتصف الليل.
خرج (ملاس) ومن معه وبقيت أنا و(دجن) في صمت حتى نطق (دجن) وقال:
أنا بروح لهم..
فقلت: لا .. دعهم يقتلوا قريني.
فقال: ما تترك عنك الهياط أبد..
فقلت له: لن أسامح نفسي على ذلك وهذا ذنبي كما قال لي (عمار) وأنا أستحق ما سيحدث لي.
فقال (دجن):
ومن اللي قال لك إنه ذنبك؟.. أنا اللي ورطتك مع قيلة (مازع) وأنا اللي تسببت في كل هالمشكلة.. وبيني وبينك أنا زهقت وما عندي شيء أخسره.
فقلت له: لا .. سوف أخبر (ملاس) بقراري.
ولكن عندما هممت بالخروج لإخبار (ملاس) بأني ذاهب بدلاً عن (دجن) سقطت على الأرض مغشياً علي.. استيقظت في المساء على صوت بعض الطلاسم القريبة من مسمعي فنظرت فإذا به ابن (سالم) يقول لي:
لقد عاد قرينك بجانبك الآن وقد انتهيت للتو من ربطه بك.
فقلت له وأنا أستيقظك وماذا عن (دجن)..؟
قال لي: (دجن) أخبرنا باتفاقكما على تسليم نفسه وتم الأمر منذ نصف ساعة".
فدفعت ابن (سالم) وخرجت أجري لمنزل (عمار) وابن (سالم) يصرخ خلفي ويقول:
إلى أين ستذهب؟!
لم أرد عليه وبقيت أجري وأجري حتى وصلت لبيت (عمار) ودخلت وفتحت كتاب تحضير أسياد الجن وبدأت أبحث فيه وفجأة ظهر لي (ملاس) وقال:
ماذا تظن نفسك فاعلاً؟!
فقلت له ولم أرفع عيني عن الكتاب:
سوف أنقذ (دجن)..
فصرخ بغضب وقال: ألم يكن هذا اتفاقكما؟!
فشرحت له ما حدث.. فأغلق الكتاب بيده وقال:
لقد قضي الأمر فلا تثر حرباً جديدة أيها المدون!
فقلت له: هل قتلت من حررك وقتل (سالم)؟
فقال: ماذا تقصد؟
فقلت له: (جسار) هو ندك الحقيقي وليس (مازع) وهو الهدف من كل ما قمت به ومع ذلك فهو مازال على قيد الحياة وسوف يقتل أكثر شخص ساعدك في معركتك وثأرك. فغضب (ملاس) ونزع الكتاب من يدي وقال بصوت مرتفع:
لن اسمح لك بفعل ذلك!
فقلت له: (دجن) قتل (عمار) من أجلك وقتل الكثير في تلك المعركة دفاعاً عن ثأر لا علاقة له به والآن وبكل سهولة تتخلى عنه؟!!
قال: هذا لمصلحة الجميع.
فقلت: لا توجد مصلحة إلا لك!
فسكت (ملاس) قليلاً وهو مازال ممسكاً بالكتاب في يده ثم قال:
ماذا تريد أن تفعل أيها المدون؟
فقلت له: نستخدم الكتاب لأسر (جسار) وإحضاره هنا مقيداً والمساومة عليه بـ (دجن)!
فقال: وإذا لم توافق (جند) على هذه المساومة؟
فقلت له: يجب أن نحاول!
وضع (ملاس) الكتاب في يدي وقال:
حضر (جسار)..
شيطان على كف عفريت
بدأت بتحضير (جسار) بعد ما أرشدني (ملاس) للطلسم الذي يقوم بذلك في الكتاب الخاص بتحضير الأسياد وخلال دقائق ظهر (جسار) مقيداً في بيت (عمار) وهو يصرخ قائلاً:
"سأقتلك أيها المدون السافل وسأقتل كل أفراد عائلتك وسأجعلك تندم على ما فعلت!!"
فلطمه (ملاس) لطمة أفقدته الوعي وقال:
ماذا الآن أيها المدون؟
قلت له: ألا يوجد طلسم لتقييد (جند) في الكتاب؟
فقال: لا.. فـ (جند) لم تصنف يوماً من الأسياد.
فقلت له: اذهب لها إذاً وساومها على حياة (جسار) في مقابل تحرير (دجن).
فقال: حسناً.. لكن أرجو أن لا أندم على مساعدتي لك..
فقلت له: أنت تساعد نفسك بمساعدتك لي.
وذهب (ملاس) واختفى..
غاب (ملاس) لأكثر من ساعة وخلال هذه الساعة استيقظ (جسار) وقال بهدوء وهو ملقى على الأرض:
أنت أغبى مدون رأيته في حياتي..
فلت له: اخرس أيها الشيطان ولا تتكلم..
فقال: هل تظن أن (ملاس) يريد قتلي؟.. لو كان يريد قتلي لفعل ذلك منذ أن قيدتني هنا لكنه يريد قتل من حرره وتسبب في موت صاحبه.
فقلت له: أنت من حررته وتسببت في موت (سالم).
فضحك (جسار) بصوت غليظ ومرتفع وقال:
أيها الأحمق (جند) هي من حررته بأمر من أبي وأنا كنت في الفترة السابقة مجرد حارس لها من (ملاس)؟!
فقلت له وأنا مصدوم:
أنت كاذب وتحاول خداعي لكنك لن تنجح!
فقال (جسار): (ملاس) يستطيع الآن أن يأخذ بثأره من (جند) لأن في المعركة كنت أنا من يقف حائلاً بينه وبينها وأنا من أصابه في المعركة لأنه لم يكن مهتماً بقتل أبي بل كان يلاحق (جند) طيلة المعركة وقد خدعكم جميعاً لتحقيق مسعاه.
فقلت له: أنت كاذب فقد كان يمكنه أن يقتل (جند) عندما كانت تزورني وحدها.
فقال: (جند) لم تكن يوماً وحدها وفي كل زيارة لك كان معها ألف شيطان بقيادتي يقفون خارج المنزل لحمايتها من أي هجمة.
فصمت.. وبدأت بربط الأمور بكلام (جسار) ووجدت أن احتمال قوله الحقيقة وارد جداً مما زاد في حيرتي.
سكت قليلاً ثم قلت له:
وماذا عن (دجن)؟
قال: (دجن) مغرر به مثلك و(ملاس) لا يهتم لأمره أو أمرك فهو قرين مؤمن ولا يهتم لشياطين أو السحرة.
فقلت له: لا بأس فليقتل (جند) ويقتلك أنت أيضاً لا فرق عندي.
فقال (جسار) وهو يبتسم: بموتي أنا و(جند) أيها المدون سبدأ (ملاس) بحملة تطهير كبيرة ستشملك أنت و(دجن).
بعد سماع كلام (جسار) بدأ القلق يدب في صدري وزادت حيرتي وكنت أتساءل هل (جسار) يقول الحقيقة أم أنه فقط يحاول أن يوسوس لي مثل أي شيطان؟ وخلال تفكيري وحيرتي قال (جسار):
"أطلق سراحي أيها المدون وسوف أعطيك ضماناً بأني لن أمسك أنت و(دجن)".
فقلت له: وما هو هذا الضمان؟
فقال: سأرشدك إلى كتاب "العهد" لو قرأت طلاسمه فسأكون عبداً عندك وبذلك لن أؤذيك حتى لو أردت..
فقلت له: وماذا يثبت لي صحة الكتاب؟
فقال: ستعرف بنفسك أن الكتاب ليس بخدعة لأنه مكتوب بخط يد (عمار) وهو من الكتب التي ألفها بعد سنوات من امتهانه للسحر والشعوذة.
فقلت له: أين الكتاب؟
فقال: ستجده مدفوناً تحت شرفة المنزل اذهب وتحقق بنفسك..
فذهبت وحفرت عند شرفة المنزل وبالفعل وجدت الكتاب وعندما فتحته وجدت أنه فعلاً بخط يد (عمار) ووجدت في الصفحة الأولى سطراً واحداً فقط وكان يقول:
"حروف من نار خطتها ريشة عمار"
فدخلت على (جسار) والكتاب مفتوح في يدي فصرخ (جسار) وقال:
"لا وقت للقراءة أيها المدون اقرأ الصفحة العاشرة بسرعة!"
فقرأتها في لحظة لم أكن أفكر فيها بسبب ارتباكي من صرخات (جسار) التي زادت حدة وعنفاً.. وفجأة.. وبعد قراءتي للطلسم المكتوب في الصفحة العاشرة صرخ (جسار) وتحرر من قيوده ووقف أمامي يتنفس بأنفاس ثقيلة كالثور الهائج وعيناه مشتعلتان كالنار وعندها أحسست أني ارتكبت خطأ جسيماً. نزل (جسار) على ركبته وأزل رأسه أمامي وقال بهدوء:
هل تأذن لي يا سيدي باللحاق ب(ملاس)؟
.... فسكت..
ثم أعاد (جسار) السؤال مرة أخرى وقال:
هل تأذن لي يا سيدي باللحاق بـ (ملاس)؟
.. كنت مرتبكاً ولم أعرف ماذا أقول فسكت..
فأعاد السؤال مرة أخرى وقال:
هل تأذن لي يا سيدي باللحاق بـ (ملاس)؟
وهذه المرة قلت له: نعم.. وفي لمح البصر اختفى (جسار)..
بقيت بعدها في المنزل أفكر في ما حدث وكيف تم التلاعب بي من شيطان إلى آخر وكيف أن هذا العالم غريب ومن الصعب معرفة من يقول الحقيقة فيه وأخذني التفكير إلى ماذا ستؤول إليه الأمور حتى غلبني النعاس. استيقظت قبل الظهر بقليل على صوت أحد يناديني من خارج المنزل ويقول:
"أيها المدون.. أيها المدون".
فخرجت من المنزل فوجدت رجلاً غريباً لكني عرفت أنه شيطان فنزل على ركبته وقال:
"هل تأذن لي بالحديث يا سيدي؟"
فقلت له: تفضل..
فقال: الأمير (جسار) والأميرة (جند) يشكرانك على كرمك ومساعدتك لقبيلة "الكثبان" ومد لي كتاباً أخضر ثم وقف قال:
"سيدي (جسار) يخبرك أنه تحت أمرك في أي وقت تشاء"
فأخذت الكتاب واختفى الرجل...
دخلت المنزل وفتحت الكتاب فوجدت أنه كتب بصيغة التدوين التي بت أعرفها جيداً وكان السطر الأول يقول:
"بعد الحصار حضر قرن الكثبان جسار"
فقرأت الكتاب وكان عبارة عن مدونة تحكي ما حدث منذ لحظة خروج (جسار) من عندي البارحة وحتى حضور الرجل الغريب بالكتاب عند بابي.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا