أصل علم نفس النمو في ثقافة الغرب

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-06-16

أصول علم نفس النمو في ثقافة الغرب 

لمفاهيم النمو الإنساني ماضٍ طويل يمتد بأصوله إلى التصور الديني والتأمل الفلسفي والخبرة الشخصية للإنسان. أما الدراسة المنظمة لهذا الموضوع والتي تعتمد في جوهرها على الأسلوب العلمي في البحث القائم على الملاحظة فلها تاريخ قصير لا يتجاوز المائة عام. ونعرض فيما يلي هذا الماضي الطويل والتاريخ القصير بشيء من الاختصار يتسع له المقام. وهذا العرض ليس هدفه مجرد الاستطراد التاريخي وإنما الإشارة إلى الأصول النظرية والفلسفية التي استندت إليها الدراسات العلمية الحديثة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، أو بشكل مضمر أو صريح، وبهذا قد تتحدد وتتضح أوجه الاتفاق والخلاف التي تبدو لنا غير مفهومة إذا نظرنا إليها من السطح، بينما التعمق فيها وسبر أغوارها يكشف لنا الكثير من الفهم والحكمة والتبصر.

ونتناول هذا العرض من خلال منظورين للنمو هما المنظور الغربي والمنظور الإسلامي. ونخصص هذا الفصل للمنظور الأول من خلال الفكر اليوناني ودوره في تطور مفاهيم الحضارة الغربية عن الطبيعة البشرية ونمو الإنسان، ثم نخصص الفصل التالي للمنظور الإسلامي مع إشارة خاصة إلى كيفية توجيه بحوث النمو في العالمين العربي والإسلامي على نحو جديد.

أولاً. المنظور اليوناني للنمو الإنساني:

على الرغم من أن الحضارة اليونانية هي أحدث الحضارات القديمة نشأة، إلا أن هناك إشارات متكررة لدى الحضارات القديمة الأخرى السابقة عليها إلى مسائل تتصل بطبيعة الإنسان، وعلى وجه الخصوص في الحضارة المصرية القديمة التي أظهرت رعاية واهتماماً كبيرين بالطفل باعتباره كائناً عاجزاً وضعيفاً وفي حاجة إلى إشباع متطلباته الجسمية من تغذية وحركة، بالإضافة إلى حاجته الاجتماعية للعب (فؤاد أبو حطب، تحت الطبع). كما أن قوانين حمورابي في حضارة (بابل) تضمنت ضرورة almûaféâ àlo alùfl (Borstelmanm 1983) ونجد استبصارات لا تقل أهمية في حضارات فارس والهند والصين، إلا أن هذا التراث العظيم لم يعرض بالتنظيم والتفصيل الكافيين اللذين عرض بهما تراث اليونانيين لأسباب تعود في جوهرها إلى تحيز مؤرخي العلم لدى الغرب الذين يبدؤون عادة باليونان ثم يقفزون إلى عصر النهضة الأوربية، وهي قضية تناولها بالتفصيل فؤاد أبو حطب في عدد من دراساته (فؤاد أبو حطب، تحت الطبع، 1997، 1993), (Abou-Hatab, 1996, 1997"ة  ولا يتسع المقام لتناول هذه المسألة بالتفصيل وحسبنا أن نحيل القارئ للدراسات التي أشرنا إليها.

وما دام هذا الفصل قد خصصناه لأصول علم نفس النمو في ثقافة الغرب، فسوف نعرض لهذه الأصول ابتداءً من اليونان على النحو الذي عرفته كتابات مؤرخي الغرب للعلم والثقافة، ثم نتولى تصحيح هذا الموقف في الفصل التالي من خلال عرض النمو الإنساني من المنظور الإسلامي.

وبالطبع لا يتسع المقام لعرض تفاصيل الفكر الفلسفي اليوناني حول الموضوع منذ عصر ما قبل سقراط، وحسبنا أن نشير إلى الاتجاهين الأساسيين اللذين مثلهما أفلاطون وأرسطو على وجه الخصوص وهما الاتجاه المثالي من ناحية والاتجاه الواقعي من ناحية أخرى.

1. مثالية أفلاطون:

يرى أفلاطون (427 - 347 ق.م) في تصوره للطبيعة البشرية أن النفس (وهي مفهوم فلسفي يقابل ما يسمى في علم النفس الحديث الشخصية) تتألف من الشهوة والإرادة والعقل. وتظهر الشهوات (وهي الرغبات والانفعالات) في الإنسان عند ميلاده وتسيطر على حياة الوليد وسنوات طفولته المبكرة، وتبدو على وجه الخصوص في الحاجات الجسمية والانفعالية للفرد. وتنمو الإرادة خلال الطفولة المتأخرة والمراهقة وتمثل نزوع الشخص وشجاعته وخلقه واعتقاده. ومع النضج يسيطر المكون العقلي للنفس.

ويصور لنا أفلاطون في محاورة فيداروس العلاقة بين هذه المكونات الثلاثة في أسطورة العربة التي يشبه فيها النفس بعربة يجرها جوادان ويقودها سائق. وأحد الجوادين عريق الأصل سلس القيادة (الإرادة), أما الآخر فردئ الطبع جامح غضوب عصى (الرغبة أو الشهوة). وسائق العربة هو العقل. فالعقل هو الذي يقود سلوك الإنسان والمكونان الآخران يزودانه بالقوة والطاقة.

وفي الفلسفة المثالية لأفلاطون أن القدرة على الاستدلال والتفكير والتعقل هي التي تميز جوهرياً بين الإنسان والحيوان. وعلى الرغم من أنه لم ينكر الجانب اللاعقلاني في الطبيعة البشرية إلا أنه يرى أن التدريب على التفكير قد يعين الإنسان على تخطى الشهوة والنزوع. ومع ذلك فإنه يرى أنه نتيجة للتكوين الفطري للإنسان فقد يكون لأحد هذه المكونات الثلاثة الغلبة والسيطرة على "نفس" معينة. ولهذا يرى أفلاطون في "الجمهورية" أن تحدد المهام التي يسمح للطفل أن يقوم بها لمصلحة الدولة في ضوء إمكاناته الفطرية، ثم تربيته تبعاً لذلك. فمعظم الناس عند أفلاطون تحكمهم الشهوات والعواطف وبالتالي يجب تدريبهم على أن يصبحوا عمالاً، وبعضهم تسيطر عليه الإرادة والنزوع ولهذا يجب عليهم خدمة الأمة كجنود، أما الأقلية التي يسيطر عليها العقل فهم ساسة المجتمع وفلاسفته. وهكذا فإن الطبيعة البشرية عند أفلاطون تحكمها الفطرة، ومهمة البيئة أو الخبرة أن تنشط هذه الفطرة وتصل إلى أقصى حدودها الممكنة، وهي ما يسميه أفلاطون "المثل" الموجودة بالفعل داخل العقل. أما الخبرة أو التعلم فهما محض خداع.

وهكذا كان أفلاطون أول فيلسوف يصوغ الاتجاه الذي عرف في تاريخ الفكر الإنساني بالمثالية أو العقلانية والتي تتميز بثنائية الجسم والعقل. وهو الاتجاه الذي أثر في علم النفس الغربي الحديث بمعالمه الأربعة: الفطرة، والكلية، والحدس، والحيوية، وهي المعالم التي عرضها هولس وزميلاه (ترجمة فؤاد أبو حطب، آمال صادق 1982).

2. واقعية أرسطو:

في مقابل مثالية وفطرية أفلاطون كان أرسطو (384 - 323 ق.م) يرى أن جوهر الطبيعة البشرية ليس "مثلاً" محددة مقدماً بالفطرة، وإنما هي طبيعة محددة أساساً بالخبرة. وهكذا ظهر أول صراع في التاريخ بين أنصار الفطرة وأنصار الخبرة. فالعقل عند أرسطو يتألف من الاحساسات الأساسية التي تترابط معاً بقوانين التداعي. ولعله بذلك كان أول من عبر عن الفكرة التي شاعت بعد ذلك في الفلسفة الغربية وفي علم النفس الغربي الحديث وهي أن الطفل يولد وعقله صفحة بيضاء. وفي هذا الصدد يوحد أرسطو بين العقل والجسم. وخبرات الإنسان عنده (وخاصةً ملاحظاته الدقيقة) تعين على توضيح الحقيقة وليس تشويهها أو سوء عرضها (كما يرى أفلاطون).

وبينما كان أفلاطون يشك في الدليل الذي تقدمه الانطباعات الحسية فإن أرسطو كان أكثر شكاً في قدرة العقل وحده على إدراك الحقيقة دون خطأ. وعنده أن الحقيقة لا يتم البرهان عليها إلا بالاتفاق المتبادل على الملاحظات. وأي ملاحظات يتفق عليها على أنها تمثل الحقيقة يجب التعبير عنها منطقياً، وهي وحدها التي تقودنا إلى تفسير الأحداث أو السلوك، أي بالبحث عن أسبابها وعللها. ومرة أخرى نقول إن أرسطو كان أول من صاغ معالم هذا الاتجاه المضاد الذي يسمى الواقعية أو المادية والذي تتحدد معالمه الأربعة في الطرفية والاختزالية والترابطية والامبريقية، وهي المعالم التي لعبت دوراً خطيراً في تطور علم النفس الحديث (هولس وآخران، ترجمة فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1982).

3. طفل إسبرطة:

كانت إسبرطة هي المقابل الحضاري لأثينا. وإذا كانت أثينا "الديموقراطية" قد أنتجت عمالقة للفكر الإنساني مثل أفلاطون وأرسطو، فإن إسبرطة "الديكتاتورية" لم تنتج فكراً وإنما أفرزت ممارسة عملية في تنشئة الطفل يكمن وراءها تصور معين للطبيعة البشرية. وتتلخص هذه الممارسة في أن الطفل عقب ولادته مباشرةً يعرض على "مجلس الحكماء" الذي يتولى فحصه لتحديد مدى قوته وصحته وصلاحيته للبقاء في المدينة. فإذا كان الطفل ضعيفاً أو معوقاً يؤخذ إلى البرية ويترك فيها ليموت (أليس في هذا بذور فكرة البقاء للأصلح التي أشاعتها نظرية التطور في القرن التاسع عشر؟!). أما الطفل السعيد فهو الذي يعلن المجلس أنه صحيح. وعندئذٍ يتعرض لبرنامج من التدريب القاسي لتقويته وتدريبه للمهنة الشاقة وهي خدمة الدولة العسكرية. وفي هذا التدريب (الذي يشمل حمامات الماء البارد في عز الشتاء الأوربي) لا يسمح للطفل بالصراخ لأنه علامة على ضعف الخلق. وفي سن السابعة يؤخذ الطفل من منزل أسرته ويعيش في معسكرات عامة. ويتعرض في حياته الجديدة لنظام أكثر مشقة وقسوة. وحتى يكتسب الطفل صفات النظام والصلابة العقلية كان قادة هذه المعسكرات يستخدم أساليب العقاب البدني العنيف والحرمان من الطعام لعدة أيام. وطوال حياة الأطفال في هذه المعسكرات والتي تستمر لأكثر من عشر سنوات يغلب على تربيتهم الاهتمام بالجانب الجسمي على حساب النواحي العقلية والوجدانية.

وفي سن الثامنة عشرة وحتى سن العشرين يتدرب الشاب تدريباً مباشرةً على العمل العسكري وفنون القتال، ثم يلتحق بصفوف الجيش ويظل فيه لمدة عشرة سنوات أخرى في حياة أكثر خشونة وقسوة. وفي سن الثلاثين يتم الاعتراف للفرد بحقوق المواطنة الكاملة وعندئذٍ يمكنه أن يتزوج وأن يسهم في إدارة المدينة.

ولم يعترف الإسبرطيون بالفروق بين الجنسين. إلا أن تدريب البنات على المهام الشاقة لم يتطلب التحاقهم بمعسكرات، وإنما كان يتم في ساحات المدينة العامة بإشراف الأمهات. أما الهدف في الحالتين فكان واحداً: إعداد الذكور الأقوياء جسمياً للدفاع عن الدولة، وإعداد الإناث القويات جسمياً لإنجاب الأطفال الأقوياء للقيام بنفس المهام.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا