غريب يسكن معي 1 للكاتب محمد الواعظ

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-06-07

 

غريب يسكن معي

"رواية"

محمد الواعظ

الطبعة الثانية

ةنوفا بلس للنشر والتوزيع

 

تنويه

كتبت هذه الرواية إبان مرحلتي الدراسية بجامعة قطر، لذا جميع أسماء الشخصيات الواردة وإن تطابقت بعض الأوصاف والصفات مع الواقع الذي عاشه المؤلف، إلا أنها من نسج خيال الكاتب، وأي تشابه في الأسماء هي من قبيل الصدفة مع خالص اعتذاري.

عفواً...

أطفئ المصباح

قبل ظهور الغريب

 

1. المغادرة ..

خريف/ سبتمبر 2002

في المطار..

مرة أخرى أعود النظر إلى ساعتي العتيقة.. إنها السادسة مساءً، بضع من الزمن وأغادر البلاد، قاصداً قطر الشقيقة. أربعة أشهر أقضيها بين أجواء الدراسة، فلا يبيحنا سوى الفراق، ألقي نظرة إلى الوراء، إلى الساعات الماضية، أتساءل... ماذا نسيت؟.... ماذا تركت؟... عند من أودعت؟ أرى كل نفيس خلفته ورائي.. الدار، الأهل، الأصحاب، الأحباب، الأفراح، الأتراح، وحتى الذكريات. لكن.. يتجدد عهد اللقاء دوما، ويمسي للوداع طعم آخر.

داهمني الخبر قبل يوم أمس على حين غرة، محمولا على بساط البشري، هاتفني مبلغاً.. لقد تم حجز آخر مقعد لي للدراسة في جامعة قطر. وعلي أن أتحضر للسفر من الآن، وقتها خامرتني المفاجأة، تضاربت لدي المشاعر، ما بين سرور وحزن نابع من قلق. هي المرة الأولى التي سأغدو فيها بعيداً عن أسرتي رغم تقارب الحدود، والأغرب من هذا أنها المرة الأولى التي تبتلعني الطائرة. لم يسبق لي أن سافرت عبر هذه المركبة الهائلة تحلق بي عبر جنبات السماء.

في مراحل الصبا أتذكر أنني بعد الأصيل من أيام الإجازات الأسبوعية، أرافق والدي، وأحياناً يصاحبنا أخي الأكبر (يعقوب) للذهاب إلى الحديقة القديمة في منطقة (قلالي) لمشاهدة أجواء السماء المكفهرة بحمرة الغروب وهي تعانق الطائرات. تساءلت متمنياً.. متى ستتاح لي الفرصة وأجد نفسي في حضن السماء المترامية؟ متى سأرى الأرض من الأعالي القاصية؟

وها أنا الآن أقبع في محيط مطار البحرين الدولي أنتظر.. فترة وجيزة توشك أن تنصرم، بعدها سأجد نفسي بعيداً عن وطني الأم. حيث الغربة هناك ألفاها تلوح مخالبها في وجه أحاسيسي، حياة جديدة أجهل كيفية ممارستها، بعد أن كنت بالأمس فتى مدللاً عند أسرتي، لكني سأمخر عبابها بشعار العزيمة واليقين.

ثمة تساؤل لم ينفك يراودني منذ أن تناهى إلي الخبر.. مع من سأشارك المعيشة هناك طوال فترتي الدراسية؟ أم سأجد العزلة تحيط إقامتي؟ أم ستؤول إقامتي في السكن الجامعي مع زميل يحمل بصمة وطني الغالي؟

قال لي أحد الأصدقاء الخرجين من جامعة قطر إبان لقائي به: ليس من العسير خوض الحياة الجديدة مع ما فيها من تحديات ومصاعب، بل العسير يكمن في مدى استمرارك في مجابهة تلك الحياة دون الرضوخ لليأس. وليس من العجب التعايش مع الغرباء الذين تقابلهم لأول مرة، بل مما يدعو للغرابة نفسها هو التأقلم مجبراً مع غرباء لا تعلم إن كانوا بشرا أم أصنافاً لم تدونهم قاموس البشرية.

أخفض منظار عيني أوجهه كرة أخرى نحو الساعة، إذا تجاوزت النصف منذ قدومي إلى المطار، ما زال الوقت راسخا لم يطاله التأخير، رحت أشغل نفسي بالتأمل في هذه الأجواء الحية، دبيب السفر يموج عبر المطار، النداء الآلي يبث تنبيهاته يوجهها إلى حضرات المسافرين بين آن وحين، يتلو أرقام الرحلات، يعلن لحظات الإقلاع، صف من الأمتعة يزحف عبر جهاز الكشف، الموظفون يؤدون عملهم بشكل روتيني. هذه المرة أرسلت أنظاري لقراءة وجوه المسافرين، أجس نبضهم، أطل على مشاعرهم المختلطة، أرى السعادة تطفح في وجوه البعض، فيما الغموض يكتنف وجوه الأغلب، وكأن الإبحار في أجواء السماء عادة سبق أن مارسوها مرات عديدة.

ما زالت عقارب الساعة تدور حول الزمن بتراخ، وهذا ما يثير أعصابي المضطربة.. متى سأركب الطائرة؟

قطع أخي (يعقوب) شرودي حينما سألني:

- أراك متوتراً.

- ماذا؟.. آ.. ربما قليلا.

- هذا بديهي.

مضت برهة من الصمت، قطعتها سائلاً:

- لقد تأخر أبي، متى سيحضر؟

أجابني (يعقوب) مفكراً:

- لا اعلم، وعدني بالمجيء بسرعة مهاتفته لي.

ثم أردف:

- لقد غادر الشركة منذ فترة.

ريثما بتنا تنتظر، أخذت أعاين مرفقاتي الأساسية من جواز وأوراق وبعض اللوازم الضرورية، لأني أعلم يقيناً أن مزاجي لن يصفو لو نسيت إحداها.

وصل والدي أخيراً وهو يقبل نحونا على عجل، نهضت أقبل رأسه ويده، وشعور غير هين ينتابني هذه اللحظة.

سألني أبي والابتسامة لا تفارق شفتيه:

- ما هو شعورك الآن؟

قبل أن أجيب علق أخي قائلاً بتهكم:

- يكاد القلق يفتك به، لا أعتقد أنه مستعد للجامعة بعد.

التفت ناحيته دون أن أخفي استيائي من محاولته إحباطي وإن كنت دون قصد، وضع أبي يده على كتفي وهو يحفزني ناصحاً:

- لا تستصعب الأمر على نفسك، ثق أنك ستجتاز هذه السنوات الدراسية المعدودات بنجاح، فقط أطرف بعينيك ستراها قد مضت في لحظة.

أيدته مطمئنا:

- نعم معك حق يا أبي.

استمر في توجيه نصائحه قائلا:

- لا تنس الدعاء، إلى جانب العمل بالأسباب بالطبع.

أومأت برأسي قانعاً:

- سأفعل يا أبي.

هنا انفصلت يده عن كتفي، بعدها رأيته يمد نحوي مظروفاً صغيراً، أشار إليه:

- هذه من والدتك، نسيت أن تعطيه لك أثناء توديعك، وهذا ما سبب تأخيري.

شكرته بحرارة وأنا أوصيه أن يبلغ أمي أطيب تحياتي. ودعتهما بمشاعر غير متماسكة، دون أن أشعر بالفراق إلا وهو يمس حبة قلبي.

أثناء توديع أخي (يعقوب) علق بظرافته المعهودة:

- لا أعلم كيف سيصار وضع البيت طوال غيابك.. أحسب المسرات ستعم الأرجاء بعد رحيلك.

هنا قهقه والدي بصوت مسموع وهو يلكز (يعقوب):

- كفاك.

ثم قال قبل أن يتركاني أنهي الإجراءات:

- لتعد إلينا مرفوع الرأس.

أومأت برأسي مبدياً وعدي الصادق، بعدها رحت أدفع أقدامي نحو النضد لإنهاء الإجراءات المطلوبة ورضيع صدري لم يخف بكاءه بعد حتى وجدت نفسي في جوف الطائرة، ما إن حلقت كاد قلبي أن يسقط من فرط الرهبة لحظة إقلاعها.

* * *

" مرحباً بكم في مطار الدوحة الدولي"

بحمد الله وسلامته وصلت إلى قطر الشقيقة، وكلي أمل أن أجد أذرعها ممدودة نحوي بالترحاب، لكن الحقيقة ما إن وطئت رجلاي أرض بلاد الكرم هذه لم أشعر بالغربة تراود إحساسي مطلقاً، وكأني ولجت بيتي من باب آخر كما يقولون، لاسيما المعاملة المثالية وطابع الود الذي لمسته من موظفي المطار أثناء تنفيذ إجراءات ختم الجواز وما شابهه.

قبل أن أتجه إلى قسم استلام الأمتعة استوقفني ضابط مختص بالتدقيق على ما أظن، وبجواره يقف موظف لا أعلم شأنه، سألني الضابط:

- هل هذه زيارتك الأولى إلى الدوحة؟

أجبت وأنا أحول أن أخفي ارتباكي:

- نعم.

هنا عقب زميله مازحا:

- أول مرة!.. إذا ندعوك إلى العشاء الليلة باعتبارك ضيفاً عندنا.

علقت ضاحكاً:

- يروقني ذلك.. وسأرد لكم بالمثل إن زرتم بلدي البحرين، لكن سأدعوكم على الحلوى البحرينية.

عقب الزميل ضاحكاً هو الآخر:

- أعتبرها أفضل دعوة، لكن الفرق أنها لن تكون الزيارة الأولى بالنسبة لي، عندي أقرباء هناك أتردد عليهم بين فترات متقطعة.

سلمني الضابط الجواز وهو يقول مبتسماً:

- الحمد لله على السلامة، وحياك الله في بلدك الثاني.

لم أنتظر طويلاً حتى استلمت أمتعتي البسيطة والمؤلفة من حقيبتين صغيرتين- حقيبة متوسطة الحجم وحقيبة صغيرة تحوي مرفقات اليد والأوراق اللازمة- بعدها عبرت بوابة الخروج لأجد نفسي خارج المبنى، تفتش عيناي عن أول سائق تاكسي يقلني إلى الجهة المقصودة، أشار لي أحد المسئولين في مجال التنظيم وهو فلبيني الجنسية أن أقف في الصف عندما سألته عن سيارة الأجرة، في حدود الثلاث دقائق أو أكثر استغرق مني الوقوف حتى ألقيت نفسي في مقدمة الصف، أقلبت نحوي مركبة أجرة يميز هيكلها اللون البرتقالي والأبيض، سألني السائق ذو الملامح العربية:

- أين وجهتك؟

أجبته وأنا أهم بالركوب:

- السكن الطلابي من فضلك.

- تقصد السكن الجامعي.

- نعم، هذا هو المكان.

فتح لي الباب:

- تفضل.

بادر السائق في حمل حقيبتي ليضعها في الصندوق الخلفي للمركب، بعد ذلك دلفت إلى المقعد الأمامي، انطلق السائق فوراً ليغادر محيط المطار.

في أثناء الطريق، سألني الرجل الذي بدا في أواسط الأربعين من العمر:

- هل هي زيارتك الأولى؟

أجبت:

- نعم، خاصة أنها أول بلاد لي أسافرها بالطائرة.

عقب بدهش:

- حقا! وكيف كانت التجربة؟

أجبت باسماً:

- لا بأس بها

همهم بخفة، ثم ألمح قائلاً:

- عليك أن تعتادها، لا تقلق.

ثم أردف سائلاً:

- الأخ من أين؟

أجبت:

- من البحرين.

قال بوداعة:

- آه.. هذا البلد الجميل، ذو الشعب الأصيل، لقد عملت سائقاً هناك قبل سبع سنوات ثم انتقلت للعمل هنا في قطر.

- حقا!.. ومن أين أنت؟

- أخوك وليد ممدوح من اليمن.

- وأنا جاسم.. تشرفنا.

سألني الأخ (وليد):

- هل جئت هنا لغرض الدراسة؟

- نعم أنها السنة الأولى بالنسبة لي للمرحلة الجامعية.

- بالتوفيق إن شاء الله.

حقيقة بدا لي الأخ (وليد ممدوح) في غاية التهذيب، وهذا ما أشعرني بمزيد من الاطمئنان حيال قطر وأهلها. طفقت أشد أنظاري خارج النافذة، أجول متمعنا وجه قطر ومعالمها، فيما راح السائق يمثل دور المرشد السياحي، يشير إلى الواجهات المعروفة من تاريخ وآثار وسياحة، وهو يقدم بعض المعلومات التي أخالها ليست دقيقة كلياً. أخذ الطابع الإيجابي يتولد لدى انطباعي المتقلب. إذ أعجبت بالمستوى العالي الذي وصلت إليه البلاد من حيث تشييد الطرق والشوارع الرئيسية، إذ بدت منظمة ومنسقة بشكل متقن، وكأني أستشعر راحة السائقين أثناء سياقتهم، باستثناء بعض الطرق الرئيسية التي ربما تشكو من الزحام نوعا ما.

توقف السائق عند ظهور اللون الأحمر لإحدى إشارات المرور، وراح يدندن بصوت خفيض أغنية يمنية بعد أن أدى ما عليه من تقديم دوره كمرشد. أطمح ببصري لأرى الأشجار الإسمنتية لقطر عبر التطلع في العمارات والمباني الشاهقة، رأيتها تماثل أشجار بلادي الإسمنتية إلى حد ما، إلا أن المقارنة تختلف من جانب لجانب لا أرغب أن أخوض في تفاصيلها.

مال السائق نحو أحد المنعطفات، ثم استقر في ناصية الطريق لبرهة، تجاوز بعض الطرق الفرعية حتى ظهرت أمامنا لوحة إشارة برز عليها اسم منطقة (السد). توغلنا فيها ونحن نمر من أمام بعض المحال التجارية والمطاعم المتعددة، ثمة مجمع تجاري يدعو (اللولو) يلوح من بعد، برز أمامنا دوار صغير، انعطف السائق نحو الجهة اليسرى للدوار حتى دخلنا منطقة سكنية شبه مظلمة، لاح لي مبنى مدرسة تحمل لافتتها اسمها التالي (المدرسة الفلبينية)، بعد تعدينا لها برزت أمامنا عمارتان متجاورتان ذات شبه واحد، بانت فوق العمارة اليمنى لافته عملاقة حملت بوضوح الاسم التالي (إدارة الإسكان الجامعي).

أشار (وليد ممدوح) بعد توقفه أمام البوابة:

- وصلنا، هذا هو السكن.

تطلعت في العمارتين إذا تجلت في واجهتها الشرف والنوافذ قائمة ومعروضة بشكل منسق، لكن أغلبها غير مضاءة مما يوحي بغياب القاطنين في هذا الوقت.

سألت السائق:

- أي واحدة هي العمارة الرئيسية.. أعني التي تحوي مكتب الإدارة؟

أجاب:

- والله.. لا أدري، ربما العمارة اليمنى التي تحمل اللافتة، لم لا تسأل البواب؟

دفعت للسائق أتعابه بعد أن حملت متاعي، ثم انصرف بعدها ليصطاد زبوناً آخر.

* * *

أما مأوى إقامتي، أقف والتردد يخالجني في هذه اللحظة، أتأمل الطابع الخارجي للسكن الجامعي، مسحة من السكون تجلل المكان، نسمة من الهواء المنعش تلثم وجنتي، وأنا ما برحت حائراً في أمري، حتى لاحظ البواب- الذي بدا أنه من الجنسية السودانية- حيرتي، خرج من صومعته وأقبل نحوي بتؤدة... سألني مباشرة:

- طالب جديد؟

- نعم.

- اتبعني.

حملت حقيبتي لأتبع البواب وأنفذ عبر المدخل المسور، ظهرت أمامي سدة تصل بالعمارتين تحيط جانبيها الشمالي والجنوبي ساحتان صغيرتان شيدت أرضيتها بالطوب الأحمر.

صعدنا العتبات الصغيرة للعمارة اليمنى، لفت انتباهي أول ما تجاوزت المدخل لوحة جدارية خضراء، تناثرت عليها المنشورات وبعض الأوراق الإعلانية، تشير أغلبها إلى الأنظمة واللوائح المتعلقة بالسكن. قادني البواب إلى مكتب الإدارة مباشرة عبر ممر عريض. أشار إلى غرفة نصف مفتوحة قائلاً:

- الأستاذ رحيم مدحت سينهي معك الإجراءات اللازمة.

شكرته بامتنان على تكلفه لإرشادي. وقفت أمام الباب المفتوح جزئيا، أتطلع إلى اللافتة المعلقة حيث كتب عليها اسمها الواضح (المشرف) لتضفي إليها طابعاً من الرسمية. طرقت الباب المفتوح ثلاث طرقات خفيفات حتى سمعت من يقول بصوت مبحوح:

-  تفضل.

بدا المشرف بجسده الممتلئ في أواخر العقد الخامس من العمر، جالسا على كرسيه بوضعية غير مريحة، يعلو هامته شعر خفيف غلب عليه بياض الشيب، عيناه ضيقتان تنطلي عليهما أمارات المودة، أما صفحة وجهه العريض والمجعد فقد خلت من زينة الرجال، تعلوها السحنة المصرية، فيما يرتدي بدلة مهندمة وعوينات سميكة، وأنا حقيقة يروقني من يغشي عينيه بالعوينات؛ لأنها تظهر جانب الوداعة فيه.

أنشأ يتطلع فيني بتركيز وهو يصلح من وضع عويناته، بينما يحمل في يده صحيفة محلية كان يقرؤها. بادرت محيياً:

- مساء الخير أستاذ رحيم.

رد تحيتي ببشاشة:

- مساء النور، تفضل.

باشرت قائلاً:

- طالب جديد.

عقب برحابة:

- يا أهلا يا أهلا، من أين أنت؟

أجبت:

- من البحرين.

هنا عبر بحماسة:

- يا ألف مرحبا بأهل البحرين الطيبين، حللتم أهلا ونزلتم سهلا، تشرفنا.

- تشرفنا بلقائك يا أستاذ.

قال بصراحة:

- هل تعلم.. الطلبة البحرينيون من ضمن أفضل أعضاء في السكن لما يتسمون به من أخلاق رفيعة.

عقبت وقد راق لي سماع هذه المجاملة:

- أشكرك يا أستاذ على هذا الإطراء.

سألني:

- أهذه السنة الأولى لك؟

أجبت:

- نعم، وهذه المرة الأولى التي أزور فيها قطر.

عقب:

- يا مرحبا بك في بلدك الثاني، وما هو التخصص الذي ستدرسه؟

أجبت:

- لقد قررت دراسة القانون، لكن على أولاً أن أتخطى المرحلة التأسيسية.

علق الأستاذ (رحيم) وهو يطوي الصحيفة:

- اختيار جيد، أتمنى لك التوفيق.

ثم أردف وهو يفرك عينيه بعد أن خلع عويناته:

- أعتقد أن علينا إيجاد غرفة تقيم فيها طوال فترة دراستك، أليس هذا ما جئت لأجله.

هززت رأسي بإيجاب، صرح الأستاذ (رحيم):

- يحق لك الإقامة في هذا السكن حسب اللوائح إن كنت عضوا في الجامعة، لكن لا تتوقع غرفة شاغرة.

أثارت عبارته الأخيرة انتباهي، سألته بتوجس:

- ماذا تعني يا أستاذ؟

أجابني بصرامة مصطنعة:

- أعني أن كل طالب حديث القدوم غالبا ما يتوقع إيجاد غرفة ينفرد فيها لوحده دون اعتبار لغيره، إلا أننا نضطر تسجيله في غرفة يتشارك بها مع طالب أو طالبين، فكما تعلم نتوقع أن يزداد عدد الوافدين هذه السنة، لدرجة أننا نضطر أن نضم ثلاث طلاب وحتى أربعة في غرفة واحدة، لذا لن تكون ثمة غرفة شاغرة لأي كان إلا استثناءات خاصة حسب ما تمليه الظروف.

علقت بعد رؤية وأنا أحاول التصرف برزانة:

- سأقبل الإقامة مع أي فرد كان، بغض النظر عن جنسيته وحتى دينه، أهم اعتبار عندي هو حسن المعاملة والأخلاق حتى لو لم نكن متوافقين.

هز الأستاذ رأسه باستحسان وهو يوافقني الرأي، ثم عاود ارتداء عويناته فيما يبرز ملفاً سميكاً أخرجه من الخزانة بدا أنه يحوي قوائم أسماء. ألمح وهو يفض الملف:

- علينا أولاً إيجاد غرفة ينفرد فيها طالب واحد وإذا لم نجد فطالبان.. ربما ترغب بالسكن مع زملاء من ذات جنسيتك، لكن للأسف غرفهم مكتملة العدد.

بعدها راح يمرر إصبعه على القوائم وهو يقرأ الأسماء بصوت خفيض:

- غرفة رقم 12 يسكن فيها فلان وفلان، وهذه الغرفة تحوي ثلاثة طلاب، أ.. وجدت غرفة يسكن فيها طالب واحد، لكن لا.. نسيت، إنه في الفصل الأخير على وشك التخرج، لا نريد أن نفسد مرحلته الأخيرة.

بعد برهة طوى الملف بعناية، التفت نحوي:

- كل الغرف ممتلئة، لنرى ملفاً آخر.

فتح الخزانة مرة أخرى ليحمل ملفا بدا أقل سماكة من الآخر. ذات الفعل تكرر منه؛ يشير على الأسماء، يقرؤها بصوت مسموع هذه المرة حتى توقف عند إحداها وهو يثبت السبابة على الاسم.

تلا الاسم بصوت منخفض:

- عابد حبيب..

ثم كرره بصوت مسموع:

- عابد حبيب، عابد حبيب.. أعتقد أننا وجدنا مكانا لك.

وأردف:

- مع عابد حبيب

سألته وأنا أحاول أن أختلس النظر إلى الاسم:

- لا بأس، لكن هل يمكنك أن تخبرني عنه ولو تعريف مبسط.

أجاب الأستاذ (رحيم) بعد أن طوى الملف:

- في الحقيقة هو شاب أجنبي من ألبانيا.. لكنه شخص ودود وخلوق، يحترم الآخرين، دعك من ثرثرته المضجرة، أعتقد أنه يدرس علوم الحاسوب. ثق بي ستتأقلم معه بغض النظر عن جنسيته وتخصصه المختلف عنك. ها.. ما رأيك؟

علقت دون أن أبدي أي اعتراض:

- إن كان كما وصفته لي سأقبل الإقامة معه، وآمل أن يجد كل منا الراحة والقبول من الآخر.

تنهد الأستاذ (رحيم) باطمئنان، أشار إلي قائلاً:

- هو لم يأت بعد، ربما سيحضر غداً أو بعد غد.. والآن، هل معك ما يلزم؟ أهم ما نحتاجه هو بطاقة الهوية.

فتحت حقيبتي الصغيرة لأبرز المطلوب، وضع الأستاذ أمامي رزمة من الأوراق لا تتعدى الأربع، أشار إليها قائلاً:

- هذه بعض اللوائح، أرجو أن تطلع عليها وتقرأها بتمعن، ولا تنس إمضاءك في الخانة المشار إليها في الصفحة الأخيرة.

فيما راح المشرف براجع بياناتي ويملؤها في ورقة مستقلة، مضيت أقرأ اللوائح بإيجاز، ليست سوى توجيهات متعلقة بالمحافظة على الغرفة ومرافق السكن، وعدم التسبب بالإزعاج للآخرين، ولا شك أنني بعيد كل البعد عن مثل هذه التصرفات غير السوية.

انتهى الأستاذ من مراجعة بياناتي وتم تسجيلي رسميا في الغرفة رقم (22/ الشقة 17) مع الأخ (عابد حبيب) بعد أن وقعت اسمي في الخانة المخصصة.

أمرني الأستاذ (رحيم) وهو يغادر مقعده:

- اتبعني كي أرشدك إلى الغرفة.

قمت بدوري وتبعت المشرف إلى المصعد الذي أقلنا إلى أحد الطوابق.. أعتقد أنه الطابق الثاني، لم أنتبه لرقم المفتاح الذي ضغط عليه الأستاذ في المصعد. بعد ذلك رافقته إلى شقة تحمل الرقم 17. توقفنا عند الغرفة المعنية في نهاية الشقة ذات دهليز الضيق.. أحسب الشقق هنا كلها تبدو متشابهة.

انتظرت حتى يفتح الباب.. راح يتحسس جيبه ثم دس يد فيه وهو يعبث بعصبية حتى أخرجها فارغة.

قال وقد بدا عليه الاستياء:

- أوف.. نسيت المفتاح، انتظرني هنا حتى أعود، لن أتأخر.

ريثما أنتظر حضور المشرف ومعه المفتاح، أخذت أتطلع في معالم المكان الهادئ جزئياً، لولا صوت المذياع المنبعث من إحدى الغرف، إذ لا تحوي الشقة سوى ثلاث غرف مع غرفة إضافية خالية للمذاكرة، بالإضافة إلى دورتي مياه.

أتأمل الجدران، أشتم فيها رائحة السنين الماضية، أتساءل.. كم طالباً عاش في هذا المكان؟ وكم طالباً غادر؟ ألقي نظرات عشوائية، استرعت انتباهي حروف غير واضحة كتبت بخط اليد على يسار جدار الباب.. "ذكريات أحلى شلة عمانية.. يونس، هشام، مسعود، ناصر". إحدى الغرف علقت على بابها الخشبي لوحة تحمل اسماً غربياً (ذبيح الله بسم الله)، وغرفة أخرى تبرز لافتتها العبارة الترحيبية (welcome)، أما باب غرفة إقامتي فقد خلا من أي ملصقات.

لا أعلم لماذا ينتابني هذا الشعور؟ الإحساس بالكآبة هو ما يعتريني الآن، الصمت الموحش جاثم على المكان، أتحسس لهاثه الكريه يلفح شعوري. لكني آمل أن أجد الغرفة أكثر رحابة، ونفسي لها راضية ومطمئنة، بمشاركة الأخ الألباني المدعو... آآآ... نسيت الاسم.

كم الساعة الآن؟ إنها العاشرة والنصف. لقد تأخر.. قال إنه سيعود بسرعة، ما الذي يفعله كل هذا الوقت؟ خطر لي أن أهبط إليه وأتفقده لولا صوت صرير قطع تفكيري في هذه العجالة، إذ لم يكن مصدره سوى الباب الذي بجواري وهو على وشك أن يفتح.

* * *

لقيت نفسي وجها لوجه أمام شاب خليجي، أعتقد أنه عماني من وزار النوم الذي يرتديه أسفل فانيلته الداخلية. بدا أنه يكبرني بسنتين، وهو ذو جسد بارز عريض المنكبين، أسمر الوجه، له لحية خفيفة دهماء تغطي وجهه.

ألقى السلام، وبدوري بادلته التحية. حملق في وجهي لبرهة ثم بادرني بسؤال:

- هل أنت طالب جديد؟

أجبته:

- نعم، أنا من البحرين.

قال مرحباً:

- تشرفنا.. إذا ستنضم إلينا في هذه الشقة.

- آمل ذلك.. لكني ما زلت بانتظار الأستاذ (رحيم) حتى يأتيني بمفتاح الغرفة.

سألني:

- وفي أي غرفة ستقيم؟

أشرت إلى الغرفة التي أقف عندها:

- هنا مع زميل لا أذكر اسمه..

تهلل وجه العماني، وهو يعبر بوداعة:

- آه.. مع عابد حبيب، وأخيراً وجد من يشاركه الإقامة، صدقني لن تجد أحداً مثله. فقط عليك أن تحتمل ثرثرته المعتادة.

هززت كتفي وأنا أعقب:

- لا بأس عندي، وأنا أميل للثرثارين.

هنا أخذ العماني يمتدح هذا الأخ الذي أجهل عنه الكثير سوى اسمه، ويمتدح الشقة- التي أراها متواضعة- بأنها أكثر الشقق هدوءا ومثالية، وإن بدا أنه بالغ بعض الشيء، إلا أنني لا أخفي شعوري بالسرور والراحة، لاسيما تجاه هذا المدعو (عابد حبيب).

ظللنا نتعارف إلى أن جاء الأستاذ (رحيم) يحث خطاه.. شرع يعتذر ويتعذر عن سبب تأخيره كل هذا الوقت لأجل مفتاح معدني.

قال المشرف وهو يولج المفتاح في مقبض الباب:

- آسف على التأخير، أرجو ألا تكون منزعجاً، لقد كنت أبحث عن مفتاح آخر خاص لصندوق المفاتيح، كان علي أن أخبئه في مكان لا أنساه، والآن اسمح لي.. هاه.. أراك قابلت مسعود، هل تعارفتما؟

بالطبع كان يقصد العماني الذي عرفت منذ هذه اللحظة أن اسمه (مسعود)، الغريب أننا كنا نتحادث طوال هذا الوقت دون أن يقدم كل منا اسمه للآخر.

قال (مسعود) بشيء من التباهي:

- طبعا تعارفنا، هل هناك من لا يعرف مسعود.

قهقه الأستاذ (رحيم) وقال:

- كل العالم يعرف مسعود، علي أن أصنفك ضمن قائمة المشاهير.

قال (مسعود) بتهكم:

- بشهرتي العظيمة ألا استحق عليها جائزة الدولة التقديرية.

ثم التفت نحوي منبها:

- لكنك لم تعرفني على اسمك.

علق المشرف بطرافة:

- مضى كل هذا الوقت وقد بخل كل منكما تقديم اسمه للآخر، يا للحرج.

أفصحت عن اسمي قائلاً:

- معك جاسم.. جاسم صلاح.

- تشرفنا، وأنا مسعود الحارث.

ثم أردف:

- حسنا يا جاسم، يسرني التعرف إليك، ولنا لقاء آخر. أستأذنكما الآن.. علي الانصراف إلى دورة المياه.

* * *

أدار المشرف المفتاح في مقبض الباب بعد انصراف (مسعود) الذي بت جاره منذ الآن. لم تنقض لحظة حتى تاهت عيناي في الظلمة، وشعرت بالرهبة من عتمة الغرفة. لكن فور إضاءة المصباح، تلاشت الظلمة، وشعرت بالراحة من وميض مصباح الغرفة.

تفحصت بنظري مأوي إقامتي، لا أصفه كثير سوى أنه يصلح مقاماً لطالب جامعي، فهذه هي الغرفة المثالية لمن يعيش أجواء الجامعة ولا يتعدى أكثر من هذا. فيها دولابان ومكتبان صغيران، أحد هذين المكتبين يحوي بعض الكتب الجامعية.. من الواضح أنه يخص الأخ (عابد). أما عن الحجم فلا بأس به إن كان سيسكنها اثنان لا أكثر، أنا والمدعو (عابد حبيب). حيث في الجانب الأيسر من الركن ترى سريراً يليه مكتب ثم دولاب للملابس، وذات النسق عند الجانب الأيمن من الركن، فيما أمامي مباشرة تقع الشرفة، خلف واجهتها من الداخل تبرز مساحة خالية تصلح مكاناً للجلوس لو أضفت إليها بعض المطارح والمساند.

في الحقيقة أرى الغرفة لا بأس بها، كونت لدي الانطباع الجيد من حيث المستوى الرفيع للترتيب والتنظيم التي تغطي كل جزء في الغرفة. آمل فعلا أن أجد كل الراحة والأمان فيها.

لاحظت الأستاذ (رحيم) ما زال يتفحص الغرفة والدهشة مرتسمة على وجهه، وكأنه يرى هذا المكان لأول مرة، أو ربما ثمة أمر أثار انتباهه.

عقد حاجبيه وأفصح بصوت متوجس:

- غريب!

شد انتباهي عندما سمعت هذا. تساءلت:

- ما الغريب في هذا يا أستاذ؟

أجاب وهو يمسح أصابعه على سطح المكتب:

- الغرفة نظيفة.. إنها نظيفة جداً.. ومرتبة بشكل لافت، هذا غريب فعلا.

سألته مرة أخرى وأنا أستند على الدولاب:

- ألم تكن نظيفة من قبل؟

قال وهو ما زال يتفحص الغرفة بكل استغراب:

- لا أقصد هذا، أعني أن أي طالب حينما يغادر السكن، لابد أن يترك غرفته غير مرتبة، ولابد أن تجد أثار الغبار طوال فترة مغادرته، بالإضافة إلى أننا نحن نقوم غالبا بتنظيفها بعد مغادرة صاحبها.

ثم أردف:

- لاسيما حالة زميلك هذا، من شأنه أن يترك غرفته مهملة وفوضوية. لكن أراها الآن..

مسح إصبعه على النافذة وقال:

- نظيفة جدا.. لا أذكر أنني طلبت من العاملين القيام بتنظيفها، إلا أنني ألاحظ وكأن أحدهم بادر بتنظيفها منذ وقت ليس ببعيد.

ثم همس بصوت خفيض:

- منذ يوم أمس إن صح تكهني.

قلت:

- قد يكون الأخ عابد جاء إلى هنا دون أن تعلم، وبالتالي قام بتنظيف وترتيب غرفته بنفسه، وهذا أمر لا يمكن استبعاده.

رد علي معترضاً:

- إن كان جاء كما تقول لأخطرني بذلك.. وهذا ليس من عادته، وليس من عادته أيضا أن يكلف نفسه لينشغل بتنظيف الغرفة، غالباً يطلب منا أن نفعل ذلك.

ثم أردف دون أن يغض بصره عن أرجاء الغرفة:

- أضف إلى هذا، الطلاب الوافدون من البلدان البعيدة يأتوننا في فترة متأخرة؛ لطول تمديد تذاكرهم التي توفرها الجامعة، وأخينا هذا عهدناه من هذا الصنف.

ثم ابتسم وأردف:

- من حسن حظك لن تضطر الآن لتنظيفها، فالإنهاك باد عليك. تحتاج إلى قسط من الراحة، أنصحك أن تنام الآن.. هاه.. كيف نسيت هذا، سريرك ليس جاهزاً، ينقصه الفراش فقط، ذكرني صباح غد حتى أطلب من العاملين إحضار فراش جديد لك. يمكنك النوم مؤقتاً على ذلك السرير ريثما يعود زميلك، إنه مريح وهذا يثير دهشتي فعلا.

قلت:

- لا بأس.. أشكرك على كل شيء، أمامي يوم حافل ينتظرني غداً.

هز رأسه واستأذن بالانصراف، وقبل أن يهم بالمغادرة التفت نحوي قائلاً:

- إذا واجهت أي مشكلة تعال وبلغنا.. لا تتردد أبداً.

قلت وأنا أستلم منه مفتاح الغرفة:

- لا أتمنى مواجهة المشكلات، أشكرك على كل حال.

أغلق المشرف الباب بعد مغادرته على عجل، فيما عكفت أنشئ صلة تعارف بيني وبين الغرفة، ساءلت نفسي بقلق.. كيف سأقضي أول ليلة لي وحدي في قطر؟

* * *

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا