(45)
طريق الدموع
بكيت في الطريق إلى المطار وبكيت في المطار، وبكيت على مقعد الطائرة أمام الناس، وبكيت وأنا أبدل طائرتي في لندن، وبكيت على مقعد الطائرة الأخرى، بكيت وبكيت وبكيت وكأن في داخلي نهر لا ينضب من الدموع.
كانت حالتي مزرية عندما دخلت المستشفى هذه المرة، أسوأ بكثير من المرة السابقة،
وصلت إلى قسم العناية المركزة وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة وجدت أم حمد تبكي اقتربت منها وعيناي جاحظتان وقفت أمامها وأنا أرتعش: أين حمد؟ ما الذي حدث له؟
قالت وهي تنشج: الحمد لله أنك أتيت يا بسمة، في البداية ظنوا أنه مصاب بفيروس ما، ثم أثبتت التحاليل أنه مصاب بالتهاب حاد. نقلوا له الكثير من الدم لكنه متعب جداً و.
وجريت إليه، ارتديت اللباس الخاص ودخلت لأراه.
كان حمد في السرير وحوله عشرات الأجهزة، وأنابيب كثيرة مغروسة في جسده.
اقتربت منه وأنا أتأمل ما بقي لي من الرجل الذي أحببته، تذكرته يوم رأيته أول مرة، طوله الفارع، وجهه الذي تتفجر منه العافية، شعره الناعم المتطاير. ابتسامته الكبيرة، صدره العريض.
كان الرجل الذي رأيته في تلك اللحظة شخصاً آخر، بجسده النحيل، ووجهه الداكن، ورأسه الخالي من الشعر. كان رجلاً هزمه المرض. وسلبه إنسانيته. إنه بقايا رجل.
انهمرت دموعي للمرة الألف ربما. ووضعت يدي على جبينه. فتح عينيه بصعوبة ورآني. وبصعوبة أكبر ابتسم لي.
همست بأذنه وأنا أنحني عليه: يا بعده. كيف حالك؟ هكذا تفعل بي؟ كلما غبت عنك أعود لأراك في العناية المركزة؟
أومأ برأسه المجهد. قبلت جبينه وقلت باكية: لا تتركني يا حمد. لا تتركني في هذه الدنيا وحدي.
تحدث حمد بصعوبة شديدة وقال: سامحيني.
بكيت أكثر وقلت: سامحتك. سامحتك من كل قلبي يا حبيب الروح.
وأغمض حمد عينيه، صرخت منهارة تماماً وكل شيء في يتألم. اقتربت مني أم حمد وقالت: اذهبي إلى الشقة ونامي قليلاً. يجب أن ترتاحي، فحمد بحاجة إليك. وسأبقى هنا مع وفواز ثم نلحق بك بعد قليل، فلا يمكنك النوم عنده وهو في العناية.
سألتها ذاهلة: أين فواز؟
قالت: عند الطبيب. هيا يا ابنتي لقد وصلت للتو من رحلة طويلة ويجب أن ترتاحي.
وسرت وأنا أكاد أقع، أخذت حقيبتي من رجل الأمن، وصعدت إلى الشقة، دخلت غرفتي، وشهقت لمظهري المزرى، كنت فتاة أخرى، شعري مشعث وملابسي مكرمشة فوق جسدي، وعيناي متورمتان من البكاء. وقد حفرت دموعي أخاديد من الكحل على خدي،
دخلت الحمام لأستحم. وبدلت ملابسي، ورميت بنفسي على سريري. وذهبت في إغماءه، نعم قطعاً لم يكن ذلك نوماً، كان إغماء بلا شك من شدة التعب.
صحوت فجراً، وقمت لأصلي، توضأت طويلاً وكأنني أريد للماء أن يطفئ نيران قلبي، جلست على سجادة الصلاة وأنا أتضرع إلى الله عز وجل. دعوت الله بإخلاص: يارب. يا قادر على كل شيء، يا من إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون، اشفي حمد عافه من هذا الداء، أبقه لي. فقلبي معلق به. ولا أطيق الحياة من بعده. لا تردني يارب ولا تخيب رجائي يا كريم.
بكيت طويلاً على سجادة الصلاة. ناجيت الله طويلاً. وقرأت ما تيسر لي من القرآن الكريم فهدأت نفسي، عدت للنوم فغفوت لساعة أخرى. واستيقظت على طرقات أم حمد علي باب غرفتي،
فتحت لها الباب وأنا لا أزال بملابس نومي، طلبت مني النهوض لأتناول الإفطار معها، فأنا لم أذق الزاد منذ ركبت الطائرة من الكويت، لم أكل أي شيء ليومين!
قمت متثاقلة وغسلت وجهي وأنا أتحاشى النظر إليه في المرآة، وأكلت طعام إفطاري دون شهية، لكن الطعام فادني ومنحني طاقة كنت أحتاج إليها في هذه الظروف،
لم تكن أم حمد بحال أفضل مني، كانت أيضا منهكة بائسة، كان الله في عونها، فهي أم ترى فلذة كبدها وثمرة فؤادها في هذه الحالة.
قالت أم حمد: غداً إن شاء الله أول يوم من شهر رمضان المبارك.
تعجبت فقد خلت الشهر الكريم يبدأ بعد أيام، لقد أنستني المصائب الشعور بالأيام،
قلت بحرارة: عسى أن يكون ذلك خيراً. ويعود حمد معنا إلى الكويت في العيد.
تنهدت أم حمد وقالت: آمين يارب العالمين.
فتحت هاتفي النقال فوجدت عشرات الرسائل من أهلي ومن صديقتي شريفة. كلهم يسألون عن حمد، أجبتهم جميعاً برسالة واحدة: هو تحت رحمة الله. لا يزال في العناية المركزة بسبب إصابته بالالتهاب، دعواتكم له.
ارتديت ثيابي وربطت شعري خلف رأسي. وذهبت مع أم حمد إلى المستشفى وكان فواز قد سبقنا إلى هناك باكراً.
رحب بي فواز وقال: حمد الله على السلامة يا زوجة أخي.
ابتسمت له بحزن: شكراً. الله يسلمك.
كان فواز ممتقع الوجه حزين التفاصيل مثلنا جميعاً. كم كان يحب حمد. كانت علاقة أخوتهما علاقة رائعة لا يحظى بها الكثير من الإخوة في هذا الزمن للأسف.
دخلت مع أم حمد إليه. وبدا لي أنه أفضل حالاً من الأمس. استطاع التحدث إلينا. وأحسست أنه تحسن بعض الشيء.
قبلت أمه يديه وأصابعه كثيراً. ومسحت على جبينه ورأسه وهي تقرأ عليه آيات من القرآن الكريم.
كنت ابتسم لحمد مشجعة كلما التقت عيناي بعينيه الغائرتين. ابتسم له وفي قلبي ألف دمعة. حبيبي أنت يا حمد ليتني أستطيع أن أفديك بعمري.
قضينا يومنا بالكامل في المستشفى. في الصالة المجاورة لغرفة العناية المركزة، نطل على حمد من خلال الزجاج بعد أن منعنا الطبيب من الدخول إليه ليرتاح،
وعندما حل المساء عدنا إلى الشقة، خرج فواز ليشتري لنا العشاء. فقد نسينا أن نتناول غداءنا،
اتصلت بشريفة من غرفتي وحادثتها قليلاً. حاولت هي مواساتي وطلبت منى التمسك بالأمل والصبر.
عاد فواز بالعشاء وقال: لا تنسوا أن تعقدوا النية على صيام شهر رمضان فغداً اليوم الأول من الشهر الفضيل.
قالت أم حمد: إذن هذا العشاء بمثابة سحور لنا أيضاً.
قال فواز: نعم. لا أظن أننا نستطيع أكل أي شيء لاحقاً.
بقيت صامتة وتناولنا طعامنا بهدوء، أرسلت رسائل هاتفية لأهلي: مبارك عليكم الشهر.
كنت أعرف أن رمضان بدأ عندهم في الكويت ذلك اليوم، مع فرق التوقيت.
نمت عند منتصف الليل وقبل أن أنام قلت: نويت أن أصوم شهر رمضان المبارك قربة إلى الله تعالى.
***
(46)
رمضان
عندما وصلنا إلى المستشفى في اليوم التالي أخبرتنا الممرضة أن حمد قد نقل إلى غرفة عادية،
ورغم أن هذا خبر مبشر عادة إلا أنني لمحات الكدر في وجه الممرضة!
توجهنا إليه بسرعة. ودخلنا. كان حمد ممدداً في سريره. وقد أزيحت عنه الأجهزة ما عدا جهاز لتخطيط القلب وبيان نبضاته.
قالت أمه: يا حبيبي يا حمد. الحمد لله أنك خرجت من العناية المركزة.
صاح فواز: أجر وعافية يا أخي.
أما أنا فقد اقتربت وقبلت رأسه وأنا أقول: مبارك عليك الشهر يا حبيبي. اليوم أول يوم في رمضان، وإن شاء الله في العيد نكون كلنا في الكويت.
ولم يرد حمد. كان ضعيفاً لدرجة أنه كان عاجزاً عن النطق.
فتح باب الغرفة ودخلت الممرضة وقالت: الطبيب يريد الاجتماع بكم.
سألها فواز: كلنا؟
قالت: نعم. كلكم.
خرجنا وراء الممرضة إلى غرفة الطبيب. دخلنا إليه وأغلقت الممرضة الباب وراءنا.
تنحنح الطبيب قليلاً ثم تكلم: بصراحة. لا أعرف كيف أنقل لكم هذا الخبر.
خفق قلبي بقوة لدرجة أنني وضعت يدي عليه، وكأنني أخاف أن يخرج من بين ضلوعي.
قال الطبيب: لقد تمكن الالتهاب من حمد. لم يعد يمكننا مساعدته للأسف.
صرخت بحدة: ماذا تقصد؟
قال الطبيب: لقد وجدت أنه من الأنسب أن أنقله لغرفة عادية لهذا اليوم كي تستطيعوا البقاء بقربه. فاليوم غالباً سيموت حمد.
شهقت أمه وجحظت عينا فواز وقال: معقول أن يعجز الطب عن مساعدته؟ ما هذا الكلام يا دكتور؟
قال الطبيب وكأنه رجل آلي بلا مشاعر: لقد فعلنا كل ما بوسعنا، حالياً تم تركيب جهاز لقياس نبضاته، وقريباً ستبدأ مؤشرات الجهاز بالانخفاض تبعاً لانخفاض نبضات قلبه. إلى أن يرحل.
بكت أم حمد بكاءً هستيرياً. وانهمرت الدموع أيضاً من عيني فواز، وبقيت أنا جامدة. تأبى دموعي أن تنهمر ويأبى قلبي أن يستوعب. معقول. أن يموت حمد بهذه السرعة؟ أن يرحل ويتركني ونحن لا زلنا في أول الطريق؟
قام الطبيب واقفاً إيذاناً منه بطردنا من مكتبه، وقال: لدي حالات يجب أن أعاينها. أنا حقاً آسف لأجل حمد.
وخرجنا. ذاهلين. محطمين. كسيري الفؤاد.
ودخلنا علي حمد. والتففنا حوله. بكت أمه كثيراً فلم يعد بوسعها التحكم بمشاعرها.
جلس فواز يقرأ القرآن وهو يبكي بصمت وبقيت أنا كلبؤة جريحة في قفص خانق. لا أعرف ماذا أفعل لأنقذ حبيبي الذي يودع الدنيا. أنظر إليه وأعد أنفاسه وأشعر أن كل شيء في هذه الدنيا لم يعد يستحق العيش بعده.
اقتربت منه وجلست على سريره. وفجأة بكيت، انسابت دموعي هذه المرة كالسيول. حتى أنها تساقطت على يده. فتح حمد عينيه بصحوة غير متوقعة، نظر إلي طويلاً وكأنه يودعني. همس بشيء لم أستطع سماعه، فقربت بأذني من فمه وسمعته،
قال حمد: اذكريني.
بكيت وهمست بأذنه: أحبك يا حمد. سأشتاق إليك كثيراً. وسأحبك دائماً.
بدأت مؤشرات الجهاز تتذبذب على الشاشة
90%
90%
90%
أحبك يا حمد.
80%
80%
80%
أنت روحي یا حمد.
70%
70%
70%
كم ستظلم ديناي من بعدك.
60%
60%
60%
كم أحببتك
50%
50%
50%
أجمل لحظاتي عشتها معك أنت.
40%
40%
40%
كم سأكون وحيدة من بعدك.
30%
30%
30%
لا تتركني يا حمد.
20%
20%
20%
أنت حب عمري يا حمد.
10%
10%
10%
أحبك أحبك أحبك.
0%
یا بعده.
وفاضت روح حمد.
***
(47)
يا بعده
يعجز الثمانية والعشرون حرفاً في اللغة على التعبير عن ما أحسست به ذلك اليوم.
لقد أزهقت روحي بموت حمد، مت أنا مثله تماماً عندما مات لكنني لم أتمكن من مغادرة جسدي.
بقيت حبيسة جسد لم أعد أريده في دنيا لم أعد أريدها، كما كان رحيلك. قاسياً يا حمد، مؤلماً، صعباً، وحزيناً.
كم أكرهك أيها السرطان. أيها الداء الخبيث الذي يغتال شباباً. أطفالاً. أعماراً بلا رحمة، كم أدعو ليل نهار أن يوفقنا الله بإيجاد علاج لك، لنغلبك فلا تدمي أي قلب بالفقد بعد ذلك.
رحل حمد وبقيت ملتاعة من بعده. كئيبة. حزينة، محطمة. قليلة الحيلة. تسربت من بين يدي حبيبي دون أن أستطيع فعل أي شيء لأساعدك سامحني. فأنا مجرد مخلوقة ضعيفة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، سلمتك يا حبيبي إلى الله الذي رحمك من عذابك وأراح جسدك من مرضك القاتل.
لن أذكر التفاصيل التي قد توجع قلوبكم أكثر.
لكنني عدت إلى الكويت مع أم حمد.
بقي فواز ليقوم بإجراءات نقل جثمان حمد إلي الكويت ولم ننتظر معه، لم تطق أم حمد أن تركب طائرة يرقد فيها جسد ولدها بتابوت. كان هذا فوق احتمالها.
عدت مع أم حمد وكل منا تكاد لا تري طريقه من شدة الحزن،
وصلنا إلى مطار الكويت وكان أهلي بانتظاري. أمي تهاني. دلال. مجبل وشريفة.
ووالد حمد. وهبة. وآلاء. لا أذكر إلا أنني كنت أنتقل من حضن لأخر، وأمزج دموعي بدموعهم.
كان الحدث أكبر من أن تصفه الكلمات. والحزن أكبر من أن تصفه الحروف.
اقتربت مني أمي بعباءة وقالت وهي تبكي: بسمة. ارتدي العباءة الآن وغطي بها وجهك فأنت الآن في العدة يا ابنتي.
وشهقت. العدة؟! أنا في العدة؟ ما معنى العدة؟ صغيرة أنا على العدة.
لقد أصبحت أرملة وأنا لازلت في الحادية والعشرين من عمري. وتوفي زوجي وهو في الخامسة والعشرين من عمره. كم أرثيك يا حمد، وكم أشتاق لك.
وصلت إلى بيتنا وأخذوني إلى جدتي. وقفت أمامها ملتفة بعباءتي. ولأول مرة منذ زمن بعيد رأيتها تبكي وبحرقة شديدة. اقتربت منها وقد طأطأت رأسي، رفعت ذقني إليها وبلحظة أصبحت بين أحضانها. آه يا جدتي. لو تعرفين كم قاسيت.
وتقرر أن يكون العزاء في منزل أهل حمد. ما أصعب أيام العزاء وما أثقلها. لو كان الأمر بيدي لكنت غيرت تقاليد العزاء كلها.
لكنت جعلتها بعد الدفن بأسبوع على الأقل، ألا يكفي صدمة الفقد؟ ووجع القلب؟ ما أصعب مواجهة الناس. كنت أحتاج أن أخلو بنفسي لكنني كنت مضطرة لمقابلة الناس. ولماذا يقبلني كل هؤلاء الناس؟ كم أتمنى لو أنني بقيت وحدي لأهدأ، لأفكر، لأبكي كما يحلو لي، لأحتضن وسادتي وصورة حمد الذي لازلت لا أستوعب رحيله.
كنت أجلس بجوار أم حمد وهبة. تشهق بعض النساء عندما يشار إلي بأنني زوجة الفقيد الشاب.
أسمع همساتهن المشفقة: المسكينة. لازالت شابة. إنها صغيرة جداً.
مسكينة أنا حقاً. وبلا شك. أتت عمتي حصة منهارة بالبكاء لحضور العزاء وهي لا تصدق أن حمد مات فعلاً.
وفي اليوم الثالث من العزاء سمعنا صراخاً وعويلاً من خارج البيت فرفعنا رؤوسنا متسائلات!
دخلت أختي دلال وقالت: عذراً. هناك فتاة أوقفتني وأنا أهم بالدخول. وسألتني من المتوفى في هذا البيت؟ عزاء من هذا؟ وعندما قلت لها حمد. صرخت وولولت. لا أعرف من هي.
هززت رأسي متفهمة.
فسألتني هبة هامسة: أتعرفين من تكون؟
قلت لها بألم: إنها. فهد!
***
(48)
شهور صعبة
حاولت أن أعرف من دلال لاحقاً أي معلومات عن تلك الفتاة. شكلها. هيئتها. طولها، مستوى جمالها، لكن دلال لم تفدني كثيراً، كل ما قالته إنها بيضاء البشرة، محجبة، ترتدي العباءة الإسلامية وأن معها ولد صغير يجلس في المقعد الخلفي لسيارتها!
وحاك عقلي عشرات القصص حولها، أكانت تحب حمد قبلي ثم تزوجت من آخر ولم تحتمل البعد عنه فعادت إليه؟ أم أنها عرفته وهي متزوجة ولهذا لم يستطع حمد الزواج بها؟ ما هي طبيعة علاقته معها؟ وإلى أي مدى كانا مقربين؟ فردة فعلها عندما عرفت بوفاته كانت حادة وعنيفة، لابد أنه يعنى لها الكثير و.
وما الذي يهم؟ لقد رحل حمد، وأخذ سره معه.
ومهما كان موقع الأخرى في حياته، أظل أنا الأهم، فأنا زوجته. أقصد أرملته وعلي أن أعتد الآن، لأربعة شهور كاملة، وفوقها عشرة أيام.
أعطتني الجامعة إجازة للعدة دون أن أنسحب من موادي، أخبروني أن علي متابعة المحاضرات من المنزل بمساعدة زميلاتي على أن أخضع للاختبارات المهمة،
كنت قد سجلت في أربعة مواد ذلك الفصل، أحضرت إلى شريفة الكتب بمجرد أن بدأ الفصل الدراسي وكانت تأتي لتشرح لي الدروس كل يوم،
انتظمت شريفة في زيارتي وكذلك فعلت أم حمد.
فوجئت بعاطفتها الجياشة نحوي والتي بينتها لي بعد وفاة حمد، كانت تزورني بشكل شبه يومي، وتصل لتطمئن علي على الدوام.
كنا نبكي معاً كثيراً، نتذكر حمد وننخرط في نوبات بكاء حادة، وجدت في وجودها بقربي مواساة حقيقية، ووجدت في أحضانها رائحة حمد التي خرمت منها إلى الأبد.
حدثتني كثيراً عن طفولته، صباه، شبابه، سفره إلى الولايات المتحدة للدراسة، قالت بحسرة لقد عاد في المرة الأولى منها بشهادة دراسية، وعاد في المرة الثانية بشهادة وفاة.
كم كانت تتألم. كانت أماً ثكلي، تنوح على فراق ولدها ويتقطع قلبها على فقدانه،
قالت لي مرة كلمات لن أنساها. قالت وهي تربت على شعري: سبحان الله الذي زرع محبتك في قلبي يا بسمة، كنت رافضة لزواجكما في البداية لكن الله كتب لكما هذا الزواج ليعوضني بك عن فقداني لولدي، سبحان من أخذ حمد وتركك لي بدلاً عنه. لأشم فيك رائحته الغائبة. فقد كنت أحب الخلق إليه، لقد أحبك كثيراً. كثيراً جداً، لم يحب أحداً في حياته كما أحبك أنت.
أثرت بي كلماتها كثيراً. ومن الصميم. وشعرت بالمسؤولية نحوها. وعاهدت نفسي على أن أكون بارة بها كأمي وأكثر.
لم أحضر دفن حمد، منعتني أمي من ذلك منعاً باتاً، لقد خافت علي، رفضت اقتراحي من أن أذهب وأنا أغطي وجهي كوني في العدة، لم تسمح لي إطلاقاً وكانت حاسمة جداً هذه المرة. خافت أن لا يحتمل قلبي الموقف، فرضخت لها. لكنني بداخلي كنت أتوق لزيارة قبره، وبنفس الوقت كنت أهاب هذه الزيارة،
أخبرتني أم حمد أنها تزور قبره كل جمعة. كم تمنيت لو استطعت الذهاب معها. لكن الوقت كان مبكراً على ذلك.
ألغت ماما نشمية الزيارة الأسبوعية في بيتها للعائلة. أخبرت الجميع أن هذا الإلغاء سيطول إلى وقت خروجي من العدة، فقد كنت أذهب إلى بيتها كثيراً كونه المكان الوحيد المسموح لي بزيارته خلال تلك الشهور الصعبة.
أتى شهر فبراير في ذلك العام مختلفاً. وجاء عيد ميلادي الثاني والعشرين كئيباً. نظرت إلى دبلة حمد التي لم أخلعها أبداً من أصبعي منذ عام كامل ورثيت نفسي، سحبت روايتي المفضلة لأعثر على وردة جافة احتفظت بها من باقة الزهور التي أرسلها لي حمد في عيدي الماضي، كانت الزهرة اليابسة تشبهني، فقد فقدت لونها، بريقها، وحتى هيئتها. كانت هشة مثلي تماماً. تكفيها لمسة واحدة لجعلها تتفتت وتتلاشى.
حضرت تهاني ومعها دلال وشريفة أيضاً في عيد ميلادي، التففن حولي صامتات، لم يجدن ما يقلنه لمواساتي، كان الحزن حفلتي والصمت هديتي في ذلك العيد. نظرات إلى صور خطوبتي التي تجمعني بحمد مئات المرات وذرفت عليها الدموع مراراً.
لأول مرة في حياتي أقضي كل هذه الأيام في البيت، تحيط بي الجدران طول النهار. أنا التي اعتدت الخروج وارتياد المطاعم والمجمعات أصبحت سجينة في البيت،
انكببت أدرس كتبي. موادي التي لم أحضرها، وبدأت أكل أكثر من المعتاد فقط لأقضي الوقت، في المساء كنت أقرأ القرآن الكريم لتهدأ نفسي، وأنام على ذكرياتي الجميلة مع حمد، وأصحو على حزن يثقل قلبي.
كلما أتذكر رحيله أشعر بألم في قلبي كان رحيله صعباً وشوقي له أصعب وأصعب. كان شوقاً بلا أمل في لقاء يطفئه.
زارتني هبة عدة مرات أيضاً وزارتني آلاء مرة واحدة مع حمد الصغير. ضممته طويلاً إلى صدري وداعبته وحملته فلم يستغرب مني،
قالت آلاء: تجيدين التعامل مع الأطفال. لقد أحبك حمد بسرعة، رغم أنه لا يندمج مع الآخرين بسهولة.
قلت لها بحزن: صحيح أنا أعشق الأطفال.
قالت باندفاع: أتمنى أن يعوضك الله بالزوج والأولاد فلا زلت صغيرة و.
سكتت آلاء فجأة وقد استوعبت اندفاعها الذي لم يكن في محله، فإن تأتي على ذكر الزواج وأنا لا زلت في العدة أمر لا يجوز، والأهم أنني لا زلت أحب حمد ولا أتخيل نفسي زوجة لغيره أبداً. ساد صمت محرج بيننا فقالت متداركة: أنا آسفة يا بسمة. أنا حقاً آسفة.
قلت لها بلطف: لا عليك.
لكن الحرج ظل بيننا إلى أن همت بالرحيل. ولم تزرني بعدها، ذهبت أم حمد لأداء العمرة بصحبة والد حمد وفواز وسعود أيضاً، مسكين سعود رأيته يبكي كثيراً في أحد الأيام وأنا خارجة من بيتهم أيام العزاء، وتألمت كثيراً لمنظره.
أثبتت لي شريفة مدى إخلاصها فهي لم تتركني أبداً ولم تغب عني إلا عندما أتت الامتحانات،
وأوصلت لي الآتي. الدكتور خالد أخبرها أنه سيكلفني بحوث أقدمها عوضاً عن الامتحانات الفصلية عدا الامتحان النهائي الذي يجب على تقديمه كما أنه يرسل تعازيه الحارة إلي.
في المادة الثانية طلب مني الدكتور بحوثاً أيضاً على نهج الدكتور خالد.
في المادة الثالثة- وكانت مادة اختيارية من قسم العلوم السياسية- أخبرت الدكتورة الرائعة شريفة أنها ستضع لي امتيازاً بالمادة دون أن أقدم أي امتحان وذلك مساندة منها لي ولتقديرها لوضعي، أخبرت شريفة أنني حفظت الكتب الدراسية من شدة فراغي وأنني مستعدة للخضوع للامتحان النهائي على الأقل. لكنني لن أنسى بادرة تلك الدكتورة الطيبة ولن أنسى إنسانيتها ولا زلت إلى اليوم أكن لها كل الحب وقد وفقها الله في سنوات لاحقة وتعينت في منصب وزاري مهم.
أما المادة الرابعة فقد كان الدكتور في قمة الأنانية، قال أن علي الحضور لكل الامتحانات كي أجتاز المادة، وقال إنه مضطر لتقبل غيابي عن الحاضرات لكن الامتحانات لابد منها!
استاء أهلي كثيراً من موقفه وفكرت أمي أن تتصل بعمي ماجد ليكلمه ويذهب إليه، لكنني رفضت وقررت الذهاب إلى الامتحانات. على الأقل سأرى الشارع! ثم إنها حاجة ملحة ولي العذر في الخروج بسببها أليس كذلك؟
في موعد الامتحان الأول لتلك المادة ذهبت إلى الجامعة مع أمي وشريفة وأنا أرتدي العباءة والنقاب،
دخلت مباشرة لقاعة الامتحان دون أن ألتفت في سيري أو أسلم على أي من زملائي أو زميلاتي، وبقيت أمي تنتظرني خارج القاعة.
وبعد الامتحان مباشرة أخذتني أمي بسرعة وكأننا نهرب من شيء ما، وعندما رأى الدكتور وضعنا أخبر شريفة أنه سيضاعف إلى درجة الامتحان الذي قدمته بحيث لا اضطر للحضور إلى الجامعة إلا في الامتحانات النهائية حيث أكون قد أنهيت العدة وقتها.
في إحدى الليالي ذهبت للعشاء في منزل جدتي. وكنا حول المائدة. أنا وأمي وماما نشمية.
وخطرت لي فكرة غريبة. لكنها حقيقية،
إننا جميعاً أرامل! نعم أنا أرملة وأمي أرملة وجدتي أيضاً أرملة.
يا للقدر. نحن ثلاثتنا نحمل نفس اللقب رغم أننا في مراحل عمرية مختلفة، لكنهما أفضل مني بكثير.
فجدتي عاشت عمراً كاملاً مع جدي رحمه الله، وأنجبت له قبيلة كاملة من الأولاد والبنات والحفدة،
قضت معه كل شبابها ورحل عنها وقد أصبحت سيدة كبيرة في العمر.
في حين عاشت أمي عمراً طويلاً مع أبي. أنجبت منه ثلاثة أبناء. وسعدت بقربه لأيام جميلة كثيرة،
على الأقل ترك لها أبى أبناء يذكرونها به وبملامحه التي غابت عن الحياة،
أنا فقط الأرملة الأفقر بينهم. عشت مع زوجي ستة أشهر فقط، أيامي الهانئة فيها قليلة ومعدودة، ولم أحظ بأي طفل منه قط. وكل ما بقي لي منه ذكرى حزينة لا تزال تنخر في قلبي وتسيل منها دموعاً تأبى أن تجف وتحفر بداخلي جروحاً لا تندمل.
***
(49)
كل الأيام تمر
وعلمني الزمن حقيقة مهمة. أن كل الأيام تمر، الأيام الحلوة تمر، والأيام الحزينة تفعل مثلها ولو أن وتيرة مرورها أبطأ بكثير.
وانتهت أيام العدة، أقامت لي جدتي عشاء فخماً في أول يوم خرجت فيه من العدة،
صحوت ذلك اليوم ونظرت طويلاً إلى وجهي. هل تغير شيء ما في ملامحي؟ لم أرى شيئاً سوى ذلك الحزن الدفين في عيني، عدا ذلك. تغير وزني. وبدوت أكثر امتلاء نتيجة بقائي الطويل حبيسة البيت.
عندما دخلت صالة جدتي التي تضم كل أهلي، أحسست بالدور، شعرت أنني على وشك الإغماء.
فقد مضى وقت طويل منذ رأيت ناساً بهذا العدد، قبلتني النساء وسلم على الرجال، قبل عمي ماجد رأسي ببادرة طيبة وحنان لم أعهده فيه،
وأغرورقت عيني أمي بالدموع رغماً عنها وهي تراني بثوبي الأسود الذي لم أستطع تغيير لونه بعد. لم يكن من السهل على بعد أن أخلع السواد، حتى عيني لم أضع حولهما الكحل. ووجهي تركته بلا أي نوع من المساحيق،
أحسست أن أي زينة قد أضعها تعد خيانة لذكري حمد التي تسكني وبشدة!
شيئاً فشيئاً بدأت أتحدث مع الموجودين، وكأنني أتعلم الكلام، عدت إلى بيتنا بعدها وأنا مرتبكة فقد اعتدت على البقاء وحدي فأربكني وجود الناس من حولي.
في اليوم التالي جاءت عمتي حصة إلى الكويت، كانت تجلس بالصالة مع زوجها عادل عندما نزلت،
ضمتني إليها بحنان جارف. واقترب مني زوجها وقال بلهجته البحرينية المحببة: حمد الله على السلامة. وعظم الله لك الأجر.
قلت له مداعبة: ياه. لم أكن أحب أن تكون أول رجل أراه بعد العدة. قالوا لي أن أول رجل سأراه بعدها سيموت.
ظهر الخوف على وجه عادل وضحكت عمتي حصة لدعابتي، فأحسست بالخجل من زوج عمتي الطيب الذي أحبه وأقدره كثيراً فقلت: لا تخف. أنا أمزح، ثم أنني التقيت بكل رجال العائلة بالأمس.
سكت مبتسماً وقد ظهر الارتياح على وجهه فقلت صادقة: أتمنى لكما عمراً مديداً. عسي الله أن يحفظكما وعد في عمريكما فتريان أحفاد كما وأولاد أحفاد كما أيضاً.
قالت عمتي بحب: آمين يا بسمة.
قال عادل: ما رأيك لو أتيت معنا إلى البحرين؟ ستكون فرصة جميلة أن تغيري مكانك وتخرجي من جو الحزن هنا.
قالت عمتي بحرارة: فكرة رائعة. ما رأيك يا بسمة؟
قلت لها بحيرة: أنا ملتزمة بالجامعة وعلى أن أذهب للدوام فقد انتهت إجازة العدة من الممكن أن أسافر إليكما بعد الامتحانات.
صفقت عمتي كطفلة: فكرة رائعة، سنكون بانتظارك.
وذهبت إلى الجامعة واجتمع حولي جميع معارفي. الكل يسألني عن ما مررت به، البعض يدعوه الفضول لسماع قصة ألمي والبعض يكتفي بتعزيتي ويلجم فضوله مراعاة لمشاعري وشتان بين الاثنين.
فرح الدكتور خالد لرؤيتي وقدم لي التعازي وأخبرني كم حزن من أجلي. وبعد عدة أيام ذكرني بموضوع عملي في الجامعة وعن رغبته بأن التحق بالفصل الصيفي لهذا العام لأحضر محاضرات أحد المعيدين، فأخبرته أنني أخطط للسفر للبحرين لعمتي،
لم أكن جاهزة بعد للانغماس في الحياة، فقد كان جبروت الموت لا يزال يعيقني. فموت حمد لم يكن أمراً عادياً، كان موتاً سلبني أجمل حب في حياتي، وأبقاني جوفاء من الداخل، كجسد بلا روح، كقلب بلا نبض، وكيان بلا إحساس.
قدمت امتحانات ذلك العام بسهولة فقد كنت أحفظ الكتب، وقبل ظهور النتائج سافرت إلى البحرين،
وتعجبت كثيراً لوجود كل هؤلاء الناس ذوي القلوب الطيبة في بلد واحد، وكعشقي لعمتي حصة وزوجها عشقت البحرين وناسها وقضيت فيها أياماً طيبة.
***
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا