ليلى العثمان
صمت الفراشات
رواية
إلى كل الفراشات الصامتات المحصورات كالكلمات بين قوسين
الإهداء
إلى صديقة القلب:
هدى بركات
لا أحد سواك يستحق صمت فراشاتي وألوانها
ليلى العثمان
فوجئت بالطبيب يخبرني:
- لابد من العملية.
تسمرت وصوتي المخنوق يسأل مذعوراً:
- وهل أسترد طبيعة صوتي بعدها؟
لم يشأ الطبيب أن يخادعني، قال:
- ليس تماماً.. على الأقل في الشهور الأولى. ثم يتحسن.
صمت...
ظل ينتظر قراري؛ وحين طال صمتي الحزين سألني:
- ها... ماذا قررت؟
هززت رأسي. يدي تتحسس حنجرتي، موطن صوتي، تنحنح الطبيب:
- إن لم تتم العملية فقد يتطور الأمر إلى... لا سمح الله.
شهقت:
- سرطان؟
مط شفتيه. فغر عينيه. ضرب برأس قلمه على الطاولة:
- ممكن.. كثيرون، اضطررنا لاجتثاث جزء من حنجرتهم.
تنهدت. تلمست حنجرتي ثانية:
- سأفكر يا دكتور.
حذرني:
- لا تتأخري في اتخاذ القرار.
ابتسم برقة وهو يواجهني ويطمئنني:
- العملية سهلة. مجرد دقائق. لكن قبل إجرائها هناك شروط.
سبق لهفتي للسؤال. قال وهو يهز إصبعه الرشيق:
- الامتناع كلياً عن التدخين، وعدم إجهاد الصوت.. يفضل أن تأخذي إجازة من التدريس.
مططت جذعي، اتكأت على طرف طاولته. سألت وحزني ينساب إليه:
- أنت متأكد أنني سأستعيد صحة صوتي؟
واثقاً، طرق بكفه على الطاولة:
- طبعاً.. لكن بعد العملية ستلتزمين بشروط.
ضحكت، أسبقه بالشرط الأول:
- أدري.. التوقف عن التدخين!
بادلني ضحكتي:
- شاطرة! ها أنت تعرفين.. هذا البلاء سبب علتك.
بتشوف مشوب بالخوف سألت:
- والشروط الأخرى؟
انساب صوته هادئاً:
- أولاً. ستخضعين للصمت لمدة أسبوعين.
هلعت:
- صمت جديد؟
- هل سبق أن أجريت العملية؟
ابتسمت:
- لا.. لكني مارست نوعاً آخر من الصمت.
كأنه اطمأن:
- إذن ستلتزمين مادامت لديك تجربة.
ذكرته:
- وثانياً يا دكتور؟
- ثانياً يا سيدتي ستحتاجين لتمارين تدريبية لاستخراج صوتك بالتدريج. هناك طبيبة متخصصة ستقوم بتلك المهمة.
- وهل يطول العلاج؟
- هذا يعتمد عليك. بقدر التزامك بعدم التدخين. والأهم بالصمت.
شعرت بحاجة إلى البكاء، شعرت وكأن يداً غليظة تمتد إلى عنقي وتحاول خنقي ثانية عن الكلام. تواردت علي في لحظة سنوات صباي الأول في قصر العجوز، هناك بدأ صمتي الذي فرض علي، والآن صمت آخر علي أنا أن أفرضه على نفسي لأستعيد سلامة صوتي. كلا الصمتين صعب ومر، وله نتائجه المختلفة. ذاك صمت سرق من عمري أجمل السنوات قبل أن يورثني المال، وهذا صمت سيسرق أسبوعين ليورثني الصحة والعافية. فرق كبير، لكنه في المحصلة صمت مفروض علي.
تركت العيادة. وكعادتي نزلت درجات السلم مهرولة من الطابق الثالث، أفكاري تغلي في رأسي. وكذا مخاوفي:
هل أصدق الطبيب؟ هل سيكون دقيقاً وهو يجري العملية؟ ماذا لو أخطأت يده وقشر أكثر من الزوائد الملتصقة بحبال الصوت! هل أفقد صوتي إلى الأبد؟
وصلت إلى سيارتي. وما إن أغلقت بابها حتى فاجأني بكاء عارم. حرارة السيارة في الداخل تكاد تشويني. الشارع الهائج يدفع بهديره نحوي فيختلط بهدير مخاوفي المتراكضة بداخلي، قاومت ارتخائي، أدرت مفتاح المحرك واندفعت. دخلت إلى شقتي الصغيرة، عالمي الذي هيأته لنفسي منذ أن تخطيت بوابة عبوري إلى الحرية من القصر الظالم.
* * *
منذ الليلة الأولى أراد تلقيني الدرس الأول. كنت لا أزال غاطسة في الأريكة الوثيرة داخل غرفة النوم الأسطورية في قصره. سحب عقاله والغترة فبان رأسه الأجرد لامعاً مثل قدر الستانلس ستيل. التفت نحوي حاسراً الرقة من صوته:
- أسمعي. من الآن عليك أن تعتادي الصمت. أسرار القصر لا يجوز أن تتسرب ولو من خرم إبرة.
لم أدرك معنى أمره الأشبه بتهديد مبطن. كدت أدفع بلساني المثقل وأسأله "أية أسرار تخشى عليها؟"
لكتني غشمت طريقة التخاطب الواجبة مع رجل في مقامه وسنه، رجل لا يزال حتى اللحظة غريباً عني، فآثرت الصمت.
كنت لا أزال مقمطة بثوب عرسي الأثقل من أكياس الرمل. مئات من حبات اللؤلؤ والستراس البارق مشغولة فوق قماشته الساتان دوشيس. ذيله الطاووسي يمتد خلفي خمسة أمتار مرصوصة هي الأخرى بحبات أكبر. تحيط كأشعة شمس بورود من الأورغانزا محشوة بالفصوص الفضية. رأسي أيضاً يثقله التاج الماسي الذي يشع متأثراً بأنوار الثريا الكريستالية المتدلية فوقي كخيمة من شوك، موزعة بريقها على الأرض والجدران المكفنة بورق فخم. جسدي غير معفي من الأثقال: عقد، إسورة، ساعة، قرطان وخواتم الباجيت. أشياء ما فكرت يوماً أنها ستلامس جسدي. لكنها كانت بعض أحلام أمي. كان حلمي ينحصر في دبلة متواضعة، وبيت صغير، وقلب أوسع من كل القصور.
خطا متمهلاً تجاهي. ظهره المحدودب يثني رأسه حتى تكاد ذقنه تلامس عظمة صدره. توالدت بداخلي المخاوف مثل دبابير سجينة تتقافز، تتراكض، تحاول بشوكها خرم لحمي لتفر ناجية من عصوف قلبي التي تقرع طبول أفريقية مجنونة كلما تقدم خطوة نحوي. أنتصب أمامي. ظلت عيناي مسبلتين كارهتين التقاء وجهه. حرك كفه تجاه وجهي وبسبابة هشة رفع ذقني فتقابل وجهانا. صوته الحاد يأمرني:
- أنظري إلي.
تثاقل جفناي. لكن الأمر الوارد جعلني أنظر، تضاعف ارتجافي حين صدمني الوجه، كتلة رخوة تستند إلى عظامها، صدغان كحفرتين، أنف كقصبة ذابلة، عينان صغيرتان غائرتان يموج بؤبؤهما بماء أزرق، شفتان مترهلتان انفرجنا عن ابتسامة فضحت أسنانه الاصطناعية. دس بعض الرقة في صوته:
- ها... عسى أعجبتك؟
أغمضت عيني، حاولت في لحظة أن أقطع المسافة ما بين ربيعي التاسع عشر وخريفة الستيني، لأكون قادرة على استنهاض كلمة واحدة أجامله بها وأكذب. لكن لساني تحجر، واشتعلت بداخلي نار وددت لو تركض ألسنتها إلى أبي وأمي اللذين قدماني لقمة لجيفة من سلالة تتوارث مالها، أمراضها، ولا حائل دون نزواتها وغزواتها. ظل يحدق بوجهي القمري بعينين منطفئتين لا تسعفانه على استكشاف بضاعته وتقيمها. تصورته سينحني ليقبل جبيني كما يفعل العريس في الأفلام المصرية، ثم يسري بشفتيه على بستان وجهي الناعم ويذهب بعد ذلك حيث تسوقه شهوة الليلة الأولى. لكنه لم يحرك سوى إبهامه دعك به شفتي دعكاً غليظاً ظننته يسعى لمسح أحمر الشفاه عنهما راغباً في اكتشاف لونهما الأصلي. لكن صوته قطع كل توقع:
- ها الشفايف الحلوة لو نطقت بشيء سأقطعها!
ارتجفت، شعرت بأمعائي تتعارك، احتجت إلى الحمام لأفرغ دفقة الخوف، أردت أن أنهض لكن كفه حطت على كتفي ورصتني ثانية إلى الأريكة وتابع:
- سر الليلة لن يعرفه أحد. تعلمي الصمت واعتاديه.
"هل للصمت لغة لأتعلمها ولون لأعتاده؟"
هززت رأسي هزات سريعة متتالية لأقنعه بأنني أفهم وأوافق. ابتسم منتصراً، تركني واتجه إلى باب الغرفة، فتحه وقبل أن يخرج أصدر أمره:
- اخلعي ملابسك وتجهزي للنوم. سأعود.
التقمت أمره مثل رمح مدبب. لكنه ظل مستمراً عند الباب بانتظار إجابة تؤكد انصياعي للأمر. كانت هزة الخوف والأسى تسور لحمة لساني الذي نبض ثقيلاً:
- أمرك.
خرج وأغلق الباب.
أعلن بنبرة تهديدية أنه سيعود وكأنه يخشى إن هو غادرني أن أتحول فراشة وافر من القصر. نظرت إلى الباب، تمنيت لو أنه يتجمد ولا يفتح. تأملت النافذة المغلقة وتلك الستائر المعتمة التي حجبت الدنيا بأكملها عني. ومثل دودة شبه مهروسة تعاني سكرة الموت ظللت على الأريكة عاجزة عن الحركة. كل شيء في الغرفة الفخمة يحاصرني بحبال غليظة، وأحسست بصمت مريب يهطل من السقف مثل بقايا رماد المواقد البائت ويتوزع في الغرفة سريعاً، يهبط على الأضواء التي لم تعد قادرة على وأد الظلام الذي غمر روحي وتمازج بأنسجتها. وددت لو أفلت صوتي، أطلق ولو صرخة واحدة تدك القصر فأواجه الفضاء حتى وإن تهت فيه، لكن حنجرتي لم تسعفني. وتاه لساني حتى حسبت أنه قطعه قبل أن يغادر الغرفة، ظلت كلماته تطن في أذني "عليك أن تعتادي الصمت".
كلهم كان يأمرني بالصمت. كانت أمي حين تختلف معي على شأن حتى وإن كان يخصني، تضغط سبابتها على شفتيها وتقول "أصمتي وأسمعيني". أبي له طريقته الخاصة في إصدار الأمر بالصمت. مجرد أن يلمح إشارة الاعتراض على وجهي؛ يصفق بكفيه فأفهم أن علي ابتلاع الكلام وصوتي. لم يكن أخي أرحم، فحين كنت أراه يختلف مع زوجته؛ أحاول بسبب حبي لهما، أن أرش بعض كلمات لطيفة لتهدئة غضبهما قبل أن يتطور، فيتحول غضبه منها إلي. يصرخ في وجهي "أصمتي ولا تتدخلي" فلم أجرؤ بعد ذلك على إقحام نفسي ومشاعري الطيبة بينهما، حتى المعلمة التي يفترض أنها المربية الفاضلة ضاقت بجدالي المتكرر. عاقبتني بطرقٍ شتى فتعلمت الصمت في حضرتها. كرهت صمتي. لكنني واصلته حتى جاءت اللحظة التي أعلمني أبي قراره بتزويجي من الثري العجوز. استطعت من هول اختياره أن أستجمع شجاعة موهومة وأنطق:
- لن أتزوج. سألتحق بالجامعة.
- لن تدخلي الجامعة، ستتزوجين.
عويت من ألمي:
- هذا العجوز؟
أمي تدخلت:
- أبوك يريد لك الخير.
جرؤت. وقذفت بردي:
- بل هو خائف أن يؤثر رفضي على وظيفته عند ولي نعمته. إنه يبيعني وأنت شريكته في الظلم.
لم يحتمل أبي، هاجت رياح غضبه، أمسك بي وانهال علي بالضرب المبرح وأنا أتوسل أمي فلا يرف لها خيط أمومة. خارت كل قواي. رفع أبي وجهي إليه، أطبق بإصبعيه على شفتي، فركهما فركاً وصل أعصاب روحي ونفث تهديده:
- سأقطعهما إن لم تصمتي من الآن حتى يوم عرسك.
أسقط علي صخرة قراره، ومن أحد خرومها الضيقة المسننة استلني قدري إلى القصر.
* * *
عانيت صعوبة في خلع ثوب الزفاف، وفك التاج الذي تشابك بخصلات شعري. ألقيت بكل أحمالي في أرض الخزانة، وارتديت الذي أمرت أمي أن يكون رداء الليلة الأولى قالت وكأنها تقصد إثارتي "البسي الأحمر الدانتيل، الألوان الفاقعة مثيرة لرجل مثله".
جلست على أريكتي ملجومة بالصمت. جفاف حط على شفتي لا يتيح لي فرصة للتأوه والتشهد على روحي التي وقعت في كمائن العجوز دون أن يسمي عليها أحد حتى أمي!! أحسست بنفسي تتسرب مني، وجرار عمري كلها تفرغ من زمزم وتمر. لا أسمع غير قصف عظامي الذي يكاد يكسرني، يبعثرني، تمنيت لو يحدث هذا لأكون في منجى مما ينتظرني.
تحركت أكرة الباب بفظاظة أفزعتني. دخل وكأنه عفريت انشق عنه حائط قديم، لم يغلق الباب، واربه وأقترب مني. توثبت بانتظار شيء أجهله. نظر إلي وهو يفرك كفيه كمن يطرد رعشة برد فاجأته محاولاً أن يشذب من ملامح صوته المرتجف. أمرني:
- استلقي على السرير.
تمهلت غير عامدة. كنت أحتاج آلاف الأيدي لتنتزعني من الأريكة القاسية إلى سرير أقسى وأبرد. تغيرت سحنة صوته:
- ما سمعتيني؟
لم ينتظر، أقترب ودس كفه تحت إبطي ليرفعني، تحركت بصعوبة إلى السرير غير شاعرة أن لي قدمين تتحركان. هل يملك من القوة قدراً جعله ينفخ علي فأطير أم أنا كنت ريشة تائهة فطرت؟!
استلقيت على السرير ذبيحة جاهزة لأسنان مركبة وذراعين شبه أعضبين، غطيت جسدي حتى العنق واشرأببت بنظرتي نحو السقف متمنية لو ينهار علي، أو تفتح فيه كوة ليراني نسر كبير فيخطفني ويطير.
جسدي يرتعد، وانقباضات روحي تتزاحم، تحدرت دموعي تحرق وجنتي، لم أهتم أن أمسحها، قلت ربما لو رآها يشفق علي، يتمهل في فض أوراق الزهرة المرتعشة، يعطيني فرصة لأعتاد عليه، وأتعود كيف ترضخ الفريسة لمفترسها.
أقترب من السرير، لاصقني، حاولت أن أهرب بنظرتي فصل بكفه على وجهي، حدقت به، عيناه كعيني أسدٍ هرمٍ جريح، يدرك ضعفه أمام الفريسة الشابة، خطا إلى ظهر السرير، أنقض فجأة على ذراعي. فتحهما وانكب يهوس عليهما فلم أعد أملك قدرتي على الحركة. دهشتي تشلني، ماذا يريد بالضبط؟! حاولت أن أصرخ، فنفخ على وجهي بأمره الحازم:
- أصمتي.
وجهه صار قريباً من وجهي. ظل هكذا حتى أطمأن أن صوتي المبلوع لن يزرع صراخه، ثم التفت ناحية الباب وصرخ:
- أدخل.
غلبني فضولي رغم خوفي، دفعني لأرفع بعض رأسي وأرى من المأمور الذي سيدخل علينا في ليلة يفترض أنها تخصني وتخصه، فوجئت بعبدٍ بحجم مارد يقتحم الغرفة، يقترب من السرير ويبدأ بخلع ملابسه!!. لم تسعفني براءتي لأستنتج إجابة لما يحدث. فزعي تنامى حين رأيت العبد أمامي عارياً تماماً يلتمع جسده بالعرق، لم أكن قد رأيت جسد رجل من قبل. لكنني بشيء أشبه بالإغماءة اللحظية؛ لمحت جسد أخي الصغير حين كانت أمي تسقطنا في البانيو كل أسبوع لنستحم. كانت تصر أن أظل محتفظة بالقطعة الصغيرة التي تستر عورتي، بينما تترك أخي حراً منها. تبدأ به وعندما تنتهي وتلف جسده بالفوطة تأمره أن يخرج وينتظرها على السرير حتى تفرغ مني. عندها تأمرني أن أخلع الساتر وتدعكني بليفة غير خشنة. حين تغمر وجه أخي بالصابون ويغمض عينيه، كنت أشرع في تأمل جسده، فلا أجد بين جسدينا أية فروق غير ذلك الجزء الذي تسمح له أمي بإبرازه. ويوم احتججت ذات مرة زمت ما بين حاجبيها غضباً وقالت عورة البنت ما يصير يشوفها غير زوجها.
أفقت والعجوز يأمر عبده:
- ابدأ.
أقترب العبد فصرخت. ضاعف العجوز قوته وهوس على ذراعي ضاغطاً بكفه اليابسة على ثغري ليكتم صوتي، بينما عيناي المرتعبتان لا تقويان على الانغلاق، أحدق بوجه العبد ذي العينين الصفراوين البارقتين، أقترب أكثر، كشف عني الغطاء الحريري. بدأ يعريني، عافرت بساقي لأمنعه، لكنه، ولشدة قوته، أستطاع أن يوهن كل جسدي حتى سيطر عليه وباغتني بسيخ النار الملتهب، اخترقني حتى الحنجرة التي أفرزت سائلاً يصطخب مذاقه بكل الطعوم المرة.
لا أدري كيف جاءت صرختي مدوية. كأنني اختزنت آلاف الصرخات فانطلق حبيسها دفعة واحدة. ضغط العجوز بذراعه على وجهي، شعرت بأنني أختنق وأموت وصوت العبد اللاهث يتسرب إلي:
- تفضل عمي.
حررني العجوز من ثقله ورائحته، أفقت فاصطادت عيناي العبد وهو ينحني لسيده بعدما هيأ له الوليمة، لملم ثيابه، حملها وخرج عارياً.
لماذا قالت أمي أن زوجي هو الوحيد صاحب الحق في رؤية عورتي؟ لقد كذبت علي. شعرت بكراهية دسمة نحوها، تمنيت لو أنها أمامي لأندفع إليها أغرز أظافري المطلية بلون الدم داخل حلقها وأثقب لسانها. أصرخ في وجهها "هل انكشفت عورتك على أحد غير أبي؟"
التويت على جرحي، شددت ساقي المبللتين بنثار الدم إلى بطني متوجعة أذرف أنيني، أشتهي غفوة تنسيني الذي شاهدت وكابدت، غفوة تحملني إلى حلم أو فضاء ليس فيه أحد يكتم صوتي فأصرخ... أصر... أصـــ... أ...
كنت أتوهم أنني سأخلد لتلك الغفوة، وما خطر ببالي أنني سأكون وجبة ثانية لعجوزي الذي أنتظر حتى تفتح له أبواب القلعة المحصنة. أقترب وقد تعرى كما فعل العبد، رأيت جسداً بشعاً، بدا جلده المترهل على عظامه، التي نخرتها السنوات، وكأنه قماش قديم مبتل. رفعت جذعي لأفر من السرير لكنه لشدة وهني استطاع أن يحاصرني، انكب على جسدي. واجهتني قتامة وجهه، وهرولت نظراته الجامحة إلى عيني، ومثل نمر جائع أخذ يتخبط بافتراس وليمته ولعق دمها. أطبقت جفني كي لا أراه. زممت شفتي كي لا ينز إليهما صديد فمه وكل أوراقي الناعمة المؤتلقة بعطرها تنكمش على بعضها كي لا تتشرب رائحته. مزمومة كلي بغلياني، أسمع طقطقة عظامه وهو يحرث الجثة التي سهل العبد الشيطاني فتح قبرها. عانى طويلاً في محاولته، وفي اللحظة التي انتصر فيها وأطلق شخرات لذته كنت أنطفئ كقمرٍ مهروس.
دفنت وجهي في الوسادة الحريرية وقد أفلست في حبس نشيجي وتأوهاتي، أقترب ثانية، شد شعري الذي استشاط وتبعثر، لوى جسده ناحيتي وحذق بوجهي بعينيه الخرزتين، وصوته الجاحظ من حنجرته:
- اكتمي.. أكره بكاء النساء.
لم ألتزم أمره. كنت مثل سحابة مشحونة يشعلها البرق ويطلقها الرعد:
- وأنا أكرهك.
رفع كفه، بسطها بقسوة على صدغي. فتناثرت نجوم سوداء أغشت بصري ولعلع بصوته المحتد:
- من الليلة فصاعداً ابتلعي صوتك ودموعك.
* * *
ابتلعت صوتي، مري، دمعي، وحسرتي، وهو يقتات كلما شاء من حريري، كما تقتات الدودة من جسد ميت. كنت أشعر أنني أتعفن، اكتظظت بالأوجاع، تخمرت رئتاي برائحة القصر الذي لا تتنفس فيه الجدران إلا عللها، وتتثاءب فيه أفواه التماثيل الجامدة تنز صدأ عصورها المنصرمة. لا أحد يدخل فيحمل إلي نسيمة شهية. ولا عصفورٌ يطرق الشبابيك المسورة. لم أقدر أن أنشئ علاقة بيني وبين أي شيء، حتى الخادمات كنت أحسهن كالجلادات متأهبات لجلدي في أية لحظة يأمرهن بذلك.
سكن كل شيء من حولي. لم أعد أشعر بدفء الشمس، ولا بحنان القمر في الليالي التي يصاحبني فيها الضجر والكدر. حتى الحديقة الغناء المحيطة بالقصر، لم تكن لتبعث في روحي غير النفور. إن جلست على أعشابها الخضراء الناعمة أحسستها شوكاً ينغرس في لحمي؛ وحين أتلمس الزهور من كل صنف ولون، أشعرها مثلي بلا لون ولا رائحة. كنت لا أجد الراحة إلا حين ألتصق بشجيرات الصبار التي تسيج سور الحديقة العالي، وأتذكر همسة أبي الوحيدة التي همسها في أذني في زيارة من زياراته الشهرية؛ وكأنه سبر صعوبة الحياة التي أعيشها:
- كوني صبورة.
ولولا أن أقترب العجوز لكنت نطقت بحقدي عليه:
- هكذا إذن أردت لي أن أكون، شجرة صبار تحتمل الجوع والعطش.
كنت جائعة وعطشي، محرومة من كل شيء، غزالة يتيمة تحتاج إلى حضن أم، وصوت إنسان يحدثها، يؤنسها ويمسح على ظهرها المثقل.
كل ما هيئ لي في هذا القصر من ثراء وألبسة ومجوهرات لا يساوي شيئاً، ولا يطاول قامة حلمي الوحيد أن أكسر تلك القضبان ذات يوم وأفر إلى حيث الحياة عطوفةً شهيةً وصادحة. أن أعود إلى بيتنا البسيط الآهل بالحركة وضحكات أولاد أخي الذين كانوا يتناثرون حولي يعبثون بأشيائي القليلة الغالية علي، يشخبطون على أوراقي وكنبي المدرسية، يتقاذفون وسادتي ويرتدون أحذيتي الرخيصة ذات الكعب العالي. لكنه حرمني من رؤية البيت ومن أهلي. لم يكن يسمح لهم إلا بزيارة شهرية لا يجالسونني فيها إلا في حضرته. فلا أستطيع أن أنبس، ولا أقوى أن أصرخ في وجه أبي "لقد وأدتني حية وظلمتني". كانت ثورتي على أمي وأبي تتراكم داخلي حتى أصبحت مثل جبل النار تجثم على صدري وتضاعف احتراقه، وكان لابد أن أحاول مع العجوز في لحظةٍ من لحظات اختطافه المتعة من جسدي، فتوسلته ذات ليلة:
- ولهت على بيتنا. أرجوك. خليني أزور أهلي.
كنت كمن ألقي بعود الثقاب على كومة قش منقوعة في بركة بنزين. أشتعل غضبه وانطفأت نشونه:
- أنتن يا بنات الفقراء؛ لا تملأ النعمة عيونكن. تبقين أسيرات البيوت الفقر!
- لكنهم أهلي.... حرام أن تقطعني عنهم.
- سأقطع لسانك لو تلفظت بهذا الطلب مرة ثانية.
انحنيت على يديه... نزفت دموعي، استعطفته وأنا أعده:
- والله لن أنطق بشيء عن حياتنا.
شد شعري حتى كاد يفصله عن بصيلاته، فح في وجهي:
- ما بها حياتنا؟ أنت تعيشين كالأميرات.
- أرجوك.. أرحم قلبي.. لا تكن ظالماً.
صرخ وهو يدفعني:
- أخرسي.
هوت كله على وجهي وأردف الصفعة ببصقة نتنة. أسرع نحو الباب، أطلق صوته بالصراخ ينادي إحدى الخادمات، وحين أقتربت مهرولة؛ أمرها أن تنادي العبد. لم تمض ثانية إلا وكان يأتي كالبرق الأسود. للمرة الثانية يقتحم غرفتنا، في المرة الأولى اقتحم جسدي. فما الذي سيفعله بي هذه المرة؟ هل سيأمره بامتطائي عقاباً لطلبي الذي اعتبره زلة عظمى؟ لم تطل حيرتي صوته يأمر العبد أن يأتي بالسوط!!.
أغرب العبد وكأن ريحاً صرصراً تدفعه.... السوط.. يا إلهي! هل هو الذي كنت ألمحه يعلو ويهبط فوق ظهور الدواب؟ هل سيسقط الآن على حرير جسدي ويفتق خيوطه؟ طار صوابي، هرعت إليه أتبعثر تحت قدميه كدجاجة أزف ذبحها، أخذت أتضرعه مسترحمه، طالبة العفو لكنه في كل محاولاتي كان يرفسني بقسوة وصوته أقسى:
- راح تشوفين كيف يكون الظلم.
حين دفع العبد الباب ودخل والسوط يتأرجح في يديه، تلقفته بنظراتي المسترحمة آملة أن يستيقظ حسه الإنساني فيتمرد على سيده ويتحالف معي ضد ظلمه. كان في وجهه بعض رمقٍ من حزن وأسف، لكنه سريعاً أقبل ناحيتي. أدركت أن لا شيء في داخله سيتحرك إلا ضدي وأن الكلب لا يعتاد إلا طاعة سيده، فررت ناحية الشباك أتمسك بقضبانه لكنه كان الأقوى. سحبني، قذفني بوحشية إلى الأرض وبدأ ينفذ أمر سيده اللعين، يؤرجح السوط على جسدي وكأن بيني وبينه ثأراً بائتاً. كان في كل جلدة يسحق آدميتي ويزهق روحي. ظل يجلد حتى شعرت وكأنه وصل إلى ذاكرتي وقشر كل بطانتها فلم أعد أتذكر من أنا، ولماذا أنا هنا! كنت فقط أطلق صراخي كعواء كلب جريح طالبة الرأفة، العفو، المغفرة، لكن حبالها تقطعت من كف العبد وقلب العجوز. انهارت قواي، ترنح صوتي حتى سقط.
لا أذكر متى أعتقني العبد من سوطه تاركاً جثتي المتهاوية على أرض الغرفة. جسدي المرضوض يئن بجروحه، وجهي المذاب بدموعه يحترق، روحي المفرومة من الألم تتنازعها مشاعر الذل والحقد. نحيبي الصامت يتورع في ثغرات جسدي المبرقش بآثار السوط. نمت سابتة بين نبض القلب الواهن واللسان المقيد بالصمت.
* * *
بعد تلك الليلة التي ظللت أعاني سكراتها، مر شهران لم يقاربني بها العجوز، ولم أر وجهه. وقد أراحني هذا رغم جراحي التي تولت الخادمات تجفيف نزيزها وترطيب أورامها بالماء الدافئ والمراهم. كنت بين أياديهن كطفلة معاقة يقلبن جسدي، يتفرجن على جروحي، يستمعن إلى أنيني وهذرة لساني غير المنطوقة، يواسين حيناً وحيناً يؤنبن عنادي ويطلقن نصائحهن إلي بالصبر والانحناء لواقعي المر. لكنني ما عدت قادرة على اجتراع المزيد، غاب أهلي عن أساي، منع زيارتهم عني، وقلبي يرفرف بانتظار أن تطل علي شمسهم التي غربتني وظلمتني. كنت بحاجة أن ألمس أياديهم رغم أنها ملوثة بثمني الذي باعوني به. كنت أتوق أن أفتح صندوق قلبي المغلق، وأفتت أورام لساني التي تليفت، أكشف لهم ما يحل بي من مظالم تشوه جسدي وتدمر إنسانيتي، أستعطفهم ليخرجوني من بئري الآسن وأوكار وحدتي. كنت واثقة أنهم لن يمدوا حبال النجدة نحوي، فهم مثلي مكبلون بالخوف منه. ما كنت أملك غير إطلاق الحرية لعقلي ليعرج بي إلى رياض الحلم بالهرب قبل أن تطوي عتمة الموت عمري ونور قلبي، لماذا أتركه مختالاً يحتكر حياتي داخل قصره الذي يعطب روحي ويوشك أن يقتل جذوة صباي الجميل؟
الزمن ي... ز... ح... ف... وأنا رهينة لأعتام الأيام والليالي متشبثة بالصبر والصمت. أسبح في أفلاك حلمي الجائل في غيماته. يدفع بي إلى ابتكار طريقة للهرب. لكن الطرق كلها توصد، ومحاولاتي خائبة كسلى في مرابضها، وعمري المضغوط لا يتنفس إلا صلوات سرية تتوسل معجزة ما لتنهي خرسي، تشعل صوتي، تقلعني من هذا القبر، وتبعدني عن هذا "العزرائيل" الذي يلوح باختطاف روحي. كان علي أن أستنهض عقلي وأنهض بروحي المكتظة بأعبائها لأكون قادرة على التفكير المتألق الخلاق فأضع خطة لا تؤول إلى الفشل.
هو العبد المارد ولا سواه، أقفال البوابة الحديدية - بوابة الرحمة - بين يديه، ما إن يخرج سيده حتى يسارع إلى قفلها، ولا يشرعها إلا حين يزعق بوق عودته.
حبكت رأس خطتي، بدأت أخرج إلى الحديقة، أتجول في نهارات الشمس الربيعية، أنسلى بمتابعة البستاني وهو يعتني بالزروع المتنوعة، حاذيته يوماً وهو يقلم صغار الأشجار ويلقي ببعض أغصانها إلى الأرض، أحسست كأنه يكسر أجنحتي اعترضت فابتسم وقال:
- أغصان مريضة وتالفة، إن بقيت تؤثر على الساق الأساس للشجيرة.
- أليس من وسيلة لعلاجها؟
واصل القطع وصوت آلته "طك.. طك.." يقتحم أذني مع صوته:
- لابد من قطعها. ستنبت بدلها أغصان جديدة.
طويت ذراعي إلى صدري. كفاي تطبطبان على كتفي، تهدهد حلمي وتحرس أغصاني.
في نهار آخر استفقت على صوت هدير في الحديقة، قفزت من السرير، أزحت الستارة، تركزت نظراتي على آلة البستاني وهي تجتث رؤوس الأعشاب، لم أكن من قبل قد اهتممت بهذا. لكنه حلمي التائق جعلني أشعر وكأن الآلة تجتث عمري، تقطع رؤوس أحلامي المضيئة وتكومها بلا حياة. ظللت أتابع المشهد. أستعيد سنوات الحرية في بيت أبي وفي المدرسة، لقد أصبحت هي الأخرى مجرد أكوام.
خرجت إلى الحديقة، تشبعت أنفاسي برائحة العشب المجتث، اقتربت من تلاله الصغيرة المتكومة، ثويت على ركبتي، ملأت كفي منه، قربتها إلى أنفي، استنشقت العطر بكل شهيتي، غمغمت في سري "ستجد هذه البقايا طريقها إلى الحرية خارج هذه الأسوار. وأنا!! سأبقى العشبة الصفراء المنسية.... أي يد قادرة أن تجتثني من هذه الأرض؟". حزنت على نفسي المنكفئة بيأسها، هل أترك لحلمي فرصة للبوار؟ صوت البستاني الممتد أمامي بقامته وكرشه المتهدل:
- عذرك سيدتي... سأنظف الأرض من هذه الأكوام.
جلست تحت المظلة المنصوبة وسط الحديقة، تتواتر في عقلي مئات الأفكار، وتتقافز عشرات الحيل التي أتخيلها تحررني من أسري. أشد على رغبتي في الهرب، فلابد أن تكون ساخنة وجبارة وإلا لن أقدر على تحقيقها، وستظل الأصفاد تقيدني إلى زمن لا أدري كم سيطول!!.
ظللت أواصل نزهتي وحديثي مع البستاني كلما سنحت الفرصة بذلك، أسأله عن أنواع الزهور، أعمارها، مواسمها، كمية المياه التي يحتاجها كل نوع منها. طلبت منه أن يعلمني كيف أقطفها، وحين غزت يدي شوكة غصن الورد الجوري دنا يعلمني كيف أقطف وأتحاشى الأشواك:
- عليك أن تتقني فن القطف.... هكذا.
صك بإصبعيه على الغصن تحت الزهرة مباشرة... وأطبق بالمقص أسفل الغصن، كانت كفي ملوثة بدمها لكني أصررت أن أحاول ثانية وقد تفهمت درسه ونجحت. بعث اهتمامي بالحديقة بعض السكينة إلى روحي، بدأت مثل الفراشة المشتاقة للعطر أعقد صداقة مع الزهور بعدما كنت لا أصادق غير شجر الصبار.
لم يتبق علي إلا أن أكسب صداقة العبد. بيده وحده يكمن صك خلاصي وتحرير روحي. بدا لي الأمر صعباً. فهذا الذي تغذى على الطاعة الصارمة لسيده يحتاج لجهد كبير كي يتصدق علي بطاعة واحدة "فتح الباب". كنت ألمحه يجول حول السور بقامته التي تكاد تطاوله. كان لا يتوانى عن رشقي بنظرات التوجس، فلا أتردد أن أرشقه بابتسامات ناعمة أو نظرة ودودة. كان علي أن أبدأ، أرتدي عباءة المكر وأتقرب إليه لأوهمه أنني اعتدت سجن سيده ورضيت به.
اقتربت منه ذلك اليوم، ألقيت عليه تحية الصباح، رد غير مصدق أن سيدته تتنازل وتحييه. اقتربت أكثر، عابثت بعض الأغصان حيث يقف، وأطلقت سؤالي بكل الرقة:
- منذ متى وأنت تعمل بخدمة سيدك؟
فرش ابتسامة تمازجت فيها الذلة والحزن:
- من يوم كنت في بطن أمي.
تسرب صوته إلى أذني مثل شهقة الموجة النعسانة، صوت رخيم الذبذبات حنون لا يشبه صوت أبي الحاد ولا صوت العجوز الأجش، كان رده قد صدمني واستثارني الفضول:
- تمزح؟
قطب. تكرمشت جلدة ما بين حاجبيه:
- لا.
- فسر لي كلامك.
- كان أبي وأمي عبدين لسيدي. زوجهما. هكذا كنت عبداً له وأنا في بطن أمي.
- آآه... فهمت... هل..
وابتلعت سؤالي، نظرت إلى وجهه، تأملت تقاطيعه، عينان واسعتان بقليل من الجحوظ، أنف عريض منفرش الفتحتين شفتان غلظتان دون ترهل لا تخلوان من جمال، لونه الأسود الذي أباحه عبداً موروثاً يتماوج بصفرة غامقة عند الجبين وطرف الذقن. كان وجهاً جميلاً رغم سواده جعلني لا أنفر من النظر إليه وأنا أحدثه، شعرت قلبي يشفق عليه رغم فعلته الأولى، حين أطلت النظر إليه نكس رأسه، أطرق بعينيه فبدت رموشه طويلة وكثيفة، كدت أنسي المهمة التي رسمتها وسعيت إليها لولا أنه نطق وسألني:
- تأمريني بأي خدمة؟
هززت رأسي نفياً. فتطلعت إلي عيناه بسؤال حائر مكتوم، عدت أواصل لعبتي:
- أنت سعيد بحياتك؟
- وهل ينقصني شيء؟!
أزعجني رده، هل حقاً هو مقتنع أن لا شيء ينقصه، أم هو شعور بضآلة مكانته؟ سألته:
- وحريتك؟
فجر بضحكةٍ غريبة:
- هل ترينني محبوساً في قفص؟
شعرته يهزأ مني، هل تراني عبثاً أحاول إيقاظ سواكن روح مفقودة؟ هل تراه لا يدرك أنه إنسان يعيش على هامش الحياة، رجل بلا قيمة ورثه سيده كما يرث الأرض والمال؟ هل يتخابث علي أم هو حقاً لا يحس طعم الأسر بعدما اعتاد حياته واستسلم لها!؟
ألقيت سؤالاً آخر:
- تحب سيدك؟
ارتسمت دهشة على وجهه:
- وليش ما أحبه؟!
شعرت بحقد عليه، هل الأمر بديهي بالنسبة إليه؟ هل يولد حب الأسياد مع العبيد؟ ألا يدرك أن الدنيا تغيرت وأن له الحق أن يكون حراً؟ لماذا هذه البلادة في الشعور؟ هل تواصل الأغصان تجديد جذورها القديمة وتظل الشجرة في بقاعها حتى تموت؟ لن تفيد أسئلتي مادام غير قادر على سبر مرمى السؤال، قد يكون راضياً بوضعه مستسلما لقدره. أحلامه لا تتعدى أن يجد سيداً يسكنه قصراً، ويطعمه اللحم، و.... يهبه جسد زوجته في الليلة الأولى!. هل كنت أول جسد لامسه؟ هل كانت لذته الأولى؟ ألم يشعر بعدها أن لجسده حقاً عليه؟ أين يفجر طاقته المكبوتة؟
لم أشأ أن أخضع نفسي لمزيد من التساؤلات غير المجدية، تركته وروحي تجول في عالمه المبهم، وشفقتي عليه تتنامى، إنه سجين مثلي لا يملك أمر نفسه، فلماذا أقلق استسلامه وأحرك بحيرات سكونه؟ إن كان لا يدرك معنى لحرية نفسه فكيف سيتفهم توقي لحريتي؟ شعرت بأنني على وشك أن أخسر أول جولة في المعركة، لكنني قررت ألا أفقد الأمل.
في الليل، حين لفني الصمت الفج، تداعت إلى صورة العبد الذي حتى اللحظة لا أعرف أسمه. بدأت أتخيل أسماء تليق به: مرجان.. عنتر.. مصباح.. فرحان، لكني فوجئت بعد أيام وفي اقترابي الثاني منه أن أسمه:
عطية!
- ولماذا أسموك بهذا الاسم؟
ابتسم:
- أمي ظلت لسنوات بلا حمل، وحين جئت قالت هذه عطية الله فصرت عطية.
- تحب أسمك يا عطية؟
- وليش ما أحبه؟
بلادة أخرى تثيرني، هو دائماً مستسلم لكل شيء. أردت أن أستثيره:
- يعني هل كنت تفضل أن يكون أسمك محمد.. شاهين.. حسن
بالبلادة ذاتها:
- شنو الفرق؟ هو أسم والسلام.
أسقط بيدي! هذا العطية لن يفهمني ولن يحاول، وسيظل في غفلة عن كل ما أريد.
اكتفيت بعد ذلك بأحاديث قصيرة متنوعة معه، وارتحت لذلك الرضا الذي بدأ يتشكل لديه كلما قابلته أو حادثته. كنت أحس شيئاً يدفعني أن أسمع صوته وكأنني أتمم لحناً سمعته في حلم بعيد. بمرور الأيام صار أكثر رقة وانفراجاً. صار يطلق بعض أسئلة ساذجة، بدا أكثر اهتماماً بوجودي، صار يحدثني عن أبيه وأمه، وحين يفعل كانت عيناه تغرورقان بالدموع. جرؤت وسألته:
- تشتاق إليهما؟
- كثيراً.. لكن الحمد لله أنهما ماتا.
- معقول!! هل كنت تتمنى ذلك؟
طأطأ رأسه:
- لقد ارتاحا.
- من أي شيء؟
- كان سيدي يضربهما بالسوط أمام عيني.. كنت أراهما يتألمان وهو يدمي جسديهما.
طفرت أمامي تلك اللحظة التي ساطني بها بأمر من سيده، غلى دمي من الغيظ عليه، رفعت صوتي:
- لكنك فعلت بي ما كرهته لأمك وأبيك.
انتفض، انحنى، شد كفي، هوى عليهما وصوته الباكي:
- سامحيني سيدتي.
انتهزت فرصتي لأشحنه بالكراهية ضد سيده:
- هل تقبل هذا الظلم من سيدك؟ ألم تتذكر لحظتها روح أمك تحت السوط؟
انهمرت دموعه:
- يا سيدتي نحن عبيد.. والعبد ما يقدر يخالف أمر سيده.. لقد كنت أتوجع.
وجدت كفي بحنان تطبطب على ذراعه، شعرته يرتاح ويغتبط، أردت أن أستغل لحظته المنفرجة:
- ألا تفكر كم أشتاق أنا لأمي وأبي؟
أومأ بالإيجاب بهزات من رأسه، فرحت. لكنه سرعان ما أحبط فرحي:
- عليك بطاعة زوجك.
صرخت:
- لكن هذا ظلم.. ظلم.. هل تفهم؟
- أفهم يا سيدتي. لكن ما باليد حيلة.
رفرف عصفور النجاة في صدري، اقتربت منه، هدأت من عصف صوتي:
- بيدك أن تساعدني.
قفز من نقطة وقوفه حتى تخيلته ابتعد آلاف الأمتار، انتظرت حتى هدأ:
- إيه يا عطية تستطيع أن تساعدني.
أطلق سؤاله وكأنه يتمنى لو يفعل:
- كيف؟.
تتركني أخرج لأزور أهلي حين يغيب سيدك عن القصر.
بحلق بوجهي غير مصدق، مسعوراً من شدة الخوف، فاغراً فمه دون نطق، ونظرته تنفث رشحاً من اضطراب نفسه. أخذ يتلفت نحو الأشجار كمن يخشى أن تلتقط عصافيرها حوارنا الذي لم يتوقعه، هبط بنبرة صوته. بشبه همس:
- سيدتي.. شنو تقولين؟ والله يذبحني ويذبحك.
أردت أن أهون عليه:
- لن يعرف يا عطية.. أخرج بهدوء، ساعة وأرجع.
هز كفه بعصبية:
- لا... لا... لا يمكن.
ابتعد وما زال رأسه يهتز مثل "الزمبلك".
هل خسرت المعركة ثانية؟ وهل حكم علي أن أبقى في عالم من ورق، وأعواد، وظمأ؟
رفضه القاطع هشم بعض أضلاع حلمي. خشيت أن يسيطر عليه الخوف من فكرتي فيتحاشى الاقتراب مني أو الحديث معي، وبهذا أخسر اطمئنانه إلي وفرحه بتنازلي عن مقامي كسيدة له.
في الليل ضج صرير الصمت من حولي، كانت له شهقات أشبه بأبواب تفتح وتغلق وتسرب إلي شخير العجوز مثل رسائل التهديد وكأنه اكتشف خطتي. ظللت قلقة، قضيت ليلة شائبة مرهقة ولا شيء أراه في فضاء الغرفة الموحش سوى وجه عطية ورأسه المتحرك باللاءات. ظللت مؤرقة أنتظر الصباح بفارغ صبري لأتأكد أن عطية لم يتغير ولم تهاجمه جحافل الخوف مني فيبتعد وأخسر خطوة حلمي الأول.
* * *
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا