الفصل الأول
تغريبة "بني همام"
صورة
2002 مدخل حي كوم بكير كما يبدو اليوم
(5)
لو أن علماء الأنساب، كانوا قد قاموا بواجبهم فتتبعوا شجرة العائلة التي تنتمي إليها الشقيقتان "ريَّا" و"سكينة"، لما خلت هذه السيرة من أي ذكر للسلف الصالح الذي تنتميان إليه، ولما اختفت من بين سطورها شخصيات أساسية، لا بد وأنها قد لعبت دوراً هاماً في حياة كل منهما، وفي مقدمتها شخصية والدهما "عليّ بن محمد همام" الذي لم يدل بأقواله في التحقيقات، ولم ترد معلومات عنه في تحريَّات الشرطة، ولم يجد أحد من ممثلي الدفاع أو الاتهام مبرراً لذكره، بل ولم يشر إليه أحد من أبنائه أو زوجته، في أي دور من أدوار القضية، مما يؤكد أنه كان قد غادر الدنيا قبل سنوات طويلة، فنسية الجميع، ولم يعترفوا له بفضل إنجابهما من صلبه، أو بدور فيما وصلا إليه من علو الشأن ونباهة الذكر.
ولو أن قصاصي الأثر، كانوا قد قاموا بواجبهم فتتبعوا "تغريبة بني همام" لما ضاع من الذاكرة تاريخ معظم سنوات الطفولة والشباب والنشأة والتكوين في حياة كل منهم، ولعرفنا الظروف التي قذفت بهم من قرية "الكلح" بأقصى الصعيد - حيث ولد شقيقهما الأكبر "أبو العلا" في عام 1873 على وجه التقريب، وتلته بعد عامين الأخت الكبرى "ريَّا"، التي ولدت، على الأرجح، في عام 1875 - إلى "سوهاج" في وسط الصعيد؛ حيث أمضيا جانباً من طفولتهما، انتقلا بعده - في تاريخ غير معروف - إلى مسقط رأس أمهما في "بني سويف" وهناك ولدت الشقيقة الصغرى "سكينة" في سنة قد تكون في الغالب، 1885، ثم قفزت بهم التغريبة، في تاريخ غير محدد هو الآخر، من "شمال الصعيد" إلى مدينة "كفر الزيات" في وسط الدلتا، ليقيموا بها سنوات طويلة، تزوجت خلالها "ريَّا"، ثم ترملت، وتزوجت "سكينة" ثم طلقت، ثم أحبت وهربت مع الرجل الذي أحبته، فكانت أول أبناء "همام" الذين زحفوا إلى "الإسكندرية" في أقصى الشمال، في عام 1913. ثم تبعتها "ريَّا" بعد ذلك بثلاث سنوات، بينما ظلت الأم "زينب بنت مصطفى" تقيم مع ابنها الأكبر "أبو العلا" في "كفر الزيات".
ولو أن أحداً من أسلافهما من "بني همام"، كان يتوقع أن تبلغ ابنتا "عليّ همام" تلك الشهرة المدوية التي غلبت شهرة "اللورد ملنر" و"سعد زغلول" و"السلطان فؤاد" لاهتموا بتوثيق وقائع تلك السنوات الباكرة من حياتهما، ولكن الأرجح أن هؤلاء الأسلاف كانوا من النوع الذي لم يدخل عصر التدوين؛ لأنه لم يكن يتوقع أن أحداً من خلفه الصالح، سيكون من أبطال التاريخ الذي لم يكن يعنيه في شيء، فلم يحرص على أن يدون أسمه، أو أسماء عائلته في السجلات الرسمية، إلا لضرورة قصوى؛ لذلك لم يدونوا اسميهما في شهادة ميلاد، ولم تهتم كل منهما بأن تعرف متى ولا أين ولدت على وجه التحديد. وظل كل شيء في حياتهما يمضي على وجه التقريب. وحفلت الأوراق الرسمية بتقديرات متفاوتة لعمر كل منهما .. تعتمد أساساً على أقوالهما.
وكانت "ريَّا" أميل إلى الكذب في تقدير عمرها؛ إذ قدرته عند القبض عليها في 16 نوفمبر (تشرين الأول) 1920 بما يتراوح بين 25 و35 سنة، وهو تقدير تكشف كل الشواهد عن عدم صحته؛ إذ لو أخذنا بالحد الأدنى له، لكان معنى ذلك أنها ولدت في عام 1895، وتزوجت وحملت للمرة الأولى وهي في الحادية عشرة من عمرها، ولو أخذنا بالحد الأقصى لكان معنى ذلك أن شقيقتها "سكينة" - التي تصغرها بما يقل عن عشر سنوات - قد تزوجت وحملت وهي في الثالثة عشرة، والأرجح أن كلاً منهما كانت تشعر بشيء من الخجل؛ لأن زوجها يصغرها، وخاصة "ريَّا" التي كانت أكبر من زوجها "حسب الله مرعي" بما يقرب من خمسة عشر عاماً، مما دفعها إلى الكذب عامدة في تقدير عمرها لتقليل الفارق بين عمرها وعمره.
أما "سكينة" - التي كانت تكبر زوجها بحوالي تسع سنوات فقد قدرت عمرها بما يتراوح بين 25 إلى 30 سنة، فإذا اعتمدنا ما ذكره شقيقهما الأكبر "أبو العلا" - الذي لم يكن لديه مبرر للتلاعب في تاريخ ميلاده - من أنه في السابعة والأربعين، فمعنى ذلك أن قرار الاتهام الصادر بحقهما قد أصاب حين حدد عمر "ريَّا " بـ ـــ 45 سنة، وإن كان قد أضاف إلى عمر "سكينة" خمس سنوات، فقدره بأربعين عاماً، في حين أنها كانت على الأرجح في حدود الخامسة والثلاثين.
وكما خلطت "ريَّا" في تقدير عمرها، فقد خلطت كذلك في تحديد مكان ميلادها .. إذ ذكرت أنها ولدت في قرية الكِلْح - بكسر الكاف وسكون اللام - التابعة لمحافظة "سوهاج"، بينما لا توجد بين قرى محافظة "سوهاج" قرية تحمل هذا الاسم وأقرب الأسماء إليه من بين قراها هي قرية "الكُشْح" - بضم الكاف وسكون الشين - وهي من القرى التابعة لمركز "البلينا". كما لا توجد في أي من المحافظتين المجاورتين لها شمالاً - وهي "أسيوط" - وجنوباً - وهي "قنا" - قرية تحمل هذا الاسم .. والاسم الوحيد الذي يقترب منه "الكلاحين" - بفتح الكاف - وهي أسماء تختلف في نطقها مع "الكلح" التي لا صلة بينها وبين "محافظة سوهاج" إذ هي أحد قرى مركز "إدفو" بمحافظة أسوان، أحد قرى مركز "إدفو" بمحافظة أسوان، وكانت في العصر العثماني - إحدى ضواحي مدينة "إدفو" نفسها، إلى أن استقلت عنها إداريَّا، ثم توسع أهلها في الزراعة، فضموا إليها جزيرة تقع في وسط النيل، ثم اتخذوها معبراً إلى ضفته الشرقية، فاستزرعوا قسماً من الأرض المواجهة لهم، ما لبثت - عام 1888 - أن استقلت باسم "الكلح شرق"، بينما ميزت القرية الأصلية - التي تقع غرب النيل - باسم "الكلح غرب".
والحقيقة أنه لا يوجد في التاريخ اللاحق لأبناء "عليّ همام" شيء يدل على عمق صلتهم بالقرية التي نشئوا فيها، فلم يرد في أقوالهم ما يدل على أنهم كانوا يملكون بها أرضاً، أو ما يوحي بأن أحداً منهم كان يعمل - لوقت طويل - بفلاحة الأرض .. ومع أن اسميهما قد طاف بأنحاء البلاد على امتداد أكثر من عام، كانتا خلاله رهن التحقيق والمحكمة، فإن أحداً من أقربائهما، في "الكلح" أو "بني سويف" لم يسأل عنهما، ولم يعن بزيارتهما، على العكس من بقية المتهمين معهما في القضية الذين شد أقاربهم الرحال من أقصى الجنوب؛ ليكونوا إلى جوار أبنائهم وليشهدوا جلسات محاكمتهم.
ولعل عدم تمييز "ريَّا" بين قريتي "الكلح غرب" و"الكلح شرق" يكون دليلاً على أنها غادرتها قبل سن التمييز .. كما أن اسم القرية ذاتها لم يرد على لسان "سكينة" في كافة البيانات الرسمية التي أدلت بها؛ إذ أكدت في كل مرة، وكل وثيقة، أنها ولدت في "بني سويف"، وهو ما يفسر خلط "ريَّا" بين "الكلح" التي ولدت فيها، وغادرتها قبل أن تعي ما حولها، وبين محافظة "سوهاج" التي قضت فيها جانباً من طفولتها.
ولعل ذلك كله يكون مبرراً للظن بأن "أولاد همام" لم يكونوا من الفلاحين؛ إذ لم يكن شائعاً عن الفلاحين في ذلك الزمان كثرة الحركة والانتقال، ولعل أصولهم تعود إلى عائلة من البدو الرحل، الذين كانوا يعيشون في الصحارى المصرية، شرق وغرب النيل، وتقوم فرق منهم بإغارات دورية على القرى القريبة من مراكز تجمعاتهم؛ لتأديبها أو نهبها أو جمع الإتاوات منها، وقد ظلت الحروب بينهم وبين ممثلي السلطة المركزية في القاهرة، تشتعل أحياناً وتهدأ حيناً طوال العصر التركي المملوكي، وحتى بدايات القرن، إلى أن اجتذب العمران معظمهم، فتحولوا من الرعي إلى الزراعة، واستقر أغلبيتهم في القرى المتناثرة على جانبي مجرى النيل.
والواقع أن الجموح الذي غلب على سلوك "ريَّا" و"سكينة" منذ فترة تسبق بكثير ارتكابهما لجرائمهما، يكشف عن أنهما قد نشأتا في جو يخلو إلى حد كبير من الكوابح الخلقية والاجتماعية التي يتشربها الأطفال عادة من المجتمعات المستقرة؛ إذ كانتا - بالمقارنة مع غيرهما من نساء الصعيد المهاجرات مثلهما إلى الإسكندرية، بل والمجاورات لهما في السكن - شديدتي الجرأة على التقاليد والعادات الاجتماعية الموروثة، على نحو يدل على أنهما لم تعرفا عنها شيئاً من قبل، كما أن سقوطهما الأخلاقي، وإدارتهما، عدة منازل للدعارة السرية، لا يمكن تبريره بالفقر وحده. الذي لم يدفع كثيرات أفقر منهن إلى الطريق نفسه. بل إن شقيقهما الأكبر "أبا العلا" بدا من النوع المتساهل إلى حد التفريط، في تلك الأمور التي تتميز بحساسية خاصة لدى الجنوبيين من أبناء الصعيد؛ حتى إنه حين سئل عنهما، قال إنه لا يعرف عنهما شيئاً. وأنهما "طول عمرهم ماشيين من دماغهم" مما يعني أنه لم يكن صاحب سلطة عليهما كما هو شائع في العلاقة بين الرجال والنساء في الصعيد.
ويلفت النظر بقوة أن "ريَّا" كانت ترفض احتراف الدعارة، وأن "سكينة" - التي احترفتها لفترة قصيرة وحصلت على رخصة رسمية بممارستها - سرعان ما اعتزلت المهنة، لتحترف كلٌ منهما "تجارة الحرام" ولكن بشكل غير رسمي وفي بيوت سرية. وفي حين كانت "ريَّا" تحتفظ بجسدها لزوجها وحده، وتأبى أن تنزل إلى حضيض ممارسة الرذيلة، بل وتستعلي على اللواتي تمارسنها من النساء، ولو كن يفعلن ذلك تحت إدارتها وبإشرافها، فإن "سكينة" - التي كانت تشاركها نفس الآراء - كانت تمنح نفسها لمن تختاره من الرجال، بل وتتفق على عشاقها من نقودها دون أن تجد في ذلك شيئاً يكسر عينها أو يقلل من مكانتها بين جيرانها.
وهي كلها إشارات قد ترجح أن لهما أصولاً بدوية، لم يبق من فضائلها - مع تبدل الأزمان وتوالي المحن والكروب - إلا الاعتزاز المبالغ فيه بالكرامة والأنفة، بل لعل بعضاً مما تبقى من تلك الفضائل قد اختلطت برذائل أخرى عديدة، اكتسبناها من تغريبتهما الطويلة، ومما يرجح ذلك جرأتهما وسفورهما، وعلى نحو ما استرجالهما، فعلى عكس نساء الفلاحين فإن نساء البدو - كما يلاحظ "كلوت بك" في كتابه "لمحة عامة إلى مصر" - كن يتمتعن بحرية لم تكن تتمتع بها آنذاك كثير من نساء المسلمين، فهن يبرزن سافرات الوجوه، ولا ينتقبن إذا وقعت عليهن أنظار الرجال؛ إذ كن يربين مع الذكور، فيتخلقن بأخلاقهم، كما أن البدو - كما يضيف - بسبب عزلتهم، وأميتهم وبدائيتهم، لم يكونوا من المتشددين في الأخذ بالمحرمات الدينية، وهم لا يمارسون شيئاً من طقوس الدين الإسلامي، فهم لا يصلون ولا يصومون، ولا يزكون ولا يعنون بالتفرقة بين الحرام والحلال في تقاليدهم المتوارثة.
صورة
أحد أحياء مدينة جرجا مركز حكم شيخ العرب همام كما رسمها فنانو الحملة الفرنسية
ولو صح هذا الاستنتاج لاكتسب ما ذكرته "ريَّا" عن صلة الأسرة بـ ـــ "سوهاج"، فضلاً عن اسم والدها "عليّ ابن همام" دلالة مختلفة، ولكان مبرراً للظن بأن ابنتي "عليّ ابن همام" قد تكونان بعض ما تناثر على خريطة مصر من أحفاد شيخ العرب "همام بن يوسف" أمير قبيلة "الهوارة" وقائد الثورة التي انتهت باستقلال محافظات "المنيا" و"أسيوط" و"سوهاج" و"قنا" و"أسوان" عن الحكومة التركية المملوكية في القاهرة، وأقامت بها جمهورية مستقلة يحكمها شيخ العرب "همام": يجبي الضرائب، ويعين الحكام ويحرس الطرق وتنفذ أحكامه على كل من تظللهم سماء جمهوريته من البدو والفلاحين وحتى المماليك. وهي جمهورية استمرت قائمة لمدة أربع سنوات بين 1765 و1769 وأنشأت نظاماً وصفه المعاصرون له، بأنه يشبه النظام الجمهوري الذي جاءت به الثورة الفرنسية، بل إن "جمهورية همام" سبقت الثورة الفرنسية في توزيع أراضي الملتزمين على من يزرعونها من الفلاحين.
لكن الأمير المملوكي "عليّ بك الكبير" الذي دعم تمرد "همام" في البداية، حين كان موجهاً ضد خصومه من أمراء المماليك، تخلى عنه حين انفرد دونهم بحكم مصر، وقرر تصفية دولته، وجرد عليه حملات عسكرية متتابعة، انتهت بتبديد شملها، فمات شيخ العرب "همام" - كما يقول "الجبرتي" - "مكموداً مقهوراً وزالت دولة شيخ العرب من بلاد الصعيد".
ومنذ ذلك الحين لم تتوقف محاولات اجتثاث الهمامية، خاصة حين كرروا محاولة التمرد على السلطة المركزية في عهد "محمد عليّ الكبير" الذي لم يكن يعرف المزاح في مثل هذه الأمور، فشن عليهم حملات تأديبية ساهمت في تشتيتهم إلى الجنوب من "جرجا" - بمحافظة "سوهاج" - التي كانت بمثابة مركز لهم، وإلى الشمال منها حتى محافظة "بني سويف" بل واتجه بعضهم شمالاً نحو محافظة "البحيرة" حيث كانت تعيش بعض فروع قبيلة "الهوارة" منذ استقدمهم السلطان "الظاهر بيبرس" من المغرب؛ ليستعين بهم في قمع قبائل البدو الآخرين، وخاصة في الصعيد، فانتهى بهم الأمر إلى التمرد .. وإعلان الاستقلال.
ومع أن مسار هجرة أولاد "عليّ همام" - من "أسوان" إلى "سوهاج" ثم إلى "بني سويف" - يبدو متوافقاً مع المسار الذي اتخذته تغريبة كثيرين من الهمامية، بعد انهيار دولتهم، إلا أن الأسباب التي تقف وراء تلك الهجرة تتسع لاحتمالات لا حصر لها؛ إذ توافقت كذلك مع كسر حائط العزلة الذي ظل يحيط بجنوب مصر، طوال العصور الوسطى؛ بسبب وعورة المواصلات؛ إذ كانت الملاحة النيلية - وهي طريق المواصلات الرئيسي - تتعطل شهوراً في السنة؛ إما بسبب الجفاف أو الفيضان الذي كان يعزل كذلك كثيراً من قراه بعضها عن البعض الآخر، فظل الصعيد منطقة مغلقة على نفسها، وبعيدة عن التفاعل بما يجري في بقية أنحاء مصر، بل وبعيداً عن سلطة الحكومة المركزية التي كانت يدها تصل بالكاد إلى مناطق الدلتا، بل وتكاد تقتصر في أحيان كثيرة على القاهرة والمحافظات المتاخمة لها.
ويعود إلى "محمد عليّ" وخلفائه، الفضل في كسر عزلة الصعايدة تدريجياً، فلم يكد القرن التاسع عشر يصل إلى نهايته حتى كانت الطرق الترابية قد ربطت بين شمال مصر وجنوبها، ثم تبعتها شبكة من الترع والمصارف وخطوط السكك الحديدية، التي ربطت بين "القاهرة" و"أسيوط" ثم امتدت منها إلى "الأقصر" ثم "أسوان" لتسهل حركة انتقال الجنود أو البضائع.
وفضلاً عن التجنيد الإجباري فقد نقلت السخرة عشرات الآلاف من أهل الصعيد، من قراهم التي استقروا فيها طويلاً إلى العمل في المشروعات الكبرى، مثل حفر الترع والمصارف وحفر قناة السويس والعمل في مد خطوط السكك الحديدية، وفي تمهيد الطرق الترابية في ظواهر المدن، وفي تبليط الشوارع داخلها، وسرعان ما أثبت الصعايدة أنهم - بسبب قسوة المناخ الذي تربوا في ظله - أكثر تحملاً للمشاق من سكان الدلتا والساحل، وأسرع إنجازاً للأعمال التي تتطلب قوة بدنية، فازداد الاعتماد عليهم في أدائها.
وعلى الرغم من مشقة العمل، وقلة الأجور، فقد بدت الحياة في المدن لمن لا يملكون منهم أرضاً يزرعونها، أقل شقاء وأكثر رخاء من حياتهم في قراهم التي يتهددهم فيها الفقر والجدب والأوبئة، وبعد أن كانوا يساقون قهراً لأداء تلك الأعمال، أصبحوا يبحثون عنها ويسعون إليها، ويستدعون أقاربهم، وأصدقاءهم لكي يلحقوا بهم كلما لاحت أمامهم فرص العمل يحتاج إليهم.
وضمن موجات الصعايدة المهاجرين كطوابير النمل هرباً من الفقر .. قفزت أسرة "عليّ همام" ذات سنة من بدايات القرن، من "بني سويف" إلى "كفر الزيات".
(6)
كانت "كفر الزيات" حتى منتصف القرن الماضي قرية صغيرة، لا تمتاز عن غيرها من قرى الدلتا، إلا بوقوعها على فرع "رشيد"، وبوجود عدد كبير من معاصر الزيوت البدائية التي تعمل بالحجر وتديرها الماشية إلى أن بدأت أهميتها، تبرز تدريجياً منذ أصبح خط السكك الحديدية الذي يربط بين القاهرة والإسكندرية يتوقف عندها؛ لتنتقل عرباته فوق معدية بخارية تعبر بها "فرع رشيد" ثم يعاد تجميعها لتسير فوق القضبان إلى هدفها، ثم تأكدت مكانتها بعد استبدال المعدية بكوبري، اختصر زمن الانتقال بين القاهرة والإسكندرية بالقطار، من 42 ساعة إلى سبع ساعات فقط.
وبسبب موقعها المتوسط بين القاهرة والإسكندرية، وكنقطة التقاء لطرق المواصلات، فقد تحولت من قرية إلى مدينة شبه صناعية، اجتذبت عدداً، من المستثمرين الأجانب أنشأوا بها وابورات لحلج القطن، بفصل بذرته، لتقوم مصانع أخرى بتحويله إلى زيت للطعام، أو استخدامه في صناعة الصابون، أو كبس مخلفات البذرة لتصبح علفاً للماشية، بينما يتم نقل القطن، المحلوج إلى الإسكندرية، حيث يجري كبسه وتصديره إلى الخارج.
وككل المدن الصناعية الناشئة فقد اجتذبت "كفر الزيات" كثيرين من المهاجرين من القرى المجاورة لها، أو البعيدة عنها، كان من بينهم أسرة "عليّ همام" الذي لا يوجد ما يدل على أنه كان على قيد الحياة آنذاك، ولعل وفاته كانت السبب في رحيل أرملته "زينب بنت مصطفي" وأبنائه "أبو العلا" و"ريَّا" و"سكينة" من "بني سويف" بحثاً عن مصدر للرزق .. إذ ما كادوا يلون إلى "كفر الزيات" حتى دخلوا جميعاً إلى سوق العمل، فالتحق "أبو العلا" و"سكينة" بأحد وابورات حلج القطن، بينما عملت "ريَّا" والأم - "زينب بنت مصطفى" - بائعتين جوالتين للخضروات. ثم ما لبثت الأم، أن أنشأت مقهى صغيراً، في أحد الشوارع القريبة من مناطق تجمع عمال المحالج، تصنع لهم - في الطريق العام - الشاي، وتعد لهم كراسي الدخان المعسل، وقد تبيع لهم بعض الباذنجان المقلي، أو حبات الطماطم المحشوة بالثوم، يتناولونها في فترة الراحة من العمل.
ولأن "أبو العلا" كان خالياً من المهارات اللازمة للعمل في محالج القطن، فإنه ما لبث أن تركه ليشترك مع أمه في إدارة مقهى الرصيف. إلى أن أصبح العمل في المقاهي هو حرفته التي يتعيش منها، بينما واصلت "سكينة" العمل في المحالج، الذي كان - فضلاً عن ضآلة أجره - عملاً موسمياً ينتهي بانتهاء موسم حلج القطن، ويستمر أربعة أشهر فقط، تبدأ في أكتوبر وتنتهي في يناير من كل عام.
وخلال تلك الفترة تزوجت "ريَّا" للمرة الأولى من أحد الصعايدة المهاجرين مثلها للعمل في "كفر الزيات"، ترجع أصوله إلى إحدى القرى الواقعة غرب النيل في مواجهة "كوم أمبو" هي قرية "الرقبة" - وكانت آنذاك تتبع مركز "الدر" ثم انتقلت تبعيتها إلى مركز "أسوان" - ولا بد أن الفقر الشديد كان أحد الأسباب التي دفعت أسرته إلى الهجرة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال؛ إذ لم تقتصر الهجرة عليه وحده، بل شملت كذلك والده "سعيد مرعي" وشقيقه الأوسط "حسب الله" اللذين هاجرا إلى "الإسكندرية" حيث كانا يقيمان ويعملان بها، بينما ظل الابن الأصغر "حسين" يقيم مع والدته في القرية التي لم يكونوا يملكون فيها شيئاً، سوى منزل ضيق وصفه معاون بوليس مركز أسوان - فيما بعد - بأنه "منزل صغير مبني بالطوب .. يشتمل على حوش صغير وأودة واحدة".
وما لم تكن هناك صلة سابقة بين الأسرتين، اللتين يبدو انتماؤهما إلى محافظة واحدة، هي محافظة "أسوان"، صدفة لافتة للنظر، فالغالب أن هذه الصلة قد نشأت عبر المجاورة في السكن؛ إذ كان تجمع المنتمين إلى مركز واحد، أو محافظة واحدة، في منطقة سكنية واحدة، من التقاليد الديموجرافية التي حرص عليها المهاجرون الصعايدة إلى مدن الوجه البحري، ليتقووا بعصبيتهم ويتساندوا في مواجهة الغربة، ولكي يمارسوا تقاليدهم وعاداتهم بعيداً عن الأعين الناقدة والمقتحمة لسكان تلك المدن الأصليين، الذين كانوا يضيقون بهم وينفرون منهم، لما يحدثه احتشادهم من تلوث في البيئة، وارتفاع في الأسعار وفي إيجارات المساكن. وكانت هذه المناطق تقع غالباً في أكثر أحياء تلك المدن فقراً ونقصاً في المرافق وفي الخدمات.
والحقيقة أننا لا نعرف أكثر من ذلك عن زوج "ريَّا" الأول؛ إذ لم تفض في الحديث عنه، ولم تذكر له أسماً، والأرجح أنه لم يعش معها سوى سنوات قليلة أدركه بعدها مرض شديد أقعده عن العمل، لعله أحد الأمراض "العفنة" - أي الحميات - التي كانت حتى منتصف القرن العشرين تضرب أنحاء مختلفة من مصر في موجات متلاحقة ومتكررة الوقوع. وقد يكون المرض الذي أصابه من أمراض المهنة؛ إذ كان العاملون في محالج القطن يتعرضون بكثرة للإصابة بالأمراض الصدرية، وخاصة "السل" بسبب ضعف تغذيتهم، وبدائية الآلات التي كانوا يعملون عليها، مما كان يعرضهم لاستنشاق كميات كبيرة من "الزغبار" الذي يتطاير من القطن أثناء عملية الحلج.
وكانت "ريَّا" حاملاً في شهورها الأولى، حين ثقل المرض على الزوج، فأرسلت إلى "الإسكندرية" تستدعي شقيقه الأوسط "حسب الله"، وكان يعمل آنذاك بواباً وراعياً لحديقة أحد اليونانيين هو الخواجا "إستاورو ميخانليوس"، فاستأذن منه في إجازة قصيرة، يعود فيه شقيقه المريض. لكنه ما كاد يصل إلى "كفر الزيات" حتى أخذت صحة الأخ تنتقل من سيئ إلى أسوأ، فامتدت إقامته إلى جواره إلى شهر كامل، مات في نهايته.
وأراد "حسب الله" أن يعود إلى مقره بالإسكندرية، ليستأنف عمله لدى الخواجا "إستاورو" أو يبحث عن عمل بديل، إذا وجد الخواجا قد استبدل غيره به. لكن بلدياته من صعايدة "أسوان" المهاجرين إلى "كفر الزيات" لفتوا نظره إلى أنه قد يكون من الواجب عليه، أن يبقى حتى تضع أرملة أخيه حملها، لكي يكون في استقبال المولود الذي سوف يصل إلى الدنيا ليجد أباه قد غادرها، فيقوم - نيابة عن أخيه الراحل - بالواجب نحوه ونحو أمه، خاصة وأنه يستطيع أن يجد خلال تلك الشهور - عملاً في أحد محالج القطن المنتشرة في المدينة. فلم يجد مبرراً للرفض؛ إذ كانت "ريَّا" حاملاً في الشهر السادس، ولم يكن باقياً على الوضع سوى ثلاثة شهور، هي المدة التي يستغرقها موسم حلج القطن، فوافق على البقاء، ونجح .. بمعاونة بدلياته - في الالتحاق بعمل في محلج كان يملكه أحد رعايا النمسا، هو "وابور الخواجة زرفودلكي".
صورة
سكينة بنت عليّ همام / نقلاً عن الدنيا المصورة (1935)
وعندما انتهى موسم القطن في يناير (كانون الثاني) 1909. كانت "ريَّا" قد وضعت ابناً ذكراً. وقام "حسب الله" بواجبه نحو ابن أخيه وأرملته، فاستأذن في العودة إلى "الإسكندرية" واعداً بأن يرسل إلى "ريَّا" بعض المساعدات المالية بين الحين والآخر .. لكن بلدياته كشفوا النقاب هذه المرة عن هدفهم الحقيقي من استبقائه، وقالوا له بصراحة إن أرملة أخيه ما تزال شابة صغيرة، لا يجوز أن تعيش وحيدة مدى العمر، وأنه من الأفضل لها وله أن يتزوجا؛ لكي يتربى ابن أخيه في أحضانه فلا يشعر باليتم إذا اضطرت أمه إلى الزواج من رجل غريب، إذا لم يسيئ معاملته، فسوف يميز في المعاملة بينه وبين أبنائه.
ولم يجد "حسب الله" ما يعترض به، ولم يهتم بفارق العمر بينه وبين "ريَّا" التي كانت آنذاك في الرابعة والثلاثين من عمرها، بينما لم يكن هو قد تجاوز العشرين. ففضلاً عن أن هذا الفارق في العمر لم يكن محسوساً أو مؤثراً آنذاك؛ لأن "ريَّا" كانت في ذروة نضوج أنوثتها، فإنه لم يكن يستطيع أن يخرج على التقاليد السائدة بين المصريين عموماً، حين يموت أحد الأخوة ويترك أرملة وأولاداً صغاراً، وإخوة غير متزوجين، ولعله كان يحن إلى حياة أسرية افتقدها منذ اضطر إلى مغادرة قريته وهو في الرابعة عشرة ليشد رحاله إلى الإسكندرية بحثاً عن القوت، فوجد في الزواج ما يؤنس غربته، ويقلل من وحشته، وأقبل عليه متحمساً. فلم يكد اليوم الأربعون على الوضع يمضي، حتى عقد قرانه على "ريَّا" في صمت تام؛ إذ لم تكن فترة الحداد على الأخ الذي اغتاله "الزغبار" قد انتهت بعد.
وهكذا استقر "حسب الله سعيد مرعي" في "كفر الزيات" على امتداد السنوات السبع التالية. ومع أن ابن الأخ الذي كان مبرراً لزواجه من "ريَّا" لم يعش سوى عام واحد مات في نهايته، إلا أنه لم يفصم زواجه بها؛ إذ كان قد رزق منها بأول أبنائهما "بديعة" التي ولدت في نهاية سنة 1910. وفضلاً عن ذلك فقد تعلق كل منهما بالآخر، على نحو يجعل علاقتهما تبدو لغزاً صعب الفهم. خاصة حين اضطربت حياتهما، وحين واجها شبح المشنقة معاً. وأثبتت "ريَّا" أنها زوج ولود، لكنها مع ذلك كانت سيئة الحظ، فلم يعش من الأبناء الخمسة الذين رزقت بهم من "حسب الله" خلال أحد عشر عاماً من الزواج، سوى "بديعة" أما الأربعة الأخرون - وهم "محمود" و"أبو العطا" و"فاطمة" و"نبوية" - فقد ماتوا جميعاً وهم أطفال رضع؛ بسبب نقص التغذية وتدهور مستوى المعيشة في الغالب.
وخلال سنوات إقامته السبع في "كفر الزيات" كان "حسب الله" يعمل في محالج القطن التي انتشرت في المدينة، لكنه لم يبد حماساً شديداً لكي يتعلم أية مهنة تتطلب مهارة فنية، أو عملاً شاقاً. وبدأ وكأن مغادرته لقريته في سن صغيرة، قد أكسبته طراوة أهل المدن، من دون أن تكسبه بعض مهاراتهم الأخرى الكثيرة. والأرجح أنه كان - ككثيرين من أبناء "أسوان" ذوي الأصول النوبية - يحتقر العمل اليدوي، ولا يجد متعة في العمل أمام الآلة، ويفضل أن يقوم بالأعمال التافهة ذات المظهر البراق التي تعطيه اعتزازاً كاذباً بنفسه، وتتيح له أن يتحكم في الآخرين، وتضفي عليه فيما يظن أهمية، كأن يكون "بواباً" أو "خفيراً". والحقيقة أن تاريخه المهني اللاحق يكشف عن أنه كان منذ البداية من النوع الذي يفضل أن يكسب النقود من دون مجهود. وأنه كان - على نحو ما - طفلاً لم يتعود الاعتماد على نفسه، أو التحكم في رغباته. ولما لم يكن قوي البنيان بصورة تجعله قادراً على العمل الشاق كغيره من أهل الصعيد، فإن حصوله على عمل دائم أو بديل، كان أحد المشاكل المتعصية على الحل؛ فالعمل في محالج القطن، عمل موسمي لا يستغرق سوى ثلث السنة، ولا يغل دخلاً يكفي لنفقات الشهور الثمانية الأخرى التي تتعطل فيها المحالج. وهو لا يقبل ولا يستطيع أن يقوم بأعمال أخرى كحمل الأحجار أو شد السفن، مما اضطر "ريَّا" إلى مواصلة العمل كبائعة جوالة للخضروات، مع أختها "سكينة" لكي تقوم بنفقات الأسرة، وبنفقاته الشخصية؛ إذ كان قد تعود التدخين، وتعاطي الحشيش والمنزول - وهو خليط من الحشيش والداتورة وجوزة الطيب وغيرها من الأعشاب المنبهة المخدرة - وشرب الخمر .. وزاد من تدهور الموقف، أن الكساد بدأ يحط على محالج القطن في "كفر الزيات"، بسبب زيادة عددها ونقص المحصول، فأفلس بعضها وتوقف عن العمل، ومن بينها وابور "ذرفودكي" الذي كان أول وابور عمل به "حسب الله".
وفي نهاية عام 1912 بدأ السير في الطريق الذي قاده بعد ذلك إلى المشنقة. فقد ضبط وهو يسرق قطناً من "وابور بلنطة" الذي كان يعمل به خفيراً. فقدم إلى المحاكمة، وحكمت عليه محكمة استئناف طنطا بالحبس لمدة ستة شهور. كما حكمت عليه كذلك بالحبس لمدة خمسة عشر يوماً أخرى حبساً بسيطاً؛ لتعديه باللفظ على شيخ الخفراء "فرج قطب" الذي ضبطه وهو يسرق. ومع أن هذا الحكم هو السابقة الوحيدة التي دونت في صحيفة حالته الجنائية، إلا أن ذلك لا يعني أنها أولى السرقات التي ارتكبها، أو آخرها. والغالب أنه استفاد من تجربة ضبطه، فأصبح أكثر حذراً، وعدل عن السرقة من الأماكن التي تقع في نطاق مسئوليته كخفير، أو الموضوعة تحت حراسة جيدة، واحترف سرقة المحلات التجارية الصغيرة، المتناثرة في الشوارع الخلفية، بعيداً عن أعين الحراس، وما لبث "أبو العلا" - شقيق زوجته، الذي كان يعمل "قهوجياً" - أن انضم إليه، في هذا النشاط الجديد.
ولم تحل إدانته في قضية السرقة، دون التحاقه بالعمل في "وابور لندمان" بعد قضائه مدة العقوبة. ولعل المسئولين عن المحلج وجدوا أن أفضل وسيلة لتأمينه ضد السرقة، هو تعيين لص معروف لديهم من بين خفرائه. لكنه لم يواصل العمل به؛ إذ لم تكد الحرب العالمية الأولى تنشب في أغسطس (آب) 1914، حتى أعتقل "الهر لاندمان" صاحب المحلج، باعتباره ألمانيا من رعايا الأعداء، ووضع المحلج تحت الحراسة. ولم يعد إلى العمل مرة أخرى؛ إذ حط الكساد خلال العامين الأولين من الحرب، على الصناعات القطنية؛ بسبب الارتباك الذي حدث في طرق التجارة الدولية، وأدى إلى تعثر عمليات تصديره إلى الخارج.
وبذلك عاد "حسب الله" من جديد إلى ممارسة عمله الإضافي في سرقة الدكاكين.
(7)
في تلك السنوات كانت "سكينة" ما تزال تنتقل - خلال الموسم - بين وابورات حلج القطن بـ "كفر الزيات" التي كانت تفضل تشغيل النساء في بعض عملياتها؛ لرخص أجورهن وندرة ما يثرنه من مشاكل أثناء العمل، وبين بيع الخضراوات أو البيض، أو العمل في قهوة الرصيف مع أمها، في غير ذلك من شهور العام ..
والغالب في ضوء أحداث السنوات التالية من عمرها أنها كانت - على العكس من "ريَّا" - أكثر جسارة، وأقل احتراماً للعادات والتقاليد، وأكثر جرأة على الخروج عنها .. اكتسبتهما من اختلاطها بالرجال سواء أثناء عملها بالمحلج، أو أثناء مساعدتها لوالدتها بالمقهى.
والحقيقة أنها كشفت - بعد ذلك - عن اهتمام زائد عن الحد، ورغبة تفوق ما هو عادي، في الجنس الآخر، مما يكشف عن أن زوجها الأول - وكان نوبياً أو سودانياً من رجال الجيرة - لم يكن أول الرجال في حياتها. ولعل ذلك هو السبب في أن زواجهما لم يستمر طويلاً، إذ طلقها بعد عامين، بعد أن أنجب منها ابنة سمتها "زينب" تيمنا باسم أمها، لكنها لم تعش هي الأخرى سوى شهور قليلة، ماتت بعدها، فوجدت "سكينة" نفسها مطلقة في السابعة والعشرين من عمرها.
ويصعب تصديق "سكينة" التي قالت فيما بعد، إن بعض البنات قد ضحكن عليها بعد طلاقها، وأدخلنها "في الوعد"، الذي قادها لأن تسجل اسمها كـ"مومس" ضمن العاملين في "نقطة المومسات" بمدينة "طنطا" القريبة من "كفر الزيات" وكانت من أشهر نقط المومسات في مصر كلها. والغالب أن تلك كانت خطوة سبقتها خطوتان: صاحبت "سكينة" - التي لم تكن فيما يبدو تطيق البعد عن الرجال - في أولاهما عدداً من الرجال في علاقات حرة غير مدفوعة الأجر. ثم انتقلت في الثانية إلى ممارسة البغاء السري في مدينة "كفر الزيات" نفسها، فأصبحت تتقاضى أجراً عن ذلك العمل، إلى أن التقطتها إحدى "العايقات" - وهو الاسم القانوني لمن يرخص لهن رسمياًّ بإدارة بيوت البغاء القانونية - فأضافتها إلى من يعملن لديها من "مقاطير"، وهو الاسم القانوني للغانيات المرخص لهم بممارسة المهنة.
وكان القانون المصري يعترف آنذاك بالبغاء، وينظم ممارسته طبقاً للائحة تقضي بأن يحدد وزير الداخلية أو المحافظ، بقرار منه، الأماكن التي يجوز للمومسات العمل فيها، بحيث لا تزيد عن مكان واحد في كل مدينة، على أن تقتصر إقامة اللواتي يمارسن البغاء عليه، فلا يتعدينه إلى غيره من أحياء المدينة. وتمنح الرخصة لصاحبة البيت أو مديرته التي تعرف باسم "العايقة" أو "الضامنة" .. ويكون من حقها بمقتضى هذا الترخيص، أن تستخدم عدداً من "المقاطير" على ألا تكون بينهن قاصر أو متزوجة. ويخضع الجميع لكشف طبي مبدئي - يقوم به مفتش الصحة المختص - قبل الترخيص لهن بممارسة المهنة، وآخر دوري، يجري مرة كل أسبوع، للتأكد من عدم إصابتهن بمرض من الأمراض السرية.
وهكذا انتقلت "سكينة" إلى الإقامة في "طنطا"، حيث يوجد مقر عملها الجديد، من دون أن يثير اختيارها لهذا العمل، أو انتقالها للإقامة وحدها في حي "الواسعة" - وهو منطقة البغاء في "طنطا" - أي اعتراض من شقيقها أو من زوج شقيقتها. وهو ما يكشف عن مدى التدهور الذي كان قد لحق بأولاد "على همام" خلال السنوات القليلة التي أعقبت مغادرتهم لحدود الصعيد. والأرجح أن الفقر ونقص فرص العمل، كانا على رأس الأسباب التي دفعتهم إلى الصمت على ما كان يستحيل عليهم أن يصمتوا عليه.
ولم تستمر "سكينة" في العمل طويلاً بنقطة المومسات؛ إذ ما لبثت أن أصيبت بعد فترة - تقدرها بتسعة أشهر، وإن كانت في الغالب أكثر من ذلك - بمرض سري، تطلب دخولها إلى مستشفى "طنطا" للعلاج .. وخلال الشهور التي أقامتها بالمستشفى، تعرفت على أحد الممرضين العاملين بها، وهو "أحمد رجب" فنشأت بينهما علاقة حب، كانت سبباً في فصله من المستشفى.
ولم تكد "سكينة" تبرأ من مرضها حتى هرب الاثنان معاً من "طنطا" إلى "الإسكندرية".
وكانت حالة بقية "آل همام" الذين ظلوا يقيمون في "كفر الزيات" بعد هجرة "سكينة" إلى "طنطا" ثم رحيلها إلى "الإسكندرية" برفقة صديقها الجديد "أحمد رجب" قد تدهور؛ إذ ما كادت الحرب العالمية الأولى تنشب - في أغسطس (آب) 1914 - حتى حط الركود على أسواق القطن نتيجة للارتباك الشامل الذي أحدثه إعلانها في الطريق البحرية التي كانت تنقله إلى الأسواق العالمية.
وبسبب انخفاض طلب الغزالين والنساجين العالميين له، انتظاراً لما سوف يترتب على نشوب الحرب من آثار سياسية واقتصادية، فوصل المخزون الذي عجز زراع القطن عن بيعه إلى 40% من محصول تلك السنة، وانخفض سعره من 18 ريَّالاً إلى عشرة ريَّالات فقط للقنطار. ولأنه كان - آنذاك - المحصول الرئيسي الذي يعتمد عليه الاقتصادي المصري. فقد كان طبيعياً أن تؤدي الكارثة التي أصابته، إلى هزة اقتصادية عنيفة، ما لبثت أن انتهت إلى ركود شامل في الأسواق، فقد أسرع المودعون يسحبون أموالهم من البنوك، خوفاً من آثار الحرب على إيداعاتهم، فتوقفت البنوك عن إقراض زراع القطن، بل وأخذت تطالبهم بما اقترضوه منها، فقبض هؤلاء أيديهم عن إقراض صغار الزراع في انتظار بيع المحصول، الذي لم يجد من يشتريه حتى بثمن تكلفته.
وكان "موسم القطن" هو الموسم الذي ينتظره المصريون جميعاً، وخاصة الطبقات محدودة الدخل، لكي يفرجوا عن أنفسهم، ويشعروا بشيء من متع الحياة. فخلال الشهور التي تعقب جني المحصول وبيعه، كان الرخاء يسود أنحاء مصر جميعها، فتجري النقود في أيدي زراع القطن، وينساب جانب منها إلى أيدي هؤلاء الفقراء، فيجدون فرصاً لعمل أعلى أجراً مما يتقاضونه عادة في بقية شهور العام. ولم يكن "الموسم" يضن برخائه حتى على هؤلاء الذين لا يجدون عملاً في أحد المجالات المتعلقة مباشرة بالقطن، كعمليات النقل والحلج والغزل والنسيج؛ إذ كان الجانب الأكبر من ثمن السلع والخدمات يؤجل دفعه إلى الموسم، فيحصل الجميع على المؤجل من ثمن عرقهم طوال العام، فضلاً عما كان يترتب على جريَّان النقود في أيدي الزراع من رواج في الأعمال الإنشائية والمعاملات التجارية.
ففي "الموسم" يشتري الناس خزين بيوتهم من أصناف البقالة، ويزوجون أبناءهم وبناتهم، وفيه يبنون أو يجددون بناء عمائرهم، أو يعيدون تأثيثها، ويقيمون فيه الأفراح والولائم، ويتنزهون في عواصم الأقاليم أو على شواطئ البحر، فتتسرب النقود من بين أصابعهم إلى الجميع: من أصحاب دكاكين البقالة إلى أصحاب المقاهي والبارات، ومن النجارين والمنجدين والحدادين إلى العوالم والراقصات والعاملين في بيوت البغاء.
ولأن شهر أغسطس (آب) هو الشهر السابق مباشرة على بداية الموسم، إذ يتم فيه جني القطن، فقد كان المصريون يسمونه "شهر الأزمة" ففيه تضيق أنفاس الناس؛ بسبب ارتفاع درجة الحرارة التي تزيد رطوبة الفيضان من وطأة إحساسهم بها، وتضيق صدورهم من كثرة ما أنفقوا - من دون عائد - على المحصول. لكنه ما يكاد ينتهي حتى تبدأ الأزمة في الانفراج تدريجياً مع وصول بشائر المحصول إلى أيدي التجار، وحصولهم على جانب من ثمنه، يأخذ في التصاعد خلال الأسابيع التالية. آنذاك تلعلع الزغاريد في البيوت، وتعلق على أبوابها الزينات احتفالاً بزواج الأبناء، ويزداد الزحام في الأسواق، ويشتري الفقراء لزوجاتهم وأبنائهم كسوة السنة، ويجدون بين أيديهم ما يستطيعون به سد جوعهم إلى اللحوم والدواجن، وغيرها مما يعز عليهم بقية العام.
لكن "شهر الأزمة" من ذلك العام - 1914 - امتد ليصبح أربع سنوات كاملة، هي السنوات التي استغرقتها الحرب العالمية الأولى، التي لم يكن للمصريين فيها ناقة ولا جمل، ولكنهم - كغيرهم من شعوب المستعمرات - دفعوا ثمن الصراع المسلح الذي نشب بين حيتان السياسة الدولية؛ إذ لم يسفر إعلان الحرب فقط، عن كارثة القطن التي أوقفت أحوالهم، فأجاعت الفقراء منهم، وهددت المستورين بالجوع. بل وأدى الاضطراب في طرق المواصلات الدولية - كذلك - إلى توقف وصول المواد الغذائية التي كانت مصر تستوردها من الخارج مقابل تصدير قطنها، ومن بينها اللحوم والدقيق والبترول والفواكه والمنسوجات، كما توقف وصول السلع التي كانت تستوردها من ألمانيا والنمسا وتركيا وحلفائهم، ممن كانوا يوصفون - آنذاك - بأنهم أعداء، حضرة صاحب الجلالة ملك إنجلترا و"إمبراطور الهند"، وكانت مصر بمجرد إعلان الحرب قد وضعت تحت حماية جلالته - ومن بينها الصابون والأدوات المنزلية والطرابيش والكبريت وزجاج المصابيح، فاختفت هذه السلع جميعاً من الأسواق، وارتفعت أثمان المعروض منها، أو من بدائلها المحلية الأقل جودة إلى أرقام فلكية. وساهم الأجانب المسيطرون على التجارة الداخلية في تأزيم الوضع بتخزين السلع، أو باحتكار بيعها ..
ولم يكن نصيب "كفر الزيات" من المجاعة، أقل من نصيب غيرها من المدن المصرية، بل لعله كان أكبر، فقد أغلقت معظم محالج القطن التي كانت تعمل بها أبوابها؛ إما بسبب الكارثة التي أدت إلى بقاء المحصول دون بيع، أو لأن بعضاً منها كان يملكه رعايا الأعداء من الألمان والنمساويين، الذين وضعوا رهن الاعتقال، ثم طردوا من البلاد؛ ولأن النشاط الاقتصادي في المدينة كان يرتبط - أساساً - بالصناعات القطنية - كعصر الزيوت وصناعة الصابون والكسب، فقد تفشت البطالة وخاصة بين صفوف الجنوبيين المهاجرين إليها، مما اضطر بعضهم إلى العودة مرة أخرى إلى قرى الصعيد التي جاءوا منها، بعد أن توقفت - بسبب الركود كذلك - الأعمال الأخرى التي كانوا يعملون بها في غير موسم القطن، كأعمال البناء ونقل الأحجار وشق الطرق وحمل الأتربة.
لكن "حسب الله" لم يفكر في الرحيل مرة أخرى إلى "الرقبة" إذ لم يكن يملك بها ما يغريه على العودة. ولعله كان يدرك أنه مهما كان سوء الحال في "كفر الزيات" فإن فرص الرزق - الحلال أو الحرام - المتاحة له فيها، أوسع بكثير من تلك التي قد تتاح له في قريته. وكان - فضلاً عن ذلك قد شغف بحياة المدن؛ حيث لا رقابة اجتماعية صارمة تحول بينه وبين إشباع مزاجه الحسي الغلاب، أو تقف بينه وبين التمتع بنصيبه من الدنيا؛ فقرر البقاء على الرغم من سوء الحال. ولم يلبث أن عاد لاستئناف نشاطه في سرقة الدكاكين بمعونة شقيق زوجته "أبي العلا همام" وآخرين. وتركزت غزواتهم على محلات البقالة الصغيرة، ولم تكن غنائمهم تزيد على عدد من علب زيت الطعام، أو جوال من السكر، أو بعض أقراص الحلاوة الطحينية، أو عدة قطع من صابون الغسيل. لكنها - على الرغم من تفاهتها - كانت ذات فائدة كبيرة لهم؛ إذ كانت تسد عنهم وعن أسرهم غوائل الجوع. فإذا بقي منها شيء - بعد ذلك - قامت "ريَّا" وأمها "زينب" ببيعه في مطعم ومقهى الرصيف، أو تجولتا به على أبواب البيوت، فإذا كان من بين الغنائم شيء مما يخشى تعرف أصحابه عليه إذا عرض للبيع، كالموازين والأطباق، سافر بها "حسب الله" أو "أبو العلا" أو أحد شركائهما، إلى "طنطا" ليبيعه في أسواقها.
ولم يكن الحل الذي توصل إليه "حسب الله" لأزمته الاقتصادية فريداً؛ إذ كانت السرقة هي "العمل" الوحيد الذي أتيح لآلاف العمال الذين أدركتهم الحرب، فسدت أبواب الرزق أمامهم، وخاصة الصعايدة منهم يستوي في ذلك من تعودوا أن يهاجروا إلى "مدن القطن" هجرة مؤقتة ليعملوا بها أثناء الموسم، ثم يعودون إلى قراهم بعد انتهائه، أو من كانوا قد استمرءوا حياة المدينة، وتمردوا على ركود الحياة في قراهم المحرومة من أبسط شروط الحياة الحقيقية، فتوطنوا تلك المدن، فقد عز على الأولين أن يعودوا إلى أهاليهم بأيد خالية حتى من ثمن تذكرة القطار الذي اقترضوه عند رحيلهم، وأفسدت الحياة الطرية في المدن الآخرين، فأصبحوا عاجزين عن التكيف مرة أخرى مع الأوضاع المعيشية الأكثر تعاسة في قراهم.
صورة
1927: وفد من تجار الأقطان في زيارة لمحلج كازولي بكفر الزيات
وعلى عكس كثيرين من أمثاله من المتعطلين، فقد أثبت "حسب الله" أنه لصٌ متواضع، تقصر جهوده عن شن الغارات العنيفة التي كانوا يقومون بها، ويعودون منها بغنائم كبيرة، كالسطو على المنازل، أو على مخازن الحبوب أو قطع الطريق على المارة ليلاً. والأرجح أنه لم يكن من النوع المهيأ نفسياً لممارسة العنف، أو الذي يملك الجسارة الكافية للمخاطرة بنفسه. ولعله كان يعتصم ببقية من قيم خلقية تلقاها في نشأته، فاكتفى بتلك السرقات التافهة التي كانت تؤمن له ما يحتاج إليه لكي يعيش هو وأسرته، مع بعض الترفيه الضروري، لم يكن يزيد آنذاك عن تدخين تعميرتين من الحشيش أو احتساء كأسين من النبيذ الرخيص.
وربما لهذا السبب، فإنه ما كاد يغامر - في 16 فبراير (شباط 1916 - بتطوير نشاطه، وشن أول هجوم جريء في تاريخه الإجرامي فيشترك مع عصابته في كسر أبواب أحد المقاهي، ويسرقون منه بعض المقاعد ورخام المناضد، حتى انكشف أمره كما ينبغي لمن يقوم بعمل يفوق قدرته ويخرج عن مجال تخصصه. لكن حظه الحسن، حال بينه وبين العودة مرة أخرى إلى السجن، ليقضي مدة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، باعتباره لصاً عائداً؛ إذ كان قد تصرف في المسروقات، وهرب وهو وصهره "أبو العلا" إلى "طنطا". ومع أن تفتيش الشرطة للحجرة التي كان يقيم فيها مع زوجته وابنه الرضيع وابنته - "بديعة" - وللحجرة التي كان "أبو العلا" يقيم فيها مع والدته، قد أسفر عن العثور على ما تبقى مما سرقاه - في عملية سابقة - من دكان بقال يدعى "بولس جرجس"، إلا أن المرأتين تحملتا بشجاعة المسئولية عن حيازة المسروقات فلم تشيرا أية إشارة إلى إقامة الرجلين معها. وأصرتا على أنهما قد اشترتا ما عثر عليه في حجرتيهما من باعة متجولين. وهو دفاع لم تأخذ به محكمة استئناف "طنطا" فعاقبت "ريَّا" بالحبس لمدة ستة شهور.
ولأن بقاء "حسب الله" في "كفر الزيات"، بعد أن اتجهت إليه الشبهات، لم يعد باعثاً على الاطمئنان، فقد قادته خشيته من افتضاح كل ما اشترك فيه من سرقات، إلى الرحيل، بينما ظل "أبو العلا" يقيم في "طنطا" ليرعى شئون السجينتين.
وذات يوم من مارس (آذار) 1916. فوجئت "سكينة" بزوج شقيقتها "حسب الله" يدخل عليها في الحجرة التي كانت تقيم فيها بالإسكندرية، وبصحبته ابنته "بديعة" التي كانت آنذاك في السادسة من عمرها.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا