3. تحقيقــ...
(لا أعلم ماذا ستخبئ لنا الأيام.. قد تكشف الساعات القادة الحدث المستور)
انقضى نصف الفصل الدراسي، وبقي النصف الآخر، بعدها سنستقبل الربيع مصحوبًا بالإجازة، بالتالي سأرجع إلى وطني الأول، وإلى أهلي وإلى.. ذكرياتي.
أنتظر الربيع بفارغ الصبر، ولاسيما أنها المرة الأولى التي أغترب فيها عن وطني.
قطر.. طباعي عن هذا البلد الأصيل إيجابي أكثر مما هو متوقع، منذ أن وطأت قدماي أرض هذا بالبلد المبارك، لم أشعر بأظفار الغربة تنشب إحساسي.
أهل البلد... تلمست منهم مدى حسن عشرتهم وأصيل كرمهم، لقد أوثقوا بي الاطمئنان، وتلذذت بمعاني الأمان.
زملاء الدراسة.. كل يسعى لتكوين صداقات جديدة، كل يثابر في سبيل ترابط أواصر المحبة، ومفاهيم الأخوة.
باستثناء زميل واحد.. أعتبره بمثابة أقرب ما يكون حالة خاصة، تستوجب عدم الانشغال بالتفكير بها، حتى وصفه بالزمالة لا تطابق صفاته مطلقًا، إذًا ما هو الوصف الذي يليق بطباعه؟ هل أصفه بقرين التعاسة الذي جلب لنفسه الضوائق؟ أم أصفه بالغريب الذي يناقض صفاته الحسنة المنسوبة إليه من قبل من عرفوه.
إلى متى سيظل على هذا الحال؟ يتحاشى أصحابه المقربين، ويتهرب من أنظار المسئولين، وإلى متى لا أنفك عن التفكير بشأنه..
- هل تسمح لي بالجلوس معك؟
بالطبع سمحت لـــ (كلوديان) بالانضمام إلي في مقعد الحافلة، خاصة أنها غالبًا ما تكون مزدحمة بالطلاب أثناء فترة الظهيرة في طريق العودة من الجامعة.
التفت إلي (كلوديان) يخاطبني:
- أراك منهكًا.. هل بدأتم اختبارات نصف الفصل للقسم التأسيسي؟
أجبته:
- نعم، من يوم أمس.
سألني:
وكيف كان الامتحان؟
هززت رأسي في ضجر وقلت:
- لم أؤده جيدًا، رغم أنني كدحت بجد في المذاكرة.
عقب (كلوديان) وهو يبتسم:
- يبدو أنك لم تتأقلم بعد على أجواء الجامعة.
تنهدت بعمق وقلت:
- نعم..كم أتوق إلى الإجازة حتى أزور أهلي.
ألمح (كلوديان) ناصحًا:
- تحل بالصبر، تحل بالصبر.
سكت لبرهة ثم قال:
- لقد اتصل بي ابن عمي ليلة أمس.
التفت إليه منتبها:
- ماذا؟!
كرر مرة أخرى بإيضاح:
- ابن عمي عابد، الذي يفترض أن يكون زميلك في الغرفة، تحدثت معه على الهاتف ليلة أمس.
ثم أردف بهدوء رتيب:
- لقد اتصل بي من ألبانيا.
هنا صدرت مني آهة دهشة مكبوتة، قلت:
- ماذا تقول! كيف هذا وعابد موجود هنا منذ..
قاطعني بإشارة من يده وقال:
- انتظر.. هل أنت متأكد من وجوده في قطر؟ لقد أخبرني واعتذر من أنه لن يكمل الدراسة في الجامعة هنا بسبب بعض الظروف، إذ سيواصل الدراسة هناك.
أطرقت حائرًا في حين ابتسم (كلوديان) وهو يردف:
- نعم، لقد ظللنا لفترة طويلة نتحدث على الهاتف.. جل الحديث كان يدور حولك أنت.
قلت باستغراب:
- حولي أنا!.. حول أي شيء.
أجابني (كلوديان) باقتضاب:
- لقد ذكرتك عنده، ومشاركتك معه الإقامة، إلا أنه ظل يجهل كل شيء بهذا الصدد. والأمر الآخر لقد أكد لي مرارًا أنه لم يعد إلى قطر أبدًا منذ إجازة الصيف الماضي.
اكفهرت سحنه وجهي بأمارات التساؤل والدهشة. في الحقيقة لم أجد ما أقوله تعليقًا حول ما أفصح به (كلوديان). أخذت بواعث القلق تتسرب إلى ذهني.
أضاف (كلوديان) وهو ينهض بعد أن وصلنا إلى السكن:
- أحذرك.. الشخص الذي يسكن معك في الغرفة عن طريق الخفية، من الواضح أنه ليس طالبًا في مسكننا، وربما ليس بطالب جامعي في الأساس. لقد انتحل شخصية ابن عمي عابد مستغلًا غيابه.
ثم أردف:
- يجب أن تبلغ الإدارة بهذا الأمر قبل أن يكتشفوه بأنفسهم، وإلا ستتهم بخرق القانون على أنك آويت شخصًا ليس مصرحًا له بالإقامة.
انصرف (كلوديان) وانصرف معه الآخرون، بينما أنا تسمرت في مقعدي أناوش حيرتي، غارق في التفكير المريب حتى سلبني السائق عندما صاح بي منبهًا.
* * *
لم أتناول من الغداء إلا الشيء اليسير في ذلك اليوم، فقد تقلصت معدتي وفقدت شهيتي من جراء القلق الذي اعترى حالتي النفسية. لم أتوقع أن تؤول الأمور إلى هذا الحد، هل فعلًا خالفت القانون؟ إذا ما جدوى العهود والمواثيق التي وقعتها يوم وطأت في الدار.
هذا الشخص الغريب الذي استباح مسكني دون حياء يؤنب ضميره. كم هان عليه خداعي مستغلًا جهلي وقلة حيلتي، وغربتي على هذا المكان. لا أعلم كيف أتعامل مع هذه الداهية؟ هل سآخذ بنصيحة (كلوديان) وأخطر المشرف بهذه الورطة التي جررت إليها جرًا.
الساعة تشير الآن إلى الخامسة قبيل المغرب.. لم أستطع أن أستجيب لقيلولتي كما هي عادتي كل يوم بعد العودة من الجامعة، أخشى أن يضاعف القلق من عنائي، بعدها لن أتمكن من النوم هذه الليلة وبما الليالي الأخرى.
قبل أن أخرج من غرفتي لأتوضأ، دق الباب! ودق معه قلبي.. فتحته لأقابل أحد العاملين يقول بروية:
- السيد رحيم أرسلني لاستدعائك.
ها قد حدث ما كنت أوجل من توقعه، لقد حانت ساعة الحساب، تم استدعائي كمجرم من قبل المحقق (كونان) أقصد الأستاذ (رحيم مدحت).
* * *
في غرفة الاستجواب أقف بين يدي الأستاذ (رحيم)، يبث نظراته المفترسة من خلال عويناته السميكة، وكأنه يفحص فأرًا عرضة للتجارب.
أول سؤال بادرني به بعد السلام:
- كيف حالك؟
أحبته بارتباك:
- بخير.
قال وهو يبتسم بتملق
- ما لك تقف هكذا.. تفضل اجلس.
السؤال الثاني الذي قدمه لي بعد أن قبلت بالجلوس على مضض:
- كيف الدراسة؟
- لا بأس.
- آمل أن تكون قد تأقلمت مع الأجواء هنا.
قلت وقد خف ارتباكي نسبيًا:
- كل شيء يسير على ما يرام.
هز رأسه في استحسان ثم غمغم:
- إنها البداية فقط.. غالبًا ما تكون صعبة المنال للطلاب الجدد.
ثم خلع عويناته ليفرك عينيه وهو يستطرد:
- لقد استدعيتك لأمر هام... يتعلق بزميلك عابد..
هنا حدجني بنظرة جامدة وأردف يتلو علي الكلمات بوضوح:
- ..أو الشخص الغريب المقيم في غرفتك.
مرة أخرى عاد التوتر يفتح بابي من جديد...
آنف المشرف وهو يلعب دور المحقق ببراعة:
- بلغ إلى علمنا منذ فترة وجيزة بانسحاب الطالب عابد من الجامعة نهائيًا، وقد ادعيت من قبل حضوره في السكن، وأخبرتنا أيضًا بمجيئه عدة مرات إلى غرفتك الحالية.. لكن ليس من عادته أن يأتي من السفر دون أن يخطرنا بقدومه، وبالطبع لا بد أن يسجل حضوره بواسطة توقيعه تبعًا للوائح، وهذا ما حصل فعلًا.. لم نسمع بوجوده أبدًا إلا على لسانك أنت.
أخذ يحدجني بنظرة تثير الأعصاب، بينما الصمت أطبق فاهي، فيما بلغ بي التوتر مداه.
استأنف المشرف تحقيقه:
- هل يمكنك أن تحدثنا عن هذا الغريب الذي يسكن عندنا بغير تصريح؟
قلت وقد جسرت على النطق أخيرًا:
- في الحقيقة أنا..
قاطعني:
- لا داعي للتوتر.. لست المذنب على كل حال، فقط نود أن نعرف هوية هذا الشخص حتى يتسنى لنا اتخاذ الإجراءات اللازمة بحقه.
قلت:
- لم أكن أعلم أنه لا ينتمي إلى السكن، لقد انتحل شخصية عابد حبيب دون أن يألوا جهدًا في خداعي.. وأنل للأسف صدقته بسذاجتي.
رحت أسهب في كلامي عن هذا الغريب دون الخوض في تفاصيل أخرى. فقد أخبرته عن ظهوره في الليل، وعادته الغريبة حينما يأتي الغرفة، إذ أنني أخضع لطلبه الملح ألا وهو إغلاق المصباح وقتما يظهر في الغرفة؛ مدعيًا أنه يعاني من حساسية العين تجاه الأضواء الحادة.
سألت المشرف بعد أن اكتفيت:
- ماذا ستفعلون بشأنه الآن:
صمت مفكرًا ثم تنهد وقال:
- سنوافيك المساء لمقابلته.
* * *
- خذ قطعة بسكويت.
- شكرًا.
- هيا لا تردني، قطعة واحدة فقط.
- لا أريد.
- هيا كل فأنت لم تتناول عشاءك جيدًا وكذلك الغداء، ستشعر بالجوع وتفقد قواك.
- أرجوك لا تلزمني، فشهيتي مغلقة.
زفر (فواز) ثم قال بعد هنيهة وهو يشير إلى سلة الفواكه التي على المنضدة:
- حسنًا ما رأيك بفاكهة الموز هذه.
هززت رأسي رافضًا:
- إنني متعب، ولا أستطيع تناول شيء الآن.
سكت مليًا ثم سألني مقترحًا.
- هل أعد لك كوب شاي؟
- لا بأس، أرغب في احتساء الشاي فعلًا، أحتاج إلى مشروب يريح ذهني ويطرد الأوجاع من رأسي.
نهض (فواز) حاملًا معه البراد لإعداد الشاي، بينما أنا غصت في الأريكة أتثاءب بعمق.
قال (فواز) وهو يفرغ الماء الساخن في كوب صغير:
- إذًا فقد علمت الإدارة بشأن هذا الغريب.
قلت بتململ:
- أجل، وسيزورني الأستاذ رحيم بعد قليل لرؤيته.
سألني وهو يدير الملعقة الصغيرة في كوب الشاي:
- وكيف ستتصرف الإدارة حيال هذا الشخص الذي ورط نفسه من غير حساب؟
- لا أعلم.. أحسب ألا تتجاوز الإجراءات أكثر من مجرد توجيه الإنذار وإشعاره نهائيًا من مغبة العودة مجددًا، بعد إخراجه من السكن طبعًا.
قدم لي (فواز) كوب الشاي وهو يستأنف الحديث:
- أشعر بالفضول حياله.
لفت ما قاله (فواز) انتباهي، قلت:
- تشعر بالفضول! لماذا؟
بين بتعبير منطقي وهو يضع كوبه جانبًا إذ لم يبدأ باحتسائه بعد:
- لا أعتقد أنه تعمد انتحال شخصية زميلنا عابد، لا بد من سبب وجيه دفعه للإقامة في السكن مستغلًا صاحبها بالطبع، دون أن يتوقع أن تشاركه الإقامة.
ثم أردف:
- أعتقد أنه يعاني ظروفًا صعبة جعلته يلجأ إلى مكان يأويه.
أمعنت في ما قاله (فواز) لبرهة، لكن حديثه ولد المزيد من التساؤلات..
قلت:
- قد ما تقوله صحيح، إذ سبق وأخبرني أنه يعاني من بعض المشكلات. لكني أتساءل كيف استطاع الولوج إلى الغرفة وهي مغلقة.. أعني من أين له المفتاح الخاص بها.
همهم (فواز) مفكرًا، ثم قال:
- معك حق، كيف استطاع التسلل إلى السكن دون أن يراه أحد، بل دون أن يلحظه البواب.
قلت:
- أتقصد أن البواب لا يسمـ..
قاطعني:
- نعم غير مسموح لأحد بالدخول ما لم يكن مقيدًا بالإقامة في السكن، إلا إذا كان لأجل غرض ما؛ كالزيارة مثلًا، وهذا يستوجب إيداع البطاقة الشخصية عند البواب.
ثم أضاف:
- أو حصل ثمة اتفاق مع البواب الذي يقبل ما يسمى.. بالرشاوي، وهذا أستبعده تمامًا بسبب تشديد الإجراءات القانونية حيال هذا الانتهاك، بالإضافة إلى أنه غالبًا ما ينتابه النعاس أثناء مناوبته في الليل، مما يفقد معه الانتباه والتركيز.
قلت:
- لذلك لا أراه إلا في المساء، حيث يأوي معظم الطلبة إلى مهاجعهم.
عقب (فواز):
- أتعني أنه يتسلل إلى السكن خلسة دون أن يكتشفه أحد مستغلًا عامل الوقت.
أجبت:
- ربما المرة الأخيرة التي جاء فيها الغرفة، كانت الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل.
تساءل (فواز):
- يا ترى هل هو طالب جامعي مثلنا؟
قلت:
- لا أشك في هذا، عكوفه على المذاكرة وقتما يظهر في الغرفة يدل على أنه طالب في المرحلة الجامعية.
عقب (فواز):
- إن كان كما تقول، لماذا لم يقيد اسمه بالسكن؟ والأمر الآخر على الرغم من عدم معرفتي لهذا الشخص الذي ندير حوله الحديث، لا أظنني رأيته مسبقًا في الجامعة رغم أنك وصفت لي هيئته، فهو يبدو من بلاد أجنبية، أليس كذلك؟
أومأت برأسي:
- هذا صحيح، ولغته العربية فيها شيء من الركاكة.
مضت دقائق معدودة، حكم علينا الصمت بالكفاية. شرع (فواز) في احتساء كوبه بينما أنا أعدت كوبي- الذي فرغ من شربه- إلى مكانه.
أشرت لـــ (فواز) وأنا أتحرر من الأريكة:
- أستأذنك الآن، أحسب الأستاذ رحيم ينتظرني لدى الباب.
لوح (فواز) بيده اليسرى وهو يدعو لي بالتوفيق والتيسير.
* * *
بلغت الساعة العاشرة ليلًا حينما ولجت غرفتي، توقعت أن أجد المشرف عند الباب وهو يتذمر بسبب انتظاره طويلًا، لكن لم أجد له أثرًا يدل على أنه اقترب من الشقة حتى.. المعضلة أنه لم يحدد بالضبط في أي ساعة سيمر علي الليلة، والمعضلة الثانية أن أحدًا يطرق الباب الآن.
فتحت الباب لأجد نفسي أواجه شخصين يحدقان بي، الأول بالكاد أعرفه والثاني سبق أن رأيته من قبل في قسم الإدارة بالتحديد.
قال المشرف (رحيم) بلباقة مكلفة:
- مساء الخير، لقد بلغتك من قبل أننا سنوافيك الليلة.. أقدم لك السيد عادل حماد نائب المدير في شئون السكن، أحسب أنك قابلته من قبل.
بدا لي المدعو (عادل حماد) بعقاله المائل على رأسه يتصف بشيء من الغطرسة وهو يرمقني بازدراء على الرغم من حجمه القصير وبدانة جسمه، في حين يزين وجهه الأسمر الجاف شارب كث من غير لحى.
أخذ يحدجني بنظرة تملؤها الغيظ والاستنكار، وكأنني ضالع في جريمة كبرى.
خاطبني مباشرة:
- منذ متى وهذا الشخص يسكن عندك من غير تصريح؟
هكذا إذًا، هذا الرجل يحتاج فعلًا لإعطائه دروسا في فن الذوق والأخلاق. فأمثال هؤلاء.. حسنًا، أعتقد أن هذا القزم ينتظر مني الإجابة على سؤاله.
أجبته بلا مبالاة:
- منذ أن وثقت إقامتي رسميًا.
قال بنبرة تعجب واستنكار:
- منذ أن وثقت إقامتك!
لم أرد، فقط واجهته بنظرة هادئة ثابتة.
كاد أن يقول شيئًا إلا أن المشرف قاطعه قائلًا:
- ما رأيك أن تسمح لنا بالدخول.
أومأت برأسي كتعبير عن عدم الممانعة وإن كنت لا أرغب بتاتًا بوجودهما. راح كلاهما يلقي نظرة متفحصة في أرجاء الغرفة وأركانها.
قال المشرف وهو يبتسم:
- أرى أنك تعتني بغرفتك جيدًا، ليت جميع الطلبة يحذون حذوك.
ما برح السيد (عادل) يدقق بعينه محتويات الغرفة وكأنه يبحث عن مواد محظورة خبأتها في موضع ما.
استطرد المشرف قائلًا:
- يبدو أنك ستنفرد وحدك بالغرفة بعد انسحاب عابد، سنحاول إيجاد طالب آخر يشاركك الإقامة. تعلم، نحاول أن نخفف الضغط الذي تعاني منه غرف كثيرة.
هنا التفت نحوي السيد (عادل حماد) قائلًا بجفاء:
- أين هذا الشخص الذي أويته عندك بغير تصريح؟
لا أعلم لماذا يحاول إغاظتي بلا مبرر، في الحقيقة إن من يزور قطر لأول مرة، ويتعامل مع أمثال هؤلاء، فإنه بالتأكيد سيتولد لديه الكثير من الانطباعات الخاطئة عن أبناء هذا البلد.
قلت ببرود:
- لا أعلم أين هو الآن ولا أدري متى سيرجع، فلست مسئولًا عنه، ولا علاقة لي به كما تحسبه أنت.
نظرًا إلي شزرا ثم قال:
- هذا الشخص تسلل للإقامة هنا من غير علمنا، وأنت لم تخطرنا بذلك... في هذه الحالة تعتبر خرقت أحد القوانين، لكن بما أنك طالب قدم حديثًا إلى السكن. من الواضح أنك لم تستوعب القوانين والأنظمة جيدًا عندما عرضناها عليك في بداية السنة.
ثم أضاف:
- هذه المرة سنعفو عنك، لكن أرجو ألا تتكرر مثل هذه التجاوزات وأرجو أن تعلمنا فورًا إن عاد ذلك الدخيل.
قال الأستاذ (رحيم):
- من الواضح أنه لن يعود الآن، كنت أود أن ألقاه وأتحدث معه بشكل ودي، بما عرف أننا اكتشفنا أمره. المهم متى عاد هذا الدخيل أرجوك لا تتردد في التبليغ عنه، فلا تريد أن تتكرر مثل هذه التجاوزات وتعم الفوضى في سكن خصص لطلاب الجامعة الذين اغتربوا عن أهلهم وأوطانهم.
أومأت برأسي متفهمًا..
قال المشرف بتملق:
- أرجو ألا نكون قد سببنا لك الإزعاج، كل ما في الأمر أننا نود الاطمئنان عليك، فأنت في النهاية تعتبر مثل ابن لنا.
قلت بتجهم:
- لا بأس، لست منزعجًا، ولا أشكو من أي شيء.. أشكركما.
نوه السيد (عادل) دون أن يكظم غيظه:
- لا تنس، إن جاء هذا الدخيل.
قاطعته:
- سأعلمكما فورًا.
خطا السيد (عادل) خارج الحجرة يتبعه المشرف وهو يصب جام سخطه على البواب متهما إياه بالتقاعس عن العمل. ما زلت أسمع صوته يتردد في الممر ملوحًا بأنه لن يتساهل مع البواب كي يراقب الزوار بشكل مكثف.
* * *
أجلس على حافة الفراش، أحملق مواجهًا المكتب الخالي أمامي، بينما المفكرة الصغيرة التي تخص (عابد) أحملها بيدي اليمنى. أنظر إلى الساعة تارة... إنها الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، لقد أطفأت المصباح وأضأت الأباجورة، أتعشم ظهوره في أية لحظة، لذلك سأضطر للبقاء مستيقظًا. كيف سأواجهه إن أتى الآن؟.. ليس الوقت مناسبًا لإبلاغ المشرف عن وجوده في غرفتي، من الواضح أنه يبيت في سباته. هل سأواجهه وأخبره بحقيقة اكتشاف أمره من قبل إدارة السكن؟ كيف ستكون ردة فعله؟
أشعر بالوجوم فعلًا، لست مطمئنًا بتاتًا حيال وجودي هنا، نفسي تعاتبني بأني جئت إلى المكان الخاطئ. لا أعلم.. لقد خطرت لي فكرة الانسحاب من الجامعة، كل ما في الأمر أنني أتوق بشدة للعودة إلى وطني والبقاء آمنًا في أحضان منزلي و... الباب!... ألمح فرجة.. أحدهم يقف خلفه.. انفتح الباب بروية.. حتى أطل وجه انتظر رؤيته بترقب.
خلع نعليه ليتركهما عند الباب داخل الحجرة، نطق السلام بصوت هسيس دون أن ينظر ناحيتي، اتجه بعجالة صوب مكتبه، أخذ يمسح بيده متحسسًا سطح مكتبه ثم راح يعبث في المحتويات وكأنه يبحث عن غرض ما. فتح الأدراج وهو يعبث داخلها بعصبية، بدا التوتر واضحًا عليه وهو يخرج ويبعثر كل ما في الأدراج من أغراض شخصية وصر تخص (عابد حبيب). ما زال يواصل البحث عن شيء بعينه، يمثل له أهمية بالغة، وبينما هو كذلك، تملكتني الشجاعة لأخاطبه بجرأة:
- هل تبحث عن هذه؟
استدار نحوي بغتة وهو يحدق في المفكرة التي أحملها في يدي. غشت الصدمة أسارير وجهه. دنا مني بتريث. ثم سحب المفكرة من يدي بشكل انفعالي. ظل يتصفح مفكرته بضع مرات ليتأكد من أنها تخصه وسليمة أيضًا، ثم عاد لينزوي إلى مكتبه ويبدأ عمله الاعتيادي وكأن شيئًا لم يحصل.
هذه المرة نهضت لأقف خلفه أواجهه... راح يكتب على مفكرته الصغيرة، ويقرأ ما في كتابه كما يفعل كل ليلة.
خاطبته بجرأة اكبر هذه المرة:
- لماذا؟
توقف عن الكتابة عندما انتبه لمخاطبتي هذه.
سألتنه بحزم مرة أخرى:
- لماذا فعلت هذا؟.. لماذا خدعتني وانتحلت شخصية عابد؟.. لقد أوهمتني مدعيًا أنك صاحب الغرفة.
لم ينطق بشيء، بل ظل متسمرًا في موضعه يصغي إلى ما أقوله بانتباه.
واصلت أخاطبه بنبرة جامدة:
- قل لي.. من أنت؟
أخذ ينقر بالقلم على الطاولة عدة مرات، ثم قال برتابة:
- هل تريد أن تعرف الحقيقة؟.. سأخبرك الآن.
استدار محوي يرمقني بنظرة باردة.
أنشأ يتكلم بصوت ملهوف:
- نعم ليس لي أي علاقة وارتباط بالسكن.. بل في الحقيقة لست بطالب منتسب في الجامعة، كل ما في الأمر أنني جئت من بلادي هناك للعمل في قطر، أكسب من خلالها رزقي وقوت يومي.. لكن المشكلة التي أعاني منها، أنني لم أجد الاستقرار الذي أنشده في هذا البلد، رفضت الشركة التي أعمل لديها توفير مسكن آوي إليه، عوضًا عن هذا منحتني علاوة الإقامة التي لا تغطي حتى نصف الإيجار المرتفع، وحتى راتبي المتواضع لا يكفي لتغطية المصاريف الأخرى.
أردف بعد هنيهة:
- كما تعلم لقد ارتفعت الإيجارات ومصاريف الحياة، وضاقت سبل المعيشة، لذلك لم أجد حلًا ينتشلني من هذه الأزمة سوى التسلل إلى هذا المكان منذ فترة الصيف الماضي، مستغلًا غياب القاطنين ومعهم المسئولين الذين قضوا عطلتهم الصيفية خارج السكن وخارج قطر.
سألته وأنا أصغي إليه باهتمام بالغ:
- في الحقيقة لا أصدق أن الشركة لم توفر لك مكانًا تأوي إليه، من غير المعقول أن تتجاهل أي جهة عمل احتياجات العاملين لديها، إذ كيف يمكنهم العمل والإنتاج في ظل ظروف قاهرة لا تضمن لهم الاستقرار.
ثم أردف مقترحًا:
- لماذا لا تلجأ للبحث عن جهة أخرى تعمل لصالحها، ربما استطاعوا هناك توفير مكان ملائم لك للإقامة فيه.
نكس رأسه ثم قال بنبرة مشجونة بالأسى:
- لم أجد سوى هذه الشركة، إذ قدمت إلى هذه البلد دون وسيط.. حسبت أنني بمجرد أن أطأ قدمي خارج مطار الدوحة، سأجد سبل الرزق ممهدة أمامي. لكن مؤهلاتي التي لم تتجاوز المرحلة الابتدائية لا تصلح حتى للتفكير ببناء مستقبل يلائمني.
قاطعته باستغراب:
- هل تعني أنك لم تكمل..
قاطعني بدوره ليكمل سرده:
- نعم لم أستطع إكمال الدراسة لظروف خارجة عن إرادتي لا أحبذ ذكرها، كل ما في الأمر أنني لم أخطط جيدًا للقدوم إلى قطر لغرض العمل، فقط سمعت عنها أنها ذات اقتصاد عال وكذلك دخل الفرد، وأيضًا سأجد فرص العمل متوفرة لمن ينشدها، لذلك أتيت إلى هنا دون حسبان رغم كفالة الشركة لي.
ثم استطرد في يأس:
- لم أكن أتوقع أن تؤول الأمور إلى هذا الحد، لقد جلبت لنفسي المتاعب و.. لغيري أيضًا.
هنا قلت محاولًا التخفيف عن بؤسه:
- لا تلم نفسك، ستنفرج الأمور عاجلًا فقط تجلد بالصبر، أعدك أنني سأقنع الإدارة بالسماح لك بالإقامة معي.
صاح بحدة:
- لا.
ثم نظر نحوي وقد احمرت عيناه، بينما الدموع تجمعت في مقلتيه وهو يقول بصوت واهن:
- أرجوك.. يكفي ما جلبته لك من متاعب، أفضل أن أدبر أموري بنفسي، فلا تقحم نفسك فيها. سامحني على ما سببته لك من متاعب.. سأخرج من هنا، ولن أعود أبدًا.
وددت أن أقول شيئًا، لكنه أشار إلي بالسكوت، حتى بلغ إلى أسماعنا صوت المؤذن يتلو علينا أذان الفجر.. اتجه بتمهل نحو الباب وهو مطأطئ رأسه، سألته قائلًا:
- أين ستبيت من الآن؟
قال وهو يمد يده نحو مقبض الباب:
- سأتدبر، لا تسأل مرة أخرى.
لكني سألته مرة أخرى فعلا حينما فتح الباب:
- هل لي بسؤال آخر؟
توقف ليصغي إلى ما سأقوله..
قلت وأنا أشير إلى المفكرة التي يحملها معه الآن:
- هذه المفكرة..
- ماذا بشأنها؟
قلت بتريث:
- لقد اطلعت عليها من غير قصد، إنها تحوي مسائل ورموزًا حسابية، لقد ذكرت لي.. بأنك منقطع عن الدراسة، فلم هذه المفكرة؟ وذلك الكتاب أيضا.. أرى أنك منكب في تحضير على ما أعتقد دروس خصوصية بواسطة هذين الغرضين.
مضت برهة من الصمت لم ينبس بكلمة وكأنني ورطته في سؤالي هذا، إلا أنه قال بجمود:
- إنها أمور خاصة تتعلق بأعمال الشركة، فلا تشغل نفسك بها.
ثم خطا مبتعدا بعجالة خارج الحجرة، بينما أنا وقفت أضم شتات حيرتي في ما سمعته الآن.
* * *
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا