رجال ريَّا وسكينة
سيرة سياسية واجتماعي
صلاح عيس
حكايات من دفتر الوط
1924 قصر رأس التين. المقر الصيني للملك ف
يقول الراو
ثوار ولصوص وخون
(
لم يعن أحد من علماء الأنساب برسم شجرة "عائلة همام" التي تنتسب إليها الشقيقتان "ريَّا بنت عليّ همام" و"سكينة بنت عليّ همام"، حتى بعد أن فرضت الاثنتان نفسيهما على الاهتمام العام، وحفرتا اسميهما - بحروف من دم - في ذاكرة الناس، تتداولهما الألسن، ولا تكف عن ترديدهما الشفاه، ربما بأكثر مما كانت تردد أسماء الكبار - المحفورة في ذاكرتهم بحروف من نور - مثل "سعد زغلول" و"عدلي يكن" و"اللورد ملنر" الذين كانوا يتفاوضون أيامهما حول مستقبل مصر، بعد الحرب، وبعد الثورة.
وحتى بعد أن انتقل هذا الاهتمام بهما من أحاديث السمار في عربات الترام وفي المقاهي والمنادر والبارات، إلى هؤلاء الجالسين على القمة، فطلب عظمة السلطان "أحمد فؤاد" من رئيس وزرائه، ووزير داخليته "محمد توفيق نسيم باشا" أن يوافيه بتقرير شامل عن ابنتي "عليّ همام"، واستحث رئيس الوزراء، زميله "أحمد ذو الفقار باشا" - وزير الحقانية - على الإسراع بإنهاء التحقيق معهما، وعلى إبلاغه بنتائجه أولاً بأول، فإن أحداً من المتخصصين في التراجم والسير، لم يشغل نفسه - آنذاك أو بعد ذاك - بالتأريخ لحياتهما، بعيداً عن الأحساب والأنساب وشجرة العائلة، ولم يجد في ذلك حافزاً يدعوه لتقصي ما جرى لهما، خلال نصف القرن الذي عاشتاه، قبل أن ينفجر اسماهما في سماء الوطن كالقنبلة، محاطاً بالدماء والأشلاء والغبار، وبالدموع والصرخات والعار، ثم يرفع هذا التاريخ - كما كانت العادة الشائعة - إلى "السدة السلطانية المنيفة" وإلى "مقام نائب جلالة ملك بريطانيا على مصر والسودان" بعبارات إهداء يصف فيها صاحبتي السيرة بأنهما "بعض ما شتلته أياديكما الكريمة في أرض الوطن من بذور، فأثمرت وأينعت وتضوعت بالروائح الزكية"، ويوقعها بصفته "الخادم الأمين".
ولو أن أحداً من هؤلاء، أو أولئك قد قام بواجبه، لتخلقت أمامنا صورة حية لابنتي "عليّ همام" منذ كانت كل منهما نطفة، ثم مضغة، ثم علقة، ثم اكتست عظاماً ولحماً، ثم خرجت إلى الوجود طفلة بلا ملامح أو ذاكرة، تبكي وتضحك، وتلهو، وتخاف من الظلمة، تلقم ثدي الأم وتلوذ بأحضانها، وتحبو في باحة الدار بين صغار الدجاج والأوز، وتكتشف الحياة من حولها بمرح ودهشة، وتتعثر على لسانها الكلمات.
وما تكاد تدرك الدنيا من حولها حتى تنتهي طفولتها فجأة فتستيقظ عند الفجر، لتشعل الفرن، وتكنس الدار، وتحلب المواشي، وتقدم الطعام للدجاج والبط، وتسحب الجاموسة إلى الحقل، وتستحثها على إدارة الساقية، وتعود عند الظهر لتحمل الطعام إلى أبيها، فإذا ما جاء الغروب سرحت وراء المواشي، تتلقى روثها بين كفيها، لتعجنه بشيء من التبن وبكسر من الحطب، ثم تنشره في الشمس ليجف فيصبح وقوداً. إلى أن يأتيها "عدلها" فتخضب كفيها وقدميها بالحناء، وتبيض وجهها بشيء من دقيق القمح، وتكحل عينيها وتصبغ شفتيها، وتغني لها الصبايا في ليلة الحنة، ثم تشيعها الزغاريد في ليلة الدخلة إلى بيت زوجها، ومعها صندوق أحمر، تضع فيه - ككل عروس - حاجياتها، فإذا ما فتحت عينيها في "يوم الصباحية" عادت لتدور - كالنحلة - طول اليوم، وطوال السنة، وطوال الدهر، لا يقعدها برد أو حر أو مرض أو ألم.
ولو أن أحداً من دارسي موجات الهجرة الداخلية. كان قد اهتم - قبل ذاك أو آنذاك - ب "تغريبة بني همام" لعرفنا متى .. ولماذا غادرت "ريَّا" و"سكينة" مسقط رأسيهما في "الكلح"، في أقصى الجنوب بالقرب من "أسوان"، حيث الفقر والجدب والوباء ونقص القوت - ولتتبعنا خط سيرهما الطويل، بين القرى والعِزب والكفور، والمدن الصغيرة المتناثرة على شاطئ النيل، تحلبان ضرع الأيام، وتبحثان عن لقمة تدفعان بها غائلة الجوع، أو لحظة راحة يستنيم فيها ظهر كل منهما لحشية ناعمة، تكف بعدها سلسلة ظهرها عن ذلك التضاغط المؤلم، إلى أن تحط بهما التغريبة - دون إرادة منهما - في "الإسكندرية"، حيث البحر والنسيم وأضواء الكهرباء والشوارع الواسعة النظيفة، والخبز الطري، والطعمية الساخنة وعلب "البولوبيف" و"السردين" و"الحلاوة الطحينة"، وجحافل الأجانب من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين واليونانيين، فلا يزيد نصيبهما من المدينة الجميلة عن المقدر لهما منذ الأزل:
حجرات مظلمة ضيقة في حوار وأزقة أكثر ضيقاً، تتلوى على نفسها كالثعابين، وتفوح منها نسائم الفقر وروائح العفونة تضيئها مصابيح من الصفيح الصدئ تشغل بالنفط، وينزوي في ركن كل منها "زير" من الفخار يملأه السقاء بقربة ماء كل يومين أو ثلاثة. وتحتشد بآلاف من الجنوبيين من أمثالهما، قذفت بهم يد الله في التجربة، وحملتهم التغريبة من قرى الصعيد المعلقة في بطن الجبل، أو جزائره المتناثرة في قلب النيل، إلى الإسكندرية، هرباً من ثأر أو فراراً من جوع، أو أملاً في الاستمتاع بشيء من لين الحياة .. فتاهتا في المدينة الواسعة، وطاردتهما التغريبة في أزقتها الطينية الضيقة، واضطربتا طول سبع سنوات مريرة، بين "المسكوبية" و"سوق الجمعة" و"زاوية العطش" وحين يحط بهما الرحال - أخيراً - في "حارة النجاة" تجد أن المقدر والمكتوب في انتظارهما، وينفجر اسماها - كالقنبلة - في سماوات الوطن. وتوقعهما صدفة تعيسة إلى حبل المشنقة، وينتهي الحلم بلين الحياة، إلى موت بلا لين.
أما الناشر المجهول، الذي استغل اهتمام الناس الفائق عن الحد، بمعرفة صورتيهما، فطبع عشرات الآلاف منها، تخاطفها الناس في أيام قليلة، وربح من توزيعها مئات الجنيهات، فقد اكتفى بذكر اسم كل منهما تحت صورتها باللغتين العربية والإفرنكية، ولم يضف إلى ذلك شيئاً، ربما لكي لا يصادر على حق الناس في أن يتخيلوهما كما أرادوا: مجرد وحوش هربت من الغابة، وظلت تعيث في الدنيا فساداً، إلى أن وقعت في المصيدة.
1)ةيؤادنىة
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا