يا بعده 10 للكاتبة علياء الكاظمي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-08-12

(50)

لا زلت حية

كان الشتاء في ذلك العام بارداً جداً. ورغم أننا في شهر مارس إلا أن البرد لا يزال قارساً.

ارتديت ثيابي ذلك الصباح، وبدوت أنيقة ورشيقة جداً بعد أن فقدت وزني الزائد قبل عام، ووضعت زينة صباحية خفيفة وتوجهت إلى الجامعة حيث أعمل كمعيدة للتمويل منذ تخرجي.

دخلت الجامعة وأنا مبتسمة، وتذكرت أيامي فيها كطالبة، اتصلت بشريفة التي ردت بصوت نائم فقلت ضاحكة: ألم تلدي بعد؟ قلت إنك ذهبت البارحة إلى البحر لتمشي على الرمل.

قالت شريفة: هذا الطفل العنيد لا يريد أن يخرج من بطني.

ضحكت على كلامها وأوصيتها بالاتصال بي فوراً إذا جاءها المخاض فأنا أحب أن أحضر ولادة طفلها الأول.

لم تكن شريفة تعمل فزوجها محمد اشترط عليها البقاء في البيت عندما تقدم لها، وهو طبيب مرموق ولديه عيادة ناجحة، ويحب أن تتفرغ له زوجته في الأوقات التي يقضيها في المنزل رغم أنه رجل مشغول على الدوام.

ذهبت إلى مكتبي الأنيق الصغير، وجلست أحضر لمحاضرتي وأراجع التمارين التي سأقوم بشرحها للطلبة حسب طلب الدكتور خالد الذي أصبحت أعمل معه.

مددت يدي إلى الرزنامة الموضوعة على المكتب ونزعت ورقة تاريخ الأمس، ابتسمت وأنا أقرأ تاريخ اليوم. 21 مارس. إنه يوم عيد الأم.

بقيت في مكتبي إلى أن حان وقت محاضرتي فألقيتها بتركيز كعادتي، أجبت على أسئلة الطلبة برحابة صدر واهتمام. كانوا مقربين مني جميعاً، فأنا أصغر معيدة في الكلية لذلك يشعرون بالتقارب نحوي وكأنني زميلة لهم، لكن تسبقهم بمراحل.

ذهبت إلى الدكتور خالد بعد المحاضرة وأخبرته أنني حللت مع طلبته جميع التمارين المطلوبة،

ابتسم لي بلطف وقال: ممتاز. لا تعرفين كم يحبونك، أحياناً يخبرونني أنهم يفهمون ما تقولين أكثر من ما أقوله أنا.

قلت ضاحكة: ذلك مستحيل. فأنت أستاذي أولاً وأخيراً، وكل ما أعرفه تعلمته منك أنت.

ضحك الدكتور خالد وقلت له بعدها: دكتور، أريد الاستئذان منك لأخرج الآن. لدي أعمال كثيرة اليوم.

قال: كنت أحب أ، أعطيك الامتحان القصير الذي أجريته بالأمس لتصحيحه.

قلت بسرعة: سأخذه معي إلى البيت وأسهر على تصحيحه، تعرف أن اليوم عيد الأم، وأريد شراء بعض الحاجيات لأمي وجدتي.

ابتسم وهو يقول: فهمت. تفضلي. في هذا الظرف أوراق الامتحان. تستطيعين الذهاب الآن. وكل عام وأمك وجدتك بخير.

كنت أعرف أن الدكتور خالد وحيد أمه ولديه ثلاث أخوات متزوجات. عرفت تلك المعلومات منه في أحد الأيام وبالصدفة خلال حديثه عن عائلته.

توجهت إلى محل الحلويات واستلمت طلبي منهم، ثم توجهت إلى محل الزهور استلمت طلبي منهم أيضاً.

اتصلت بدلال وردت على الفور، سألتها إن كانت قد خرجت من دوامها فقالت أنها فعلت وستأتي للغداء في منزل جدتي كما اتفقنا،

وأوصيتها بالتأكيد على تهاني أيضاً بأن لا تتأخر،

قدت سيارتي وأنا أفكر بأختي.

أنجبت تهاني ولداً جديداً أسمته صقر،

وأنجبت دلال ابنتين جميلتين تذكراني بالقطط البيضاء أسمتهما جوي وجادل.

كنت أعشق هؤلاء الأحفاد. كلهم رائعون وأحب جادل على وجه الخصوص لأنها تشبهني كثيراً وتملك عيني الواسعتين وابتسامتي البيضاوية الميزة. كم أحب الأطفال،

وصلت إلى المنزل وساعدتني الخادمة بحمل الأغراض للداخل، غيرت ملابسي وبدأت تصليح الاختبار القصير إلى أن يحين وقت الغداء، تناهى إلى صوت الأطفال على الدرج، واقتحمت الفتاتان جوى وجادل غرفتي عنوة ففتحت لهما ذراعي. قبلتهما كثيراً وأنا أداعبهما ثم أخفيت أوراق الاختبار بسرعة. ففي حادثة لا أنساها رسمت جوى بالألوان على ورق أحد الامتحانات وكدت أموت من شدة الخجل أمام الدكتور خالد.

نزلت مع الصغيرتين حيث وصلت تهاني وأطفالها أيضاً، عاد مجبل من كليته وأخذ يشاكس الأطفال ويزعجهم وهو يضحك كالعادة. نزلت أمي وهي ترتدي ثوباً طويلاً مطرزاً بحروف عربية كبيرة وقد بدت جميلة فيه، قبلنا رأسها ثم خرجنا كلنا إلى منزل جدتي نشمية،

وقفنا أمام جدتي التي لا تزال ذات هيبة عظيمة وقبلنا رأسها تباعاً،

على مائدة عامرة جلست وسط عائلتي وأنا أتأملهم وهم يتحدثون ويتكلمون بلا توقف،

لقد تغيروا كلهم وتغيرت حياتهم، إلا أنا. لا يزال الزمن يقف بي. ولا زلت كما أنا. وحيدة مع ذكرى رجل ترفض ذكراه عتقي. تقدم لي خاطبين أحدهما كان مطلقاً دون أولاد والآخر كان أرملاً مثلي وله بنت واحدة، ورفضتهما. فبعد حمد من الصعب أن يكون في حياتي رجل آخر.

كانت أمي تلح علي كثيراً، تحذرني من البقاء وحيدة إلى الأبد، وترجوني بالتخلي عن موقفي الرافض للزواج، لكن الأمر لم يكن بيدي.

بعد الغداء أحضرنا الكعكة الكبيرة المزينة بالورود، والتي كتبنا عليها عيد أم سعيد.

والتف الأطفال حولها، قدمنا هدايانا أولاً لماما نشمية ثم لأمي الغالية، وقدمت لهما أيضاً الزهور التي أصبحت أحبها. فمؤخراً أصبحت أعشق الزهور وأحفظ أسماءها وأنواعها وإلى ماذا يرمز لون كل منها. أصبحت الزهور تذكرني بحمد أكثر مما تذكرني بماريا. فهي مثله. جميلة وذات رائحة مميزة. وعمرها قصير.

في عصر ذلك اليوم حملت كيساً صغيراً وباقة ورد جميلة. وخرجت من بيتنا إلى بيت حمد، ضغطت جرسي الباب ففتحت لي الخادمة التي تعرفني. مرحبة.

دلفت إلى الصالة وقامت خالتي لترحب بي: أهلاً أهلاً بك يا بسمة.

قبلتها بحرارة وأنا أقول: كل عام وأنت بخير.

كانت هبة هناك وهاجر وابنها حمد الذي لم يكمل العام من عمره بعد هناك أيضاً،

في حين كانت آلاء وولدها حمد وابنتها سمية يجلسون بجوارها وقد انتفخ بطنها بحملها الثالث،

أما فواز فكان يجلس بجوار أبيه، وسعود الذي أصبح صوته خشناً ونبت شاربه قليلاً موجود أيضاً.

سلمت على الجميع في الوقت الذي أحضرت فيه هبة كعكة كبيرة، قال فواز: هذا العيد بدعة كبيرة، لا يجوز الاحتفال بعيد الأم، فلدينا عيدان فقط، عيد الفطر وعيد الأضحى.

قلت له مناكفة: اقرأ المكتوب على الكعكة “Happy mother day” ذلك معناه يوم الأم، وليس عيد الأم، ثم ما الحرام إن أفرحنا قلب أمهاتنا يوماً في السنة؟

قال فواز بحدة: المفروض أن نفرحهن في كل أيام السنة.

قلت له: صحيح، لكن انشغالنا بمسؤولياتنا وروتين الحياة اليومية ينسينا التعبير لأمهاتنا وإخبارهن كم نحبهن ثم إنها فكرة جميلة جداً برأيي ولا تضر أحداً. بصراحة أنا أحب عيد الأم وعيد العشاق أيضاً.

جحظت عيني فواز وقبل أن يقول شيئاً تدخلت هبة وهي تنظر إلى عاتبة: كفاكما نقاشاً ودعونا نأكل الكعكة.

قال فواز وهو يقوم غاضباً: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وذهب. ضحكت أنا من كل قلبي. كنت أحب إزعاجه وإغاظته. لقد أصبحت مثل مجبل الذي يناكف الأحفاد. كان فواز أخي الثاني في هذه الدنيا، لقد عرفني وعرفته في أسوأ حالاتنا، واجتمعنا معاً على الحب والإخلاص لشخص واحد. حمد. لذلك كنت أكن لفواز مشاعر نبيلة. وأعلم أنه يفعل مثلى، فكلانا عشقنا حمد وكنا مستعدين للتضحية من أجله إلى أبعد الحدود.

قدمت لأم حمد هديتها. وفرحت بها كثيراً.

وبعد برهة عاد فواز وجلس. فقالت أمه: فواز جرب الكعكة من أجلى، إنها لذيذة جداً فقال بطريقة مضحكة: ضعوا إلى قليلاً. فقط من أجلك. قدمت له هبة حصته وهي بالكاد تكتم ضحكتها، أما آلاء فقد كانت تشكو من الثقل الذي تحسه بسبب حملها وأوصيتها بإخباري عندما تلد لأزورها في المستشفي.

لقد أصبحت جزءاً من هذه العائلة رغم رحيل الإنسان الذي كان يربطني بهم.

لكنني بقيت أواصلهم. وبالذات أم حمد التي أصبحت متعلقة بي كثيراً. كانت تخبرني أني أذكرها بحمد كلما دخلت عليها، وكأنه هو الذي يدخل عليها.

تبرعت خالتي بحاجيات حمد لأحد اللجان الخيرية، فعلت ذلك بعد إلحاح شديد من فواز. في حين تركت لنفسها بعضاً من أغراضه لتتذكره على الدوام أما أنا فلم أخلع دبلته قط من أصبعي، وفي إحدى المناسبات فقدت السوار الذي ألبسه لي، كدت أجن ليلتها وفي الصباح التالي ذهبت إلى مكان تلك المناسبة بنفسي وأخبرت الخدم أن من تجده سيكون لها مكافأة بضعف ثمن السوار، فأعطته لي إحداهن، وكدت أقبلها من فرط فرحتي، وأعطيتها ما وعدتها به.

لم أكن بحاجة لشيء يذكرني بحمد فهو يسكنني أساساً، لكن لتلك الحلي قيمة عظيمة في نفسي فحرصت على المحافظة عليها.

أمر واحد عجزت عن القيام به خلال كل تلك السنوات، وهو زيارة قبر حمد، وصلت مرة إلى المقبرة. لكنني جبنت عند زيارته، فعدت أدراجي، مسرعة،

كنت أخاف أن أرى قبره. لسبب ما كنت أشعر أنني قد أنهار إن رأيت ذلك القبر الذي يضم جسد حبيبي. لم أكن أعرف أنني صنعت من قلبي أيضاً قبراً له. فذكراه كانت مدفونة في صدري فأصبحت مدفونة أيضاً مثله رغم أنني لا زلت حية.

***

(51)

بسمة جديدة

جاءني اتصال شريفة في السادسة صباحاً وكان يوم الجمعة،

قفزت من سريري وقد خفق قلبي ورددت عليها بصوت مبحوح: ألو.

صرخت شريفة: سألد يا بسمة، أنا الآن في المستشفى تعالى بسرعة!

وقفزت من سريري، ارتديت ملابسي على عجل. بصراحة لم أستوعب أصلاً ما الذي ارتديته إلا لاحقاً.

؛مشطت شعري بسرعة وغسلت وجهي ثم خرجت بهدوء كي لا أزعج أحداً. فأمي لا تزال نائمة والخدم أيضاً،

ركبت سيارتي واتجهت مباشرة إلى المستشفي التي أعرف أن شريفة تنوي الولادة بها،

كان الشارع خالياً تماماً. فالكل نائم في هذا الوقت في يوم العطلة الأسبوعية. وذلك دفعني للقيادة بسرعة جنونية كي لا تفوتني ولادة صديقة عمري ووصلت إلى المستشفى. فوجدت زوجها يقف في الممر بجوار غرفة الولادة وهو يحدث إحدى الممرضات،

اقتربت منه أنا ألهث: مرحباً دكتور محمد. أين شريفة.

ابتسم لي وقال وهو ينظر إلى ساعته: لقد وصلت بسرعة قياسية. لو كنا طلبنا الإسعاف لما وصلوا بهذه السرعة.

قلت وأنا متوترة: لا تقل لي أنها ولدت؟

قال ضاحكاً: لا تقلقي لم تلد بعد. أتعرفين. رفضت أن نوقظ أمها. وأصرت على إيقاظك أنت.

تنهدت وقد ارتحت لأنني وصلت في الوقت المناسب ولم تفتني ولادتها،

قال محمد: لقد بدأت التقلصات البارحة. وأبقيتها تحت ملاحظتي. لا أظن أن الموضوع سيطول، ادخلي إليها.

ودخلت إليها. صديقتي وأختي وحبيبتي وأمي أحياناً. كم هي مخلصة. إنها كنز في زمن ندرت فيه الصداقة الحقيقية وانتشرت فيه صداقات المصلحة كم أنا محظوظة بك يا شريفة.

ووجدتها تتعذب وتبكي، وبرقت عيناها لرؤيتي وصرخت: بسمة. أعتقد أنني سأموت.

صرخت بها: لا تقولي هذا الكلام، إن مت فمن يبقى لأجلي؟ ستقومين بالسلامة. كوني قوية، ستصبحين أماً.

أمسكت يدها، مسحت عرقها الممتزج بدموعها، كانت تتلوى ألماً. لم أكن أعتقد أن الإنسان يستطيع احتمال كل هذا الألم من أجل أن ينجب إنساناً آخر لهذه الدنيا. دنيا الشقاء والبلاء. هل أصبحت متشائمة؟ ربما! فما مررت به لم يكن هيناً.

مرت ساعة أخرى. وأتت الطبيبة لتفحص شريفة، وأخيراً قالت: جهزوها ستلد قريباً.

ودون تفكير قلت: لا.

فنهرتني قائلة: اخرجي إذن. لا يمكنك حضور الولادة.

قلت لها بسرعة: أقصد أنني. أرملة.

نظرت إلي الطبيبة بدهشة. فقد بدوت بملابسي الرياضية وشعري المربوط خلف رأسي ووجهي الخالي من المساحيق أصغر بكثير من عمري الحقيقي، وأصغر بكثير من أن أكون أرملة.

سمحت لي الطبيبة بالبقاء فوقفت عند رأس شريفة التي تعالت صرخاتها. شجعتها وقد شعرت بالخوف عليها، وخلال لحظات شهدت بعيني معجزة إلهية حقيقية. إن الولادة معجزة رائعة. إنها الحياة بأكملها. إنها أجمل ما قد يشهده إنسان. تعالت صرخات تلك الصغيرة لتعلن عن قدومها للدنيا. وبلحظة تذكرت الموت. موت حمد. لقد كان الموت أيضاً معجزة حقيقية، بحيث يخرس صوت الأحبة ويغتصب نبضات قلوبهم لنلتاع نحن الأحياء بعدهم. تلك كلها سن الحياة، أشخاص يولدون وأشخاص يموتون. لكن الولادة أجمل بكثير من الموت!

تلقت الممرضة الطفلة بين ذراعيها وغطتها بملاءة بيضاء، قربتها من وجه شريفة التي ابتسمت بإعياء،

قالت شريفة بضعف: يقولون إن دعاء المرأة أثناء الولادة مستجاب وقد دعوت لك يا بسمة

نظرت إليها متسائلة، فقالت: دعوت لك أن تصبحي أماً أنت أيضاً.

نظرت إلى الصغيرة ذات الوجه الباكي المنتفخ. أيمكن أن أنجب أنا أيضاً مثلها؟

قالت شريفة: بسمة احمليها.

فقلت متفاجئة: الآن؟

فقالت متألمة: أحب أن تكوني أول من يحملها من العائلة. وحملتها رغم اعتراض الممرضة التي تريد تنظيفها.

خفق قلبي بقوة والصغيرة الحمراء بين ذراعي،

وأخيراً قالت شريفة: والآن بسمة الكبيرة تحمل بسمة الصغيرة.

وعندما استوعبت قصدها. بكيت!

***

(52)

إحساس لا يزال موجوداً

كان استقبال شريفة رائعاً، وقفت فيه معها كأخت حقيقية لها، وبسمة الصغيرة أصبحت جزءاً جميلاً من عالمي. كانت بادرة شريفة بتسميتها على اسمي بادرة طيبة ذات معني عميق ينم عن حب كبيري جمع بيني وبينها. ما أروعك يا شريفة.

انتقلت شريفة لمنزل أمها لتقضي فترة الأربعين وأصبحت شبه مقيمة عندها، أذهب إليها بعد الدوام وأحياناً قبله إن سمح لي الوقت، وعندما يزورها زوجها أحياناً وقت الغداء كنت أجلس مع أمها.

أصبحت أبقى في بيتهم أكثر مما أبقى في بيتنا،

جاءت عمتي حصة من البحرين في تلك الأيام وتعجبت من تعلقي بالطفلة.

قالت إلى ذات ليلة: ما رأيك أن تأتي إلى البحرين وتربي حصة الصغيرة؟

ضحكت على كلامها فعمتي حصة أصبحت جدة بعد أن أنجبت ابنتها التي تزوجت أيضاً بنتاً العام الماضي أما ولدها فقد تخرج من الولايات المتحدة مؤخراً، ورغم أن عمتي أصبحت جدة إلا أنها لم تتغير، لا زالت جميلة نضرة، ومدللة، والسر في ذلك بلا شك هو حب عادل لها وحبها هي له، فالحب هو إكسير الشباب وكم من شابات يشعرن بالهرم والكبر لأنهن محرومات من الحب.

قلت أشاكس عمتي: أنت لديك حصة صغيرة وقد أصبحت جدة أما أنا فلدي بسمة صغيرة دون أن أصبح أماً حتى.

قال عمتي بحنان: يجب أن تصبحي أماً يا بسمة.

تغير وجهي لكنني استدركت ضاحكة: أنا راضية بنصيبي، خاصة بعد أن رأيت عذاب الولادة عندما ولدت شريفة.

اقتربت مني عمتي بهدوء وربتت على كتفي. قالت لي: بسمة، أنا اعرف كم تعذبت، وأعرف أيضاً كم أحببت حمد، لكنك لا زلت شابة. والحياة ستعوضك فقط افتحي قلبك للحياة، وإن تقدم لك رجل مناسب لا تترددي، لا تبقي وحيدة بإرادتك. غداً تمر الأيام وتكبرين وتعيشين وحدك. يجب أن تكوني عائلة تخصك فأي عائلة أخرى ستكونين مجرد ضيفة فيها.

قلت لها بصدق: لا أستطيع يا عمتي. أشعر أنني سأخون حمد لو تزوجت بغيره. كيف أغدر به؟

قالت: حمد توفي. وأنت لا زلت على قيد الحياة، وزواجك لا يعني أبداً أنك نكثت بإخلاصك له. لكنك امرأة والزواج ستر لك، ما ذنبك أن تحرمي نفسك من الأمومة؟ على الأقل تزوجي لتنجبي.

قلت لها: ما أسهل الكلام. أنت لا تعرفين ما هو حمد بالنسبة لي.

ردت عمتي: تقصدين ما كان حمد. كان يا بسمة. حمد الآن غير موجود. مهما كانت تلك الحقيقة قاسية ومؤلمة عليك التسليم بها. واستيعابها، أما أنت يا بسمة فموجودة، حزينة ووحيدة، تعيشين على الذكريات وتقتاتين على الحزن، عليك أن تتحرري يا بسمة.

وسكت. وفكرت طويلاً في كلامها تلك الليلة. نظرت إلى دبلة حمد في أصبعي. وسواره حول معصمي، كنت أشعر أنه لا يزال معي، بشكل لا أستطيع تفسيره كان وجوده محسوساً بداخلي، وكأن طيفه يحوم حولي، لم أنسى تفاصيله بعد، لون عينيه ونظراته العاشقة الحانية لي، ملمس جلده قبل وبعد مرضه، نبرة صوته، كلي تفاصيله صارت جزءاً مني. وكأننا شخص واحد، واحد حاضر في الحياة والآخر غائب عنها لكنه كامن في الآخر،

يصعب علي تفسير ما كنت أشعر به، حتى بعد كل تلالك السنوات، كانت ذكرياتي مع حمد طازجة، وكأنها حدثت في الأمس.

كان إحساسي بحمد لا يزال موجوداً في داخلي وكان هذا الإحساس عزائي الوحيد بعد فقده، كم كنت اشتاق له، في بعض الأحيان كانت أمي تتحسر علي وهي تعتقد أنني نادمة على أنني لم أسمع كلامها ونصائحها قبل زواجي من حمد،

لكنني في داخلي وفي أعماقي كنت مستعدة للزواج به ألف مرة حتى وإن كان رحيله محتماً، فقد أحببته والحب الحقيقي يستحق أن نعيشه ولو لوقت قصير.

***

(53)

تخمين

حسناً لابد أنكم جميعاً خمنتم بما يكنه الدكتور خالد لي؟ أليس كذلك؟

حسناً إنكم على حق. وظنكم في محله. لا أعرف لم أنا الوحيدة التي لم أخمن الأمر مثلكم. ذلك الرجل الذي اهتم بي منذ كنت طالبة واهتم بتوجيهي لا عمل تحت رعايته في الجامعة، وكان حريصاً دائماً على تعليمي وتثقيفي وتشجيعي أيضاً وكنت دائماً أعمل معه هو دون غيره لم أكن أعرف أنه يكن مشاعر خاصة نحوي. إلى أن أتى ذلك اليوم.

كنت معه في الكتب. وحدنا. نحضر امتحاناً للطلبة، وكنا نناقش جزئية مهمة وصعبة في الامتحان. إلى أن لاحظت فجأة أن الدكتور خالد يتأملني، وكأنه معجب بي! فجفلت.

كانت حقاً مفاجأة غير متوقعة. أن يكون الدكتور خالد معجباً بي!!

قال لي: بسمة. كنت متردداً كثيراً في التحدث معك. لكنني قررت أن أفعل. مهما كانت النتائج أريد أن أجازف. وكأنني أرمي نفسي في البحر وانتظر أن يأتي أحد لإنقاذي.

قلت مرتبكة أما رجل حظي على الدوام بتقديري واحترامي ولم أكن أريد أن يفسد ما بيننا: ماذا تقصد دكتور؟ أنا لا أفهم شيئاً!

قال: لا تفهمين شيئاً. لأنك لا تلاحظين أحداً. لقد أحطت نفسك بأسوار الحزن، ونسيت أن في الحياة أفراحاً كثيرة تنتظرك.

قلت مندفعة: وكأنك تتحدث بلسان عمتي حصة!

قال ضاحكاً: لأنها تحبك. كما أحبك أنا أيضاً.

ووقفت غاضبة. أغضبني أن أسمع كلمة حب من رجل غير حمد، نعم. كان الحب أمراً مرتبطاً بحمد فقط في حياتي، ولم أتقبل سماع تلك الكلمة من خالد.

وقف خالد وقد أحس أنه تسرع كثيراً وقال: أنا آسف على جرأتي، لكنني فعلاً أكن لك شعوراً عميقاً. أتعرفين عندما كنت طالبة عندي كنت أحب النظر إليك، كان فيك شيئاً يروق لي، ربما ذكاؤك، شخصيتك البسيطة الصريحة، اجتهادك. لم أكن أعرف ما هو بالضبط ما كان يعجبني فيك. وقتها لم أكن أعرف أنني أحبك إلى أن وصلني خبر خطبتك، وقتها انزعجت! وانزعجت أكثر من انزعاجي! قلت لنفسي ما شأنك بها إن خطبت! وقتها عرفت أنني أكن لك شعوراً ما، وعرفت أنني تأخرت، فتمنيت لك السعادة من كل قلبي رغم شعوري الكبير بالخسارة.

نظرت إليه بدهشة فما كان يصارحني به لم يخطر أبداً لي على بال!

أكمل الدكتور خالد حديثه: عندما عرفت بخبر وفاة زوجك صدمت، وحزنت من أجلك كثيراً، صدقيني. تألمت لأنك خسرته بهذه السرعة. وانتظرتك. أردت أن أواسيك بشكل أو بآخر. وكما تعلمين فعلت ذلك من خلال تشجيعك على العمل، فالعمل أفضل طريقة لنسيان الألم.

وتذكرت بلحظة كم سعي الدكتور خالد لانتشالي من يأسي، كيف أشاد بي دائماً وتوسط لي كي أحظى بوظيفتي التي كنت أستحقها وبجدارة، كم كان صبوراً معي وكيف علمني الكثير، وكان دائماً ودوداً ومتفهماً لكل ظروفي.

نظرت إليه لأول مرة كرجل يحبني. لا كالدكتور خالد الذي اعتدت عليه، وفي عينيه وجدت حناناً كبيراً، ذكرني لوهلة بحنان أبي الراحل.

قال خالد: أحب أن أرتبط بك. بل أتمنى ذلك من كل قلبي. بسمة لا أريد ردك الآن. فكري. خذي كل الوقت الذي تريدينه. وقرري على أقل من مهلك. وتأكدي أنني مستعد لانتظارك طوال عمري.

***

(54)

زيارة ضرورية

نزلت من سيارتي وساقاي ترتعشان. وخطوت عدة خطوات قبل أن أتوقف لاسترجع أنفاسي.

ونظرت حولي. إلى القبور. إلى المكان الذي سنذهب إليه جميعاً في النهاية. كانت القبور حولي، وأسماء أصحابها تدل عليها،

سألت عاملاً رأيته يكنس المقبرة: كيف أصل لقبر أحد ما؟

فقال لي: هل تعرفين تاريخ وفاته؟ فالناس هنا تدفن حسب التواريخ والسنوات.

فأومأت، وذكرت له تاريخ أتعس يوم في حياتي، ومشيت خلفه. وعرفته. لابد أن هذا هو قبره. لقد دلني قلبي عليه فور اقترابي منه.

و مشيت نحوه. وعلى شاهد القبر رأيت اسمه الحبيب. وتاريخ وفاته وعمره القصير.

كان القبر محاطاً بالرخام، وبعض الزهور مزروعة على جزء ترابي منه. جلست بقربه ونظرت إلى التراب. وانسابت دموعي بنشيج لم أستطع أن أكتمه. هبت نسمة ريح لطيفة.

فأغمضت عيني ووضعت يدي على القبر. وللحظة أحسست به، وكأنه يحوم حولي، وكأنه يمد يده ليربت على خدي ويزيح خصلة من شعري تدلت على جبيني.

وغمرني ارتياح عميق. واستكانت لذلك الشعور برهة. وكأنني في لقاء مع حمد فتحت عيني وقلت: تمنيت زيارتك كثيراً. ولوقت طويل عجزت أن أفعل. أتمنى أن تكون الآن في مكان أفضل. أتمنى أن تكون آلامك قد ذهبت. أنت الآن في ذمة الله وأنا مطمئنة أنك بخير. ولابد أن تعرف أنني لا زلت أذكرك دائماً كما أوصيتني قبل أن ترحل.

حمد. أتيتك اليوم لأستأذنك. وأنت تعرف كم من الصعب علي أن أفعل. لكنني لم أستطع أن أقرر شيئاً دون استئذانك. لقد تقدم لي الدكتور خالد. وأنا محتارة جداً. يخبرني الجميع أن علي المضي بحياتي. في حين أخاف أنا من مخالفتهم هذه المرة. أخاف أن أندم لاحقاً إن فعلت. أخاف أن أظل وحيدة كما أنا الآن طوال عمري. أتيتك اليوم لأخبرك ولأؤكد لك أنني حتى وإن تزوجت سأظل أحبك. دائماً وأبداً ستبقي أنت في قلبي. و.

أتعلمون أنني بقيت يومها عند قبره أربع ساعات كاملة؟

لم أشعر بمرور الوقت. حادثته كما لو كان يسمعني، شعرت به معي. وانزاح الكثير عن كاهلي بعد تلك الزيارة،

وقبل أن أقوم قبلت شاهد قبره كما لو كنت أقبل رأسه،

أشرت بيدي لذلك العامل وأعطيته المال وأوصيته أن ينظف قبره ويرشه بالماء،

ذهب العامل بعد أن أعطاني رقمه،

خطوت لابتعد عن القبر، فأحسست أن حمد يناديني، التفت وحدقت بالقبر. وقلت هامسة ودمعة ساخنة تكاد تحرق خدي: يا بعده.

***

(55)

زيارة أخرى

كانت تلك الزيارة أصعب بكثير من   زيارتي لحمد. فزيارة الأحياء أصعب من زيارة الأموات.

دخلت إلى أم حمد ذلك المساء وقد هربت الدماء من وجهي، خفت كثيراً مما سيحدث بعد أن أخبرها، لكنني رأيت أن على أن أفعل ذلك بنفسي. فعلاقتي بها تحتم علي أن أفعل.

كانت تجلس في الصالة تنتظرني وكعادتها ضمتني إليها بحنان. جلست بجوارها وأنا لا أعرف كيف أبداً حديثي، أحست هي أني أعاني من خطب ما،

فسألتني: بسمة. ما الأمر؟

قلت لها: خالتي. لقد تقدم لي شخص.

وسكت، لم أستطع أن أكمل جملتي. ووجمت هي. ساد الصمت بيننا. وفجأة انهمرت دموعها. وبلحظة رميت بنفسي بين أحضانها باكية أنا أيضاً، وأخبرتها كل شيء،

حكيت لها عن أمي التي قالت لي إنها لن ترضى عني أبداً إن لم أتزوج الدكتور خالد، وأن لها حقاً علي فهي من أنجبتني وربتني وحان الوقت لأفعل هذا الشيء من أجلها.

أخبرتها عن جدتي نشمية التي وافقت على زواجي من خالد بأمر منها، ودون سماع رأيي وكأنها تعطيني العذر أمام نفسي بأن أكون مجبورة على الزواج كي لا أشعر بالذنب إن وافقت بنفسي.

أخبرتها عن عمي ماجد الذي حادثني طويلاً بخصوص مستقبلي خاصة وأن الدكتور خالد رجل تشرفنا مصاهرته وأخبرني أن علي الامتثال لرغبة أهلي بعد أن امتثلوا كلهم لرغبتي في الماضي.

أخبرتها كم نصحتني شريفة بالموافقة فهي تعرف خالد مثلي، وتكن له كل الاحترام والإعجاب، وكادت تجن من شدة فرحتها لأنه تقدم لي.

وأخبرتها عن عمتي حصة، دلال، تهاني، وحتى مجبل، لقد أجمع الجميع على الموافقة وبالتالي كان على أن أوافق أنا أيضاً هذه المرة.

قبلت يد أم حمد. وقبلت هي رأسي وقالت: أعرف أنه من الأنانية أن أقول لك أن لا تتزوجي فأنت لا زلت شابة ورغم ذلك يصعب علي أن أبارك لك. كل ما سأقوله. شكراً لك يا بسمة لأنك منحت ولدي في آخر أيامه حباً كبيراً وتضحية عظيمة، شكراً لأنك أسعدته وحققت له أجمل أمانيه وكنت معه في رحلة علاج صعبة وقاسية، شكراً لأنك ملأت الفراغ الذي تركه حمد في بيتنا وبقيت تزوريننا دائماً وكأنك لا زلت زوجة لولدنا، شكراً يا بسمة لأنك بلسماً لقلب أم فقدت فلذة كبدها ووجدت فيك شيئاً منه، تشعر به كلما ضمتك إلى قلبها. شكراً لك.

وضمتني أم حمد إلى قلبها. ولم تكن تلك الضمة الأخيرة أبداً.

***

(56)

أنه يسكنني

سألت خالد قبل عقد قراننا: ألا تغار من رجل لا يزال يسكنني؟ أتقبل أن أتزوج بك ودبلته تحيط أصبعي وسواره يطوق ساعدي؟

فقال: من يسكنك مجرد ذكرى، فذلك الرجل رحل، وأنا هنا الآن لأسعدك. واحتفاظك بما تركه لك دليل وفاء لا أكثر. فاحتفظي بما تريدين ما دام هذا يريحك.

فاجأني جوابه. كم هو منفتح ليقبل بي بعد كل ما قلته له. ألأنه درس وعاش فترة طويلة بالخارج؟ أم لأنه فعلاً لا يغار من رجل غادر هذه الحياة؟

سكت قليلاً ثم سألته أيضاً: لم اخترت الزواج بي أنا بالذات؟ لم تمسكت بي رغم أنني أرملة وأنت لم يسبق لك الزواج؟

قال: لأنني أعرف أنني يوم أحتاج إليك، أو أمر في محنة ما، سأجدك بقربي. كما فعلت مع حمد.

وارتاح قلبي لإجابته.

***

(57)

النهاية

تعيش بسمة حالياً مع أسرتها، وقد أنجبت ثلاثة أولاد. وحصلت على الماجستير وتحضر أيضاً للدكتوراه، ولا زالت إلى يومنا هذا تتواصل مع أم حمد وعند ما أنجبت ولدها البكر أخذته لها بنفسها.

وبعدها أصبحت أم حمد تزورها دائماً سواء في بيت أهلها، أو في بيت زوجها وأبناء بسمة ينادونها "جدتي"،

تمنت بسمة لو أنها أسمت أحد أولادها حمد لكنها لم ترغب بإيذاء مشاعر خالد رغم أنه كان سيوافق لو أنها طلبت منه ذلك.

أمر آخر أود أن أذكره عن بسمة. أنها لا تزال رائعة. جميلة. طيبة. ومضحية لأبعد الحدود. اختياري لعنوان روايتها سيكون مفاجأة كبيرة لها. وأتمنى أن أكون قد وفقت في سرد قصتها التي أثرت بي من أعماق قلبي. وعلى فكرة دبلة حمد وسواره لا يزالان في يدها.

دمتم لي،

علياء الكاظمي

 

 

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا