يا بعده 8 للكاتبة علياء الكاظمي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-08-06

(41)

الكويت

في اللحظة التي وطأت فيها قدماي أرض الكويت الحبيبة تذكرت الشيخ جابر الصباح رحمة الله يوم عاد إليها بعد الغزو.

تذكرت تقبيله لأرضها الطيبة، ولولا خجلي من الناس حولي لكنت فعلت مثله،

خرجت من بوابة المسافرين أجر حقيبتي الوحيدة، وعلى الفور لمحت أهلي بانتظاري، جريت نحوهم واحتضنت أمي بقوة، كدت التصق بها تماماً لولا الحاجز الحديدي الصغير الذي يفصل بيني وبينها، انهالت علي دلال بقبلاتها وأنا لا أزال بين أحضان أمي، ومن الجهة الأخرى فعلت تهاني مثلها.

احتضنت مجبل وقبلته ثم سرت نحوهم لاجتياز الحاجز الذي يفصلني عنهم وفور وصولي إليهم اندفعت نحوي شريفة تحتضنني بكل حبها وشوقها لي، قبلت شريفة بجنون وأنا أضمها بقوة، وبلحظة أحسست أنني ملكت الدنيا وما فيها.

الأهل عزوة. نعم. الأهل لا يعوض وجودهم أحد، حمدت الله ألف مرة على عودتي إلى حضن أهلي قبل أن أفقد عقلي في غربتي المؤلمة،

أخبرت أمي كاذبة أن أموري كلها على ما يرام، وأن حمد هو الذي طلب مني أن أعود لألحق بدراستي، وتوالت كذباتي تباعاً طوال الطريق وادعيت أنني سعيدة. وأن علاج زوجي هين وأن كل ما مررت به في رحلتي كان عادياً ومحتملاً.

كنت ألمح بعض الشك في عيني دلال فابتسم لها مطمئنة وإن كنت أعرف أن حاستها السادسة القوية لا يمكن خداعها.

ووصلت إلى منزلنا. نظرت تلقائياً إلى منزل حمد بحزن. تمنيت أن يعود إلى بيته سريعاً حتى لو كان يحب غيري. لازلت أحبه. وأتمنى له الشفاء والعودة إلى بيته ووطنه من كل قلبي.

ودخلت بيتنا الكبير. وكأنني أدخل إلى النعيم بعينه. وجريت نحو منزل جدتي.

ركضت كطفلة. واقتحمت المنزل ووجدت ماما نشمية بطلتها المهيبة جالسة في مكانها المعتاد. ودون أن أتكلم ركضت نحوها ورميت نفسي بين أحضانها وأنا أقبل كل ما تلمسه شفتاي منها. وربتت هي على رأسي، وخلال لحظات شعرت بسلام عظيم وقد استشعرت حقيقة أنني الآن في حماية جدتي.

قبلت أولاد تهاني كثيراً أيضاً، كنت أشعر أنني غبت عنهم لسنوات. وعندما دخلت غرفتي بعد هذه الغيبة شعرت أنني لا أريد أن أكون في أي مكان في هذا العالم سواها.

نمت تلك الليلة في سريري. بين وسائدي المريحة. نمت كطفلة سعيدة، وبعمق شديد.

واستيقظت في الصباح، لم يختلط على الوقت كما يحدث عادة للعائدين من الولايات المتحدة، وكأنني لم أكن هناك أصلاً!

لكنني فكرت بحمد بمجرد استيقاظي. وشعرت بيد قاسية تعتصر قلبي. ترى ماذا فعل من غيري؟ من سيحممه الآن؟ ومن سيهتم بنظافته وأكله؟ ما الذي يشعر به؟ هل سيتأثر لغيابي؟ أم أن الفتاة الأخرى التي أتت خصيصاً لزيارته ستكون معه بدلاً عني؟

هل يحبها؟ أم أنه يحبني أنا؟ وإن كان يحبني أنا. لم لا يزال على علاقة معها؟ ولم أجد أي إجابة على تساؤلاتي.

في ذلك اليوم دعانا عمي ماجد على الغداء في بيته، وقمنا بتلبية دعوته وواصلت مسلسل الأكاذيب أمامه، فهو بالذات لا يمكن أن أظهر له مدى ندمي وتعاستي،

وعندما عدت في الليل تملكني القلق على حمد، قررت الانتظار لما بعد منتصف الليل من أجل فرق التوقيت، وفي الساعة المناسبة اتصلت بهبة التي أجابتني على الفور.

سألتها عن حمد فقالت لي بعتاب إنه حزين جداً، ولم يذق الطعام منذ ذهابي.

أخبرتها أنني اضطررت للعودة وطلبات منها الاهتمام به، ولم أطلب منها محادثته، لم أجرؤ على محادثته!

ذهبت إلى الجامعة في اليوم الثالث بعد وصولي، ودخلت محاضراتي التي كنت متأخرة فيها فالدراسة بدأت منذ فترة لكنني كنت قادرة على مسايرة باقي الطلبة خاصة بعد أن تفهم الأساتذة وضعي،

وأخيراً التقيت الدكتور خالد الذي كانت إحدى موادي عنده مع شريفة، وفرح جداً لرؤيتي وسألني عن حمد، فارتبكت، وقلت بسرعة إنه بحال أفضل، وإنه لا يزال في أمريكا مع أهله.

صارحت شريفة بإحساسي بالذنب نحو زوجي الذي تركته وحده في محنته فواستني وأخبرتني أنني فعلت الصواب بعودتي فالله وحده يعلم متى يستطيع حمد العودة إلى الكويت.

بعد يومين آخرين هزمني الشوق إلى سماع صوت حمد، وحرمني الإحساس بالذنب من النوم، فاتصلت بهبة وطلبت منها محادثته. ساد الصمت برهة. ثم جاءني صوت هبة معتذرة: بسمة. إنه متعب ولا يستطيع الحديث الآن.

خفق قلبي بعنف وقلت لها: أرجوك. أحتاج إلى أن أسمع صوته. أخبريه أنني أرجوه.

قالت باستسلام: حاضر!

قال حمد بصوت خافت جداً: ألو.

قلت له بصوت يتعذب: یا بعده. هل أنت بخير؟ كيف حالك الآن.؟

ولم يجب حمد علي سؤالي، بل أجابتني دموعه.

وجزعت. كدت أجن وأنا أسمعه يبكي. شعرت أنني أصبحت كالفأر في المصيدة،

رجوته أن يتوقف عن البكاء وأخبرته أنني أحبه، بل وطلبت منه السماح،

أخذت هبة الهاتف وقالت لي هامسة: سأتصل بك لاحقاً. مع السلامة.

خرجت من غرفتي كالمجنونة وجريت إلى أختي دلال، وحكيت لها وأنا أبكي كل ما جرى بيني وبين حمد.

 شهقت دلال وقالت: تركته بهذه الطريقة وهو في هذه الحال؟ كيف استطعت فعل ذلك؟

أخبرتني دلال أنها واثقة من حب حمد لي، قالت لي إن إحساسها لا يجيب أبداً، فقد رأت حبه لي في عينيه، من طريقة نظراته إلي،

فسرت وجود الفتاة الأخرى على أنها فتاة من ماضيه، ربما كانت حباً قديماً له، أو صديقة من الدراسة، فقد درس في الولايات المتحدة وربما أتت هذه الفتاة لتراه من ولاية أخرى بعد أن سمعت بمرضه،

لم اقتنع كثيراً بكلام أختي فلو كانت مجرد صديقة لكان أخبرني عنها، كان حدسي يخبرني أن له علاقة جادة بتلك المرأة!

توالت الدعوات من الأهل في الأيام التالية، فالكل سمع بعودتي ويريد الترحيب بي،

وبعد مرور عشرة أيام على عودتي أقامت ماما نشمية غداء فاخراً في يوم تجمعنا الأسبوعي المعتاد علي شرف عودتي.

تلاشت فرحتي بعودتي وقد أصبحت شديدة القلق على حمد

لم أتصل بهبة لعدة أيام لكنني ذهبت لزيارة والد حمد في بيتهم واشتريت هدية لسعود، الذي ذكرني بأيام العلاج الصعبة بمجرد رؤيته من جديد.

التقيت أيضاً بآلاء زوجة فواز والتي أصبح بطنها كبيراً. وسألتني كثيراً عن وضع حمد وعن تاريخ عودته التي لم أستطع طبعاً إفادتها بخصوصها. كانت المسكينة تتمنى عودة فواز وقت ولادتها وتمنيت لو شفي حمد فعلاً قبل ذلك ليشهد فواز ولادة طفله الأول.

كنت أعرف أن فواز لن يترك حمد أبداً، كان يحبه كثيراً، ويشعر بالمسؤولية نحوه، ومن المستحيل أن يتركه حتى لو ولدت آلاء.

حاولت أن أشغل نفسي بدراستي لكنني كنت أشرد كثيراً وأنا أفكر بحمد.

فوجئت عمتي حصة بخبر عودتي ولم أستطع تفسير الأمر لها على الهاتف عندما اتصلت بي.

كنت مرتبكة للغاية ومشاعري متناقضة،

وفي يوم ذهبت لزيارة شريفة في بيتها ونسيت هاتفي النقال في البيت،

عدت في العاشرة مساء ففوجئت بخمسة اتصالات من هبة.

جزعت لاتصالها بي على هذا النحو المتكرر واتصلت بها خائفة، ردت هبة علي الفور وكأنها كانت بانتظاري

قالت هبة بلهفة: بسمة أين أنت؟ لم لا تردين علي؟

قلت بسرعة: كنت في منزل صديقتي ونسيت هاتفي بالبيت، ما الذي حصل؟ حمد بخير؟

قالت هبة: لا. حالته سيئة جداً يا بسمة، إنه يتدهور سريعاً. وقد أدخل العناية المركزة اليوم. بسمة. الأفضل أن تأتي إلينا.

صرخت: ماذا تقصدين؟

قالت هبة باكية: إنه متعب. ونفسيته سيئة منذ تركته وهو لا يكف عن مناداتك. تعالي يا بسمة. حرام أن تتركيه في هذه الظروف. أرجوك عودي. أتوسل إليك.

وجن جنوني. يجب أن أعود. لابد أن أعود، ماذا لو حدث شيء لحمد وأنا بعيدة عنه؟ كيف سأتحمل شعوري بالذنب وقتها؟ لقد كنت حمقاء عندما تركته، أردت معاقبة رجل مريض؟ ألا يكفيه المرض وأخذت ألوم نفسي.

وقررت الانسحاب من ذلك الفصل الدراسي على أن أعود للدوام في يناير القادم في الفصل الدراسي الثاني إن سمحت لي الظروف.

 وفي الصباح الباكر توجهت إلى الجامعة لأسحب المواد وأوقف قيدي الدراسي.

والتقيت الدكتور خالد الذي نصحني بالسفر أولاً ثم اتخاذ قرار الانسحاب فقد تستقر حالة زوجي وقد أتمكن من العودة قريباً،

لكنني رفضت. فضلت الانسحاب من الفصل الدراسي. لم أرد ترك الأمور معلقة خلفي. عرفت شريفة بقراري لوم تحاول إقناعي بالبقاء هذه المرة.

عدت إلى البيت وأنا أعلن لهم أنني سأسافر، صدمت أمي بهذا الخبر المفاجئ، لكنها لم تلح على بالبقاء بعد أن أخبرتها بوضع حمد الحرج،

أوصتني ماما نشمية بالتمسك بالأمل، وأعطتني قنينة من ماء زمزم وطلبت مني أن أمسح منها على جسد حمد.

خلال ثلاثة أيام من ذلك الاتصال سافرت إلى الولايات المتحدة بقلب خائف. كنت أخاف أن أصل بعد فوات الأوان. أيمكن للأوان أن يفوت فأفقد حبيبي إلى الأبد؟

دعوت الله متضرعة بأن يحفظ حمد، وأن يشفيه وأن يعينه على مرضه،

استغرقت رحلتي المتعبة ساعات طويلة، بدلت فيها الطائرة في مطار لندن،

حدقت طويلاً بدبلة حمد التي لم أخلعها أبداً منذ ألبسني إياها في عيد ميلادي.

كنت أتنهد بحرقة كلما تذكرت كلمات هبة. (إنه يتدهور سريعاً).

انهمرت دموعي أمام المسافرين مراراً، اقتربت مني المضيفة اللطيفة وهي تسألني برفق: هل أنت بخير؟

هززت رأسي إيجاباً وكل ما بداخلي يصرخ: لا لست بخير!

لم أكن بخير أبداً وحبيبي هناك. ينازع. ويعلم الله هل أصل إليه بالوقت المناسب أم لا.

ووصلت. كنت منهكة. نفسياً وجسدياً. وقطعت الطريق الطويل إلى الولاية التي يقع فيها المستشفى.

وأخيراً وصلت. تركت حقيبتي عند موظف الأمن وجريت إلى قسم العناية المركزة،

كان قلبي يخفق بقوة. وعندما وصلت وجدت أم حمد وهبة تقفان في الممر.

اقتربت منهما وقد تهللت أساريرهما لرؤيتي،

قالت هبة: حمد الله على السلامة.

وقبل أن أقبل أي منهما سألت بلهفة: كيف حاله؟

أشارت لي هبة نحو الزجاج لأطل على حمد الراقد في هدوء. وبلحظة غمرني حنان لا حد له عليه.

كان غارقاً في النوم، كملاك. وجهه شديد الشحوب وقد أصبح جلده داكناً جداً. لم أستطع تبين ملامحه جيداً فقد بدأت أبكي.

شدتني أم حمد من ذراعي وهي تقول: هيا سندخل إليه، يجب علينا تغيير ملابسنا.

توجهنا إلى الممرضة المسؤولة وقالت لها أم حمد: نريد أن ندخل إلى حمد، خذي إذن الطبيب.

نظرت الممرضة إلى ثم سألت: أهذه هي بسمة؟

قالت أم حمد: نعم، هذه هي.

قالت لي الممرضة: إنه يحبك كثيراً. لم يتوقف أبداً عن مناداتك.

ولم أستطع النطق بأي كلمة أخرى. خنقتني مشاعري، وخلال دقائق ارتدينا رداء خاصاً بالمستشفى وأبدلنا أحذيتنا وغطينا شعرنا وتم إدخالنا إلى قسم العناية المركزة لنرى حمد، اقتربنا منه أنا وأمه، دنت منه أمه وعيناه لا تزالان مغمضتان.

وهمست: حمد. من يدللك ويقول لك يا بعده.؟

أجابها حمد دون أن يفتح عينيه: بسمة.

قالت أمه: إنها هنا يا نور عيني. لقد أتت من أجلك.

وفتح حمد عينيه وراني. وابتسم. اقتربت منه وأنا لا أستطيع مغالبة دموعي،

وهمست له: كم أحبك. سامحني.

وابتسم ابتسامة أكبر.

ما حدث بعد ذلك كان أشبه بالمعجزة. لقد تحسن حمد كثيراً، خرج من العناية المركزة، واستعاد عافيته شيئاً فشيئاً، تحسنت شهيته للأكل، واستعاد جلده لونه، لم أعد افترق عنه. أصبحت أعيش معه تقريباً في المستشفى، أنام عنده في الليل، أشرف علي نظافته وطعامه، أغير له ملابسه، وأشبعه تقبيلاً وتدليلاً، لم يعد يهمني أي شيء، سوى أن أراه معافى، ركزت كل طاقتي على فكرة شفائه ويبدو أن الأمر نجح هذه المرة، حتى الطبيب كان سعيداً للتحسن الكبير في حالته الحب يصنع المعجزات. بدأت أؤمن بهذه المقولة، لم نتحدث أنا وحمد أبداً عن حادثة تلك الفتاة الغامضة، ولم أرد أن آتي على ذكرها كي لا أكدر صفوه، أتى زوج هبة لزيارتها وانشغلت هبة به وأم حمد تخرج معهما أو مع فواز معظم الوقت في حين كرست أنا نفسي لرعاية حمد دون كلل أو ملل.

أحضرت ماء زمزم الذي أعطته لي جدتي، وبدأت أمسح به على جسد حمد، لمحتني إحدى الممرضات وأنا أفعل ذلك فسألتني عن هذا الماء فأخبرتها بطريقة مبسطة قصة السيدة هاجر وكيف تفجر الماء المبارك تحت قدميها خلال سعيها.

في اليوم التالي زارتنا نفس الممرضة وبيدها إناء من الماء، قالت لنا إن هذا الماء أحضرته من قس شهير في الكنيسة وأنه أيضاً مقدس. طلبت من حمد أن يشرب منه، فخفت عليه. خفت أن يكون الماء ملوثاً لا سمح الله فيضره.

ضحك حمد وقال لي: أقسم أنني مستعد لتجرع السم إن كان فيه شفائي.

ودون تفكير أمسكت الإناء وشربت منه قبله، سألني حمد: لم شربت منه؟

قلت صادقة: كي يصيبني المكروه قبل أن يصيبك. ليتني أستطيع أن أفديك بعمري يا حمد.

وقبل حمد يدي، وشرب من الماء كي لا يحرج الممرضة الطيبة.

يقارب المرض بين الأشخاص، نتخطى اختلاف الأديان والمعتقدات ويبقى الإيمان بالله عز وجل ما يجمع البشر.

الإنسانية فطرة خالصة. وفي ذلك المكان يدعو الكلي للأخر بالشفاء بغض النظر عن دينه وعرقه.

كنا نفرح كلما عرفنا بشفاء مريض ما ونحزن كل الحزن عند ما نسمع خبراً حزيناً عن مريض آخر،

التقيت امرأة في المشفى في تلك الفترة، كانت جميلة إلى حد لا يصدق، في الأربعين من عمرها، فقدت شعرها كله بسبب العلاج، وتركت رأسها مكشوفاً دون أن تغطيه كما يفعل الجميع، ورغم ذلك كان جمالها أخاذاً، والنور يفيض من وجهها،

تحادثت معها يوماً، فأخبرتني أنها سعيدة. قالت لي إنها عاشت حياة مفعمة بالحب، وأن الله قد رزقها الكثير من الأشياء الجميلة التي تقدرها كثيراً وتشعر بالامتنان لأنها حظيت بها،

أخبرتني أنها تقبلت مرضها، وصبرت على العلاج بعزم. ورغم أن المرض منتشر في جسدها إلا أنها ليست خائفة من الموت. بل على العكس، إنها تتوق إلى لقاء الله، ومشتاقة لرؤيته.

أثرت بي ماريا كثيراً وكان هذا اسمها، شعرت أنها حفرت شيئا في قلبي بكلامها،

كانت مؤمنة بالله عز وجل، ذلك النوع الراسخ من الإيمان

توفيت ماريا بعد حديثنا معاً بعشرة أيام، أخبرتني الممرضة أنها كانت مبتسمة، ولم يسلب منها الموت شيئاً من جمالها،

لم يبكي زوجها عند رحيلها، قبلها وهو يهمس لها: لترقد روحك بسلام.

كان يعرف أنها سعيدة في موتها، كما كانت سعيدة في حياتها، تمنيت المشاركة في مراسم دفن ماريا، لكنني لم أكن أستطيع الغياب عن حمد، لكنني في وقت لاحق أصبحت أرى ماريا وأشعر بوجودها كلما وقعت عيني على زهرة جميلة. فكل الزهور أصبحت تذكرني بماريا الفاتنة.

***

(42)

طفل يرى النور

رزق فواز بولد. ولم يحضر فواز ولادته. وصله الخبر السعيد وهو بيننا في المستشفى، باركنا له ورأيت ابتسامته الواسعة لأول مرة منذ عرفته،

قالت أم حمد: ماذا تحب أن تسميه؟

قال فواز: أحب أن أسميه حمد.

قالت بسرعة: لا. لا تسمه حمد، لدى اعتقاد أن التسمية على شخص حي فأل سيئ.

قالت هبة: كلام فارغ. الأعمار بيد الله وحده، وآلاف النساء يسمين أولادهن على أحبابهن.

قال حمد: يمكنك أن تسميه باسم أي شخص تحبه.

قال فواز متأثراً: لا أحد أحب إلي منك يا أخي.

كان فواز رقيقاً رغم جفائه، حنوناً رغم قسوته، طبعه الحاف وصلابته كانا مجرد قناع لشخص محب لا يجيد التعبير عن مشاعره، وأسمى طفله الأول حمد،

أرسلت له آلاء على الهاتف عدة صور لحمد الصغير ذي الوجه المحمر المنتفخ الذي ولد قبل أوانه بعدة أسابيع.

شعرت بالحنان والتوق إلى الأطفال بمجرد أن رأيت صورة ذلك الصغير. إن الأطفال نعمة كبيرة، يقدرها كثيراً من حرم منها.

دعوت تلك الليلة قبل أن أنام على مقعد المستشفى: يارب ارزق كل محروم ذرية صالحة طيبة فإنك سميع الدعاء.

في اليوم التالي سمح الطبيب لحمد بالخروج إلى الحديقة الملحقة بالمستشفى، فرحت كثيراً لهذا القرار المبشر بالخير، وأحضرت الممرضة كرسياً ذو عجلات لأقوم بدفعه إلى الخارج،

ساعدت حمد بارتداء ملابسه، ووضع قبعة صوفية على رأسه الحليق. وساعدتني الممرضة بوضعه على الكرسي، كانت ساقاه ترتجفان عند ما حاول. الوقوف. لا يزال جسده ضعيفاً ومتعباً.

دفعته في ممرات المستشفى وأخيراً خرجنا إلى ضوء الشمس، كان الجو جميلاً وصحواً ونسمات رقيقة باردة تداعب وجنتينا.

كنا قد أصبحنا في شهر نوفمبر من ذلك العام. دفعت حمد بين الورود الملونة ثم جلست على مقعد كبير وهو بجواري علي كرسيه المتحرك وساد الصمت بيننا مستمتعين بالأجواء الطبيعية الجميلة، كان هناك بعض المرضى أيضاً. لكننا شعرنا كما لو أننا وحدنا. فالكل مشغول بنفسه وأفكاره.

قطع حمد هدوءنا الجميل بسؤال لم يخطر لي على بال إذ قال: بسمة. إذا مت. فهل ستتزوجين من بعدي؟

باغتني حمد بسؤاله وانزعجت كثيراً بسببه، التفت إليه بكل جسدي فأصبحت بمواجهته تماماً في حين كان هو ينظر إلى الأفق البعيد.

قلت له: لماذا تسألني سؤالاً كهذا؟

قال بإصرار: أريدك أن تجيبي على سؤالي وبصدق.

قلت أشاكسه: لم أفكر في هذا الموضوع من قبل. إن اتخذت قراراً سأخبرك.

قال بجدية: بسمة. أنا جاد. هل ستتزوجين من بعدي؟

أشفقت عليه كثيراً. مددت يدي واحتضنت يده.

وقلت: أنت لن تموت. ستشفى وستعيش عمراً مديداً معي بإذن الله.

قال حمد: لكنك لم تجيبي على سؤالي.

قلت بإصرار: لأن سؤالك في غير محله. أنت ستعيش وستبقى معي طوال العمر، إياك وأن تفكر بأفكار كهذه، عدني أنك لن تفعل.

سكت حمد. فعدت أكرر: ستشفي أن شاء الله، ولن يكون في حياتي كلها رجل غيرك، لقد أحببتك حباً عظيماً استنفذ مشاعري كلها ولم يبق في قلبي أي جزء شاغر لأقدمه لأي شخص آخر على وجه هذه الأرض.

وابتسم حمد برضا وقال: أعدك أن لا أفكر بالموت.

قبلت جبينه: جيد. عندما نعود إلى الكويت أريدك أن تأخذني إلى الحديقة لنركض، كما فعلنا ليلة عقد قراننا.

ضحك حمد وقال: أتذكرين؟ كنا سعداء جداً.

قلت له: ستعود سعادتنا وسنعيش أياماً أجمل إن شاء الله.

سكت حمد ثم قال: أتمنى لو استطعت الركض معك هنا الآن، لكنني أشعر بالوهن، لقد تخلت عني قوتي. أكاد لا أعرفني.

رددت عليه بحنان: ستستعيد صحتك وقوتك. لقد تحملت الكثير بصبر، كم أنت رائع وقوي.

قال حمد: أنا آسف يا بسمة.

سألته بدهشة: لماذا تعتذر؟

قال: لأنني أناني جداً. لم أستطع إعفاءك من أن تكوني معي في هذه الظروف، أردتك بشدة، ولم أفكر كم ستعانين معي، عرضتك لظروف قاسية، تعلقت بك كأمنيتي الأخيرة في الدنيا، فكرت بنفسي ولم أفكر بك أنت. و.

قاطعته: لا تقل هذا الكلام، لقد أحببتك. وقبلت بك في كل ظروفك ومن يحب شخصاً بصدق يكون معه بالسراء والضراء، غداً تشفى وتعوضني عن هذه الأيام.

قال حمد: بسمة.

رددت بحب: يا بعده.

تنهد: أحبك.

ضممته إلى قلبي وأنا أقف لأقول: وأنا أحبك أكثر.

***

(43)

مناسبة سعيدة

مر شهر آخر،

اشتاقت هبة لابنتها كثيراً وبدأت بالعودة إلى الكويت لفترة،

وفي ذلك الوقت خطبت أختي دلال لأحد أقربائنا، فرحت كثيراً للخبر وتحدد موعد عقد قرانها في أواخر ديسمبر.

اقترحت علي هبة أن نعود إلى الكويت معاً لفترة قصيرة فأتمكن من حضور زواج أختي وتري هي ابنتها ثم نعود معاً إلى الولايات المتحدة، فكرت أيضا أنني أستطيع التسجيل لمواد الفصل القادم فمن يدري قد يسمح لنا الطبيب في العودة إلى الكويت. فقد تحسن حمد مؤخراً وباتت عودته محتملة في أي وقت ليكمل علاجه في الكويت.

أخبرت أهلي أنني سأعود بمناسبة عقد قران أختي وقمنا أنا وهبة بحجز التذاكر اللازمة، لم يعترض حمد أبداً على ذهابي فهو يعرف كم أحب أختي وكم يهمني التواجد في يوم كهذا. كما أن أمه وفواز سيكونان معه وأنا لن أغيب أكثر من عشرة أيام فقط.

كانت عودتي هذه المرة مختلفة فاشتريت بعض الهدايا لأهلي، وبعض الألعاب لأبناء تهاني، واشتريت بعض الحاجيات الجميلة لعروسنا دلال، وهدية قيمة لصديقتي المخلصة شريفة.

في بعض الأحيان كنت ألمح حمد وهو يبعث بهاتفه النقال فيثور الشك في نفسي.

لكنني كنت أستعيذ الله من الشيطان الرجيم وقررت التغاضي عن هذه الشكوك فيكفي كل ما حدث من ورائها.

جاء يوم السفر. احتضنني حمد طويلاً إليه، طوقته بذراعي وكل ذرة في جسدي تهتف بحبه، أفلتني من بين ذراعيه أخيراً وقال: لا تتأخري.

وعدته: عشرة أيام فقط وسأعود لأجلك والمرة القادمة سنعود معاً إن شاء الله.

ابتسم بأمل: إن شاء الله حبيبتي

وذهبت إلى المطار مع هبة، شتان بين عودتي هذه المرة وعودتي التي قبلها.

عدت هذه المرة بقلب يملؤه الأمل، قلب يترقب مناسبة عائلية سعيدة وأياماً جميلة قادمة،

فكرت بثوبي الذي اشتريته خصيصاً لزواج أختي، كان ثمنه معقولاً جداً بالنظر إلى فخامته، تذكرت أثواب السهرة التي كنت اشتريتها في الكويت سابقاً، وعرفت أنهم يوردونها من الخارج فيغيرون الدولار إلى دينار ويبيعونها بأسعار مضاعفة!

كان ثوبي بلون الورد الفاتح. تناثرت على حاشيته ورود صغيرة جميلة وعلى أكمامه مثلها، أحببت ذلك الثوب كثيراً وذهلت لمقاسي الجديد وقتها فقد أفقدتني الغربة والظروف القاسية التي مررت بها الكثير من وزني.

قررت أن أقص شعري في الكويت فقد أصبح يصل إلى آخر ظهري أحببت أن أقصره بعض الشيء وفكرت بصبغه أيضاً لكنني غيرت رأيي لاحقاً.

أتت أمي ومجبل لاستقبالي بالمطار، وعدت إلى البيت بنفسية مرتاحة وقبلت رأس جدتي بحب واحترام كبيرين، دعوت هبة الحضور زواج دلال، ودعوت أيضاً آلاء زوجة فواز ولم أنسى شراء هدية فاخرة لحمد الصغير وقمت بإيصالها لها بنفسي والتقيت والد حمد وسعود وطمأنت الجميع على وضع حمد الصحي.

أتت عمتي حصة من البحرين ولمست مدى ارتياحي فاطمأنت علي قالت لي كم شغلها التفكير في حالي وكم كانت قلقة علي.

سألتها إن كانت تشتاق لولدها الذي يدرس في الخارج فقالت إنها تشتاق إليه كثيراً لكنني كنت أعرف أن أهم شخص في حياة عمتي هو زوجها عادل، وكل شوق يهون مادام إلى جوارها.

بدت دلال سعيدة جداً بخطيبها وبعد ثلاثة أيام من عودتي أقيمت حفلة عقد القران في منزلنا والتي لم تتح لي الظروف لأشارك في تحضيراتها الكثيرة التي ساهمت بها تهاني مع أمي بشكل كبير.

بدت دلال جميلة جداً في ثوبها الأبيض الذي أصرت على ارتدائه مع طرحة طويلة جداً كنت أشدها خلفها لتتمكن من المشي إلى الكوشة كما كانت تحلم دائماً.

حضرت هبة ومعها آلاء إلى الحفل، ورقصنا كثيراً تلك الليلة، عرفت كم أصبحت هبة قريبة منى فقد تشاركنا الكثير معاً كما أنها من ألطف الشخصيات التي عرفتها في حياتي.

وقفت شريفة كأخت لنا في عرس دلال وكانت أمي تكلفها بالكثير من المهام كابنة حقيقية لها.

وفي وسط النساء جلست جدتي كالملكة والكل يتشرف بالمباركة لها بزواج حفيدتها والسلام عليها.

علق الجميع على فقداني للوزن، وسألوني مراراً عن ثوبي الرائع، كنت سعيدة جداً لأختي الغالية وتمنيت لها أياماً سعيدة وجميلة مثلها، لم تكن خطبتها طويلة فقد تقدم لها عريسها وأنا مسافرة وتم إعلان الخطبة بعدها. وبما أنه من العائلة، كانت دلال تعرفه بعض الشيء وبمجرد أن حادثته لفترة قصيرة عرفت أنه توأم روحها كما كانت تناديه.

زف العريس إليها. ولفتت وسامته الطاغية نظر الحاضرات، قبل دلال على رأسها، وحملها بين ذراعيه لتقطع كعكة العرس، كانا ثنائياً جميلاً، وأحببت لطفه الشديد معها وفرحته الواضحة بها.

انتهي العرس فجراً ورميت بنفسي على سريري وأنا أكاد لا أشعر بقدمي من شدة التعب،

أمسكت هاتفي النقال وأرسلت لحمد صورتي في العرس، فأرسل لي قبلاته وأخبرني كم أبدو جميلة،

نمت تلك الليلة سعيدة كما لم أكن منذ مدة طويلة وحلمت أحلاماً جميلة كأختي التي أصبحت أجمل عروس رأيتها في نظري.

***

(44)

قبل رمضان

في اليوم التالي للعرس صحونا من النوم قرابة الظهر، ذهبت مع أمي التي تشعر بألم في ظهرها وقدميها إلى جدتي نشمية وبدأنا نتحدث عن أحداث العرس،

كانت دلال قد ذهبت إلي أحد الفنادق مع زوجها، وعلقنا كثيراً عن انسجامهما معا.

كان رمضان سيأتي بعد أيام (في ذلك العام كان شهر رمضان المبارك في أواخر ديسمبر).

اقترحت أمي أن أطيل بقائي معهم إلى الأسبوع الأول من رمضان لألتقي أفراد العائلة الذين يأتون ليباركوا لجدتي قدوم الشهر الفضيل، أخبرتها أنني رأيت أكثرهم في حفلة الأمس وأنني لا أريد أن أتأخر على حمد الذي وعدته بالحضور في موعدي.

اتفقت مع شريفة أن نذهب لاختيار مواد الفصل القادم فمن يدري قد أستطيع الالتحاق بالدراسة في يناير إن سمح الطبيب لحمد بالعودة كما كنا نأمل ونتوقع،

مرت الأيام القليلة التي قضيتها مع أهلي سريعاً وفي ليلة سفري جاءني ذلك الاتصال الذي قلب حياتي رأساً على عقب.

رن هاتفي ذلك المساء وأنا لازلت أحضر حقيبتي، وكانت شريفة معي في غرفتي،

نظرت إلى الرقم وقلت لشريفة: إنه اتصال من أمريكا.

رددت: ألو.

وجاءني صوت فواز، لم أعرفه للوهلة الأولى فقد بدا لي صوته مختلفاً. وكأنه يبكي!

قال فواز: مرحبا بسمة. أنا فواز.

وسكت!

سألته: ما الأمر. هل حمد بخير؟

قال فواز: حمد متعب جداً. وقع هذا الصباح في الحمام، وأدخل العناية المركزة يبدو أنه أصيب بفيروس ما. لا أعرف بالضبط كيف أشرح الأمر لك.

شهقت: ماذا تقصد؟

قال فواز: متى تأتين إلى أمريكا؟

قلت على الفور: رحلتي غداً. وهبة قررت التمديد لأسبوع آخر.

قال فواز: إياك أن تمددي. أعتقد أنك لا تملكين الوقت.

صرخت وقد نفد صبري: فواز. بالله عليك. ما الذي تقصده بالضبط؟

بكي فواز وهو يقول: اعتقد أن حمد يحتضر.

***

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا