2. حالة "كاثرين ماري نايت":
في نهاية بارد لأحد أيام فبراير عام 2000م؛ اضطر رجال الشرطة أن يقتحموا منزل السيد "جون برايس John Charles Thomas Price" في "نيو ساوث ويلز" بأستراليا، بناء على بلاغ من أحد جيرانه يؤكد أنه لم يره هذا الصباح، انضم إليه بلاغ آخر لأحد زملائه في العمل، بأنه لم يحضر إلى عمله صباح اليوم.
ومن المؤكد أن المشهد الذي اصطدم به رجال الشرطة في منزل "جون"، لن يفارق أذهانهم بسهولة ما بقي لهم من عمر.
لقد كان "جون" مقتولاً، وقد سُلخ جلده بالكامل، وفصل رأسه وأطرافه عن جسده بأسلوب بشع رهيب، إلا أن ذلك لم يكن هو ما هالهم، فقد رأوا ذلك كثيراً في حياتهم المهنية.
الجديد أن رأس "جون" كان في إناء الطهي في المطبخ، يغلي مع الجزر والبطاطس؛ بالإضافة إلى أجزاء أخرى من جسده، نضجت بالفعل، وتم تقديمها في أطباق مع الحساء والخضراوات، على مائدة الطعام، وأمام كل طبق، وضعت ورقة صغيرة باسم كل طفل من أطفال "جون" لترشده إلى طبقة الذي سيتناوله على الغداء!!
كانت الجريمة بشعة وصادمة للغاية، وحاول الكثيرون أن يقفوا على أسبابها، وأن يكشفوا القاتل، الذي ضاعف ذهولهم عندما اتضح لهم أنها سيدة تدعى "كاثرين نايت Katherine Mary Knight".
ولكن ما الذي حدث بالضبط؟
إن معرفة لغز جريمة "جون برايس" وحالة "كاثرين نايت" يتطلب منا أن نرجع إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى الرابع والعشرين من أكتوبر من العام 1955م.
ففي هذا التاريخ ولدت "كاثرين نايت" في مدينة أبردين؛ نيو ساوث ويلز؛ لأم ترعى أسرة تبدو عادية، لكنها مفككة، فقد كانت أمها "باربرا روان Barbara Roughan" قد أنجبت من زوجها "جاك روان Jack Roughan" أربعة أبناء، قبل أن تبدأ في علاقة محرمة مع زميله في العمل "كين نايت Ken Knight".
ولأن أبردين مدينة صغيرة تعدادها لم يتجاوز آنذاك 1000 نسمة، فإن فضيحة "باربرا" و"كين" كانت مدوية؛ مما اضطرها إلى الهرب وترك المدينة إلى مدينة أخرى، وتركت أبناءها الأربعة لزوجها؛ حيث احتفظ بالولدين الأكبر سناً، وأرسل الطفلين الصغيرين إلى عمتهما في سيدني، كونهما بحاجة إلى رعاية امرأة.
هربت "باربرا" مع "كين" وأنجبت له أربعة أطفال آخرين، بينهم طفلتان توءم، إحداهما "كاثرين".
مرت سنوات على تلك الفضيحة، وطواها النسيان بالنسبة للكثيرين؛ حتى توفى زوج "باربرا" الأصلي "جاك روان"، وانتقل الولدان اللذان كان يرعاهما للعيش مع أمهما وزوجها "كين".
لم يكن "كين" أباً حنوناً بأية حال من الأحوال، بل كان سِكيراً عنيفاً، دائماً ما يضرب "باربرا" أمام الأطفال، ثم وصل به الأمر إلى الاعتداء عليها جنسياً، ومناقشة حياتهما الجنسية وعلاقتهما الحميمة علناً أمام الأولاد. الأمر الذي جعل الأولاد في الأسرة في حالة غير طبيعية ولا متزنة، وقاموا بالاعتداء على "كاثرين" وشقيقتها مرات عدة قبل أن تبلغ عامها الحادي عشر.
والأسوأ؛ أن جدة "كاثرين" لأمها كانت تشجع ذلك السلوك، باعتبار أن ذلك يحافظ على دم الأسرة الأسترالي النقي...!
لم تكن الفترة الزمنية سهلة، بل كانت الممارسات العنصرية من وضد السكان الأصليين في كل مكان، وبالتالي لم تكن "كاترين" قادرة على البوح بمعاناتها القاسية كطفلة سوى لخالها بطل الفروسية، الوحيد المتزن في هذه الأسرة الغريبة، السيد "أوسكار نايت"؛ هو من استمع إليها كثيراً وحاول مساعدتها كثيراً، لكنه عجز عن ذلك، وعبر الوقت، حاصره شعور قاتل بالفشل، فانتهى الأمر بانتحاره سنة 1969م.
يرى بعض الخبراء أن انتخار الخال "أوسكار" كان نقطة محورية خطيرة في حالة "كاثرين نايت"، فقد شعرت أن كل رجل قابلته في حياتها إمَّا أذاها أو تخلى عنها.
على أية حال، كان انتحار "أوسكار" مؤلماً للأسرة كلها، ودأبت "باربرا" على القول إن شبح أخيها يجول في المنزل ليلاً، وأنه زارها وحادثها مرات عدة.
عادت الأسرة إلى أبردين في العام نفسه، والتحقت "كاثرين" بالمدرسة، كانت طفلة منطوية صموت، لكن سجلها الدراسي أشار إلى قيامها باعتداءات لا حصر لها على الأطفال الآخرين، خاصة الأولاد ممن هم أضعف منها، فقد نشأت على أنه لا بأس من إيذاء الأضعف. كانت عنيفة للغاية، وتستعمل أي شيء يقع في طريقها من الأقلام أو العصى أو الأحجار كسلاح مرتجل.
لم يفهم أحد سر تحول "إليزابيث" المفاجئ بعد ذلك إلى طفلة هادئة مجتهدة حسنة السلوك، بعد عام كامل من العنف الذي مارسته بلا تردد على رفقاء المدرسة، لكن التحول كان مريحاً للجميع، لدرجة أن أساتذتها لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث عن سببه، وبدا لهم أن "كاثرين" المتنمرة العنيفة قد اختفت للأبد، وحلت محلها "إليزابيث" جديدة طيبة.
صحيح أنها طالبة فاشلة، على الرغم من اجتهادها ومحاولاتها المستمرة، فلم تكن جيدة التحصيل، لكن كان لا يمر شهر دن أن تحصل على شهادة تقدير لحسن سلوكها.
تسبب فشل "كاثرين" الدراسي في تركها للمدرسة في سن الخامسة عشرة، دون أن تتعلم القراءة والكتابة، والتحقت بعمل يدوي بسيط في محل ملابس، لم تلبث أن تركته بعد عام، لتلتحق بما سمّته "وظيفة أحلامها" مساعد جزار في مجزر البلدة.
برعت "كاثرين" في عملها الجديد بشدة، لدرجة أنها ترقّت بعد شهرين، وسمح لها المجزر باقتناء مجموعة سكاكين جزارة باقتناء مجموعة سكاكين جزارة خاصة بها، تعود بها إلى منزلها بعد انتهاء ورديتها.
كانت "كاثرين" تعلق هذه السكاكين فوق فراشها دائماً، وهي عادة غريبة علقت عليها مرات عدة بقولها: "كي يكونوا في متناول يدي إذا استدعى الأمر". وظلت هذه العادة الغريبة تلازمها طيلة حياتها.
مع مطلع 1973م، كانت "كاثرين" قد استقرت في منزل يخصها وبدأت حياة جديدة مستقلة. لم تكن حياة "كاثرين" الجديدة سيئة، فقد كانت تمارس وظيفة تحبها، وتنطلق إلى الحانة في البلدة لتقضى وقتاً ممتعاً وتنفق ما تريد بلا مسؤوليات، لكنها كانت حياة خشنة جافة أقرب لحياة الرجال، وقد تم القبض على "كاثرين" مرات عدة بسبب مشاجرات في الحانة؛ حيث كانت تشتبك مع الرجال هناك في أي وقت، وكانت تتحدى أي رجل يضايقها أن يواجهها بالقبضات العارية "رجل لرجل" في أي وقت. وكانت كثيراً ما تتدخل في مشاجرات لصالح أحد زملائها بالمجزر والزبون السكير الدائم بالحانة، "ديفيد كيلت David Kellett".
لم يمر وقت طويل حتى كان "ديفيد" تحت سيطرة "كاثرين" بالكامل، فكانت تتحكم في كل شؤون حياته حتى وهي بعيدة عنه، وكانت علاقتهما معكوسة إلى حد كبير، فكان يبدو "ديفيد" كامرأة ضعيفة مهيضة الجناح في كنف رجل قوي هو "كاثرين"، وكان من المعتاد أن تصطحبه إلى الحانة وتدخل في مشاجرات مع رجال آخرين وتصرعهم بقبضاتها العارية إذا ضايقوه أو ضايقوها.
لم يمر عام واحد على تلك العلاقة المعقدة الغريبة، حتى أمرته "كاثرين" أن يتزوجها، وهو ما فعله "ديفيد" صاغراً بالفعل في العام نفسه؛ 1974م، في حفل عائلي، نصحته فيه "باربرا" أم "كاثرين" أن يطيع زوجته بلا تردد، وألا يحاول مضايقتها أو خيانتها على الإطلاق، لأن "كاثرين" ليست طبيعية ولا تتقبل أن يضايقها أحد، ويمكنها أن تقتله دون أن يطرف لها جفن".
انتهى الحفل، واصطحبت "كاثرين" زوجها على دراجتها النارية إلى منزلها وهو فاقد الوعي تقريباً من فرط الشراب، وفيما بعد اعترفت أنها حاولت خنقه بحبل، لأنه خلد للنوم بعد ساعتين فقط قضياها معاً!!
كان "ديفيد" سكيراً ضعيفاً كما ذكرنا، وكانت "كاثرين" شرسة للغاية قوية البنية شديدة المراس، وعلى الرغم من أنها كانت تؤمّن له الحماية والرعاية الدائمتين وتغسل له ملابسه وتطهو طعامه وتدافع عنه ضد من يضايقه، فإنها كانت تعتدى عليه بالضرب أغلب الوقت وتجبره على تنفيذ أوامرها مهما بدت غريبة أو غير منطقية. ويبدو أن هذه الزيجة "السعيدة" كانت محاولة لا واعية من "كاثرين" للانتقام من "كين"، زوج أمها، أو الانتقام من الرجال جميعاً، في شخص زوجها الجديد البائس.
في إحدى المرات هشمت "كاثرين" رأس زوجها بمقلاة، ودفعته لأن يهرب بجمجمة مكسورة ووجه غارف في الدم خوفاً على حياته حتى أقرب جار، وهناك فقد وعيه بينما جاره يتصل بالشرطة. وكادت الشرطة تلقى القبض عليها فعلاً، لولا أن طلبت "كاثرين" من زوجها أن يتنازل عن البلاغ، خاصة أنها حامل بابنتهما الأولى، مما دفع "ديفيد" إلى إسقاط التهم ضدها.
يبدو أن هذه الإصابة كانت محورية في حياة "ديفيد" مع "كاثرين"، لأنها جعلته يقلع عن الشراب، وأصبح أكثر إدراكاً ووعياً، وفهم أنه لا يمكنه أن يحيا بهذا الشكل.
بمجرد أن وضعت "كاثرين" طفلتهما "ميليسا"، وبعد أن اطمأن "ديفيد" عليها وعلى الطفلة، جمع ملابسه ذات ليلة، وانطلق هارباً مع امرأة أخرى خارج المدينة.
بحثت "كاثرين" عن زوجها كثيراً دون جدوى، إلى أن شاهدها رجلا شرطة وهي تركل عربة الأطفال التي تحوى ابنتها في الشارع في غضب مجنون، غير مكترثة بالطفلة داخلها؛ فألقيا القبض عليها، وتم إيداعها مستشفى "سانت إلمو"؛ حيث تم تشخيص حالتها بـ "اكتئاب ما بعد الولادة"، والذي يصيب ما بين عشر إلى خمس عشرة امرأة من كل مائة امرأة تضع طفلاً في العالم.
بعد خروج "كاثرين" من المشفى، حملت طفلتها واتجهت إلى شريط القطار الذي يمر بالمدينة وتركت طفلتها على قضبان القطار، ثم انصرفت في هدوء عائدة إلى البلدة؛ حيث أخذت فأساً واتجهت للحانة واتخذت زبائنها كرهائن، مهددة بقتل كل الموجودين فيها.
لحسن الحظ، شاهد الطفلة ذات الستين يوماً، رجل فقير طاعن في السن يدعى "العم تيد"، كان يسعى في المنطقة بحثاً عن ثمار يلتقطها أو دجاجة برية يصطادها، عندما شاهد، في هلع، الطفلة فوق شريط القطار، وأدار عينيه المرتاعتين إلى الأفق ليرى القطار مقبلاً.
أنقذ "العم تيد" الطفلة في اللحظات الأخيرة، وعاد بها إلى البلدة؛ حيث سلمها إلى الشرطة، التي ألقت القبض على "كاثرين" للمرة الثانية وعادت إلى مستشفى "سانت إلمو"، ولكن الأطباء أعلنوا أنها بحالة جيدة وخرجت في اليوم التالي.
مرت أيام على تلك الواقعة، قضتها "كاثرين" في البحث عن زوجها "ديفيد" ومحاولة الوصول إلى مكانه، حتى عرفت أنه استقر مع صديقته الجديدة في "كوينزلاند" بمنزل والدته. لم تكذب "كاثرين" خبراً، والتقطت سكاكينها الحادة وانطلقت خلف زوجها الهارب.
أثناء سفرها بدراجتها النارية، توقفت في محطة وقود، وقدمت لعامل إصلاح السيارات بالمحطة صورة زوجها، وسألته عما إذا كان قد مر من هنا، فأجابها أنه رآه وقام بإصلاح سيارته كذلك، وعليه قررت "كاثرين" قتل ذلك الميكانيكي، على اعتبار أنه –بطريق غير مباشر- ساعد زوجها على الهرب!!
استطاع الميكانيكي النجاة بحياته والاتصال بالشرطة، التي ما إن حضرت، حتى كانت "كاثرين" تضع نصل سكينها على عنق صبي صغير صادف وجوده بمحطة الوقود؛ اتخذته رهينة.
استطاعت الشرطة تخليص الصبي والقبض عليها، وتم إيداعها مصحة عقلية، حيث قضت عشرة أيام، وعندئذ انهارت "كاثرين" للمرة الأولى وشعرت أنها وحيدة، وحكت قصة حياتها للممرضة، التي أرسلت خطاباً طويلاً إلى "ديفيد كيلت" زوج "كاثرين"، تخبره فيه أنها بحاجة إليه.
الغريب أنه ما إن وصل الخطاب إلى "ديفيد"، حتى قرر ترك صديقته، والعودة مع أمه إلى أبردين للعناية بـ "كاثرين".
ومن الغريب كذلك، أنه في وجود "ديفيد" بدأت حالة "كاثرين" في التحسن، حتى سمح لها الأطباء بالخروج في أحد أيام أغسطس سنة 1976م، تحت رعاية حماتها، وببطء بدأت المياه تعود إلى مجاريها؛ فأنجبت "كاثرين" من "ديفيد" طفلة أخرى سمّتها "ناتاشا"، وعاشت مع زوجها في هدوء بلا مشكلات أو عنف.
لكن "كاثرين" لم تلبث أن غادرت فجأة بلا سابق إنذار إلى منزل أهلها في 1984م، وراحت تعمل في محل للجزارة، ثم تركتهم إلى "ماسويل بروك"؛ حيث استأجرت منزلاً هناك، واستطاعت أن تجد سبيلاً تعود به إلى عملها القديم في المجزر، قبل أن تصاب بانزلاق غضروفي، منعها من حمل أوعية اللحم أو أعضاء الماشية التي تقوم بتقطيعها بالمجزر، إضافة إلى عدم قدرتها على الوقوف لوقت طويل؛ فحصلت على إعانة من الحكومة، بالإضافة إلى سكن مجاني في إبردين؛ كونها عاجزة عن العمل.
بعد قليل، تعرفت "كاثرين" على رجل آخر، "ديفيد" جديد غير زوجها، هو "ديفيد ساندرز"، الذي انتقل للعيش معها هي وابنتيها، وعلى الرغم من أن "كاثرين" كانت لا تعتدي على "ديفيد" جسدياً، فإنها كثيراً ما طردته، وكان يعود وقتئذ إلى بيته القديم، فتلين "كاثرين" وتستعطفه وتطلب منه العودة.
وكان "ساندرز" يمتلك كلبين، ذكراً وأنثى، وذات يوم أخفت "كاثرين" الأنثى بعيداً، ثم أحضرت للطلب أنثى جديدة. ما إن بدأ يقترب منها في حذر ويشممها في تساؤل؛ حتى ذبحته "كاثرين" بسكينها أمام "ساندرز"، فقط لتضرب له مثالاً عمّا يمكن أن يصيبه إذا فكر في النظر لأخرى، قبل أن تنقض على "ساندرز" بلا سبب وتضربه على رأسه بمقلاة معدنية وتفقده الوعي.
وضعت "كاثرين" طفلتها الجديدة من "ساندرز"، وأطلقا عليها اسم "سارة"، ومع ميلاد "سارة"، بدأت "كاثرين" في تزيين المنزل بجلود وجماجم وقرون وعظام الحيوانات. وقد ضاق "ساندرز" ذرعاً بذلك، فلم يعد في السقف أو الحوائط مكان لا تغطيه قرون الحيوانات وجماجمها أو السيوف والخطاطيف، وبعد مشاجرة مع "كاثرين" حول هذا الموضوع، ضربته بالمكواة في وجهه ثم طعنته بالمقص.
لحسن حظ "ساندرز" لم تكن إصابته قاتلة، لذا فقد حصل على إجازة طويلة بلا أجر من عمله، وجمع ملابسه وغادر إلى مكان مجهول. حاولت "كاثرين" كثيراً إلى الوصول إلى مكانه بلا جدوى، حتى شعر بالحنين يوماً لرؤية ابنته فعاد إلى منزلها؛ فوجد أن "كاثرين" قد استصدرت ضده أمراً بعدم التعرض، بعدما أبلغت الشرطة أنه كان يضربها.
وعام 1990م، كانت "كاثرين" تضع مولودها الجديد "إريك" من صديقها الجديد كذلك وزميلها السابق بالمجزر "جون شيلينجورث"، الذي كان أوفر أصدقائها حظاً، فقد قضت معه ثلاث سنوات هادئة، قبل أن تطرده من أجل صديقها الجديد، الذي بدأت به قصتنا.
"جون برايس" ...
"جون برايس" كان رجلاً أرمل في الأربعين، له ثلاثة أطفال، ظريف مرح للغاية، تسبقه سمعته كشخص محبوب من كل معارفه تقريباً. وعلى الرغم من أنه كان على علم تام بماضي "كاثرين" وطباعها العنيفة؛ فإنه وقع في حبها، وانتقلت للعيش معه في منزله سنة 1995م؛ حيث أحبها أطفاله كذلك. وفيما عدا بعض الخلافات البسيطة مع "كاثرين"، كانت حياتهما معاً هادئة جميلة في السنوات الثلاث الأولى.
كان "برايس" رجلاً متعدد المواهب، يعرف كيف يحصل على المال بالطرق الشرعية، وكان يلتقط الخردة وبعض الأشياء التي يراها ذات قيمة من ساحة نفايات الشركة التي يعمل بها ويعيد بيعها.
وإثر مشاجرة مع "كاثرين" ذات يوم، لأنه رفض مرة أخرى عرضها المتكرر بالزواج، قامت بتصوير بعض هذه الأشياء في منزله وأرسلتها إلى شركته باعتباره قد سرقها من محل عمله.
وعلى الرغم من أن "برايس" لم يكن قد سرق هذه الأشياء التي يتجر بها من مقر عمله؛ فإن لوائح شركته كانت تمنع أي موظف لديها أن يباشر عملاً مستقلاً خلال مدة وظيفته بها، وعليه، فقد تم طرد "برايس" من وظيفته التي ظل يشغلها ويترقى فيها منذ سبعة عشر عاماً. وبسبب تلك الواقعة، وفي اليوم نفسه، عاد "برايس" إلى منزله وطرد "كاثرين" شر طرده.
لم يمر وقت طويل؛ حتى استقر "برايس" المجتهد المحبوب في عمل جديد بالبلدة، وبدأت حياته تنتظم مرة أخرى.
وعلى الرغم من أن "كاثرين" ظلت تستعطف "برايس" لفترة طويلة، لكنه رفض العودة إليها، ولما يئست من محاولات استعطافه، انتقلت إلى المرحلة التالية، فبدأت في تهديده، ثم شرعت في تنفيذ تهديدها، حتى إنها زارته مرة، وقامت بجرحه في صدره بسكين؛ مما اضطره في التاسع والعشرين من فبراير سنة 2000م، إلى استصدار أمر بعدم التعرض ضد "إليزابيث"، ثم أودع أطفاله منزل أحد جيرانه كي يكونوا في أمان حتى يطمئن إلى ابتعاد "كاثرين" عن حياته، وعاد إلى منزله، وقد ألهب التوتر أعصابه، وغاب في نوم عميق.
وفي منتصف الليل، استيقظ "برايس" على صوت غرفة نومه، وفتح عينيه ليرى "كاثرين" خارجة من الحمام وقد أخذت حماماً منعشاً، ومشطت شرعها، وتعطرت بالعطر الذي يحبه، وما أن جلس في الفراش، حتى جلست بجانبه، وأبرزت له كاميرا تسجيل فيديو، التقطت عليها مسبقاً مجموعة من أجمل لحظاتهما معاً، وانتهت هذه الجلسة الحارة بـ "برايس" ملتهب الأعصاب، وقد استرخى في أحضانها، حيث قضيا الليلة كحبيبين يلتقيان بعد غياب طال.
وفي السادسة من صباح اليوم التالي، لاحظ أحد الجيران أن سيارة "برايس" لم تغادر، مما يعنى أنه لم يذهب إلى العمل. وكان يعرف مشكلاته مع "كاثرين" جيداً، فاتصل به في منزله دون أن يجد رداً، فعاد واتصل بمقر عمله فأخبروه أنه لم يحضر.
ذهب الجار ليطرق باب "برايس"، لكنه فوجئ ببقع الدم تغرق مدخل المنزل من الخارج، مما دفع الجار للاتصال بالشرطة التي وصلت في الثامنة صباحاً، واقتحمت المكان وأصابتهم صدمة هائلة مما شاهدوه!!
اتصل رجال الشرطة برجال الطب الشرعي الذين وصلوا إلى مسرح الجريمة، ورأوا ما رأيناه معاً في بداية قصتنا.
وعلى الرغم من بشاعة الموقف، فقد أخذ المحققون ورجال الطب الشرعي يعملون .. وبدا لهم أن عملية القتل بدأت أثناء نوم "برايس"، وأنه استيقظ وشرع في الهرب، ولكن "كاثرين" طاردته ودار بينهما صراع محدود انتهى بانتصارها ونجاحها في أن تجذبه للداخل بعدما وصل إلى الباب وخرج بالفعل، مما أوجد بقع الدم التي رآها الجار.
لقد طعنت "كاثرين" ضحيتها أكثر من سبع وثلاثين طعنة، وبعدما أسلم الروح، بدأت المجزرة الرهيبة؛ فسلخت جلده وعلقته في غرفة المعيشة، ثم قامت بتقطيع لحمه وطهي أجزاء منه للأطفال، كي يتناولوها وقت عودتهم إلى المنزل!!
ومع جمع الأدلة، وجدوا ملاحظة بخط "كاثرين" على صورة لـ "برايس" كتبتها بيد دامية، تشير فيها إلى أن هذا هو جزاء "برايس" على اغتصابه لطفلتها مرات عدة، وهو ما وجده الطبيب الشرعي غير صحيح على الإطلاق، فبعد فحص الطفلة، اتضح أنه لم يسبق تعرضها لأي اغتصاب أو تحرش من أي نوع.
كانت الجريمة في غاية البشاعة ودويها هائلاً، ومصير "كاثرين" بعد القبض عليها؛ قُضي عليها بالسجن مدى الحياة في الثامن من نوفمبر 2001م، وهي أول امرأة في تاريخ استراليا يُقضى عليها بهذا الحكم القاسي.
انتهت القصة عند هذا الحد، ومازالت "كاثرين نايت" تقضي عقوبتها حتى لحظة كتابة هذه السطور، وإن اعتُبرت كنزاً للباحثين والخبراء وعلماء النفس، الذين رأوا أن "كاثرين" تمثل حالة متقدمة من "اضطراب الشخصية الحدية بّىردِرلينِ پِرسىناليتئ ديسىردِر).
إن العنصر الرئيسي في هذا النوع من الاضطراب هو الخوف الشديد من الهجران والوحدة، إلى درجة تفسد حياة وتقلب مشاعره رأساً على عقب، وقد تدمر حياته بلا مبالغة.
المصابون بهذا النوع من الاضطراب غالباً ما يكونون متطرفين للغاية في مشاعرهم، فهم إمَّا أن يجعلوا من المرء ملاكاً إذا أحبوه أو شيطاناً إذا رأوا منه ما يضايقهم، ويقنعون بذلك بشدة ولا يمكن تغيير رأيهم. وقد يتولد لديهم شعور غير منطقي بالتفوق "يمكنني فعل ما أريد وقتما أريد دون خشية أية نتيجة"، وهذا يجعلهم شديدي الخطورة، ويجنحون إلى العنف، مع اندفاعهم وعدم تقييمهم الصائب لعواقب الأمور.
الأسوأ من ذلك أن المصابين باضطراب الشخصية الحدية؛ لا يتعلمون من تجاربهم، ويكررون أخطاءهم مرة تلو الخرى، ويتطرقون في مشاعرهم واندفاعهم العنيف في كل مرة. والمشكلة الحقيقية أنهم يرون أنفسهم طبيعيين، ويرون أن تصرفاتهم تصرفات عادية، صالحة، عاقلة.
ومثل أي مرض آخر، تزداد أعراض هذا الاضطراب سوءاً في حال عدم علاجها مبكراً.
صورة
"كاثرين نايت" مع ضحيتها الأخيرة "جون برايس"
لهذا النوع من الاضطراب أسباب كثيرة، من بينها التجارب السيئة في مرحلة الطفولة، الأمر الذي يذكرنا جميعاً بتلك الخبرات المروعة التي مرت بها "كاثرين" في طفولتها ومررنا بها أثناء استعراض قصتها من انتهاك وعنف وتحرش وإهمال.
يضعنا ذلك أمام معضلة اخلاقية أخرى، ولعل القارئ –بعد استعراض طفولتها وماضيها- يتساءل؛ عما إذا كانت "كاثرين" مجرمة عتيدة الإجرام، أم ضحية أخرى مثل ضحاياها بالضبط؟؟ مع اختلاف الأسباب.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا