غريب يسكن معي 2 للكاتب محمد الواعظ

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-06-12

2. الغريب..

هذه ليلتي الأولى:

أحاول أن أنام.. منذ أن حللت بالغرفة لم تغشيني حتى غفوة واحدة، رغم الإرهاق الشديد الذي كاد يبطش بي. سهاد ثقيل أصاب ضربته بإحكام هذه المرة، يطوق رأسي المتخم بالأفكار القلقة. أنقلب في الفراش، أتجافى من جنبي الأيمن إلى جنبي الأيسر؛ لعل هذا يساعدني في إبعاده. لكن لا فائدة، محاولتي ذهبت سدى، سأظل هكذا لا أعلم إلى متى.

إنها ليلتي الأولى..

ماذا عساي أن أفعل..

ما زلت عاجزا عن النوم، تراودني الهواجس، تهيئني للكوابيس القادمة. تحيط بي أربعة جدران صامته، يقولون إن لها آذان، لذا أخذت أفضفض على مسامعها خواطري النفسية.. ها أنا ذا بعيد عن وطني الحبيب، هنا حيث تحتضنني الغربة التي انتظرتها دون استعداد. لا أواجه سوى الوحشة، لا أروم سوى الطمأنينة والسلام، أنازع الأرق بعد أن خانني أخو الموت، أحتاج إلى وسيلة تعينني على الغروب في كنف السبات، تهويدة عذبة تردد في أذني، أو حكاية مسلية مثل الحكايات المحببة التي كانت أمي تسردها لي كل ليلة قبل النوم عندما كنت طفلا، لكنها أمست غائبة ومعها غابت الحكايات، ولم أسمع أي تهويدة حتى الآن.

هي ليلتي الأولى..

ماذا عساي أن أقول..

مضى زمن طويل وأنا على هذا الحال، السهاد الغاشم مازال يستوطن رأسي، أحاول طرده بشتى الوسائل. عقارب الساعة تؤدي طقوسها بوهن حول حلقة الزمن، وأنا وليت ظهري للجدران بعد أن نامت وأوصدت أذانها. أنقلب على ظهري، أتأمل السقف الأبيض الخالي من النجوم، أتأمل المصباح بالتحديد، فأتوهمه القمر، قمر أنيس يطل علي روحي الهائمة في الخيال والحبال، المصباح.. نعم.. هل ذكرت شيئا عن المصباح؟ إذا هذا هو السبب الذي جعلني مستيقظا حتى غلس الليل؛ المصباح ما زال مضاء.

اتخذت وضعية الجلوس على الفراش تمهيدا للقيام، أشعر أن أطرافي محطمة، بالكاد أقوى على النهوض، أتوجه نحو أحد المفاتيح لإغلاق المصباح، إلا أن ثمة صوتا خافتاً سمعته الآن.. هل أنا أتوهم؟

تك.. تك.. مرة أخرى التقطت أذناي هذا الصوت الذي بدا واضحاً هذه المرة، هناك من يطرق الباب، أو بالأحرى ثمة من يحاول معالجة رتاجه، إلا أنه اكتشف الباب غير موصد. أتوجس خيفة في نفسي.. من يكون يا ترى؟ بدأت أشعر بالارتياب..

هنا حدث ما توقعته، أنفرج الباب بروية إلى حد النصف دون أن يحدث أدنى قدر من الصرير. أطل شخص لم أتبينه بوضوح، بشيء من التردد راح يخطو بحذر وريبة حتى بانت ملامحه الغامضة.

أخذت أحدق في وجهه.. بدا شابا يماثلني في السن، متوسط القامة، له ملامح أوروبية؛ أوروبية شرقية بالتحديد، أبيض البشرة، وشعر أشقر خفيف يكسو رأسه، بينما هو يعتمر قحفية بالية، ويرتدي ثوبا خليجيا ذا طراز قديم. أما وجهه فقد بان شاحبا وغريبا، هل هو مريض علي وشك الاحتضار؟

انتظرت حتى يلقي السلام، إلا أنني ألقيت السلام بدلا منه. راح يتطلع في وجهي بجمود دون أن يرد التحية، بدلا من هذا اتجه بنظراته إلى الأعلى.. إلى ضوء المصباح بالتحديد، ثم لوح بيده اليمنى أمام عينيه ليتقي الضوء المنبعث وكأنه لم يعتد الرؤية بعد، أو خرج الآن من ظلام دامس.

خاطبته سائلا:

- عفوا.. هل أنت نزيل في الغرفة؟

لم يعرني انتباها، وإنما رمقني بنظرة جامدة ثم قال بعصبية:

- الإضاءة قوية جدا هنا.

أحدق في وجهه دون استيعاب إلا أنه عاد يخاطبني بعصبية أكثر حدة:

- ألا تفهم.. لا يجب أن تفتح المصباح أثناء وجودي.. افتح هذا..

أشار وهو يغلق المصباح إلى غرض ما على المكتب- المواجه لي- لم أستطع أن أتبينه بسبب الظلام، لكن ما إن لمسه أضاء هذا الشيء الذي لم يكن سوى أباجورة عتيقة ينبعث منها ضوء رخيم. كيف لم ألحظها؟!... لعلها تبعات السفر أفقدت تركيزي.

لكن دعنا من هذا كله، فلأحاول أن أستوعب الأمر برمته وأمسك خيوط الحدث.. إن ما حصل الآن هو دخول هذا الغريب دون أن يطرق الباب، بل دون استئذان، ثم يطلب مني بغلظة ألا أفتح المصباح أثناء وجوده!.. من هو يا ترى؟.. الآن أراه قد خطا نحو المكتب المستخدم الذي تعلو رفوفه بعض الكتب، ليبرز كتابا ما أخفاه تحت إبطه ويضعه على سطح المكتب، بعد ذلك جلس على الكرسي الدوار يلتقط أنفاسه. هنا أفصح قائلا بهدوء:

- اعذرني على مباغتتي لك فجأة، فلم أكن أعلم بوجود شخص سيشاركني الإقامة... كان عليهم إخطاري.

سألته بروية:

- عفوا.. هل أنت عابد حبيب؟

رمقني بنظرة ثم شاح بنظرته إلى الأسفل وهو يقول ببرود:

- نعم... أنا هو.

قلت معتذرا وإن كان الأمر لا يستوجب الاعتذار:

- أستسمح منك على مزاحمتي لك في الغرفة، لكن المشرف لم يتناهى إلى علمه بقدومك، وإلا لأعلمني على ألف..

قاطعني وهو يتحاشى النظر:

- لقد وصلت مساء أمس، ولم يكن لدي وقت لأوافيه بقدومي.

مضت برهة من الصمت حتى أردف:-

- اعذرني على التعامل معك بهذا الجفاء.. لكني أفضل الانفراد بالغرفة كما كنت سابقا، خاصة أنني في السنة الأخيرة من الدراسة.

استطرد بعدها:

- على كل حال سأتقبل وجودك معي هنا، لكن أرجوك لا تفتح هذا المصباح أثناء حضوري، بسبب معاناتي من حساسية العين تجاه الأضواء الحادة.. لا بأس بالأباجورة فهي تناسبني وتساعدني على المذاكرة.. ماذا عنك أنت؟ هل من مشكلة؟

هززت رأسي بشيء من التردد، وقلت:

- لا بأس، يمكنني التأقلم مع الوضع.

ابتسم بغموض:

- جيد.

ثم استدار فورا مولیاً ظهره لي ليواجه مكتبه. فتح كتابه وبدأ يقرأ ما فيه بكل تمعن وشغف.

قاطعته بارتباك وأنا أحمل اللحاف:

- معذرة.. السرير الآخر غير جاهز، أين ستنام؟

أجابني بشيء من العصبية وهو منشغل بتصفح كتابه:

- لا يهمني، فلترقد أنت، هل يمكنك أن تتركني في حالي..

راقبته وتساؤلات تقحم ذهني.. إذا هذا هو (عابد حبيب) الذي سأشاركه الإقامة. لكنه بدا شخصا غريباً بالنسبة لي، لاحظت علامات الارتباك ارتسمت عليه عندما سألته إن كان هو (عابد حبيب) أم لا.. غير أن وجهه يحمل طابعا أوروبيا، وهذا ما سمعته من المشرف عن الشخص الذي سأقيم معه جاء من بلاد أوروبية شرقية.

ظللت أراقبه بفضول وهو يخرج ما بد لي مفكرة صغيرة من جيبه، ثم راح يدون عليها بقلم رصاص ويطالع الكتاب تارة.. من الواضح أنه يقوم بتلخيص ما في الكتاب أو نقله إلى هذه المفكرة. الذي ألاحظه هو الاهتمام البالغ من قبله وهو يقوم بما يفعله الآن، وهذا يثير لدي المزيد من التساؤلات. حقيقة لا أحبذ أن أسأله عما يفعله أمامي وما الذي يكتبه في هذه المفكرة في هذه الساعة المتأخرة من الليل، إنه لقائي الأول به ولم تتعارف بشكل مثالي، وإن كان قد بدا جليا لي لا يؤثر الانسجام معي كما تجري العادة حين يجتمع زميلان في مكان محدود الأجل. ربما مع الأيام القادمة ستتغير الظروف وتنعقد روابط الود بيننا و.. هنا توقف عن الكتابة رافعا رأسه...

عرج نحوي بوجهه دون أن ينظر إلي. قال بهدوء:

- ألم تنم بعد؟

لم أجب، وإنما شعرت بالارتباك.. كيف علم أنني أراقبه؟!

مضى قائلا:

- لا أنصحك بالسهر، فهذا له تأثير سلبي على صحتك، خاصة أنك طالب جامعي.. إن لم تنم الأن فمتى سوف تنام؟

لم أجب، وإنما رحت أستوعب ما يقوله..

أضاف وهو يعود إلى وضعيته السابقة.

- إنه يومك الأول.. لا أعلم كيف ستحتمل الأيام العصيبة القادمة، أشك أن تتجاوزها إن لم يكن لصبرك حدود. بقيت صامتا مستغربا من وقع كلماته، وكأنه يحاول إثارة وجلي. حقيقة لا أعلم ماذا أقول.. هذه أول ليلة لي وأتعرض لمثل هذه المواقف العصية بالنسبة لي، لا أتصور قطعا أن أشارك الإقامة إنسانا نكدًا وذو جفوة مثله طوال سنة كاملة، وربما أطول من هذه المدة، لا أعتقد أنني قادر على تحمله إذا استمر في التصرف معي بهذا الأسلوب البعيد عن الأصول واللباقة، بل يستحيل أن أبقى في الغرفة أذاكر دروسي معتمدا على الضوء الركيك الذي تبثه تلك الأباجورة. أفكر جديا في أن أطلب من الإدارة تغيير الغرفة في أقرب فرصة بعد أن أنتهي من إجراءات القبول والتسجيل يوم غد.

لكنه بدأ صادقا بشأن النوم، إن لم أتم سوف أعتاد على السهر، ولا أتمنى ذلك. رغم ضيق الوقت سأحاول أن أنام قدر المستطاع.. وها أنا ذا أشعر بجفوني تتراخى على وشك الهبوط، وكأني أرى ثمة وسنة تمد أذرعها تجاهي...

* * *

- "هيي.. استيقظ.. هیا استيقظ"

من هذا الذي يهزني فجأة، وكأنه يحاول طرد النوم مني بلا رجعة. يد خشنة توخزني بإصرار، لكن لا بأس ستتركني وشأني في نهاية الأمر بعد أن يطالها اليأس جراء نومي الثقيل، لا.. يبدو أنها مصرة على إزعاج راحتي، لكم أرغب فعلاً في قطعها، حتى هذه الغفوة المعدومة لم أهنأ بها.

- استيقظ..

فتحت عيني على مضض.. أري أمامي الزميل (عابد حبيب) يقف عندي بجمود ونظرة غريبة تعلو وجهه.

سألته باستغراب:

- ما الأمر؟

- صلاة الفجر.

قالها ثم خطا نحو الباب ليغادر الغرفة، بينما بقيت جالسا على السرير، أفرك عيناي، وصوت الأذان يترامى من خلال مئذنة المسجد. أصغى لصوت المؤذن حتى أخفف من الدوار الذي يداهم رأسي.

أشعر وكأني سأسقط من علو شاهق، لم أخذ كفايتي من النوم، أحسب لو بقيت ساهراً حتى الفجر لربما أختلف الوضع. أمامي عمل شاق يوم غد الأول، على إنهاء الإجراءات المطلوبة في ما يتعلق بقبولي بشكل معتمد ورسمي في الجامعة، ومن ثم تحديد المجال الذي سأنشغل بدراسته طوال سنوات حياتي الجامعية.

(إنه يومك الأول.. لا أعلم كيف ستحتمل الأيام العصيبة القادمة)

ما فتئت أتذكر عبارته هذه، ما الذي كان يعنيه بالضبط؟ هل هو يستفزني كي أغادر الغرفة؟.. الذي لاحظته أنه لم ينم ليلة أمس، لقد ظل ساهراً حتى هذه اللحظة بالذات غارقا في- ما أعتقد- تحضير دروسه من الآن. يجب ألا أشغل تفكيري بهذه الأمور فهي لا تجلب لي سوى المتاعب النفسية، فلأقم إلى الوضوء وأهيئ نفسي للصلاة.

* * *

خارج المبنى أقف متسمراً تخامرني أخيرة، أمسح ببصري حول المنطقة للبحث عن المسجد، إلا أن البواب السوداني- الذي أعتبره رجل المهمات الصعبة- خرج من صومعته ليؤدي عمله ببراعة.

سألني:

- هل تبحث عن المسجد؟

- نعم.

– إنه بمحاذاتك مقابل مبنى العمال.

شكرته بينما رحت أحث الخطى نحو المسجد ذي المئذنة الصغيرة، أديت صلاة الفجر وقد أدركتها مع الجماعة.

بعد انتهاء الصلاة اتخذت موضعا للجلوس وترديد الأذكار. صادفت بعض الشباب البحرينيين الذين يدرسون في الجامعة. قدمت نفسي لهم وتعرفت عليهم، وكما يقال المصادفة تلعب دورها أحيانا في مثل هذه اللقاءات الودية، فقد تفاجأت بأحد هؤلاء كان زميلي في المرحلة الإعدادية، إذ كان وقتها يقطن في نفس الحي الذي أقطنه في بلادنا حتى انتقلت أسرته إلى مكان آخر، وانقطعت الأخبار والسبل منذ ذلك الحين، حتى انقطعت معها همزة الوصل بيني وبينه لتحل مكانها همزة القطع، أما الآن فقد أن الأوان لحذف همزة القطع وإعادة همزة الوصل ثم عقدها بأحكام.

بعد الترحيب والتعارف جلسنا لفترة نتبادل الأحاديث ونسترجع الذكريات، وقد نسيت إرهاق السفر وتبعاته الذي كان يلازمني قبل هذا اللقاء، بالأحرى قبل أداء صلاة الفجر.

بعد انصراف الشباب البحرينين خاطبني (فواز) صديق الطفولة الذي كنت أشير إليه:

- إذا فهذه هي السنة الأولى لك في الجامعة.

أومأت رأسي بإيجاب وقلت:

- لقد ظفرت بأخر منحة للدراسة في جامعة قطر.

ثم سألته بدوري:

- وماذا عنك أنت؟

أجاب:

- إنها السنة الثانية بالنسبة لي، لقد قدمت العام الماضي.

ثم سألني مستطردًا في حين وقف المؤذن منتظرا مغادرتنا حتى يغلق باب المسجد:

- هل حددت تخصصك، أم ستقرر بعد أن تجتاز المرحلة التأسيسية؟

أجبت ونحن نهم بالنهوض:

- لقد قررت دراسة القانون، هذا إن أنهيت الإجراءات اليوم وتخطيت المرحلة التأسيسية.

حيانا المؤذن الباكستاني بمودة أثناء خروجنا من المسجد.. أثناء توجهنا إلى السكن، سألني (فواز) باهتمام: -هل وفروا لك غرفة.. أعني من من الزملاء سيشاركك الإقامة؟

أجبت بشيء من الضيق:

- إني أشارك الإقامة مع طالب يدعى عابد حبيب.

هنا عقب (فواز) بانفعال:

- یا لحظه، وأخيرًا وجد من سيشاركه الإقامة لطالما كان يتمنى أن يجد أحدا يشاركه الغرفة.

ثم أردف:

- ستلقى الراحة من عشرته وستتأقلم معه بسرعة بعدما يعود من سفره، فهو مرح ومحبوب من الجميع.

 قلت:

- لكنه وصل منذ يوم أو يومين، لقد تلاقينا في الغرفة ليلة البارحة. تخضب وجه (فواز) بأمارات الدهشة، علق بذات الدهشة:

- وصل!.. لكننا لم نره طوال اليوم، ولماذا لم يمر علينا كعادته؟

أجبت من غير اهتمام:

- لا أدري فعلا، ستراه لاحقا.. ربما اليوم.

لهنيهة أمعن (فواز) مفكرا ثم ألمح قائلا:

- ولم تره في المسجد أيضا.

علقت باستغراب:

- غريب هذا! لقد صحاني لصلاة الفجر، ولم أره مع الجماعة.

ثم أردفت:

- أراك مهتماً به، هل من سبب؟

أجاب (فواز):

- لا أبدا، كل ما في الأمر أننا ندرس معا في ذات التخصص، لذا أرغب أن أستشيره في بعض الأمور الهامة لها علاقة بالكلية، فأرجو آن تبلغه بحاجتي الملحة له والمرور علي في أقرب فرصة.

أومأت برأسي وقلت:

- سأخبره إذا رأيته الآن، لكني أعتقد أنه نائم؛ فقد ظل ساهرا تحتي الفجر.

قال بتعجب:

- ظل ساهرا! ماذا كان يفعل طوال هذا الوقت؟

- لا أعلم.. كل ما لاحظته هو عكوفه علي قراءة كتاب ما، حسبته يقوم بتحضير إحدى دروسه الجامعية.. لم أكن أعلم أنه مجتهد لهذا الحد.

غمغم (فواز):

- لكن الفصل لم يبدأ بعد.

ثم أردف:

 على كل حال أنت محظوظ فعلا لإقامتك مع شخص متميز مثل عابد، وإن كنت أتمنى لو سجلوك للسكن معي في الغرفة.. هنا فكرت أن أخبره ما حدث ليلة أمس مع المدعو (عابد) حين دخل الغرفة بأسلوب مفاجئ وغريب دون إلقاء ولو تحية بسيطة، بل هو لم يرد تحيتي أساسا، إذ طلب مني بحدة ألا أفتح المصباح أثناء حضوره بسبب علته التي نبهني بها، بالإضافة إلى أنه لا يفضل أن أشاركه الغرفة إلى أن قال لي تلك العبارة الغامضة.. إلا أنني ارتأيت عدم الإفصاح بهذا الخصوص، فلا أود أن أطلق الأحكام من أول نظرة كما يقولون، لاسيما أنني طالب حديث القدوم لا بد أن يتوقع المفاجئات ويواجه مثل هذه الأمور، إذ يتحتم عليه أن يعتاد عليها ويتعلم كيفية التعامل معها بالخبرة والحكمة، وهذا ما سيقوله لي بالطبع.

لبثنا لفترة نتأمل شروق الشمس، فيما حمرة الدلال تخضب وجه الشفق حتى قررنا الانصراف والالتقاء في وقت آخر.

- أراك لاحقا.

- إن شاء الله.

* * *

عدت إلى غرفتي بعد حوالي عشر دقائق أو أكثر من انصرافي عن (فواز)، حقيقة أعترف أنني ضللت الشقة، وهذا بالطبع أمر متوقع حدوثه لشخص مثلي قدم غريبا على المكان. بالإضافة إلى أن الشقق كلها متشابهة كما نوهت، حتى أنني دخلت غرفة أحدهم بالخطأ، إذ ألفيت الديكور والأثاث ليس كما هو، لحسن الحظ صاحبها لم يكن موجودا وإلا وقعت في حرج، فلا يمكن أن أحفظ هذه المتاهة في غضون ليلة واحدة فقط منذ مجيئي إلى هنا. إلا أن موضعا واحدا من هذا المبنى مازال عقلي يحفظه عن ظهر قلب وهو غرفة المشرف (رحيم مدحت).

علق الأستاذ (رحيم) بظرافة:

- أغلب الطلاب الجدد، أضطر أن أمثل لهم دور المرشد، على إدارة الجامعة أن توظفني لهذا العمل فهم بحاجة إليه.

عقبت مازحا:

- يمكنني التقدم بطلبك هذا إلى إدارة الجامعة بعد عمل الإجراءات اللازمة.

هنا اعترض المشرف بانفعال:

- لا لا، إياك أن تفعل، هل تريد أن تورطني يا هذا.

ضحكت بخفة، وقبل أن أفيء منصرفا، هتف فجأة:

- انتظر...

استدرت نحوه أتساءل عما هنالك، فتح إحدى الخزائن، وراح يدس يده فيها حتى رأيته يمدني بورقة مطوية أمامي، أشار إليها قائلا:

- هذه مواعيد الناقلات المتجهة من هنا إلى الجامعة، خلت أنك بحاجة إليها رغم أننا نشرنا واحدة على لوحة المنشورات.

ألقيت نظرة على الورقة، ثم شكرته وانصرفت..

* * *

وقفت عند باب غرفتي أطرقه مرتين بخفة.. انتظرت سماع (تفضل) أو (أدخل) لكني لم أسمع أية إجابة أو إشارة تدل على السماح لي بالدخول، أضفت طرقات أخرى.. نفس الحال، لم أسمع أي رد ولا حتى صوت يدل على أن زميلي (عابد) قابع بالداخل، إذا سأضطر هذه المرة لأفتح الباب بنفسي، لكني نسيت المفتاح بالداخل، ماذا على أن أفعل؟ هل أضطر مرة أخرى لاستدعاء الأستاذ (رحيم) ليفتح لي الباب؟ ليس من الجيد أن يتحمل الناس متاعبي من يومي الأول.

وبينما أنا أستند بمرفقي على مزلاج الباب أفكر، دون شعور مني دفعت المزلاج، فاستجاب فورا.. غريب!.. لم يكن الباب موصدًا، والمفتاح مولج فيه من الداخل. والأكثر غرابة وجدت زميل الغرفة ليس هنا، توقعت أن أجده نائما أو يفتح لي الباب بنفسه، ربما خرج منذ صلاة الفجر ولم يعد بعد.

فتحت الورقة التي في يدي، أراجع مواعيد الناقلات، أول حافلة ستتحرك من بوابة السكن الساعة السابعة والنصف، أمامي ساعتان لأول أتوبيس يقلني إلى الجامعة، في هذا الوقت قررت أن أعد نفسي وأوراقي اللازمة للجامعة.

أثناء تفقد أوراقي وقع نظري عفويا على المظروف الذي استلمته من أبي في المطار، انتابني الفضول لفضه وكشف محتواه.

استرخيت على مقعدي وأنا أفك الشريط اللاصق بحذر، حسنا.. ماذا لدينا هنا؟ رزمة من الدنانير من فئة العشرين، أقلبها بين يدي باعتبارها ثروة تستحق إطلاق البهجة من أجلها، أودعت الرزمة في مكانها المخصص، ثمة كتيب للأذكار، تصفحته بعناية ووضعته أمامي على الطاولة حتى ألجأ إليه وقت الحاجة، ثم رسالة مطوية تحمل بصمة أمي.

ملت بجسدي إلى الأمام وكلي فضول بشأن ما تحويه الرسالة، فتحتها.. شرعت أقرأ الكلمات بالغ الاهتمام:

"اليوم كبرت يا ولدي وغدوت أهلا للمسؤولية، ها أنت ذا بعيد عن أسرتك، وبعيد عن وطنك من أجل هدف أسمى تحدد به مستقبلك القريب. أمامك يا ولدي الحبيب طريق واضح تسلكه بنفسك من الآن. اعلم أن الحياة الجامعية لاسيما في الغربة لن تؤول سهلة، لذا عليك بنصائح والدتك التي سهرت وشقت من أجلك، ولا تنس والدك الفاضل الذي لم يدخر جهدا في تربيتك وتوفير الرعاية الشاملة لك، خذ يا ولدي نصيحتي هذه وضعها في عين الاعتبار، أحثك يا بني أن تنظم أوقاتك في سبيل الجد والاجتهاد. الجأ إلى الله تعالى متى نابت عليك الحوائج، ولا تضيع أوقاتك في اللواهي والفراغ، وتجنب رفقاء السوء فإنك تخوض معهم الضلال والانحراف عن الطريق القويم، ثم احذر أيضا من الغرباء يا ولدي فإنك تجهل طبائعهم وأخلاقهم، وما تخفي قلوبهم أعظم، مع خالص دعائي بالتوفيق والنجاح لدراستك الجامعية.

المحبة/ والدتك "

طویت الرسالة، حملتها إلى شفتي لألثمها بصدق، كلمات والدتي مست حبة قلبي فعلا، وأثارت فيني الشجون، لكنها استرعت انتباهي بنصيحتها الأخيرة في الرسالة، ما شأن الغرباء؟ ما انفكت تحذرني منهم منذ كنت صبيا. هي قلب الأم المفعم بالأحاسيس، مهما بلغت من العمر سيظل فؤادها راسخا علي حنوه الكبير. لكن ليس هذا الوقت مناسبا للتفكير في مثل هذه الأمور الحائرة، فأمامي ساعة واحدة فقط لأول حافلة تتجه إلى الجامعة.

تهيأت أرتدي لباسا مناسبا لأول يوم لي في الجامعة، عملا بالعبارة الآتية التي حفظتها من كتاب قرأته.. (اترك الانطباع الجيد من أول نظرة). بشماغ أبيض أنيق وثوب أبيض قشيب ثم تعطرت بالعود والطيب خطوت خارج الباب قاصدا الجامعة، لولا قرقرة معدتي التي أدركتني هذه اللحظة الحرجة، لا أعلم إن كانت تتوفر لديهم بقالة أو حتى مخبز بسيط بالقرب من السكن، أنين معدتي الخاوية لن يهدأ حتى أجد مكانا يطعمون فيه البطون الجائعة.

صادفت (مسعود) في أثناء طريقي، حياني وهو يسير على عجل:

- صباح الخير أيها الجار، أذاهب إلى الجامعة؟

أومأت برأسي مجيبا، ثم سألته:

- هل من متجر للأغدية قريب من هنا؟

أجاب باستغراب:

- نعم، لكن لم لا تهبط إلى القاعة السفلى؟

- القاعة السفلى!

تساءلت دون فهم..

عاد يقول:

- القاعة السفلى، قاعة المطعم، ألم يعلموك بشأنها؟

هززت رأسي نافيًا..

استطرد:

- آه... نسيت أنك طالب جديد هنا، هيا رافقني.

في القاعة السفلى أو قاعة المطعم كما هو المسمى، جلسنا أنا و(مسعود) نتناول الإفطار ذو المستوى الجيد، والذي كان عبارة عن قائمة من البوفيه المفتوح.

لم أنتق من القائمة سوى حبة واحدة من البيض المسلوق مع قطعة جبنة مالحة، وعلبة زبدة صغيرة وقطعتي خبز مستدير بالإضافة إلى ملعقتين لمربي التوت وحليب طازج.

ريثما أتناول الإفطار باعتدال على طاولة مستديرة، طفقت أجيل بصري حول القاعة فيما الطلبة بجنسياتهم المختلفة يتوافدون إليها تباعا. النشاط والحيوية يدبان في أرجاء القاعة، حيث الصباح المشرق يرسل نوره الوضاء في طر السكن ونواحيه. تتولد لدينا العزيمة نحو الانطلاق لتحقيق غاية الأهداف، وكما يقال مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة.

أمضي سارحا حتى قاطعني (مسعود) وهو يتناول طبقه الممتلئ:

- أخبرني أيها الجار، كيف انطباعك عن المكان؟

أجبت بعد أن ابتلعت لقمة:

- يصعب التكهن في أول يوم، لكني حتى الآن أجد راحتي هنا، رغم أنني لا أزال أشعر بالبعد عن أسرتي.

قال وهو يبتلع لقمة الخبز التي في فمه:

- هذا أمر طبيعي لابد منه، أما بالنسبة لشعورك فجميعنا كذلك ثم فضفض بصوت خفيض وكأنه يحادث نفسه:

- كم أشتاق إلى صلالة.. كانت أروع عطلة قضيتها هناك.

بعدها أردف وهو يبتسم:

- على كل حال سوف يعود كل منا إلى دياره بعد التخرج، ولن يفكر بالعودة إلى هنا مرة أخرى.

لا أعلم إن كان الوقت مناسبا للحديث حول هذه الغمة. فأنا لم آت إلى هنا لأسمع كلا يشكو حاله حول غربته عن الوطن. وبينما كان (مسعود) يثرثر حول حنينه لوطنه، شردت بانتباهي أفكر في الإجراءات التي سأتخذها اليوم بشأن قبولي الرسمي في الجامعة. رأيت (فواز) يلوح لي وهو ينتقي من المنضدة بينما تحمل يده قطعة من ورق القصدير، يبدو أنه لن يلبث في القاعة لتناول الإفطار نظرا لضيق الوقت.

ألمح لي (مسعود) وقد انتهي تقريبا من إفراغ طبقه:

- بالنسبة لزميلك في الغرفة..

 سألته وأنا اكتفيت من تناول إفطاري:

- ماذا بشأنه؟

- أعتقد أنه سيصل من ألبانيا اليوم أو غدًا.

قلت وأنا أتهيأ لتلقى ردة فعله:

- لكنه وصل فعلا.. لقد حضر الغرفة ليلة أمس.

وكما هو متوقع اندهش (مسعود) فجأة وقال بانفعال:

- وصل؟! متى؟.. ولماذا لم يعلمنا بحضوره؟

"شباب.. الأوتوبيس سوف يتحرك.. هلموا"

كان هذا صادرا من الأستاذ (رحيم) كتنبيه للطلبة وهو يقف عند مدخل القاعة، إذ سرعان ما قام معظم الحاضرين بعجالة، والبعض لم ينه إفطاره حتى، في حين نهض (مسعود) وأنا وراءه دون أن ينتظر إجابتي على سؤاله.

* * *

لم يكن يومي الأول في الجامعة طيبا بالنسبة لي، خاصة أن المبنى الرئيسي الذي مكثت فيه لفترة طويلة كان مزدحما بالطلبة الجدد. لم أعرف للراحة لذة إلا بعد أن قضيت ساعات عصيبة في محيط الجامعة وسراديبها. أمضيت وقتي كله في استكمال إجراءات القبول والتسجيل، ولولا أن تفضل بعض الإخوة الكرام بمد يد العون لضعت في هذه المتاهة البالغة التعقيد، ولاتخذت قرارا بالانسحاب بعد أن بلغ بي الاستسلام حده. أعلم أن كل طالب مقبل على هذه المرحلة لا بد أنه واجه مثل ما واجهته شخصيا من بعض العناء والمشقة، ولا غرابة إن لعن اليوم الذي أرسل فيه إلى الجامعة.

على كل حال أنهيت نصف المهام وبقي النصف الأخر أنهيه غدًا بإذن الله. أما المهام الأكبر أعتبره هو التخرج من الجامعة بعد سنوات أراها طويلة من الآن.

عاد الأتوبيس بنا في حوالي الساعة الثانية ظهراً، اتجهت إلى غرفتي التي لم أضلها هذه المرة، عندما ولجتها رأيتها خالية، توقعت أن أجد الزميل (عابد) ظاهرا، لكن الغرفة ظلت كما هي منذ أن غادرتها صباحا، لا وجود لهذا الزميل ولا حتى أي أثر يدل على مجيئه، استلقيت على الفراش أتمطأ، أغوص فيه بعمق، كادت الغفوة تسلبني لولا السرير الأخر، حيث بات من غير فراش، تذكرت الآن.. علي تذكير المشرف بشأن الفراش، وهذا ما جعل زميل الغرفة يظل ساهرا حتى إيقاظي لصلاة الفجر، لم يجد مهدا ملائما للهجوع عليه، أعتقد أنني أدين له بالشكر لتطوعه والسماح لي بالنوم علي سريره الخاص.

أثناء توجهي إلى مكتب الإشراف، تساءلت في نفسي.. أيعقل أن يظل المدعو (عابد حبيب) طوال هذا الوقت دون أن تراوده حتى غفوة واحدة؟ أليس هو من وجه لي النصح والإشعار من الضرر الناتج عن السهر حتى وقت متأخر من الليل؟ لكني لم أره حتى الآن، ربما قرر الإقامة عند أحد معارفه، وهذا ما أتمناه فعلا.

حياني الأستاذ (رحيم) بعد إقبالي نحوه:

- يا أهلا وسهلا بأهل البحرين الكرام، تفضل.

- أهلا أستاذ.

سألني بود:

- كيف قضيت أول يوم لك في الجامعة؟

أجبته بإيجاز:

- لم يسر الأمر على ما يرام، بقيت لدي بعض الإجراءات العالقة سأستكملها غدا إن شاء الله.

- إن شاء الله، تجلد بالصبر. أعلم كما تكون الإجراءات مرهقة للطلاب الجدد، وللأسف لا أحد يبادر ويمد يد المساعدة، نفسي نفسي.. شعار يتخذه عامة الطلاب هنا.

ثم أردف باسما:

- أراك تركت ساعة الغداء وجئت إلي.. تفضل هات ما عندك.

قلت مباشرة:

- الفراش يا أستاذ.

- أي فرا.. ها صحيح، حسنا ما فعلت بتذكيرك إياي، سأطلب من العمال إحضار واحد جديد لك.

ثم أضاف وهو يهم بالنهوض:

- لم لا تنتظر حتى عودة زميلك عابد، تعلم إننا نحصي الآن عدد الأسرة الناقصة مع تبديل المفارش القديمة بأخرى جديدة لبعض الطلبة، حتى نوفر للجميع دفعة واحدة.

قلت:

-  زميلي موجود یا أستاذ، الم يبلغكم بقدومه؟

تخضب وجه الأستاذ (رحيم) بالعجب:

- موجود! ومتى حضر؟ لما لم يمر على مكتبي ليوقع؟

قلت:

- لا أعلم، لقد حضر قبل يوم أمس.

عاد العجب مرة أخرى يطلي وجهه وقال بشيء من العصبية:

- ولماذا ظل حتى اليوم دون أن ينبئنا بقدومه؟

ثم زفر بضيق وهو يتحسر قائلا:

- يا لطلاب هذا الزمن يرفضون التعاون معنا، كما أتوق للأجيال الراحلة.

عاد إلي قائلا بعد أن هدأت عصبيته:

- أرجو أن تبلغ زميلك إذا رأيته أن يمر على حالا، حتى يوقع حضوره ونهي تدوين البيانات.

عقبت ونفسي راغبة بالانصراف فوراً:

- سأفعل يا أستاذ.

ثم شكرته واستأذنت بالانصراف، بينما عقلي يحمل بعض التساؤلات عن هذا الزميل (عابد حبيب). أرى أنه صار مطلوبا عند الجميع، هل هو شخصية مهمة لهذه الدرجة؟ أم أن فضولي هو الذي يدفعني لطرح هذه التساؤلات؟.. قطع تفكيري صوت قرقرة معدتي، لقد صحا الجوع أخيرا. إذا، وجهتي القادمة هي القاعة السفلي.. قاعة المطعم.

* * *

في قاعة المطعم شعرت بالسرور عندما قابلت صديق الطفولة (فواز). جلسنا عند منفصلة الطعام نتناول الغداء ونتحل مش عن أحوالنا، وقد انضم إلينا زملاء آخرون.

قال (فواز):

- يبدو أنك لم تستكمل الإجراءات بعد.

قلت وأنا أغمس الملعقة في طبق الأرز:

- ليس أمامي سوى القليل لأنهيه.

- بالتوفيق.. قل لي .. كيف حال زميلك عابد، هل رأيته وأخبرته بما قلته للك اليوم؟

ها قد بدأنا مرة أخرى..

أجبت:

- لقد التقيته مرة واحدة فقط، هي ليلة أمس كما تعلم.

قال (فواز) وهو ينهي طبقه:

- لقد حاولت الاتصال به، لكن هاتفه الخليوي ظل مغلقا.

تدخل أحد الزملاء قائلا:

- هل وصل (عابد)، متى؟

حسناً هذا يكفي.. تكفل (فواز) بالإجابة، أما أنا فقد نهضت مستأذنا بالانصراف بعد أن أنهيت غدائي.

* * *

قبل أن أستريح في قيلولة، تذكرت أنني لم أتصل بأسرتي منذ أن قدمت إلى هنا، لذا ابتعت شريحة جديدة من أقرب محل وصرت أملك رقماً خاصا للبلد.

على مصطبة الباحة جلست أنتظر أحدهم ليجيب على الهاتف الذي طال رنينه، وفؤادي يكاد يشب من فرط اللهفة إلى أن سمعت صوت أحد من منزلي المبارك:

- نعم.

- يعقوب؟

- من؟.. جاسم! أيها المجرم، أين أنت؟ لقد قلقنا عليك كثيرا.

- لقد وصلت مساء أمس ولم يتسن لي الوقت للاتصال بكم، بالإضافة إلى أنني كنت منهوك القوى من جراء السفر.. أخبرني

كيف حال الجميع؟ كيف حال أمي؟

- بخير والحمد لله، أما أمي.. فلا تسأل.

- لماذا؟

-كانت أكثرنا قلقًا عليك، لم يغمض لها جفن منذ البارحة.. سأناديها الآن.

ظللت أنتظر سماع صوت أمي الشجي وقلبي الصغير يجيش بالشوق، حتى تهادى الصوت الحنون إلى أذني بسلاسة:

- كيف حالك يا حبيبي؟ لقد عذبتنا بطول انقطاعك.

- سامحيني يا أماه، لم تتح لي الفرصة لمكالمتكم إلا الآن بعد أن ابتعت الشريحة متأخرا.

رحت أحاديث أمي عن أحوالي وأحوال الجامعة وكذلك قطر، وأنا أحاول أن أبذل أقصى ما لدي لإحساسها بالطمأنينة، ثم سألتها عن حال البيت وحال أبى. وددت فعلا التحدث إلى أبي إلا أنه لم يعد من العمل بعد.

وقبل أن أنهي المكالمة تذكرت أمراً هاماً، سألت والدتي:

- أمي، هل يمكنني أن أسألك سؤالا فضوليا.

أجابت بترقب:

- اسأل ما شئت.

قلت بعد تنهد:

- الرسالة..

- ماذا بشأنها؟

- لقد قرأتها كلها.

- بورکت، لا تنس فحواها.

- لا أقصد هذا يا أمي، أعني أنني بالطبع سأنفذ نصائحك الثمينة بصدق، لكن العبارة الأخيرة لفتت انتباهي.

- أي عبارة؟

- بشأن الغرباء.. لا داعي أن تقلقي علي أبدا.

هنا قالت أمي بوضوح:

- لطالما كنا نحذركم وأنتم صغار ألا تجالسوا الغرباء بتاتا، ولا تقتربوا منهم مهما كانت نواياهم. إلى الآن ما زلت أحذرك منهم رغم أنك أدرى مني بهذه الأمور، ولا تنس أنك تعيش في الغربة وإن كانت فترة معدودة، فاحذر من أي شخصي لا تعرفه يحاول التقرب منك بقصد إفسادك وتغيير أفكارك المستقيمة.

ظللت لفترة صامتاً، وقد أثارت كلمات أمي هاجسي، وأنا أفكر في وقع عبارتها هذه، في حين راح الصوت الحاني يتردد عبر الهاتف:

- جاسم... ما بالك؟ لم لا تجيب؟!.. تكلم هيا؟

هنا انتبهت فجأة:

- ها.. ماذا؟.. لا شيء، أنا بخير، انشغلت قليلا، أرجو أن تبلغي والدي أطيب تحياتي.

بعدها أنهيت مكالمتي دون أنسى أن أطلب من والدتي أن تهبني خالص دعواتها مع تمنياتي لها ولوالدي بطول العمر والصحة والعافية، ثم قفلت عائدا إلى غرفتي.

* * *

أول خطوة قمت بها حين فتحت باب غرفتي، استرخيت على الفراش لأخذ غفوة بعد إنهاك السفر وجهد الصباح، وقد نجح النوم أن يغلبني هذه المرة.

صحوت بعد ذلك على أذان صلاة المغرب. نهضت من فراشي متوجها إلى دورة مياه لأتوضأ وأهيئ نفسي للصلاة. أثناء الوضوء لا أعلم ما الذي جعلني أشغل تفكيري في (عابد حبيب)، لم أره إلا ليلة أمس فقط، بل لم أره إطلاقا! لا في الصباح ولا في قاعة الطعام ولا في المسجد وقت صلاة العصر، ولا حتى أذكر أنى رأيته في الجامعة.. لعله وجد مكانا آخر يقضى وقته فيه، ألهذا الحد لا يرغب أن أشاركه الغرفة! لماذا أشغل تفكيري به، كل له خصوصياته.

وفي لحظة قطع تفكيري صوت الإقامة. أنهيت وضوئي بسرعة وأنا ألوم نفسي ثم عدوت مسرعا إلى المسجد.

بعد أداء صلاة المغرب فكرت أن أعرج على صاحبي (فواز)، خاصة أنه دعاني من قبل لزيارته متى تاحت لي الفرصة.

رحب بي (فواز) بحماس بعدما فتح لي باب غرفته. بت أتطلع في غرفته المتواضعة نوعا ما، لولا كومة الأشياء المتناثرة لوسعت من مساحة الغرفة. حثني (فواز) على الجلوس بعد أن هيأ المطرح مكانًا للمجالسة ما بين التخت والدولاب.

سألني (فواز):

- أتشرب شيئا؟

- نعم.. أرغب في احتساء الشاي في هذا الوقت.

قام (فواز) بإعداد الشاي من خلال السخان، مرت لحظات حتى فار الماء وعلا غليانه. ريثما يصب (فواز) الماء الساخن في كوبين سالت (فواز):

- أين زميلك؟ أم أراك تقيم وحدك.

أجاب:

- لم يعد من السفر بعد، تعلم إنه الأسبوع الأول، وغالبا لا يفد معظم الطلبة في هذا الأسبوع.

- آه.. هكذا إذن.

ثم أردفت:

- كنت أتساءل بشأن (عابد حبيب).

التفت إلى وهو يرتشف كوبه:

- ماذا بشأنه؟

- أود أن تحدثني عنه قليلاً، بما أنكما تدرسان معا في نفس المجال.

قال (فواز) وهو يضع كوبه على الطاولة:

- في الحقيقة هو شخص لطيف ومرح إلى حد ما، دعك من مزاحه الثقيل فهذا جانب من مرحه.. لعلك رأيت منه هذا الجانب عندما التقيت به.

قلت بهدوء:

- لا.. لم أر منه حسناً أبداً سوى أسلوبه الفظ في التعامل معي.

حملق (فواز) في وجهي باستغراب، هنا ارتأيت إخباره عما حصل في تلك الليلة عندما التقيت (عابد). بالتالي شرعت أحكي بشيء من الإسهاب عما حصل معي في أول ليلة لي وقتما دخل (عابد) الغرفة بشكل مفاجئ ثم طلب مني ألا أفتح المصباح أثناء وجوده، بعد ذلك لاحظت انهماكه في المذاكرة حتى الفجر إلى أن انتهيت قائلا:

- .. وكما رأيت، أيقظني لصلاة الفجر ولم تره في المسجد.

عكف (فواز) مفكراً، وقد شده كلامي. في حين رحت أكمل ما تبقي من الكوب دون الرغبة في إبداء المزيد.

تساءل (فواز) بعد هنیهة:

- هذا غريب! هل قال لك بأنه يرغب الانفراد بالغرفة؟

أومأت رأسي بالإيجاب.

- وهذا الفصل هو الأخير في مرحلته الجامعية؟

أومأت رأسي مرة أخرى بالإيجاب.

- غريب فعلا! كيف تقول هذا ونحن قدمنا معا في السنة الدراسية، فمن المفترض أن تكون هذه السنة الثانية بالنسبة له.

علقت وأنا أتمطأ:

- لست أنا من ذكر هذا، بل هو الذي صرح بهذا الشأن.

ثم أردفت:

- والأكثر غرابة يرفض أن أشاركه الغرفة، عكس ما تدعونه أنتم بشأن رغبته في مشاركته الإقامة مع أي كان.

قال (فواز):

- لا أعلم حقيقة هذا الأمر، صدقني كان يسأل مرارا عمن يشاركه الإقامة؛ فهو يشعر بالوحدة والضجر حينما يظل بالغرفة. لكن ما شأن المصباح؟ لماذا يطلب منك أن تطفئها متى ما ظهر في الغرفة؟

أجبت:

- بسبب عينيه، فهي تعاني من حساسية تجاه الأضواء الحادة.

عقب (فواز):

- حساسية! كل ما أعلم أنه يعاني فعلا من ضعف البصر، لكن لم يصل إلى هذا الحد، ولم أسمع إطلاقا بخصوص شكو عينيه من ضوء مصابيح الغرفة. إلا إذا طلب علينا مرض جديد، فالعياذ بالله. ثم أضاف بعد برهة:

- لا تقلق، إذا لقيته سأتحدث معه بهذا الشأن، فقط متى رأيته أعلمني.

قلت مغمغما بشيء من الاعتراض:

-  وهل تراني قلقا.

عكفنا لفترة حتى أحكم الصمت علينا بالكفاية إلى أن تهادى إلى أسماعنا أذان العشاء. قبيل خروجي طلب مني (فواز) مرافقته إلى كورنيش (الدوحة) وقضاء وقت ممتع مع بعض شباب الجامعة، فوعدته وقد راق لي الأمر.

* * *

كنت أقضي وقتا طيبا في كورنيش (الدوحة) بصحبة رفقة من شباب الجامعة، اثنان منهم قطریان، وطالب سعودي وأخر كويتي بالإضافة إلى (فواز).

لحظات جميلة نستغلها جالسين على (الدكة) عند البحر المتلفع بدثار المساء، نصغي إلى هدير أمواجه، فيما تلثم وجوهنا النسائم العليلة.

نحتسي شاي (الكرك) المعروف عند أهل الدوحة ونحن نتحاور حول الجامعة وأحوالها ومعها أحوال السكن، وكأنها الشاغل الأكبر. يدور بيننا نقاش هادف مثارها السياسة وقضايا الرأي العام.

بعد انصرام فترة من الزمن يخاطبني (زكريا) السعودي سائلاً:

- كيف الأحوال معك كونك طالبا حديث القدوم؟

أجيب:

- أفضل من قبل، ربما بسبب هذه الصحبة.

تدخل (غانم) الطالب القطري:

- ربما!.. بل أكيد، لن تجد مكانا أروع من كورنيش الدوحة، فهذا المكان السياحي الوحيد الذي عندنا.

ضحك بعض الشباب على خفة دمه وإن كنت لم أفهم مغزاه.

قال (زكريا) موجها خطابه لي:

- سمعت أنك تقيم مع الألباني.

- تقصد عابد حبيب.

- نعم هو بعينه.

هنا سألت وقد اعتراني بعض الضيق:

- ماذا بشأنه؟ لا أنفك أقابل أحدًا إلا وذكر اسمه على مسمعي.

تدخل (زبير) الكويتي:

- حدثه عن صاحبنا فهد.

تداخل (فواز) بدوره معترضا:

- ليس من داع، لقد نسينا الأمر ولم يعد أحد يذكره.

هنا أصر البعض على ذكر ما يجب عدم الإباحة به، إلا أنني بدوري انتابني الفضول حيال الأمر الذي جعل (فواز) يتحفظ على الإفصاح به.

قلت بشيء من الإلحاح:

- هل من أمر تخفونه عني؟ لا بأس يمكنني تقبل ما سأسمعه الآن دون قلق يا فواز، بل أعدكم أنني سأتجاهل ما سمعته من كلام غير محبذ ذكره بالمرة.

رنا (زکریا) نحوي بتردد، فيما راح (زبير) الكويتي يمازح الشاب القطري الآخر الذي أجهل اسمه، حتى أفضى قائلا بروية:

- كان يصاحبنا صديق من الكويت يدعي فهد كما سمعته، غادر السكن ليقيم في إحدى الشقق التي أستأجرها بنفسه، بعدها رأيناه قد انسحب من الجامعة ليغادر قطر نهائيا.

تطلعت في وجهه دون فهم، وأنا أحاول تحليل كلامه، ولما أدرك عدم استيعابي لمغزى حديثه، استأنف قائلا:

- السبب الذي دفع صاحبنا هذا لمغادرة البلاد نهائيا بلا رجعة، هو زميلك عابد حبيب.

سكت مليًا ثم أردف:

- أصابته حالة نفسية سيئة كادت أن تصل به إلى حد الجنون؛ لمجرد أقامته معه ليوم واحد، لا نعلم ماذا فعل له حتى وصل به إلى اتخاذ قرار بالانسحاب رغم أنه اجتاز السنة الثالثة من الدراسة الجامعية.

صرح (فواز):

- رفض الإفصاح عما جرى في تلك الليلة، وقد أقسم الأخ عابد بأنه شخصيا لا يعلم لماذا لا يرغب صاحبنا بتاتا البقاء في غرفته ولو لحظة واحدة، حسب فقط إزعاجه وثرثرته المضجرة جعلت فهد يفر من السكن، بل من قطر نهائيا.

ألمح (زكريا):

- للأسف شرذمة من الشباب النزق فسروا الأمر بشكل سيء، ادعوا وقوع ثمة منكر بين الاثنين في ليلة فاضحة كما يسمونها.

عقب (فواز):

- ونحن نشهد على أخينا عابد حبيب بالأخلاق الرفيعة، فهو إنسان متزن لا يمكن أن تصدر منه مثل هذه التصرفات المنحرفة.

أطرقت صامتا أعجز عن التعليق، لا أعلم ما المغزى الذي يريدون أن يوصلوه إلى فكري، هل أطلب النقل إلى غرفة أخرى، أم علي الحذر من أي شيء مريب؟ هنا شرع (فواز) يسرد ما جرى ليلة أمس بدءا من دخول (عابد حبيب) الغرفة بطريقته البعيدة كل البعد عن اللباقة والأصول حتى إيقاظي لصلاة الفجر دون أن نراه.

قال (زكريا) بعد إطراقه:

- ربما بسبب ما حصل قبل سنتين، يرفض الآن مشاركة أحد معه الإقامة.

وافقه (فواز) في حين اندفع (غانم) غاضبا وراء (زبير) والقطري الأخر بعد أن رشا عليه قارورة ممتلئة بماء البحر.

صرّح (فواز):

- لكنني أذكر أنه مازال مصرا على أن يشاركه أحد الإقامة، وهذا ما كان يردده دوما كلما زرناه في الغرفة، ألا تذكر العام الماضي أو الفصل الماضي بالتحديد حين طلب من المشرف بإصرار أن يسجل أول طالب جديد للإقامة معه في الغرفة، ويبدو أن أخانا جاسم حصل على هذا النصيب.

تساءل (زكريا):

- لا أعلم ماذا أقول، أمر مريب فعلاً.

انجلت ساعة من الوقت حتى قررنا العودة إلى السكن من خلال إيصالنا بواسطة (اللاند كروزر) الخاص بالقطري الذي ما زلت أجهل اسمه.

* * *

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا