قصة الشيطان (جسار)
كما رواها الرجل الغريب:
(جسار) هو الابن الأصغر للقرين المتمرد (مازع) وهو من أكبر الشياطين المتمردة وراح ضحيته الكثير من السحرة الذين حاولوا تحضيره. (مازع) خرج عن سيطرة صاحبه عندما حاول تحضيره لرؤيته وبمجرد تحرره قام (مازع) بقتل صاحبه وكل أسرته ومنذ ذلك الوقت وهو يتسلط على الناس ولم يستطع أحد إيقافه. انضم (مازع) لقبيلة "الكثبان" وتمكن من تولي قيادة العشيرة بعد وقت قصير بزواجه من ابنة زعيم القبيلة وأنجب من الأولاد سبعة أكبرهم قدراً وأحبهم لقلبه كان (جسار) لأنه كان يشبه أمه التي رفعت من شأن (مازع) بين معشر الشياطين وبدوره كذلك رفع (جسار) اسم أبيه عالياً بين أسياد الشياطين بقوته وشجاعته التي أظهرها في حروب القبيلة مع القبائل الأخرى. بقي (جسار) قرة عين أبيه (مازع) حتى ذلك اليوم الذي عشق فيه (جسار) فتاة من الإنس وكان هذا محرماً في معشر الشياطين لكنه كان مسموحاً للأسياد ومع هذا كان الأسياد والذي يعتبر (جسار) وأهله من بينهم يترفعون ويتجنبون عشق البشر أكثر من غيرهم لأنهم يرون في ذلك تجنيساً لعرقهم وهبوطاً في مستواهم القبلي.
منع (مازع) ابنه (جسار) من زيارتها لكن (جسار) خالف أمر أبيه وعاد لزيارة تلك الفتاة لكن أمره انكشف وحوكم بالنفي مدى الحياة وسلبت منه حصانته ضد السحرة الصغار والمبتدئين كي يتحكموا به ويجعلوا منه خادماً لأغراضهم ويقال إنه أصيب بضرب من الجنون بعد نفيه. بقي (جسار) خادماً ذليلاً يتنقل من ساحر لآخر لقضاء حوائجهم ولم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً لمنعهم بسبب الربط الذي ربط أحد كبار الشياطين عليه، وفي يوم قام شاب صغير لم يتجاوز العشرين من عمره وكان في بدايته بتعلم السحر وحضر (جسار) بهدف البحث عن الثراء بواسطة السحر. عندما ظهر له (جسار) قال له الساحر الصغير أريدك أن تحضر لي أموالاً كثيرة.
فقال (جسار): أنت لا تفهم الغرض مني.
فقال الساحر الصغير: وما هو الغرض منك.
فقال (جسار): أنا أسلط على الجسد وأذهب العقل وأسكن المنام فقط.
فسكت الساحر قليلاً ثم قال:
ولماذا لا تختار ما تريد أن تفعل؟
فحكى (جسار) للساحر قصته.
فقاله له الساحر: وكيف تتحرر؟
قال (جسار): بموت الشيطان الذي ربطني.
فقال الساحر: وكيف ذلك؟
قال (جسار): بأن تحضره مقيداً وتحضر معه شيطاناً آخر وتأمره بقتله.
فقال الساحر: وما فائدتي من ذلك؟
رد عليه (جسار) وقال:
أموال الدنيا وأكثر ستكون تحت تصرفك.. فقط حررني وسأحقق لك كل ما تريد.
فبحث الساحر عن كتاب لتحضير الشيطان الذي ربط (جسار) وعن كتاب لتحضير من يقتله.. لكنه لم يجد .. فقال لـ (جسار):
لم أجد ما تريد لذلك لن أستطيع..
فرد عليه (جسار) وقال: ستجدهما عند ساحر اسمه (نجد) يسكن (عدن) اذهب إليه واطلب مساعدته.
بحث الساحر عن (نجد) فلم يجده وسمع خلال بحثه وسؤاله عنه عن قصة موته وتحرر قرينه فبحث عن كتاب قرينه فوجده وعاد به لـ (جسار) وحكى له ما حدث فقال له (جسار):
حضره واسأله عن مكان الكتب.
فقال الساحر: ولماذا لا تفعلها أنت بنفسك فأنت شيطان علوي؟
فرد عليه (جسار) بغضب:
لأني مقيد ولا أملك قوة لفعل ذلك!!
فخاف الساحر وقام بتحضير (دجن) وعندما حضر (دجن) هم يقتل الساحر لكن (جسار) صرخ عليه ومنعه وقال له:
توقف يا قرين (نجد).. حررني ولك ما شئت
فقال (دجن): وإيش راح أستفيد لما أساعدك يا مربوط؟
فقال له (جسار): أنت تعرف ماذا يمكن أن أفعله لك.
غاب (دجن) لفترة بسيطة ثم عاد ورمى كتاب تحضير الشيطان الذي قيد (جسار) في وجه الساحر الصغير وقال له:
يلا خلصنا حضره بسرعة.. وأول ما تحضره اربطه لا تورطنا لأن شكلك توك في الشغلة.
نفذ الساحر ما أمره به (دجن) وخرج الشيطان الذي قيد (جسار) وهو يصرخ بشدة وحدث ما كان يخشاه (دجن) فلم يلحق الساحر الصغير قراءة طلسم تقييد الشيطان الذي ربط (جسار) وفي لمح البصر قسم الشيطان الساحر إلى نصفين فباغته (دجن) من خلفه وقتله قبل أن ينتبه لوجوده فتحرر (جسار) من قيوده وبدأ يصرخ ويزأر منتشياً لتحرره عندها قال له (دجن):
يلا يا سيد وين وعدك؟
فقال (جسار): إذا لم تبتعد عني فسأمزقك أيها القرين الحقير.
فقال (دجن): أنا.. طلعت مش قد كلامك.
وقبل أن يرد (جسار) عليه هجم (دجن) على (جسار) لكن (جسار) كان أقوى منه بكثير فصرعه أرضاً في لمح البصر وأمسك بعنقه لكنه لم يقتله وقال له:
"سأعفو عنك فقط لأنك ساعدتني لذلك بمجرد أن أتركك أخرج بلا عودة وإلا فلن ترى النور أيها القرين"
خرج (جسار) من منزل الساحر وقتل كل ساحر استخدمه في السابق لقضاء حاجة له وقد قام بقتلهم جميعاً في يوم واحد حتى لا يحذروا بعضهم بعضاً لدرجة أن السحرة الآخرين أصابهم الذعر من أن يصيبهم المصير نفسه حتى وإن كانوا لم يتعاملوا مع (جسار) من قبل. قام (جسار) بعدها بالاختفاء ولم يسمع عنه أحد حتى استطاع ساحر متمكن من الحجاز تحضيره وتسخيره لخطف النساء واستمر (جسار) يخدم ذلك الساحر حتى مات الساحر لكن (جسار) لم يتوقف عن الخطف وأصبح معروفاً بهذه الصفة ولا يستطيع تحضيره إلا من بلغ من علم الشعوذة درجة كبيرة ويبدو أن الساحر الذي اعتديتم عليه كان ذا مقدرة عالية وقام بتسليط (جسار) عليكم.
(عمار) والصعود للهاوية:
وخلال تلك الفترة التي أتقن فيها (عمار) معظم أسرار المهنة جاء رجل يبكي عند باب الساحر وطلب الدخول عليه فاستأذن له (عمار) من الساحر ودخل وبدأ يحكي للساحر قصته و(عمار) يقف بجانب الساحر ويسمع ما يدور بينهما. قال الرجل إنه تزوج منذ أشهر من فتاة تصغره في السن بفارق كبير ومنذ أن تزوجها بدأت الكوابيس تطارده وكان يأتيه شكل مخيف محاط بالدخان يهدده بأنه إذا اقترب مها فسوف يقتله وكان يأمره بتطليقها في كل كابوس.
رد عليه الساحر وقال: هل لديك ما يكفي من المال؟
وصل (عمار) لمنزل الرجل الغريب الذي طلب منه العمل لديه مدى حياته والذي اتضح فيما بعد أنه ساحر كبير ومشهور بين السحرة وبدأ (عمار) فور وصوله في خدمته وتنظيم مواعيده مع زواره من كل البلدان. أمضى (عمار) مع الساحر سنوات طويلة جعلته يفقد إيمانه تدريجياً وينخرط في عالم السحر والشعوذة الخبيث وكان الساحر يلقن (عمار) خلال تلك الفترة بعض أسرار المهنة حتى أصبح عمار) أحد السحرة المشهورين في العاصمة.
فقال الرجل: أنا تاجر معروف وأملك ما يكفي من المال.
فطلب الساحر منه مبلغاً كبيراً ودفعه الرجل دون تردد وهو يقبل يد الساحر ويقول له:
"أرجوك خلصني مما أنا فيه".
أمر الساحر (عمار) بتوصيل الرجل وقال للتاجر:
"لا تخف لن ترى شيئاً بعد اليوم".
عاد (عمار) بعد أن قام بتوصيل الرجل للباب فوجد الساحر يتكلم ويتمتم فاختبأ وراء الباب ليسمع كلامه لأن (عمار) كان يستخدم هذه الطريقة لحفظ الطلاسم التي لم يكن الساحر يخبره بها كي لا يتفوق عليه (عمار) ويبقى أضعف منه وبحاجته دائماً. سمع عمار بعض الطلاسم التي لم يسمعها من قبل وبعد ما انتهى الساحر منها ظهر دخان كثيف في الغرفة وبدأ الساحر بالحديث مع ذلك الدخان قائلاً:
"توقف يا (جسار) عن طاردة التاجر وتوجه الآن لأخت المسئول الكبير"
فاختفى الدخان بسرعة وسكت الساحر وأغمض عينيه فدخل عليه (عمار) بعد ما انتظر قليلاً وقال:
هل تأمرني بشيء آخر يا سيدي؟!
فقال له الساحر:
لا .. اتركني وحدي الآن يا (عمار).
خرج (عمار) وهو يفكر في تحذير أخت المسئول الكبير لأنه عرف الآن أن الساحر هو من أرسل (جسار) للقرية وهو من أمر (جسار) بخطف ابنة أخيه، فعقد (عمار) العزم على تحذير أخت المسئول الكبير لكن الأمر لم يكن سهلاً ولم يستطع (عمار) الوصول للمسئول الكبير أو أخته لتحذيرهما. مضت الأيام ونسي (عمار) القصة حتى دخل شخص ومعه مجموعة من الأشخاص وسألوا عن الساحر بالاسم فرد عليهم (عمار) وأخبرهم بأنه مشغول فدفعوه ودخلوا على الساحر بالقوة وقالوا له:
أخت المسئول الكبير تعاني منذ اسابيع من شيطان يعبث بها كل ليلة وقد جربنا كل شيء حتى أخبرنا أحدهم أنك تجيد التعامل مع هذه الأشياء فهل هذا صحيح؟
فقال الساحر: نعم لكني أريد مقابلة المسئول شخصياً.
فرد أحدهم وقال: ولماذا تريد مقابلته؟!
فقال الساحر: الأمر يحتاج بعض الفحص والاستفسار وأنتم لن تنفعوا لذلك.
فتشاور الرجل و(عمار) خلفهم يشاهد ويسمع ما يدور بينهم ثم قال أحد الرجال بعد ما تشاور مع البقية:
يجب أن نسأل المسئول الكبير نفسه فالقرار ليس بأيدينا.
فرد عليهم الساحر وقال: كما تشاؤون..
خرج الرجال وطلب الساحر من (عمار) الخروج وإغلاق الباب خلفه. أغلق (عمار) الباب لكنه لم يخرج واختبأ في الغرفة فسمع الساحر يستخدم الطلاسم نفسها التي أتت بالدخان، وفعلاً ظهر الدخان وقال له الساحر:
"اجعل ليلتها جحيماً يا (جسار) أريد المسئول الكبير أن يأتي راكعاً بنسه تحت قدمي ليطلب مني المساعدة".
فاختفى الدخان بسرعة ولم يستطع (عمار) الخروج خوفاً من أن ينكشف لذلك بات (عمار) في الغرفة حتى الصباح إلى أن خرج الساحر فخرج بعده مسرعاً لبيت المسئول الكبير ليحذره لكن الحراس منعوه، فجلس عند باب بيت الساحر يفكر. بعد ساعة من جلوس (عمار) عند باب بيت الساحر أقبل عليه الرجال أنفسهم الذين جاؤوا للساحر بالأمس وعلى وجوههم علامات الخوف والقلق وقالوا لـ (عمار):
أين سيدك؟!
فقال لهم (عمار): خرج.
فصرخ رجل منهم وقال: ومتى سيعود!
فرد (عمار) وقال: لا أعرف لكن أنا يمكنني المساعدة.
فنظر إليه الرجل بازدراء وقال:
ومن أنت؟
فقال: أنا (عمار) مساعده.
فقال له الرجل:
ليس باليد حيلة.. تعال هنا.
ذهب (عمار) لقصر المسئول الكبير واستقبله المسئول استقبالاً جيداً وطلب منه الكشف على أخته.. فعل.. ثم قال له المسئول:
هل تستطيع أن تساعدها؟
فقال له (عمار): لا.. لا أستطيع.
فغضب المسئول غضباً شديداً وصرخ في (عمار) واتهمه بالدجل والكذب لكن (عمار) قال له:
لكني أعرف من يستطيع.
فهدأ المسئول وقال:
أرجوك دلني عليه...!
فرفع (عمار) سبابته للسماء وقال:
"الله لا إله إلا هو الحي القيوم.. "الآية.
فبكى المسئول واقترب منه (عمار) وقال له:
لن يخيب الله ظنك إذا دعوته.. ولا ترتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبته أنا باللجوء لغيره..
خرج (عمار) من القصر وخلفه صوت المسئول يبكي ويدعو. توجه (عمار) للبيت ولم يكن الساحر قد عاد وجلس على كرسي الساحر وبدأ بقراءة طلاسم استدعاء (جسار) وعندما حضر قال له (عمار):
أريدك أن تقلب حياة الساحر إلى جحيم هذه الليلة وبعدها أنت حر يا (جسار) لكن قبل رحيلك أحضر لي رأسه.
بعد رحيل (جسار) توجه (عمار) لفراشه ونام دون أن ينتظر قدوم الساحر كما اعتاد أن يفعل. استيقظ (عمار) في الصباح التاي ليجد رأس الساحر بجانبه ينظر إليه بعيون مفتوحة يتطاير حولها الذباب وفمه مفتوح وقد تهشمت أسنانه ورموشه جفت عليها بعض قطرات الدماء. نهض (عمار) من فراشه بكل هدوء وأمسك رأس الساحر ورماه بعيداً عن مضجعه.
ومنذ ذلك اليوم قبل ثلاثة عقود لا يعرف أحد لماذا لم يرجع (عمار) لأهله في القرية واختار عوضاً عن ذلك ان ينتقل لسفح جبل قريب منها ونقل معه كل كتب الساحر وبقي هناك إلى اليوم.
آخر أيام (سالم) كما أخبر حارس المقبرة
أكمل حارس المقبرة حديثه بالحديث عن ما حدث لـ (سام) أخي (عمار) في تلك الفترة وقال:
بعد رحيل (عمار) للعاصمة بقي (سالم) في القرية مع أسرته وعادت حياته لطبيعتها واستمرت حياتهم طبيعية حتى اشتاق (سالم) لرؤية أخيه (عمار) والذي قد مضى على رحيله أكثر من عامين فشاور أهله ثم قرر الذهاب إلى العاصمة لزيارته لكنه لم يكن يعرف أين يجده لذلك قرر أن يسأل في المساجد لعله عمل كمؤذن أو إمام لأن صوت (عمار) كان جميلاً جداً. عندما وصل (سالم) للعاصمة بدأ بالبحث عن أخيه في المساجد لكنه لم يجد وظل في العاصمة يبحث عنه لأكثر من أسبوع يئس وقرر العودة للقرية لكن شاء الله أن يرى (سالم) أخاه (عمار) مصادفة في السوق وهو يشتري بعض الحاجيات ففرح (سالم) جداً وتوجه إليه مسرعاً ليعانقه لكن (عمار) تظاهر بأنه لا يعرفه خوفاً من أن يراه الساحر لأن الساحر هدده بأنه إذا رأى (سالم) مرة أخرى فسيقتله فتهرب (عمار) من أخيه وأنكر معرفته به لكن (سالم) أصر على الحديث معه إلى أن دفعه (عمار) وهرب. لحق (سالم) بأخيه بعد ما دفعه في السوق وحرص (سالم) أن يلحق بـ (عمار) دون أن يشعر حتى دخل (عمار) بيت الساحر مما دفع (سالم) لسؤال أحد المارة بقوله:
بيت من هذا؟
فرد عليه وقال:
شيخ يقرأ على الناس.
فابتسم (سالم) وقال: الحمد لله.
لكن ذلك لم يجاوب على السؤال الذي كان يدور في رأس (سالم) وهو لماذا أنكره (عمار) ولم يرغب في الحديث معه؟
قرر (سالم) أن يبقى ليلة أخرى في العاصمة حتى يتحدث مع أخيه ويعرف الجواب لسؤاله، وفي الليل سمع (سالم) طرقاً على باب غرفته التي استأجرها للمبيت تلك الليلة ودار بينه وبين شخص غريب حوار على الباب لمدة لم تتجاوز بضع دقائق ثم عاد (سالم) بعدها لغرفته ورحل من كان يجاذبه أطراف الحديث (نقل هذا الكلام صاحب السكن الذي استأجره (سالم) للجهات الأمنية التي جاءت في الصباح للتحقيق ولنقل (سالم) للمستشفى فقد جن جنون (سالم) بعد رحيل زائره بدقائق وفقد عقله تلك الليلة وبدأ بالصراخ طيلة الليل حتى اضطر صاحب السكن إلى إبلاغ الأمن. بقي (سالم) في المستشفى عدة أشهر وتم إبلاغ أهله الذين كانوا يزورونه بانتظام حتى آخر يوم قبل وفاته منذ عشر سنوات.
انتهى كلام حارس المقبرة.
خطوات دامية للوراء
بدأت بالسير تجاه القرية عائداً من المقبرة بعد سماعي للقصة التي رواها لي الحارس وبدأ اظن أني ظلمت (عمار) وأن (دجن) خدعني كي أسهل له عملية قتله لأنه لم يكن ليستطيع ذلك دون غصن الزيتون الذي شارك (عمار) فراشة البارحة، لكن لم أعرف سبب قتل (دجن) لـ (عمار).
وصلت للقرية ولم أذهب لبيت (سالم) وأكملت طريقي لبيت (عمار) الذي لم ينتشر خبر موته بعد لأنه يعيش في عزلة على سفح الجبل بعيداً عن الناس وقبل وصولي لمنزل (عمار) بمسافة بسيطة ظهر لي (دجن) وبدا مستاءً وقال لي:
ليه تأخرت؟!
فلم أرد عليه وأكملت طريقي. وظل طيلة الطريق وأنا أمشي باتجاه بيت (عمار) يكلمني بعصبية ويقول:
ليه بتراجع؟.. خلاص خلنا نمشي!
لم أرد عيه حتى وصلت لباب منزل (عمار) فسكت (دجن) ثم حولت نظري باتجاهه وقلت:
أنا لا أعرف لماذا قتلته.. لكني أعرف أنه لا يمكن أن يكون الشخص الذي أرسل الشيطان لأمي وقد نجحت في خداعي لمساعدتك ولو أردت أن ترد لي هذه المساعدة يوماً ما فأخبرني.. أما الآن فإكرام الميت دفنه.
دخلت المنزل وظل (دجن) بالخارج صامتاً. نظفت المنزل من الدماء على قدر استطاعتي ودفنت (عمار) تحت شجرة كان يحب أن يستظل بها دائماً ثم دعوت له وعدت باتجاه منزله. توجهت لـ (دجن) وقلت له بنبرة حادة:
أعدني لموطني..
فقال: ما راح أرجعك!
فصرخت فيه وقلت: أعدني يا شيطان!!
ولأول مرة أسمع (دجن) يقول:
"حاضر سيدي..".
وفي لمح البصر كنت أمام منزلي. دخلت المنزل وطمأنت أهلي وذهبت لغرفتي ونمت لفترة طويلة ذلك اليم. مضت الأيم وقل ظهور (دجن) أمامي وتناقص هذا الظهور حتى بدأت أنسى شيئاً اسمه (دجن). بعد مضي بضعة أشهر ظهر لي (دجن) قبل صلاة المغرب بقليل وقال:
كنت أبغي أتركك لهم لكن ما قدرت..
فقلت له: لا أفهم شيئاً من كلامك.. ماذا تقصد؟
فقال: قبيلة (يعرم) طالبين الثأر من قرينك اللي قتله وهم جايين الليلة عشان يقتلون قرينك وإذا مات قرينك بتموت معه.
فقلت له: ولماذا تهتم أنت؟
فابتسم وقال: تعودت عليك يا خي.
سكت قليلاً وفكرت في هذه القبيلة التي قرأت عنها في كتب (عمار) فهم كانوا يلقبون بقبيلة "الأباطحة" وهم من الشياطين العلوية والقبلية تسري في عروقهم وحياتهم كلها حروب مع قبائل الإنس والجن ولا مجال للتفاهم معهم و(يعرم) لم يكن فرداً عادياً من أفراد تلك القبيلة بل كان من أبناء سادتها ولن يتركوا دمه دون ثأر. سألت (دجن) وقلت له:
وما الحل برأيك؟
قال: نشوف لنا قبيلة معادية لهم ونطلب حمايتهم.
فقلت له: هل جننت؟ الحامي هو الله.
فقال: يا أخي لا تقعد تتشنج علي وتهايط تراما عندك إلا لحد صلاة المغرب وبعدها أنت وقرينك بتفطسون!!
استجبت لكلام (دجن) بسهولة خاصة وأنه قال إنهم لن يكتفوا بي بل سيقتلون أهلي جميعاً وقد يمتد أذاهم لأقاربي ولم أكن أعلم هل كان ذلك صدقاً أم حيلة أخرى من (دجن) كي أستجيب له لكني لم أكن مستعداً لاكتشاف ذلك والمخاطرة بحياة عائلتي لذلك قلت ل (دجن): وما العمل الآن؟
قال: نرجع لبيت (عمار) لأن الشياطين ما راح تفكر تقرب من بيته.
وفي غمضة عين كنا هناك ودخلت للمنزل لكن (دجن) بقي بالخارج فقلت له:
لماذا لا تدخل؟ الرجل الذي كان يمنعك مات؟
سكت (دجن) ولم يرد علي واكتفى بالنظر للسماء وبقي بالخارج. كان القمر تلك الليلة مكتملاً والجو جميلاً فخرجت أستمتع بالطبيعة الخلابة في ذلك المكان. رأيت (دجن) جالساً وهو مازال يحدق في السماء. لم أستطع لومه فالسماء تلك الليلة كانت صافية وخالية من الغيوم والقمر بالرغم من اكتمال نوره إلا أن النجوم كانت حوله واضحة. جلست بجانب (دجن) الذي كان بهيئته البشرية، سكتنا قليلاً ثم تكلم (دجن) وقال:
(عمار) ما كان طيب زي ما تظن.. كل السحرة يظهرون لك الطيب في الأول لكن لهم يوم ويستغلونك.
فقلت له: وما أدراك؟
قال: صدقني أنا أخبر منك.
تغير مجرى النقاش عندما سألته وقلت:
وما العمل الآن.. لقد قطعنا مسافة طويلة ويجب أن يكون لنا خطوة تالية؟
قال (دجن): قبيلة "الأباطحة" قبيلة قوية ولا يوازيها في القوة إلا قبيلة واحدة وهم قبيلة "الكثبان".
فقلت له: أليست هذه قبيلة (جسار)؟
قال: بلى صحيح؟
فقلت له: هل فقدت عقلك؟
قال: ليه؟.. أنا وش قلت؟
قلت: كيف لقبيلة مثلهم أن تقف في وجه "الأباطحة" لأجل شخص مثلي؟
قال: خل الموضوع علي ولا تخاف.
فقلت له: اشرح لي ماذا ستفعل.
فقال: ليه؟ مو واثق فيني؟
فقلت له: طبعاً لا
فضحك وقام من مكانه ثم اختفى..
مكثت فترة في الخارج أتمعن في لمعان النجوم فعلى الرغم من أني أمضيت في هذا المكان ثلاث سنوات من عمري إلا أنني لم أستمتع بالمناظر الخلابة التي كانت حولي إلا من خلال نافذة زجاجية. دخلت لمنزل (عمار) بعد ما غلبني النعاس لأنام، وضعت رأسي على فراشه الذي كان عليه بعض قطرات من الدم لم أنتبه لتنظيفها فأدرت رأسي بالاتجاه الآخر ورأيت غصن الزيتون وقد جف وانكمش لحجم صغير ولم يبق منه إلا فتات يسهل نفخه.. فنفخته.
هجر النوم عيني بعد ما رأيت غصن الزيتون الجاف يطير أمامي فجلست على طرف السرير أقاوم شعور الحزن على (عمار) وأقول في نفسي:
"إنهم مجرد سحرة لا يستحقون منا الرأفة أو الحزن"
وأنا في معركة إقناع نفسي بذلك دمعت عيني وخنقتني العبرات. نهضت من السرير بعد ما أيقنت أن النوم لن يزورني تلك الليلة وبدأت أتجول في منزل (عمار) الذي كان منزلي لثلاث سنوات وبدأت أتذكر أيامي معه وأتذكر مبتسماً تلك الكتب والطعام المقرف الذي كان يحضره لي كنت أتجول في أرجاء المنزل أسترجع ذكريات كانت في وقتها مؤلمة. دخلت المكتبة ولأول مرة كان لي الخيار في القراءة من عدمه، أحسست بشعور مريح لأني لست مجبراً على قراءة شيء منها بعد اليوم. كنت أتفرج على الرفوف وأنا أبتسم لكن ابتسامتي اختفت عندما وقعت عيني على كتاب لم أره في المكتبة من قبل. قلت في نفسي:
"لعله كتاب كالكتب الأخرى ولم أنتبه له من قبل"
لكن كنت متيقناً أن كل كتاب في المكتبة تصفحته ولو مرة بالرغم من أني لم أقرأ إلا ثلثيها من الغلاف للغلاف وهذا الكتاب لم يكن بينها عندما كنت موجوداً هنا. بدأ الفضول ينهش بي ولم أعرف لماذا، بدأت أقاوم الرغبة في فتحه واستقر بين الحال لقرار مسكه فقط. ذهبت للكتاب وأمسكت به وجلست على الطاولة ووضعته عليها وأنا أقول في نفسي:
"ماذا تفعل؟ ألم ننته من قراءة ما نجهل؟".
ظل الكتاب أمامي نصف ساعة تقريباً وأنا أحدق فيه، كان لون الكتاب أحمر بلا عنوان وكبير الحجم على غير عادة الكتب الموجودة في المكتبة مما زاد فضولي أكثر وأكثر لكني في النهاية وبعد تفكير أدركت أني لو فتحت الكتاب دون حاجة مع معرفتي بأنه قد يضرني فسوف يلغي ذلك أي حجة تحججت بها في السابق لدخولي في هذا العالم وسأكون قد خسرت نفسي وللأبد. عدت للفراش واستعذت بالله ونمت تلك الليلة. لم يدم نومي طويلاً فقد استيقظت على صوت (دجن) وهو يناديني من الخارج ويقول:
قم بسك نوم!
فخرجت وأنا مرهق فقام (دجن) بمسك أكتافي بيديه وهزي بقوة وهو يقول:
الجماعة وافقوا!
فقلت: أي جماعة؟
فقال: "الكثبان" ما غيرهم!
فقلت: وافقوا على ماذا بالضبط؟
قال: أن يحموني أنا وياك من "الأباطحة".
فطار النوم الذي كان بعضه مازال عالقاً في عيني وقلت له:
كيف أقنعتهم؟!
فقال: مالك دخل المهم أن الحراس معنا الحين.
فقلت: أي حراس؟
فصوب (دجن) نظره إلى الأفق وقال:
خلوه يشوفكم يا شباب!
فتكونت أمامي سحابة كبيرة من الدخان وبعد ما انقشعت ظهر منها ثلاثة أشخاص أحدهم امرأة لم يكونوا كالبشر تماماً لكنهم كانوا أضخم بقليل وملامحهم أكثر حدة.
قلت لـ (دجن): من هؤلاء؟
فقال: حراسنا من القبيلة يعني زي الأخويا كذا.
فقلت: وما فائدتهم؟
فضحك وقال:
ما تعرف فائدة الأخويا؟.. يعني حراس شخصيين لك
فقلت: وما هو المقابل؟
فنطق أحدهم بغضب وكان أضخمهم وكلم (دجن) وقال:
ألا يعرف صاحبك بالاتفاق؟!
فظهرت علامات الارتباك على (دجن) وقال:
أكيد يعرف بس هو لسة صاحي من النوم ومو مركز ممكن تعطونا فرصة نتكلم شوي؟
فقال الرجل الضخم:
لك ذلك..
رحل الحراس من أمامنا فأدرت نظري لـ (دجن) وقلت:
ما القصة أيها الشيطان؟
فقال لي (دجن):
شوف أنا راح أحكي لك بالضبط اللي صار لكن حط في بالك أن أنا ما كان عندي حل ثاني عشان أساعدك.
فقلت له: تكلم ولا تراوغ!
فقال: طيب اسمع..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا