قبل أن أخلد إلى الفراش جلست أمام مكتبي أراجع بعض الأوراق التي استلمتها من الجامعة، أملاً بياناتها حتى أن أنهيتها كلها.
استرخيت على الكرسي أتثاءب.. فكرت بإعداد جدول يومي أنظم فيه أوقاتي، لكني أرجأته ليوم غد.
(طق.. طق.. طق..)
أحدهم يطرق الباب.. من يكون يا تري؟!
هتفت:
- تفضل.
انفتح الباب ... دخل اثنان من عمال السكن يحملان الفراش الجديد. سألني أحدهما:
- هل طلبت الفراش؟
أومأت برأسي وأشرت إلى السرير الخالي. قاما بوضع الفراش على التخت وتثبيته ثم جاء عامل آخر يحمل كيسا مغلفا كبير الحجم يحوي بداخله لحاف ووسادة، وضعه بجانب التخت ثم شكرتهم قبل انصرافهم.
ألقيت نظرة متفحصة على الفراش الجديد، وأنا أتحسس ملمسه الوثير، قلت في نفسي لا مانع من تجربته. اضطجعت على الفراش لفترة وجيزة، أتقلب يمينا ويسارا، ظلت على هذا الحال حتى غلبني النعاس. لم أشعر بالباب وهو يفتح بروية حتى أحدث صريرا منخفضا. هنا توقفت مرتعدا وقد تجمدت في موضعي، اتجهت بنظراتي نحو الباب المفتوح، حتى أطل شخص بالكاد أعرفه.
نهضت من مكاني مرتبكا وقلت بذات الارتباك:
- أهلا.. لم أتوقع مجيئك.. لقد كنت..
خطا (عابد) إلى الداخل وهو يغلق الباب خلفه بهدوء، نظر إلى الأعلى إلى ضوء المصباح بالتحديد، ضاقت عيناه ثم رفع يده أمام عينيه ليحجب الضوء عنه.
قال بعصبية:
- ماذا قلت لك بشأن هذه الأضواء.
لم أتمكن من الرد، وإنما استقمت في موضعي أترقب. انطلقت تمتمة مربكة من فمي:
- أنا.. لم ..
ودون أن ينتظر إشارة أو إذنا مني أطفأ ضوء مصباح السقف ثم خطا إلى مكتبه ليضيء مصباح الأباجورة الخاصة به. بعد برهة قصيرة جلس على كرسيه يلتقط أنفاسه، ريثما يضع كتابا كان يحمله في يده ومفكرة صغيرة أخرجها من جيبه ليتركهما أمامه على سطح المكتب، ثم واجه مكتبه موليا ظهره لي ومازال يردد أنفاسه بتتابع منتظم.
هنا تجاسرت على النطق، خاطبته قائلا:
- ثمة أشخاص يودون رؤيتك، لا أعلم إن كنت قابلتهم أم لا.. منهم جارنا مسعود وفواز الذي يدرس معك في نفس المجال و.. أيضا الأستاذ رحيم.
رفع رأسه دون أن يلتفت نحوي، قال بهدوء:
- سأمر عليهم لاحقا.
قلت:
- لكن الأستاذ رحيم يطلبك في عجالة لكي توقع وتسجل حضور..
قاطعني بحدة:
- قلت لك سأمر عليهم لاحقا إن تسنت لي الفرصة.
ثم أضاف:
- وأي أحد سألك عني أخبره بما يجب أن تخبره.
لم أفهم عبارته الغامضة هذه، ماذا يعني بذلك؟
سألته:
- عفواً.. لم أفهم ما تقصده.
أجاب فورا:
- لا تخبرهم بأي شيء، فقط أدعي عدم الدراية.
ثم أنكفأ إلى وضعه لينهمك في قراءة كتابه، إلا أنني بقيت واقفا عند السرير.
سألته بتهور:
- عفوًا مرة أخرى، كنت أستفسر عن سبب غيابك طوال اليوم حتى قبل هذا الوقت.
مرت بضع لحظات من الصمت، التفت إلى هذه المرة وقال ببرود وجلد:
- هل يجب أن تسأل..
لم أرد وإنما رحت أفكر عما سيفعله هذه المرة.
أعقب بعد ذلك قائلا:
- أنا مرتبط هذه الأيام بوظيفة في إحدى الشركات حيث أعمل بدوام كامل. لذا يجب أن تعلم أنك لن تراني غالبا حتى منتصف الليل في مثل هذه الساعة تقريبا.
ثم أردف:
- أعتقد أنك وجدت ما ستخبر به إذا سألك أحد عنى، لكن هذا سيورطك في العديد من التساؤلات.
سألته وقد أثار ما قاله فضولي فعلا:
- وأي شركة هذه التي تعمل لديها؟
لم يقل شيئا وإنما رمقني بحدة ثم قال بضيق:
- أنت تسال كثيرا، وهذا یثیر أعصابي، هل يمكنك أن تتركني بحالي فأنا مشغول جدا كما تري.
ثم عاد ليواجه مكتبه وهو يتمتم بكلمات لم أفهمها. قررت أن أخلد للنوم، أفضل من أن أضيع وقتي معه، لم أجد شخصا فظا مثله يتعامل معي بهذا الأسلوب.
قلت له وأنا أشير إلى السرير الأخر:
- لقد أحضروا فراشا جديدا، لا أعلم أي السريرين ستختار للنوم عليه؟
قال وهو يدون على مفكرته:
- لن أنام الآن، ولا يهمني إطلاقا، فلترقد أنت على أيهما تشاء.
هززت رأسي وقلت:
- لا بأس.. اعذرني على كل حال.
طفقت أنظر إليه ممعنا وأنا أستلقي على ذلك التخت القديم الذي احتضنني أول ليلة، كان غارقا في القراءة ومنهمكا في الكتابة على مفكرته التي بدت أشبه بكراسة مدرسية. أمره غريب فعلا! آمل أن يمر هذا الفصل على خير، بعد ذلك سأتقدم بطلب للانتقال إلى غرفة أخرى. لا أعتقد أنني أ ستطيع الانسجام معه طالما أنه لا يطيق أن أشاركه الغرفة، وأنا كذلك لا أرغب بتاتا أن أشاركه الإقامة ولا الصحبة.
لم تمض دقائق حتى حل بي النوم، وقد حلمت بأسرتي. أعتبره أحد الأحلام النادرة، لدرجة أنني لمستها واقعية.
ألفيت نفسي جالساً مع أسرتي أتناول طعام الغداء، والمؤلف من طبق الأرز مع مرق داكن بطعم (الكرك)!! فيما أمي جالسة أمامي تحثني بإصرار على إفراغ الطعام كله وهي تعبر عن ذلك بسعادة. أما أبي فقد ظهر بجانبي يحملق في وجهي دون أن ينطق، ثم مد يده إلى كتفي ليهزني بلجاجة وهو يخاطبني أمراً:
- استيقظ..
- ماذا؟!
- استيقظ.. صلاة الفجر.
فتحت عيني لأرى نفسي أحملق في وجه (عابد) يقف عندي بجمود وهو يرمقني بنظرة باردة الطباع.
- صلاة الفجر.
قالها ثم أدبر منصرفا خارج الغرفة. اتخذت وضعية الجلوس أنصت لأذان الفجر، بالتالي دفعت نفسي على النهوض والتوجه للوضوء ثم إلى المسجد.
بعد الصلاة التقيت (فواز)، اتخذنا إحدى الزوايا في المسجد للجلوس والتحادث بهدوء، لاحقا انضم إلينا جاري (مسعود).
قال (مسعود) موجها كلامه لي:
- لقد مررت عليك يوم أمس ولم يفتح أحد الباب.
سألته باستغراب:
- يوم أمس.. متى؟
قال:
- في حوالي الساعة السادسة بعد صلاة المغرب مباشرة.
قلت وأنا أشير إلى (فواز):
- لقد كنت في ضيافته.
سألني (فواز):
- هل التقيت عابد؟
هززت رأسي وأجبت:
- نعم.. ليلة أمس، وقد أيقظني لصلاة الفجر.
عقب (مسعود) بغتة بصوت حاد النبرة:
- كيف تقول هذا وهو ليس هنا، كما أنني لم أره حتى الآن.
أشرت إليه أن يخفض صوته حتى لا يشوش على بعض المصلين.
واصل (مسعود) بصوت هامس هذه المرة:
- صدقني لم أره حتى الآن، بل حاولت الاتصال به لكن هاتفه المحمول ظل مقطوعا. بل سألت العديد من الزملاء أشاروا بأنهم لم يروه مطلقا.. أخبرني كيف تفسر لي هذا؟
قال (فواز) متسائلا:
- قلت إنه أيقظك لصلاة الفجر.
- نعم.
- ولكننا لم نره في المسجد.
- نعم، هذا غريب فعلا، أيقظني لصلاة الفجر ولم يأت للمسجد..
أعتقد أنه يؤدي الصلاة في مكان آخر، ربما في مكان عمله.
باغتني (مسعود):
- مكان عمله!
عقب (فواز) باستغراب:
- هل هو يعمل؟ أين؟
هنا تذكرت ما قاله ليلة أمس، وكان هذا بمثابة تحذير.. (أعتقد أنك وجدت ما ستخبر به إذا سألك أحد عني، لكن هذا سيورطك في العديد من التساؤلات)
كيف سأتصرف الآن؟ كيف أجيب على عشرات الأسئلة العصية التي لا أملك الإجابة عليها؟ على أن أتحمل مسؤولية جوابي ذاك.
صرحت قائلا:
- لا أعلم أي شيء في هذا الصدد، كل ما أخبرني به هو أنه مرتبط بعمله في إحدى الشركات.
عقب (مسعود) مستفسرا:
- أي شركة؟ وما طبيعة عمله؟
أشرت إليه مرة أخرى أن يخفض صوته.
سأل (فواز):
- منذ متى وهو يعمل؟ ولماذا لم يخبرني؟ كل ما أذكره فعلا أنه في السنة الماضية تقدم للعمل التطوعي في إحدى الفعاليات الخيرية، أما عمله في شركة ما فهذا ما أجهل عنه.
وافقه (مسعود):
- لو كان يعمل، متى يجد الوقت لمذاكرة دروسه؟ هذا إذا كانت لا تفوته الحصص الجامعية.
أشرت قائلا:
- لقد أعلمني بأني لن أراه حتى المساء، لذا ألاقيه منكبا على ما يبدو تحضير دروسه الجامعية.
عقب (فواز):
- لكنه يعمل من الصباح الباكر وحتى المساء كما تقول، وماذا بشأن الجامعة.. ألا يرتادها؟
أيده (مسعود):
- نعم، ألا يرتادها؟ إذا ما فائدة تحضير دروسه الخصوصية.
أجبت:
- صدقوني لم يتحدث معي في هذا الشأن، بل إنه لا يطيق التحدث معي بتاتا، لدرجة أنه لا يلقي السلام حينما يدخل الغرفة.
قال (فواز) والدهشة اكتسحت ملمح وجهه:
- هذا غريب فعلا، لم أعهده هكذا من قبل.
- وأنا أيضا بعدما سمعت عنه.. آه، نسيت.. لقد أخبرته أنكما تودان رؤيته، سيمر عليكما لاحقا كما قال.
همهم (مسعود):
- أمل ذلك.
خلا المسجد من المصلين باستثناء المؤذن الذي ينتظر مغادرتنا ليغلق أبوابه، بالتالي قررنا الانصراف بعد مكوثنا طويلا.
* * *
انصرف (فواز) إلى غرفته بينما أنا سرت مع (مسعود) متوجهين إلى شقتنا. قال (مسعود) حين كنت أفتح باب غرفتي:
- أمامنا ساعة واحدة لتحرك الحافلات، هل تمانع لو بقيت عندك بعض الوقت؟ أخشى أن يغلبني النوم وتفوتني المحاضرة إذا بقيت في غرفتي.
فسحت له باب غرفتي وأنا أومئ له بالدخول:
- لا أبدا.. تفضل.
ما اجتاز (مسعود) الباب حتى قال بانبهار وهو يمسح ببصره أرجاء الغرفة:
- ما شاء الله، ما شاء الله، ما هذا الجمال! لا بد أنك أفرغت كل طاقتك في ترتيب غرفتك وتنسيقها بهذا الشكل.
قلت متسائلا:
- لكني لم أمس غرفتي أبدا، لقد كانت هكذا منذ أن حللت فيها.. لماذا؟ ألم تكن على هذا النحو من قبل؟
قال (مسعود):
- ماذا تقصد؟! .. هه.. في ظل وجود زميلك عابد، لا أبداً.. لم تكن مرتبة إطلاقا، لكم تتخيل مدي الفوضى والبعثرة في أوقات وجوده. الأوراق في كل مكان، والكتب ملقية بإهمال، والملابس منثورة هنا وهناك.. صدقني كان أحيانا يطلب منى مساعدته في ترتيب غرفته أن لزم الأمر.
قلت:
- ربما طلب من العاملين أن يقوموا بترتيب غرفته عند مغادرتها قبيل حلول الإجازة.
وافقني بإيماءة من رأسه وقال:
- ربما، وهذا لا يستبعد، لكن أنظر إلى غرفتك الآن.. إنها نظيفة.. نظيفة جدا ومنظمة، يستحيل أن تكون هي نفسها الغرفة حينما كان عابد منفردا بالإقامة فيها.
لم أعلق وإنما شردت بذهني إلى تلك الليلة؛ أول ليلة بالتحديد، حينما وطأت بأول خطواتي في هذا المكان، إذ ما زلت أذكر استغراب المشرف (رحيم) وتفاجأه من نظافة الغرفة لدرجة أنه عسر عليه التصديق.
في الحقيقة كل ما يجري حول الزميل (عابد) غريب فعلا، بل أقرب إلى الغموض، الجميع يتحدث عنه بوصف مختلف، بل يناقض عما رأيته منه.
هنا تذكرت أمراً هاماً، حينما ظهر (عابد) في الغرفة ليلة أمس، كان يرتدي نفس اللباس الذي كان عليه في أول ليلة لي أي قبل أمس، لاحظته يرتدي ذات الجلباب العربي القديم، بالإضافة إلى ما أذكره رأيته يعتمر قحفية عتيقة بالية بيضاء اللون مثل التي يرتديها أهل الخليج مع العقال والشماغ طبعا.
ولدت في ذهني فكرة مخيفة، فكرت للحظة أنه ربما يتبع جماعة معينة، جماعة لها طقوسها الخاصة زرعت فيه أفكارهم جعلته يتصرف على هذا النحو.. لكن لا لا بالطبع.. هذا أمر مستبعد، يجب أن أفني هذه الفكرة من رأسي فهي لا تجلب سوى بواعث القلق.
قاطعني (مسعود) حينما قال منبها:
- بقيت ربع ساعة، سوف تفتح قاعة المطعم الآن. أراك شردت بذهنك.. ما الذي تفكر به؟
عدت إليه قائلا:
- هاه.. لا شيء أبدًا، فقط كنت أفكر بأسرتي.. تعلم هي المرة الأولى التي أبتعد فيها عنهم، لا ألبث لحظات إلا وأشتاق بحنين إلى وطني وكذلك أسرتي.
قال (مسعود) بنبرة درامية:
- أرجوك لا تذكرني بذلك هيئ هيئ هيئ..
ثم أردف:
- حسنا أستأذنك للذهاب إلى غرفتي لأغير ملابسي.. أراك في قاعة المطعم.
فتح الباب ليخرج منصرفا. كم الساعة الآن.. حسنا، على أن أجهز نفسي وأستعد لعناء اليوم، ما زال أمامي بعض الإجراءات آمل أن أنهيها كلها.
وبينما أنا أرتدي لباسي أخذت أتفحص ببصري المكتب المواجه لي- مكتب (عابد حبيب)- لا أعلم ما الذي دفعني للخطو نحوه.. أرى عدداً من الكتب على الرف العلوي، مجرد كتب في التخصص لا أكثر، انتقيت أحدها أتفحص فحواها.. لم أجد فيها ما يثير الاهتمام، ليس سوي كتاب متعلق بمبادئ علوم الحاسب الآلي الذي كما أعلم هو متخصص فيه مع صاحبي (فواز). أعدت الكتاب إلى موضعه.. هنا لفت انتباهي الدرج. لا لن أفعل هذا، لن أعبث في محتويات تخص الآخرين، لكن.. الفضول يجتاحني بشدة، مجرد فضول، مجرد إلقاء نظرة فقط.. هيا حاول أن تفتح الدرج، لن تخسر شيئاً.
نعم.. أمد يدي إلى الدرج وأسحبه.. لقد فتحته الآن.. ألقي نظرة متفحصة.. ماذا لدينا هنا؟! أوراق وأقلام ذات أشكال متنوعة، وكتيب صغير للأذكار، وملفات لا أهمية لها. هذا كل ما هو ظاهر.. لكن مهلا.. ما هذا؟ ثمة صورة فوتوغرافية مخبأة تحت الملفات.. التقطت الصورة من داخل الدرج.. أنظر فيها متمعنا.. لم تكن سوى صورة ملونة لطالب جامعي يرتدي بذلة أنيقة كحلية اللون، يحمل حقيبة يد وهو واقف عند بوابة الدخول للجامعة بينما تعلو وجهه ابتسامة عريضة.. من هذا الشخص يا ترى؟ يبدو أنه ينتمي إلى بلاد أوروبية شرقية من خلال قراءتي لملامحه.
هل سبق وأن رأيت هذا الشخص؟ لا أعتقد، ربما هو مجرد طالب أمضى دراسته هنا وبالتالي تخرج في حينه، أو مازال يواصل الدراسة في قطر، أو ربما تربطه بالزميل (عابد) صلة قرابة لا أكثر؛ نظراً لتقارب الملامح. لماذا أضيع وقتي في التفكير به، أعتقد أنه لا شأن لي به.
أعدت الصورة إلى مكانها وأغلقت الدرج. كما الساعة الآن؟.. أوف، بقي عشر دقائق فقط، على أن أسرع وألحق بالحافلة، لكني لم أتناول شيئا.. هيا فيما بعد، يوجد أكثر من كافتيريا في الجامعة، يمكنني تناول الإفطار هناك.
* * *
"ما ألذ طعم الراحة بعد إتمام العمل"
تذكرت والدي اليوم وهو يردد هذه العبارة كلما أنجز عملا مهما. لقد أنهيت إجراء التي كلها، وتم قبولي رسميا في جامعة قطر، وبدءاً من الأسبوع القادم سأشرع في حضور الحصص الدراسية للمرحلة التأسيسية.
عدت من الجامعة في وقت الظهيرة. توجهت مباشرة إلى قاعة المطعم، وملأت معدتي بطعام الغداء، لا أعلم كيف سأغفو ومعدتي متخمة، لكني قابلت شخصا وأنا في طريقي إلى الغرفة. خاطبني الأستاذ (رحيم) بحزم:
- لم يمر زميلك على مكتبي ليوقع حضوره.. هل لقيته فعلا وأخبرته أن يأتيني فورا؟
قلت وأنا أقف عند عتبات السلم:
- بالضبع أخبرته، لقد كان في الغرفة ليلة أمس، سيقابلك لاحقا كما أعلمني.
قال بامتعاض:
- إلى متى إذا.. جميع الطلبة وقعوا حضورهم إلا هو، سأضطر لأصعد إليه بنفسي إن تطلب الأمر.
علقت:
- لن تجده، فهو مرتبط بعمله الآن.
تساءل المشرف باستغراب:
- عمل! أي عمل؟
أجبت بإيجاز:
- وظيفة في إحدى الشركات، هذا كل ما أعرفه.
دعوت في نفسي ألا يقحمني بمزيد من الأسئلة ويهدر وقتي، لكن للأسف تجاوز حده عندما استمر قائلا:
- منذ متى وهو يعمل؟ وماذا عن دراسته؟ ألا يتعارض هذا مع عمله؟
قلت وأنا أصعد بتمهل عتبات السلم:
- صدقني يا أستاذ رحيم لا أعلم عنه أي شيء غير اسمه، وإن كنت لم أره سوي ليلتين فقط.
أومأ المشرف برأسه متفهما:
- لا بأس. أشكرك على كل حال، أعذرني إن كنت استقطعت من وقتلك.
قلت متظاهرا:
- لا أبداً.. لقد سررت فعلا.
قلت في نفسي: سررت! .. هاه.. يا لمجاملاتنا نحن العرب. وهكذا انصرف المشرف وهو ينادي أحد الطلبة ليمارس هوايته المزعجة من جديد على ضحية أخري.
أثناء توجهي إلى الغرفة، انتبهت لأمر هام يتعلق بشأن (عابد حبيب)، وهو ما ذكره الأستاذ (رحيم) لقاء حديثه معي. إذا كان الأخ (عابد) يقضي جل وقته في العمل، متى يجد وقته للدراسة؟ صحيح أن هذه السنة هي الأخيرة بالنسبة لدراسته الجامعية كما سمعت منه، لكن ما عرفته من صاحبي (فواز) أنهما يدرسان معا منذ السنة الأولى، والسنة الحالية تفترض أن تكون الثانية بالنسبة لهما. لا أعلم من الصائب في هذا الأمر، يخامرني الشك بشأن الزميل (عابد)، أحسب أنه يحاول خداعي حتى ينفرد بالغرفة؛ لذلك يدعي أنه في مرحلة التخرج.. ولماذاً يختلق المبررات؟! ألم يكن يتمنى أن يجد من يشاركه الإقامة طالما أنه يعاني من الوحدة على حسب قول (فواز)، تساؤلات، تساؤلات.. ليس هذا الوقت المناسب للتفكير بها، أحاول جاهدا أن أتجنبها.
أدرت المفتاح في مقبض الباب، ثم دلفت إلى غرفتي. خلعت ثوبي وارتديت منامتي، بالتالي ظللت مستلقيا على الفراش سارحا والنوم بالكاد غيبني بعدها.
* * *
عدت من غيبوبتي النومية بعد أن صحوت على أذان العشاء، انصدمت تماما لدی رؤيتي للساعة، أكان نومي ثقيلا حتى هذه اللحظة؟! لم أرد سوى أن أخذ قيلولة فقط، ما كان على أن أتخم معدتي بطعام الغداء، أصابني الضجر فعلا جراء نومي الطويل وفواتي صلاة المغرب.
حملت نفسي على النهوض خارج الغرفة، قابلت جاري (مسعود) الذي كان يهرول على عجل.
حياني قائلا:
- أهلا بالجار، الحق بإدراك الجماعة.
بعد صلاة العشاء نزلت إلى قاعة المطعم، ولم يخف ضجري حتى الآن، اشعر بالخمول فعلا بعد رحلة الفراش تلك. انضم (فواز) إلى المنضدة وأنا لم أبدأ بتناول العشاء بعد، قال (فواز) وهو يجهز طبقه:
- أهلا.. مالي أراك عابساً؟ يبدو أنك لست بمزاج جيد اليوم.
قلت وأنا أغمس قطعة خبز في الزبادي الطازج:
- نعم.. أشعر بالاستياء من نفسي بسبب إضاعة وقتي في النوم، أخشى أن تؤول عادة كما حصل معي سابقا.
انطلقت ضحكة مكتومة من ثغر (فواز):
- ألهذا منزعج!.. ماذا تقول عني؟ لقد نمت فترة أطول منك .. من بعد الظهيرة، لم أستيقظ بعدها إلا قبل نصف ساعة من الآن.
قلت مغمغما:
- يبدو أننا نتشارك في بعض الصفات.. منها الكسل.
قال (فواز) وهو يأكل بروية:
- صدقني سوف تتكيف مع هذا الوضع لاحقا ولن تغدو مشكله بالنسبة لك، ويجب أن أعلمك أن النظام والروتين هنا متقلب طالما أنك بعيد عن الأسرة، ألم تسمع ما يردده البعض حول السكن، إذ خصص لشيئين.. الدراسة والنوم.
قلت بتململ:
- أرجوك لا تخض إلى مثل هذا الحديث.. يكفي ما لاقيته من ترهيب منذ قدومي إلى هنا.
قال وهو يجرع شربة من زجاجة ماء:
- وهل تراني أحاول ترهيبك!.. أبداً، سوف تحب هذا المكان وكذلك الجامعة، ثق بكلامي، سيعز عليك فراق المكان الذي احتضنك لفترة معينة، تعلم.. لا بد من أوقات وذكريات جميلة تقضيها هنا.
هززت رأسي موافقا من مدى شعوري بالارتياح لما ذكره الآن، هذا ما أحب سماعه دوما. بعد قليل أقبل علينا طالب أبيض البشرة مع ميل إلى الحمرة، طويل الوجه، ذو شعر أشقر خفيف، لحيته كثيفة بعض الشيء خاصة عند الذقن، قامته متوسطة الحجم، له هيئة أجنبية، يرتدي جلبابا عربيا. ألقى التحية وبدورنا رددنا عليه التحية.
أشار له (فواز) وهو يرحب به:
- أهلا کلودیان... تفضل انضم إلينا.
أجاب الشاب الذي عرفت اسمه (كلوديان):
- شكراً، إنني على عجلة من أمري.. فقط كنت أود أن أتحدث مع صاحبك هذا إن سمحت لي.
ثم التفت إلي قائلا بعد السلام والسؤال عن الحال:
- سمعت أنك تسكن مع أبن عمي.
تساءلت باستغراب:
– من؟.. أبن عمك!
بادر (فواز) بالإجابة:
- نعم، صاحبك في الغرفة يقربه ابن عمه.
أستأنف (کلودیان):
- اعذرني.. فقد قيل لي بأنه حضر، لكني مررت على غرفته قبل قليل ولم أجده، بل حاولت الاتصال به لكن هاتفه ظل مقطوعا.
قلت:
- لن تجده الآن.. عليك أن تنتظر حتى يعود من عمله.
استغرب قائلاً:
- يعود من عمله!.. أي عمل؟
- لا أعلم، يقول إنه مجرد وظيفة في إحدى الشركات.
أطرق قليلا ثم سألني:
- ومتى يعود من عمله؟
أجبت:
- في المساء، غالبا بعد الساعة العاشرة.
سألني مرة أخرى:
- هل ستنام في هذا الوقت؟ لأنني فكرت بالمجيء إلى غرفتك لكي أقابل ابن عمي، ولا أريد أن أتسبب في إزعاجك.
ضحك (فواز) بخفة وقال بتهكم:
- ينام.. هاه.. لا، لقد شجع من النوم حتى أتخم رأسه.
حدجته بنظرة.. قلت:
- لا أبداً، تفضل في أي وقت تريد .. اعتبرها غرفتك.
قال بوقار:
- جزاك الله خيرا.. إذا سأمر عليك في حوالي الساعة العاشرة إن كنت لا تمانع.
قلت وأنا أهم بالنهوض:
- من حقك أن ترى قريبك، تعال في أي وقت تشاء.
شكرني مرة أخري ثم استأذن بالانصراف.
التفت نحو (فواز) أسأله:
- هل هو أيضا يدرس معك في نفس المجال؟
أجاب نافيا:
- لا.. وإن كان في نفس الكلية، إلا أنه متخصص في علوم الإحصاء.
ثم أردف:
أنصحك بالتعرف عليه، فهو واسع الثقافة، لكنه قليل الكلام.. عكس ابن عمه تماما.
قلت في نفسي.. لقد لمست منه هذا الجانب، إلا أنني لا أرى أي اختلاف بينه وبين ابن عمه، وإن كان الأخير أكثر هدوءا وعصبية جمعة منه.
أوشك وقت العشاء في قاعة الطعام على الانتهاء، لذلك نهضنا منصرفين. اقترح (فواز) أن أخرج معه إلى السوق لشراء بعض الحاجيات، إلا أنني اعتذرت وفضلت تأجيله في يوم أخر، لم أجد نفسي مقبلا على الخروج في هذا الوقت الذي لا يلائم طبيعة المزاج الحاضر، لكن بعد مضي ساعة ندمت فعلًا من رفضي لهذا العرض المقدم، فلم يكن الحال أفضل من بقائي في الغرفة في جو من الملل والضجر الذي اشتد مضجعه على نفسي.
خطر ببالي أن أمارس بعض التمارين الرياضية الخفيفة. منذ فترة طويلة لم أمنح جسمي حقه من النشاط والقوة، بلا شك هو بحاجة ملحة على قدر منها، لا بد أن أعالج الخمول الذي أصاب جسمي وافتك بذهني، تبعًا للمثل السائر (العقل السليم في الجسم السليم).
قمت من أريكتي الدوارة لأهيئ نفسي للبدء...لكن.. من أين؟ وكيف؟ أعتقد انه لا بد من الإحماء أولًا، أعرف بعضًا منها، يمكنني المباشرة بتمارين شد العضلات ومن يوم غد سأشرع في إعداد جدول يومي خاص للتمارين الرياضية.
بعد أن نفذت تمارين الإحماء تمددت بجسدي الأمامي على الأرض، ثم ثبت ذراعي مع راحة يدي على الأرضية متخذًا الوضعية المناسبة استعدادًا لبدء تمرين الضغط، وقبل أن أخوض هذا التمرين دق أحدهم الباب فجأة، مما أفسد وضعيتي.. أحسب أنني اعلم من هو، لقد بلغت الساعة العاشرة، جاء في معاده تمامًا.
هتفت:
- تفضل.
ظل الباب كما هو لم يستجب لندائي، ولدلًا من هذا دق مرة أخرى.. هذا يعني أن علي النهوض وأفتح الباب بنفسي داعيًا من يقف وراءه للدخول، فضيفنا هذا من النوع الذي يستحي أن يدخل مباشرة دون أن يفسح له الدخول.
فتحت الباب، قلت مرحبًا:
- أهلًا كلوديان... تفضل ادخل.
خلع (كلوديان) نعليه ودلف إلى غرفتي، سحبت الأريكة كي أدعوه للجلوس، لكنه ظل واقفًا يمسح بصره أرجاء الغرفة.
قال بإعجاب:
- ما شاء الله.. يا لهذا التنسيق الرائع، هل قمت وحدك بعمل هذا كله؟
في الحقيقة لم أجد بدًا من الكذب، لقد سئمت من سماع ألفاظ مشتقة من مصطلحات الفوضى والإهمال الذي يرمون به زميل الغرفة (عابد حبيب).
أجيب متظاهرًا:
- تعاونا أنا وابن عمك في تحسين مظهر الغرفة.
همهم وقال باسمًا:
- جيد أنك أجبرته على ذلك، وهولا يفقه معنى الترتيب والنظام بتاتًا.
قلت محاولًا تغيير دفة الحديث:
- حسنًا، بما أن ضيف عندي، ما رأيك أن نجلس ونتحاث قليلًا.. هل أقدم لك شيئًا؟ مشروب بارد، شاي، قهوة...
قال بعد أن أجلس أخيرًا على الأريكة:
- شكرًا.. لا داعي لذلك، لم أطيل الجلوس، أنا فقط بانتظار عابد.. لكن لا بأس أحببت أن أتعرف إليك عن قرب خاصة أنك طالب جديد في السكن.
هنا راح (كلوديان) يقدم نفسه لي أولًا، وهو يعرفني بتخصصه الدراسي الذي أمضى فيه لأربع سنوات ولم تبق منه سوى سنة أو فصل واحد للتخرج، ثم حدثني عن أول تجربة دراسة أمضاها في السنة الأولى للجامعة، وكم كانت تجربة شاقة بالنسبة له بسبب ضعفه باللغة العربية لدرجة أنه كاد أن يتخذ قرارًا بالانسحاب، لكنه واصل المشوار دون يأس حتى أزف على التخرج.
حدثني أيضًا عن بلاده وعاداتها وتقاليدها، رغم الفقر الملحوظ هناك إلا أنني بعدما سمعت منه أراها بلاد سياحية جميلة تستحق الزيارة.
قلت لـ(كلوديان) بحماس:
- آمل أن أزور بلادكم يومًا.
عقب ببشاشة:
- على الرحب والسعة.
بالنسبة لي أنا لم يكن لدي ما أقوله سوى أنني في السنة الأولى للجامعة. سألني لم فضلت (قطر) للدراسة في جامعتها رغم أن جامعة البحرين معروفة وذات سمعة طيبة.
أجبته بأني أولًا قدمت هنا بواسطة منحة عن طريق إحدى المؤسسات الخيرية، وهذه فرصة لا يمكن أن أفوتها، ثانيًا قد تكون جامعة بلادي ذات مستوى عال وشهادتها معترفة بها دوليًا. لكنها تفتقد للتخصص والمقومات التي أريدها، ولا أرغب الخوض في هذا، وأخيرًا وليس آخرًا أود بجد أن أخوض وأكتسب الكثير من تجربة الدراسة في الخارج.
أما بشأنه هو فقد أخبرني أنه قدم إلى (قطر) خصيصًا لتعلم اللغة العربية خاصة أن الجامعة توفر منحة دراسية مدتها سنة كاملة لتعلم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ولما أتم هذه السنة، حرصًا على الوقت قرر مباشرة مواصلة الدراسة في جامعة قطر والتخصص في مجال معين.
ظللنا نتحادث دون أن نشعر بالوقت الذي مر عابرًا حتى تجاوز الساعة الحادية عشر والربع، مما انتبه لها (كلوديان) وهو يحدق في ساعته مدهوشًا..
- أوف.. لقد قاربت الساعة الحادية عشر والنصف، الوقت متأخر ولم يأت ابن عمي بعد.
قلت وأنا أنظر إلى الساعة:
- غريب! لقد تأخر فعلًا، لكن ليس لهذا الحد... ربما طرأت عليه بعض الظروف أو ما زال مرتبطًا بعمله إلى الآن، هذا محتمل.
ثم أردفت:
- لا تقلق، سيأتي الآن.
قال (كلوديان):
- سأحاول الاتصال به مرة أخرى، آمل ألا يكون هاتفه مقطوعًا. أخرج هاتفه المحمول من جيبه ليضغط الأرقام بهدوء ثم رفعه إلى أذنيه... وبعد عدة ثوان أعاد هاتفه إلى جيبه.
قال بإحباط:
- ما زال مقطوعًا.. وهذا لا يحدث إلا إن كان بعيدًا عن هنا بأميال، أو هو خارج البلاد مثلًا.
أثارت عبارته استغرابي، قلت:
- ربا لا يستخدم رقم هاتفه الخاص.. أعني ربما قام بتغيير رقمه.
قال وهو يخالفني الرأي:
- لا أعتقد ذلك... ليس من سبب وجيه ليفعله خذا، إلا إذا ألغيت بطاقته ولا أعتقد ذلك أيضًا، لو حصل لاتضح ذلك من خلال الصوت الآلي، لكن تبين لي من محاولة اتصالي به أنه ليس موجودًا حاليًا، وهذا ما بينه الجواب الآلي.
ثم أضاف:
- أظنه لا يقيم في السكن حاليًا، ربما قرر الإقامة خارجًا لفترة مؤقتة لأنني لا أرى أية حقائب تخصه، ولا حتى حقيبة واحدة، باستثناء هذه الحقيبة فوق الدولاب. أحسب أنها لك أليس كذلك؟
هززت رأسي بالإيجاب. فعلًا كيف لم أنتبه لهذا، لا توجد حقيبة واحدة تدل على أنه عاد من السفر، إلا إذا وضعها كلها في دولابه الخاص للملابس وهذا أمر مستبعد، يستحيل إذا أن يسافر خالي الوفاض، لكن من المحتمل أنه يقيم في مكان آخر وقد ترك حقائبه كلها هناك، بالتالي لم يأت إلى هنا سوى الليلتين الماضيتين أو قبلها بليال أخرى حيث لم أكن حاضرًا حينها.
أشار (كلوديان) وهو ينهض:
- أستأذنك الآن.. على الانصراف، لقد أطلت في الجلوس، لكنني سررت بمعرفتك.
قلت مقترحًا:
- ما رأيك لو تجلس دقائق أخرى إضافية، قد يأتي قريبك في أي لحظة.
قال معارضًا:
- حتى لو جاء، أفضل أن أراه في وقت مناسب وليس الآن. إنني متعب.. يستحسن أن أنام في هذه الساعة حتى أستيقظ باكرًا صباح الغد للذهاب إلى الجامعة.
ثم أضاف وهو يخطو نحو الباب:
- أذكرك كثيرًا على حسن ضيافتك. أدعوك لزيارتي في أي وقت تراه مناسبًا، إن شئت يوم غـ..
توقف بغتة عن إتمام عبارته عندما وقع بصره على شيء ما على المكتب الآخر، على تلك الأباجورة بالتحديد. خطا نحو الأباجورة، يتحسسها بعناية.
سألني:
- هل هذه لك؟
- لا، إنها تخص قريبك.. يستخدمها عندما يعود في الليل.
صمت قليلًا وهو يطرق مفكرًا، ثم باح بصوت خفيض:
- كأني رأيت هذه من قبل... هل أخذها من المخزن؟
سألني مضيفًا:
- ولماذا يستعمل هذه. فهي عتيقة ومهترئة... أراها غير صالحة للاستعمال.
هززت كتفي نفيًا، وإن كنت أعلم سبب استعماله للأباجورة. لم أشأ أن أخبره، فكما قلت لا أملك الإجابات على الأسئلة المجهولة، ولا أرغب في سماع المزيد من التساؤلات الملحة. لكن فور انصراف (كلوديان) داهمت ذهني عشرات الأسئلة وهربت مني مئات الأجوبة.
* * *
قبل بلوغ الساعة الواحدة أطفأت المصباح، أحاول إرغام نفسي على النوم، ليس من عادتي أن أظل ساهرًا حتى أواخر الليل، لكن استغراقي في النوم طويلًا معظم النهار كلفني البقاء ساهرًا.
لم يأت زميلي (عابد) حتى الآن، أظنني لن أراه الليلة، إذا من سيوقظني لصلاة الفجر لو نمت الآن؟ سيكبلني السبات بشدة، ولن تفك قيوده إلا بواسطة شخص ما يتسم من الجزم ما يكفي لإيقاظي مرغمًا. أظن الأخ (عابد) يمتاز بهذه الصفة على الرغم من أن علاقتي به غير مستقرة. تذكرت أخي (يعقوب) طلب مني ذات مرة إيقاظه في صباح الجمعة وكنت معتادًا حينها على الاستيقاظ مبكرًا في هذا اليوم، وعندما فعلت قام بتعنيفي.
لا أعلم... لقد أطفأت المصباح... فمن أين يتسرب هذا النور؟!...آه الباب، هناك فرجة، نسيت إغلاقه بعد خروج (كلوديان).
اتجهت نحو الباب لإيصاده... فجأة!.. حدث ما لم أتوقعه، مما سرت بي انتفاضة هلع عندما انفتح الباب على مصراعيه، وأطل شبح شخص بالكاد أعرفه.
قلت وأنا أحاول أن أهدئ من روعي:
- لقد أفزعتني.. لم أتوقعك أبدًا.
اعتذر ببرود وهو يخطو نحو مكتبه:
- آسف..
تطلع إلى مصباح السقف ثم هز رأسه تعبيرًا عن الرضا، بعد ذلك جلس على كرسيه مواجهًا مكتبه، وكعادته فتح الأباجورة ليعكف على قراءة كتابه.
خاطبته وأنا جالس على فراشي:
- لقد أتي ابن عمك كلوديان.. لا أعلم إن كنت قابلته أم لا.
مضت برهة من الصمت حتى أجاب دون أن يلتفت:
- سأراه في وقت لاحق.
مضت لحظة صمت أخرى حتى قلت بجرأة:
- لا أعلم لماذا تصر على تجنب مقابلة أصحابك وخاصة المشرف.. إنهم لا يكفون عن السؤال بشأن غيابك.
رفع رأسه، سألني دون أن يعطني التفاته:
- ألم تخبرهم أنني مرتبط بعملي؟
أجبته:
- بالطبع فعلت.. لكنهم حاصروني بمزيد من الأسئلة عن طبيعة عملك هذا، وقد سبق أن نبهتني بذلك.
ثم أضفت:
- لا أتصور أن ترتبط بعملك كل يوم، لا بد من إجازة أسبوعية رسمية.. أرى أن تخصصها لمقابلة هؤلاء المذكورين.
هنا نقر القلم على سطح المكتب وهو ممتنع عن الكلام، إلا أنه قال بجفاء:
- ماذا تريد مني بالضبط.. هل تملي علي تعليمات لست بحاجة إليها.
ثم أضاف قائلًا بهدوء:
- ما كان عليهم أن يضعوا أحدًا ليقاسمني الغرفة... يكفي ما لدي من مشكلات.
انتبهت لعبارته الأخيرة، بينما راح هو يسهب في كلامه بصوت شجي:
- لا أحبذ أن أفصح عن مشاكلي الخاصة لأحد، لكني آمل أن تتفهمني جيدًا وتراعي مشاعري المحطمة.
إنني أعيش أيامًا عصيبة.. أعاني من ضائقة مالية.. لقد تراكمت على الديون، لذلك لم أستطع تسديد رسوم الدراسة في هذا الفصل، فسعيت للبحث عن وظيفة حتى أتمكن من تسديد ما بقي علي من الديون، بعدها أستأنف دراستي.
ثم أردف بعد هنيهة:
- هل علمت الآن لماذا أحاول أن أتحاشى أصحابي، وبالذات المشرف.. غير مسموح لي بالإقامة هنا، طالما أنني لم أسجل للدراسة في هذا الفصل تبعًا للقوانين.
بينما الدقائق تمر بسرعة متوالية، وبعد أن أصغيت بما حادثني به من معاناته الشخصية، وجدت صدري يتسع، وقلبي يرأف لحال زميلي هذا.
قلت محاولًا التخفيف عن كربته:
- ما رأيك لو أحدث أصحابك المقربين عن ظروفك، ربما بمقدورهم مساعدتك.. وأنا أيضًا سأحاول أن أساعدك قدر استطاعتي.
رد على اقتراحي باعتراض شديد:
- لا.. لا تفعل، لا أريد أن يعلم أحد بأمري، اعتبر ما قلته لك الآن سرًا أأتمنه عليك. ستنفرج الأمور، نعم ستنفرج، فقط أرجوك لا تخبر أحدًا بما بحتك به. وإذا سأل أحد عني، أخبره أنني غادرت قطر وعدت إلى بلدي دون أن توضح لهم التفاصيل.. هل نفهم.
أومأت برأسي مستجيبًا، بعد بضع لحظات تهادى إلى أسماعنا صوت آذان الفجر، استأذن (عابد) وخرج فورًا من الغرفة، بينما أنا غيرت منامتي وارتديت ثوبي لأقصد المسجد.
* * *
- غادر قطر!.. كيف هذا؟!
صعق (فواز) لدى سماعة نبأ رحيل (عابد).
أجبته بصوت خفيض نظرًا لوجودنا في المسجد:
- لا أعلم، أظنه غادرها لظروف طارئة لم يفصح عنها.
سألني:
- هل سيعود؟ ومتى؟
أجبته بتبرم:
- لا أدري.
أطرق (فواز) مفكرًا، ثم همهم وقال:
- للأسف، كنت بأمس الحاجة إليه لأستشيره في أمور مهمة...لكن لا بأس أعرف آخرين يمكنهم توجيهي.
بعد ذلك انضم إلينا (مسعود)، سألنا وهو يجلس بجواري:
- ها، هل من أخبار جديدة؟
تكفل (فواز) بالإجابة التي لم أكن أرغب أن يفصح عنها:
- لقد غادر عابد قطر.
وكما هو متوقع فقد اتسعت عينا (مسعود) وقال بعجب:
- غادر!...ماذا تقصد؟
رد (فواز):
- لا أعلم؟ اسأله هو..
تطلع إلي (مسعود) بترقب، متوقعًا مني توضيح الأمر.
قلت باقتضاب:
- ظروف خاصة... أجبرته على المغادرة، ربما يعود منها أو لا يعود.
علق (مسعود) قائلًا:
- هذا غريب فعلًا!. لقد جاء إلى هنا من دون أن نلقاه، ودون أي علم مسبق.. والآن يغادرنا من غير أن يخبرنا بنفسه، حتى أنه لم يمر على غرفتي ليودعني بصفتي جاره منذ أن قدم أول مرة إلى السكن، بل إنه لم يعلمني بوجوده منذ بداية الفصل.
ثم أردف:
- هل تعلم.. هذا مريب فعلًا.
عقبت قائلًا بشيء من الاضطراب:
- ظروف خاصة.. لقد نوهت بهذا.
نهض (فواز) وهو ينبهنا:
- لنخرج الآن، فالمؤذن على وشك إغلاق المسجد.
حقيقة.. أثار ما قاله (مسعود) الآن انتباهي، مما تولد لدي هاجس غريب. لماذا يرفض الزميل (عابد) تقديم يد المساعدة من أحد؟! بل لماذا لا يريد أن يعرف أحد بشأن مشاكله وظروفه الخاصة؟! والأمر الآخر الذي لم أنتبه إليه من قبل.. لماذا أوصاني أن أشيع خبر رحيله عن هذا المكان؟!
* * *
بقي بضع دقائق فقط، ارتديت ثوبي على عجل، حملت حقيبتي الجامعية وأنا أهم بإغلاق الباب، إلا أن ثمة ما استوقفني وجذب انتباهي على ذلك المكتب.. إنها مفكرة (عابد)، لقد نسي أخذها.. مرة أخرى الشيطان يعبث برأسي مجددًا، لا.. لا يمكنني فعل هذا.. لن أعبث في ما لا يخصني، هذا غير صائب.. لكن مجرد نظرة فقط.. والباص!.. أمامك خمس دقائق، الوقت متسع.. يمكنك اللحاق بالحافلة في أقل من دقيقة.. إمممم.. معك حق.
خطوت نحو مكتب (عابد) ترددت بعض الشيء.. ثم التقطت المفكرة أتفحصها.. إنها متوسطة الحجم.. غريب! تبدو مهترئة، وأوراقها بالية أيضًا تنبعث منها رائحة عطنة.. حاذر من ألا تتمزق.. تصفحت المفكرة بمهل... رموز وعمليات حسابية، ومسائل ونظريات معقدة؛ منها نظرية فيثاغورث، وخطوط غير منسقة.. لا أفهم.. كل هذا يتعلق بتخصص علوم الرياضيات، أتراه يدرس هذا المجال، أو ربما المادة.
أغلقت المفكرة... ماذا؟!.. (مصطفى يوسف) من يكون هذا؟! دققت النظر في الملصق الظاهر على غلاف المفكرة، حيث يحمل الاسم. قد يكون زميله أو قريبه، أو معلمه ربما، أو أي أحد حتى.. حسنًا يكفي هذا الآن، سأترك المفكرة في مكانها، ولأسرع لألحق بالحافلة.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا