شارف الفصل الأول على الانتهاء، فقد أديت امتحانات هذا الفصل من السنة الدراسية للجامعة بالنسبة لي. رغم النتائج المتواضعة إلا أنني اجتزت جميع المواد التأسيسية في هذا الفصل بنجاح دون رسوب يذكر.
ما زال المشوار طويلا أمامي، لقد اتخذت القرار الصائب بمواصلة هذا المشوار حتى يتم تحقيق الهدف الأسمى الذي أسعى لإنجازه، وهو التخرج من هذه المرحلة الدراسية- التي ربما تكون الأخيرة- بشهادة جامعية أضمن من خلالها بناء مستقبلي.
أربعة شهور طويلة مضت، حسبتها كالدهر، لقد جاء اليوم الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر.. إنه يوم العودة إلى الوطن. كم أتوق لرؤية أهلي الذين هم بانتظار عودتي إلى المنزل ببالغ الشوق. أتمنى أن تغدو فترة إجازة الربيع كافية لأقضيها بين الأهل والأصحاب ولقاء الأحباب، بعدها أثوب عائدا إلى قطر التي يفترض أن تكون منزلي الثاني لمواصلة ما تبقى من المشوار مع فصل جديد، وهو الفصل الدراسي الثاني للسنة الجامعية الأولى.
أشد السير بهمة وسرور متوجها إلى مكتب الإشراف لاستكمال إجراءات المغادرة، طرقت الباب ثم عبرته مباشرة إلى المكتب. كان الأستاذ (رحيم) جالسا خلف مكتبه يتفرج على ألبوم خاص للصور أجهل كنهها، أعتقد أنها ليست سوى صور وذكريات تتعلق بالسكن والطلاب القدامى أو شيء من هذا القبيل.
ألقيت التحية، لكنه لم يستقبلني بأي رد، وكأن انشغاله بالصور منعه من الانتباه في من يقف عنده الآن.
أخذ يغمغم وهو يتصفح الألبوم:
- ذكريات.. ذكريات الأيام الخوالي. طلاب السكن القدامى، لقد رحلوا وتركوا بصمة واضحة هنا.. أين أنتم الآن؟
لا يزال يتجاهلني دون قصد، هنا واتتني فكرة قد تسترعي انتباهه.
تنحنحت بصوت مسموع:
- إحم إحم..
رفع رأسه منتبها هذه المرة.. قال:
- آه.. جاسم، أهلًا.. كيف حالك، اعذرني، لم أنتبه لوجودك.. تفضل اجلس.
أومأت بيدي وقلت:
- لا بأس.. جئت فقط لأعلمك أنني سأسافر غدا للعودة إلى وطني.
مضت برهة من الصمت حتى خلع عويناته ورمقني بنظرة غامضة ثم قال بتجهم:
- أنا آسف.. لا يمكنك المغادرة.
اتسعت عيناي دهشة، قلت بانفعال:
- لا يمكنني المغادرة!.. لماذا؟
صوب نحوي نظرة جامدة، ثم.. ابتسم ليقهقه بسذاجة:
- هاهاها.. كنت أمزح فقط.
تنفست الصعداء، قلت بارتياح:
- لقد أقلقتني فعلا.. كدت أن أصاب للحظة بانهيار عصبي.
قال وهو يفتح أحد الأدراج:
- لم العجلة؟ مازال أمامك فصل آخر، أرجو ألا تكون سئمت من الأجواء هنا.
لم أرد، فقط كنت آمل من صبري ألا ينفد. كل ما أريده إنهاء الإجراءات بسرعة، بعدها أبعث ساقي خارج المكان محمولا فوق أعناق الريح.
وضع المشرف بضعة أوراق أمامي:
- هذه ثلاث أوراق فقط، أرجو أن تملأ المطلوب مع ضرورة ذكر تاريخ العودة في هذه الخانة، لكن قبل أن تبدأ.. أبشرك، لقد تمت الموافقة على انضمام فواز للإقامة معك في الغرفة، خاصة أن صاحبه سينتقل للإقامة في غرفة أخرى، بالتالي ستظل غرفته شاغرة لفترة مؤقتة إذا انضم إليك، وهذا يصب في مصلحة الجميع.
قلت وقد شعرت بالمسرة:
- حقًا، ومتى سيتم التنفيذ؟
أجاب:
- مع بداية الفصل الدراسي الثاني.
ثم أردف:
- لكن تذكر، لقد سمحنا لك بالانفراد بالغرفة المسجلة باسم عابد حبيب المنسحب من الجامعة، وهذا غير مسموح به البتة، لكننا تجاوزنا عن هذا خاصة أن الفصل الأول أوشك على الانتهاء. والآن نطلب منك أن تؤكد لنا بأن الغرفة ستسجل باسمك أنت وزميلك فواز، أعطنا موافقتك النهائية، إذ لا مجال للتراجع بعد ذلك.
قلت فورا:
- أوافق: وفواز سيوافق هو الآخر على الرغم من أنه غير موجود حاليا، فقد سافر يوم أمس.. إن شئت سأتصل به ليؤكد لك موافقته.
قال وقد بدا عليه الإجهاد:
- لا داعي لذلك، لقد أخبرني من قبل أنه يرغب بمشاركتك الإقامة في تلك الغرفة. هيا املأ الأوراق بسرعة، فموعد دوامي الآن على وشك الانتهاء.
نظرت إلى الساعة التي بلغت عقاربها الحادية عشر مساء، حسنا علي إنهاء المطلوب الآن، ثم أقصد غرفتي لأتأكد من أن حقيبتي جاهزة، بعد ذلك سأخلد للنوم.
رحت أملأ المطلوب دون تدقيق، لا أعلم لقد سبق أن ملأت هذه البيانات من قبل، فلماذا أملؤها مرة أخرى.
ظل الأستاذ (رحيم) يتطلع نحوي بكثب، بينما أنا أوشكت على الانتهاء، ثم خاطبني مستفسرا:
- أود أن أسألك بشأن ذلك الشخص.
رفعت بصري نحوه، قلت سائلا:
- أي شخص؟
- ذلك الغريب الذي تسلل إلى غرفتك من دون علمنا، هل رأيته مرة أخرى؟
أجبته بلا مبالاة:
- لقد أخبرتك من قبل أنني لم أره منذ ذلك اليوم، ولم أسمع عنه شيئا.. أعتقد أنه غادر نهائيا، وقد نوهتك بهذا أيضا.
همهم المشرف مفكرا إلا أنني واجهته بسؤال:
- هل من شيء تود اطلاعي عليه يا أستاذ؟
انتبه نحوي:
- ماذا؟!.. لا.. كل ما في الأمر أن أحداهم اقتحم متسللا مكتب الإشراف ليلة أمس، وراح يعبث في أغراض ومحتويات المكتب ويبعثرها عشوائيا.. الغريب أننا لا نعلم كيف استطاع التسلل إلى غرفة المكتب دون أن يلاحظه أحد. لقد واجهنا البواب مرارًا إلا أنه أكد لنا بصدق من أنه لم ير أحدا يلج السكن دون السماح له بالدخول، بالإضافة إلى أنه لا يعلم أي شيء عن ذلك الغريب، ولم يره أبدا.
قلت باستغراب:
- تسلل أحد إلى السكن مرة أخرى! وهل تشك في أحد؟ أعني أتعتقد أن ذلك الغريب هو الذي قام بهذه الفعلة.
أجاب:
- لا يمكنني الجزم، من الصعب توجيه التهمة لأحد، خاصة إن كان من طلبة السكن، إذ لا نعلم السبب الوجيه الذي يدفع أي شخص للقيام باقتحام مكتب الإشراف والعبث في محتوياته دون سلب شيء منه، فلا يوجد غرض له قيمة وأهمية في ذلك المكان سوى أوراق وملفات تخص الجامعة وأعضاء السكن، بالإضافة إلى أنه لا أحد يملك المفتاح الخاص بالغرفة إلا نحن المشرفين.
مرت لحظات من الصمت الذي خيم على الأجواء هنا، إلى أن تثاءب المشرف وهو يسأل:
- هل انتهيت من ملء الأوراق؟
- نعم، تفضل.
بينما أنا أسلمه الأوراق وقع نظري عفويا على إحدى صور الألبوم الموضوع أمامي على المنضدة. كانت صورة قديمة باهتة اللون، بدت أنها التقطت قبل سنوات طويلة، أرى فيها مجموعة من الطلبة يقفون في لقطة جماعية يتوسطهم المشرف الذي بأن هنا في عنفوان شبابه.
رحت أمعن في الصورة وفي وجوه سجنائها الذين يحمل ذكراهم بالطبع الأستاذ (رحيم مدحت) عبر هذه الصورة.
سألت المشرف:
- أستاذ.. من هؤلاء؟
نظر إلى الصورة المعنية.. أجاب:
- إنهم الطلبة القدامى، حيث هم أول من قدموا إلى السكن الذي تأسس قبل أكثر من عشرين سنة.. للأسف لا أتذكر أسماءهم جيدا.. أعتقد أن هذا الطالب الذي يقف في أول الصف يدعى أسامة وعلى يساره هذا يدعى جابر، أما هذا الشاب الطويل.. لا أعلم هل اسمه عبد الله أم عبد الرحمن، وهذا الجالس...
وبينما المشرف يتعمق في تعريف الصورة وأصحابها، رحت أمعن في صورة أخرى قديمة لذات الأشخاص وهم ينصبون وقفتهم في نفس الموضع والمكان، لم الصورة مكررة؟ لا أرى أي فرق.. و... ماذا يفعل هذا هنا؟!
أثناء تدقيقي في الوجوه اصطدم نظري عفويا بهذا الذي يقف بجانب المشرف من الجهة اليمنى في الصورة الأخرى.. يشبهه تماما، لا.. لا يمكن أن يكون هو.. لكن الشبه واضح وقريب.. أعني ذلك الغريب الذي سكن غرفتي، ماذا يفعل في هذه الصورة؟ وما شأنه هنا؟ لم لا أسأل المشرف.
- ومن هذا يا أستاذ رحيم؟
نظر إلى حيث أشير، أجاب:
- إنها نفس الصورة لنفس الأشخاص، لقد التقطت مرتين، ربما لأخذ الحيطة تجنبا لأي عطب يحدث. تعلم آلات التصوير في ذلك الوقت لم تكن ذات مستوى..
قاطعته:
- لا أتحدث عن الصورة يا أستاذ.. أعني هذا الذي يقف هنا بجانبك.
نظر بتركيز إلى حيث أشير فيما هو يصلح من وضع عويناته، ثم تنهد بعمق وهو يرخي جسده على المقعد.
أفضى قائلا:
- هذا السبب الذي من أجله تم التقاط الصورة مرتين، إذ لم يظهر هذا الطالب في الصورة الأولى لانشغاله بالتقاطها.
هنا سكت مليًا وتنهد من أعماق قلبه، ثم قال بصوت تشف منه الحزن:
- يدعى مصطفى يوسف، أحد طلاب السكن القدامى الذين لازالت ذكراهم تعبق في هذا المكان.
(مصطفى يوسف)!.. أين رأيت هذا الاسم؟
استأنف المشرف سرد خاطره بصوت رتيب:
- إنه واحد من أكثر الطلبة الذين لا أنساهم أبدا، كان طالبا متميزا فعلا ذا خلق رفيع، يثير البهجة في النفوس، أحبه الجميع بما فيهم أنا الذي بلغت محبتي له أكثر من البقية. لم ينفك يومًا عن توجيه النصائح والإرشادات للآخرين، أذكر أيضا حرصه الشديد على أداء الصلوات وبالذات صلاة الفجر التي هي كما تعلم ثقيلة على نفس المسلم، لكنه لم يكتف بهذا، فحينما يصحو يحرص على إيقاظ زملائه وإيقاظي أنا بالذات لصلاة الفجر. أما الآن للأسف لا يوجد أحد يتطوع لنزعي من نومي الثقيل لأداء فريضة الفجر.. لكم أفتقده فعلا منذ أن رحل عن الدنيا.
انتبهت لعبارته الأخيرة:
- رحل عن الدنيا!.. ماذا نعني؟
قال وقد طرأ على نبرة صوته شيء من النشيج:
- لقد توفي في حادث أليم.
".. لقد توفي في حادث أليم، لقد توفي في حادث أليم.."
أخذت تلك العبارة الأخيرة تطن عاصفة في ذهني، بينما سرعان ما تذكرت أين رأيت هذا الاسم.. (مصطفى يوسف).. الملصق، المفكرة، والأباجورة العتيقة.. أفكار وعبارات أخذت تغزو ذهني.
"أصابته حالة نفسية سيئة كادت أن تصل به إلى حد الجنون؛ لمجرد إقامته معه ليوم واحد".
"ليس طالبا في مسكننا، وربما ليس بطالب جامعي في الأساس، لقد انتحل شخصية ابن عمي عابد مستغلا غيابه".
"لم نره أبدا، ولم نسمع بوجوده بتاتا إلا على لسانك أنت".
"كيف استطاع التسلل إلى السكن دون أن يراه أحد، بل دون أن يلحظه البواب".
"لقد واجهنا البواب مرارًا إلا أنه أكد لنا بصدق من أنه لم ير أحدا يلج السكن دون السماح له بالدخول".
"لطالما كنا نحذركم وأنتم صغار ألا تجالسوا الغرباء بتاتا، ولا تقتربوا منهم مهما كانت نواياهم. إلى الآن مازلت أحذرك منهم رغم أنك أدرى مني بهذه الأمور".
"مصطفى يوسف.. توفي في حادث أليم قبل عشرين سنة".
واصل المشرف سرده وهو ينشج بحرقة هذه المرة:
- هل تعلم.. الغرفة التي تسكن فيها حاليا كانت تخص المرحوم مصطفى يوسف.. مازلت أذكر غرفته في تلك السنوات، أعتبرها من أحسن الغرف نظافة وترتيبا، لقد كان المرحوم يتصف بخصال حميدة يشاد بها فـ... إلى أين تذهب؟!
عدوت مسرعا خارج مكتب الإشراف وقد اعتراني الهلع فجأة، مما حدا بقلبي أن يوجف بشدة، لا يمكن هذا.. مستحيل.. لا أصدق.. هل كنت أعيش مع شخص ميت فعلا؟ لا أصدق أنني جالست شبحا يدعى (مصطفى يوسف). الآن أيقنت لماذا أقام في هذه الغرفة بالذات دون أن يراه أحد، هي تعتبر غرفته سابقا. سأتوجه إليها حالا لأحمل حقائبي ومقتنياتي الشخصية خارج الغرفة، لن أبقى لحظة واحدة في تلك الغرفة الغريبة، سأنتقل إلى غيرها عاجلا. ماذا سأفعل الآن؟ أين أنام الليلة؟ على إيجاد أحد أبيت عنده هذه الليلة.. نعم، جاري (مسعود) مازال هنا لم يسافر بعد، سأبيت عنده الليلة في مأمن عن تلك الغرفة رغم أن غرفته تقع في الشقة نفسها. لا بأس، أشعر بالأمان إن بقيت عند أحد آخر، شخص طبيعي واضح للعيان.
لكن كيف سأشرح الأمر الجاري (مسعود).. بالطبع لن يصدقني إذا حكيت له عن شبح طالب ميت أوبت عنده في الغرفة، وأخشى عودته مجددا في هذه الليلة. سأطلب منه أن يستضيفني هذه الليلة فقط، مجرد أن أبيت عنده قبل السفر غدًا، بالطبع لن يمانع.. يا إلهي!.. أشعر أنني سأفقد صوابي تماما. لا يقبل عقلي وكذلك المنطق أنني سكنت عند طالب مضى على وفاته ما يقارب عشرين سنة.
"مصطفى يوسف.. توفي في حادث أليم".
تبًا، هذه العبارة لا تفارق مخيلتي، أجزم أنها ستصدع رأسي الآن.
أولجت المفتاح في مقبض الباب، فتحته بسرعة، الخوف يسري في كياني وأنا أضيء المصباح، الساعة تشير إلى الحادية عشر والنصف. أمامي نصف ساعة أو أكثر لأجهز حقيبتي وأحملها مع مقتنياتي الشخصية إلى خارج الغرفة. سأطلب النقل للإقامة في غرفة (فواز) فورا ابتعادي عن هذه الشقة الكئيبة بأكملها.. لكن علي أولا أن أخاطب (فواز) ويلزم مني إقناع الإدارة بهذا الخصوص. حقيبتي جاهزة الآن، وأغراضي مجرد بضعة كتب ومتعلقات شخصية يمكنني حملها جميعا.
- أين تظن نفسك ذاهباً؟
أجفلت عندما ترامى إلى مسمعي هذا الصوت الجامد بينما أقف عند الباب كي أخرج. استدرت ببطء.. أرتعد بشدة، فيما استبد بي الخوف بشكل رهيب.. حتى اصطدمت عيناي هلعا بصاحب الصوت الذي يقف على بعد خطوة مني في مؤخرة الحجرة. بوجه ضبابي غاشي، وبصوت بارد قارس يخاطبني قائلاً:
- أرى أنك قد اكتشفت حقيقتي أخيرا.
يدنو مني رويدا رويدا، وهو يرمقني بنظرات تستوقد شرا، أتراجع مذعورا إلى الوراء بينما يدي تبحث بعصبية عن مزلاج الباب. أحملق في وجهه الغائم الخالي من أية حياة، الرعب يزلزل قلبي، حتى يكاد يخرج من القفص الصدري. دنا مني عن كثب.. هنا دارت الدنيا حولي ثم دارت معها عدة نسخ من وجوه (مصطفى يوسف).. حتى اسودت معالم الرؤية، وغبت في ظلام دامس.
* * *
آه.. آآآخ.. رأسي.. أشعر بدوار وصداع في آن واحد.. آه يا رأسي.. وكأن مطرقة دقت رأسي.. أين أنا؟
انفرجت حاجبتا عيناي ببطء، أرى نفسي ممدا على السرير، لم الإضاءة خافتة هنا؟ هل أنا في غرفتي؟ رفعت نصف جسدي الخائر لأتكئ على الوسادة، راح بصري يستوعب معالم المكان، حتى أيقنت أنها غرفتي لا أزال فيها. ماذا حدث يا ترى؟.. نظرت إلى جهتي اليمنى، أجفلت رعبا مما سرت بي رجفة قوية في أوصالي.. لا يزال هنا، لم يغادر الغرفة بعد، جالس على مقعده، منزوي عند مكتبه مواجها له، منهمك في الكتابة على تلك المفكرة وهو يطالع الكتاب حينا، حتى أغلق كلا الغرضين. استدار نحوي، وقد بدا وجهه شاحبا غثا أكثر من ذي قبل، ندت منه ابتسامة واهية، أفصح ببرود:
- كيف حالك؟
أصابني الارتياع، تراجعت مذعورا وأنا مستمر على الفراش حتى التصقت بالحائط. تقدم نحوي بكرسيه المتحرك، بينما أنا ألتصق بالحائط أكثر، وكأنني أحاول أن أغوص في جوفه. دنا مني حتى جلس قبالتي تماما.. ينظر إلي بسكون جامد، فيما الخوف يملأ قلبي.
قلت وقد خرج صوتي بصعوبة وأنا أرتجف رعبا:
- ابتعد.. إياك أن تقترب.. وإذا اقتربت.. سوف أصرخ..
ندت منه ضحكة مكتومة وهو يقول بتهكم:
- ها قد استحلت إلى فتاة.
وهذا ما أعتبرها إهانة لكرامتي، واجهته بصوت متلجلج:
- أنت لا شيء.. أنت لست حقيقيا أبدًا.. أنت مجرد وهم.. نعم، أنا أتوهم.
رد علي بهدوء:
- قد أكون كما تقول، لكني أشعر بوجودي.
ساد الصمت أجواء المشهد العصيب للحظات، ثم أردف بلا مبالاة:
- هل يمكنك أن تصغي إلي؟
لم أجبه. سألت في قرارة نفسي عما لديه ما يقوله..
استطرد قائلا:
- ليس من داع لأن ترتعب مني، لقد استمريت لأكثر من شهرين في الجلوس معي في غرفة واحدة بدون أي أثر للخوف، أما الآن فقد بدوت منكمشا عند الحائط وكأنك ترغمه على ابتلاعك.
أصابني ما قاله بشيء من الإحراج، شيئا فشيئا بدأت أتغلب على مخاوفي. أشار نحوي بالتقدم وهو يقول بلطف:
- هيا تحرر من الحائط، واعتدل في جلستك، ثم اصغ إلي باطمئنان.
انفصلت عن الحائط، وأنا أعتدل في جلستي ببطء دون أن أنطق بشيء.
تنهد بعمق ثم استرسل في الكلام:
- حسنًا.. لقد اكتشفت حقيقتي قبل فترة من الزمن. نعم أنا لست بطالب جامعي، بل كنت في السابق، ولست ممن ينتمون لهذا المكان، وقد كنت في السابق أيضا.
ثم أضاف بروية:
- ولست بآدمي حي أيضا.
توجست مرة أخرى، وأنا أتراجع إلى الخلف، لكنه نبهني بإشارته الصارمة من يده.
قال مبتسما:
- لكنني مسالم.
هنا راح يسرد لي بإسهاب:
- قبل عشرين سنة ونيف، كان السكن مليئا بالحيوية والنشاط كحالة الآن، وإن بدا عليه مسحة من التغيير بفعل تقلبات الزمن الحالي، وقد أضحت الجامعة آنذاك موئلا لطلاب الدراسة الذين لا يفصلهم عن بناء المستقبل سوى بضع سنوات.
لقد التحقت بجامعة قطر في سنة 1982م.. أمضيت فيها قرابة ثلاث سنوات، عاصرت زملاء أضحوا معلمين في الجامعة والبعض منهم يعمل الآن في مؤسسات وجهات مرموقة، لكن أكثر شخص عاصرته وما زال موجودًا حتى الآن يمارس مهنته المعتادة.. هو الأستاذ رحيم مدحت.
سكت هنيهة يحني بصره ثم تابع:
- كانت ثلاث سنوات كلها تفاؤل.. ثلاث سنوات استبشرتها خيرا. حياتي كلها في الثلاث سنوات قامت على المثابرة والاجتهاد في الدراسة. أذكر زملائي كانوا يلقبونني بالسائق، تشبيها بسائق الباص الذي يقوم بمهمة توصيل الطلبة إلى الجامعة، وذلك بسبب مكوثي طويلا في الجامعة، لا أغادرها إلا في المساء، حيث انتهاء فترة الدوام.
سكت مليًا مرة أخرى وهو يسدل حاجبيه، وكأن ذكريات تلك السنوات تتراءى له في مخيلته.
سألته وقد بدوت مندمجا مع حكايته:
- هل قلت ثلاث سنوات؟.. أعني أن الطالب لا يتخرج إلا في أربع سنوات أو أكثر، فماذا حل بالسنة الرابعة؟
فتح عينيه وتطلع نحوي عن كثب، ثم قال:
- لم تبق لي إلا سنة واحدة فقط تخرجني بشهادة جامعية عليا في تخصص الرياضيات التي كنت أهواها فعلا، مجرد سنة واحدة تضعني بين كفين، الأولى كف الاستقرار والأخرى كف المستقبل، لكن للأسف هذه السنة أعتبرها الأكثر شؤما في حياتي.. لقد شاء لي القدر إنهائي في حادث أليم، وقد تم دفني في هذه البلاد، لصعوبة نقل رفاتي إلى البوسنة حيث هي موطني.
هنا اتسعت عيناي دهشة، وقد خطر في ذهني عشرات الأسئلة. لا أصدق أنني جالس وأصغى وأتحدث مع شخص مات قبل أكثر من عشرين سنة تقريبا، هذا ضرب من الوهم بل الجنون بعينه.
ألمح (مصطفى يوسف) وكأنه قرأ أفكاري:
- أرى أنك لم تستوعب ما يحدث الآن، عليك أن تصدق ما تراه عيناك.. لا تقلق، لقد سبق لصاحب الغرفة في الماضي (عابد حبيب) أن مر بمثل ما تمر به الآن.. إذ سكن معي هو أيضا.
تفاجأت من قوله الأخير، قلت بنبرة صوت منفعلة:
- عابد حبيب!
أطنب في كلامه:
- ألم تستفسر لماذا انسحب عابد من الجامعة؟.. لم يستطيع التحمل والبقاء مع شبح لا يغادر قبره إلا في ديجور الليل ليعود إلى غرفته التي لن يفارقها أبدًا، على الرغم من أنه ظل معي سنة كاملة محتفظا بهذا السر الذي أودعته عنده كما سأودعه عندك الآن، وقد عاهدني أن تسير الأمور على ما يرام ويساير حياته بشكل اعتيادي حتى حلول السنة الثالثة.. إذ رأى أنني السبب في تدني مستواه وكذلك درجاته الجامعية. حاول بشتى الوسائل أن يجبرني على ترك الغرفة، فقد تعمد أن يترك غرفته مهملة عبثية وغير نظيفة، ظنا منه أنني سأغادرها بكل بساطة، لكنه لم يتيقن أنني متمسك بالبقاء في الغرفة إلى أجل معلوم، حتى قرر الانسحاب من الجامعة ليبحث عن جامعة أخرى يدرس فيها وهو مطمئن البال.
سكت برهة وهو يرسل نحوي نظرة ذات مغزى:
- الأمر يعود لك الآن.. إما أن تجد مكانا آخر تأوي إليه، أو تقبل الإقامة معي في هذه الغرفة التي أعتبرها ملكي كما في السابق، بشرط ألا تفشي لأحد ما يجري فيها، وإلا ستقع في متاعب جمة لا تستطيع الخروج منها.
سألته بعد تريث:
- ولكن ماذا عن فواز؟
ارتسمت على وجهه نظرة عدم الفهم.
شرحت موضحا:
- فواز، صاحبي.. سينتقل للإقامة في هذه الغرفة.
عقب مجيبا:
- ليكن في حسبانك، إذا انضم أحد آخر إلى هذه الغرفة، فهذا لن يكون في صالحك.. عليك أن تشرح وتفسر الأمر لهذا الذي تدعوه فواز عن سبب ظهوري كل ليلة، بالطبع لن يستوعب الحقيقة.. لذا أرى من المستحسن أن تنتقل إلى غرفة أخرى.
صمت طويلا وكأنه ينتظر مني جوابا، لكني لم أنطق بأي شيء، إذ تهت في دوامة من الأفكار والحيرة.
عاد إلى الكلام:
- بعدما توفيت ودفنت في هذه البلاد، ما برحت روحي معلقة بهذا المكان. أغادر قبري في هجيع الليل لآتي إلى غرفتي وأبدأ بالمذاكرة كما كنت في عهدي السابق، آتيها لمجرد أنني أشتاق للدراسة وعيش أجوائها بشغف، على الرغم من أن هذا لا يفيدني بشيء، وأنا روح هائمة بلا جسد وإن كنت ملموسًا، ولا يستطيع أحد أن يبصرني إلا من يجلس في هذه الغرفة التي تتحسس جدرانها أنفاس روحي، لدرجة أنها تستشعر وجودي.. لذلك ظلت علاقتنا وطيدة.
راح يواصل كلامه بتعبير ينم عن مكنونة قلبه:
- قرابة عشرين سنة لم تشأ الإدارة أن تفتح الغرفة وتمنحها لأحد، وذلك تخليدا لذكراي، لكن في السنوات الأخيرة قررت فتح الغرفة من جديد وتسليها للأخ عابد حبيب، إذ زاد عدد الوافدين إلى السكن، وبالتالي شكل هذا ضغطا وعبأ على كاهل الإدارة، لكنهم لم يعلموا بوجودي ميتا أجوب هائما في هذه الغرفة، ولا أحد يعلم أنني أنا الذي اقتحمت مكتب الإشراف قبل يومين وبعثرت محتوياته لكي أجد كل مفاتيح الغرفة.. لكن يبدو أن المفتاح الوحيد لهذه الغرفة بقي عندك أنت.
سكت لحظة، سألته:
- ولماذا فعلت هذا؟
أجاب وهو خافض عينيه:
- حتى لا يشاركني أحد الإقامة.. خاصة أنني حسبتك ستنتقل للإقامة في غرفة أخرى، فكما تعلم، أشعر بالراحة أكثر لجلوسي وحيدا ومنعزلا في هذه الغرفة التي تحن إلى مؤانستي دوما.
هنا سكت مرة أخرى وهو يتنفس بعمق، ثم قال:
- ما زلت أنتظر منك الجواب، إما أن تنتقل إلى غرفة أخرى أو تقبل بالإقامة معي وتلتزم بشروطي التي تعرفها جيدا، أو...
أردف بتريث:
- تنسحب من الجامعة.
لم أبد أي رد، وأنا منغمس في حيرتي حتى بلغ إلى أسماعنا صوت أذان الفجر..
أشار (مصطفى يوسف):
- أستأذنك الآن لأعود إلى قبري، لكني مازلت بانتظار تلقي جوابك النهائي، سأكشفه لاحقا إن لقيتك هنا في المرة القادمة.
خطا عبر الباب وغاب منه في لحظة، بينما تسمرت في موضعي وقد بلغ بي التساؤل والحيرة أقصى مدى، ألقيت نظرة طويلة شاملة على الأريكة والدولاب والمكتب وتلك الأباجورة وكل ما تحويه الغرفة، ثم ألقيت نظرة أطول على حقيبتي وأغراضي المبعثرة.. اتجهت إليها لأحملها وأسير بها إلى الخارج.. ألقيت آخر نظرة تبعتها نظرة أخرى على الغرفة، بعدها رددت الباب خلفي وأوصدته بالمفتاح الوحيد الباقي عندي.
* * *
4. العودة..
بعد أربع سنوات..
صيف/ يوليو 2006م.
في المطار..
"حضرات المسافرين نحمد الله على سلامة الوصول إلى مطار البحرين الدولي، نتمنى أن تكونوا قد استمتعتم برحلتنا هذه، يرجى البقاء في مقاعدكم لحين إطفاء إشارة الأحزمة.."
ألقي نظرة جذلة على ساعتي الجديدة، إنها التاسعة والنصف، على الموعد تمامًا. كحال المسافرين أظل في مقعدي حتى تستقر الطائرة لتركن في موقعها المخصص. فيما أشعر بالعجلات وهي تدور مقتربة على مهل، أميل بوجهي تجاه النافذة، أرسل أنظاري ناحية مبنى مطار البحرين الدولي، أتأمله بلهفة.. هناك حيث تمسي العودة حاضرة، ترافقك كل متعلقاتك الشخصية، يصحبك إذن المرور، وتحل ساعة اللقاء بشوق تحن إليها الأفئدة، حتى يأتينا الأحبة والأحباب في أسعد الأوقات، ثم يغيب عنا الوداع لحظة العودة إلى الوطن.
إنها طبيعة الحياة البهيجة، تمر بك أيام تتمنى تعطيل دورانها، لتعيشها متنعما بخلودها.
من السهل أن تنشأ لديك العزيمة والقناعة بأنك ستتعايش مع الحياة الجديدة التي لم تعتد عليها، والنتيجة المثمرة أنك نجحت في تحقيق متطلبات تلك الحياة.
ليس من العسير أن تتأقلم مع الغرباء الذين يتصرفون بغرابة، خاصة إذا كنت قد خضت تجارب مسبقة، وعشتها لفترة كافية.
إنها الحياة، تتصرف فيها حسب هواك أنت. تثابر يوما بجد واجتهاد، وتتقاعس جزء يوم عن أداء واجباتك، تنظم أوقاتك في إطار برامجك الزمنية، تساير أحداث العالم بشكل طبيعي.
في هذا الميعاد- بعد مضي فترة وجيزة من وصول الطائرة- تطأ قدماي أرض بلادي الأم، أمشي بهمة وسرور، أجوب أروقة المطار، أجر خلفي حقيبتي الكبيرة، بينما أحمل في يدي أغلى شيء ملكته، أحمل حصيلة ما جنيته خلال أربع سنوات من الجهد والكدح في الدراسة والعمل من أجل الجامعة، أحمل شهادة البكالوريوس الجامعية ومرفقاتها المطلوبة.
لقد أمضيت أربع سنوات في قطر كأربعة أيام معدودة، لقد تحقق الهدف الأسمى الذي بعثت لأجله للدراسة في تلك البلاد.
أما الآن فقد حان للبال أن يرتاح، وللقلب أن يطمئن، حتى ترتقي النفس أعلى درجات السكون.
ذكريات جميلة قضيتها بين أحضان الجامعة. زملاء الدراسة يضرب بهم أروع المثل في حسن العشرة والمعاملة.
أربع سنوات- ماعدا الإجازات الفصلية- قضيتها في الدراسة وإعداد البحوث المكلفة من قبل الجامعة.
أربع سنوات- مصحوبة بإجازاتها الفصلية - قضيتها في كتابة هذه الرواية.. وها أنا قد استنفدت الأحداث، وبلغت المشهد الأخير، أود أن أختم بها فصول الرواية، ثم أطويها في كتاب متكامل.
ما هو الاسم الذي اخترته لروايتي هذه التي أعتبرها باكورة أعمالي رغم خوضي تجربة التأليف أيام الثانوية؟
(الغريب) أو (غريب يسكن معي) أراه مناسبا لاعنون روايتي هذه. أرى البعض يسأل عن شأن ذلك الغريب (مصطفى يوسف) الذي توفي قبل أكثر من عشرين سنة، وأقمت معه وهو يحمل الموت والحياة في كينونته.
في الحقيقة.. لا أعلم عنه أي شيء منذ لقائي الأخير به، ولا أود أن أعلم، إذ غادرت الغرفة وتركتها لأقيم عند صاحبي (فواز) في غرفته السابقة طوال ما تبقى من سنوات المرحلة الجامعية، ولما تخرج (فواز) سمح لي بالانفراد بالغرفة، خاصة أنني كنت على أعقاب التخرج.
أما الآن قبل أن أخط آخر نقطة لأنهي بها الرواية، أود أن أعرضها على أحد، قارئ مطلع ومهتم، لأستفيد من ملاحظاته ونقده البناء.. ما رأيك أن أعرضها عليك أنت؟
-.........
-.........
-.........
يجلس قابعا عند مكتبه، موليًا ظهره لي، منكبًا على الكتابة في تلك المفكرة، مجد في مذاكرة دروسه السابقة.. بدا الانهماك واضحا عليه وأكبر من ذي قبل وهو يمارس عمله المعتاد.
توقف عن الكتابة دون أن يحط قلمه، حتى أنه لم يطو مفكرته، رفع رأسه.. شيئا فشيئا يستدير ناحيتي، حتى واجهني بوجهه الضبابي الشاحب، ونظراته الباردة مرسلة ناحيتي.
انفرجت شفتاه، ونطق بصوت هادئ رتيب:
- رواية جيدة بالنسبة لمبتدئ مثلك، رغم تحفظي على الخاتمة التي أتمتها بخرجك من الجامعة خلال انقضاء أربع سنوات.. وأنت مازلت في بداية الفصل الثاني لم تنه سنتك الأولى بعد.
ثم أردف وهو يؤوب إلى موضعه:
- أرى فيها بعض الثغرات.. ربما سنناقشها يوما حين تحل ضيفا عندي في أسفل الأرض.
* * *
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا