يا بعده 7 للكاتبة علياء الكاظمي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-08-06

(37)

مفاجأة غير متوقعة

مر أسبوع على وجودنا في الولايات المتحدة، وكنا نقضي نهارنا كله في المستشفى ليجري حمد الفحوصات اللازمة قبل البدء بعلاجه، وكان هناك علاج أيضاً لسعود ليحفز وينشط نخاع عظمه لإنتاج الخلايا اللازمة للتبرع،

أخبرنا الطبيب أن حمد سيخضع للعلاج الكيماوي بشكل يومي قبل زراعة النخاع وهذا العلاج الهدف منه هو إيجاد مكان في نخاع العظم للخلايا الجديدة بالإضافة لإحباط الجهاز المناعي لتخفيض فرص رفض الجسم الخلايا الجذعية المزروعة وبعدها يجب أن يحجز حمد في غرفة العزل حفاظاً على صحته لأن مناعته ستكون منخفضة.

ورغم قلقنا التام في تلك الأيام إلا أنني كنت أنسى أن حمد مريض بمجرد أن نخرج من المستشفى، خرجنا للعشاء وحدنا عدة مرات وقضينا ليال هادئة معا. لم أكن استوعب أحياناً أن زوجي يسكنه المرض، كان طويلاً، يمتلئ بالعافية، وجهه متورد بشبابه، وحبي الكبير له يزداد يوماً بعد يوم.

تباعدت مكالماتي لأهلي بسبب فرق التوقيت، كما أنني لم أكن أملك الكثير لأقوله لهم،

كانت تلك الأيام مجرد البداية لأيام أخرى مختلفة.

وفي ليلة لن أنساها كنت جالسة على سريري أتصفح مجلة أجنبية اشتريتها من دكان قريب من مكان سكننا.

وكان حمد يستحم، رن هاتفه النقال بإلحاح. عدة مرات متتالية. اقتربت لأضعه على الوضع الصامت فإذا بالرقم الذي يظهر أمامي غير مسجل باسم. توقف الهاتف عن الرنين المزعج وقبل أن أضعه وصلت رسالة هاتفية غريبة استطعت قراءتها على الشاشة في لحظتها: لابد أنك معها. أكرهك. وأحبك في نفس الوقت!

وشهقت. وقبل أن أستعيد أنفاسي خرج حمد من الحمام واقترب مني وأخذ هاتفه من يدي بلطف وهو يقول: كان يرن؟

نظرت إليه بدهشة وقلت: نعم. ووصلتك رسالة أيضاً!

نظر حمد إلى الهاتف سريعاً وقد عرف إنني قرأت الرسالة من تعابير وجهي، ودون أن يرتبك قال: إنه صديقي فهد، دائماً يمزح معي ويقول إنه يغار منك لأنني دائماً مشغول معك.

وسكت. وحاولت طرد الوساوس من قلبي، لابد أن حمد صادق فهو يحبني. أنا أعرف كم يحبني، وقررت نسيان ما حدث،

لكن في الأيام التالية بدأت بملاحظة أمور كنت غافلة عنها، إن حمد لا يكاد يترك هاتفه، وألمحه وهو يبتسم بغموض وهو يتلقى بعض الرسائل ويبدو ملهوفاً وهو يرد عليها!

لاحظت أيضاً أنه يخرج من الشقة كلها عندما يأتيه اتصال ما. ويغيب طويلاً وهو يتحدث، كنت أطل عليه من النافذة فأراه بالأسفل في الخارج وهو يتحدث بهاتفه وعند ما أسأله من تحدث يقول: انه صديقي فهد!

لم أسمع سابقاً عن هذا الفهد! لم ظهر الآن! ولم أسمع حمد يحدثني عنه أبدا كصديق مقرب إلى هذه الدرجة كما حدثته أنا كثيراً عن صديقتي شريفة!

وجزعت. أيكون حمد علي علاقة مع فتاة أخري؟

تأكدت لي تلك الحقيقة المؤلمة مع الوقت، فحدسي لم يخب وهكذا حدس المرأة إنها تعلم دائماً إن كان رجلها يخونها أم لا. وكأن في قلبها راداراً يدلها على الحقيقة.

حاولت أن أعبث بهاتف حمد من وراء ظهره، وفي الفرص التي سنحت لي لأفعل فوجئت بعدم وجود أية رسائل مريبة ولا حتى أرقام غير مسجلة بالهاتف، لابد أنه احتاط ومسح كل ما يدل على تلك الفتاة، بحثت أيضاً عن اسم فهد في قائمة أرقامه ولم أجد أي شخص بهذا الاسم فيها.

تألمت بصمت وأنا أراقب حمد يخونني وبين الشك واليقين أصبحت تائهة تماماً. كانت خيانته إلى مفاجأة غير متوقعة، مفاجأة بشعة جداً. خاصة ونحن في غربة يعلم الله متى تنتهي.

ودخل حمد إلى المستشفى ليتلقى جرعة الكيماوي الأولى عن طريق الوريد،

إن العلاجات الكيماوية هي أدوية سامة للخلايا لتميت خلايا السرطان، فهي تقتل الخلايا السرطانية أو توقفها عن التكاثر.

انتهت الجلسة وبقي حمد تحت المراقبة.

شعرت بالإشفاق على حمد بعد تلك الجلسة التي امتدت لساعات طويلة، شعر بعدها بإجهاد شديد وبغثيان لا يطاق لدرجة أنه لم يكن يستطيع رفع رأسه.

قال الطبيب إن هذا الأمر طبيعي، انهمرت دموعي وأنا أمسح بيدي على شعره المتطاير الناعم الذي أحبه، لمع السوار الذي اشتراه لي في معصمي فتأملته بحزن، كان السوار يحمل حروفنا الأولى، أكان في قلب حمد حرفاً آخر غير حرفي؟ أيعقل أنه يحب فتاة أخرى سواي؟ وإن كان هذا صحيحاً، لم أنا الآن هنا وليست هي؟ ترى ما الذي يخفيه عني حمد في رأسه؟

لمست رأسه بحنان. وغفي وأنا لا أزال أربت عليه وأقرأ بعض آيات القرآن الكريم.

بدت أمه حزينة جداً، كم هي مسكينة هذه المرأة، إنها ترى ولدها معرضاً للخطر بسبب مرض لعين خبيث، وولدها الأصغر مضطر لخوض تجربة التبرع المخيفة رغم صغر سنه.

أما فواز فقد كان أكثرنا صلابة وأكثرنا أهمية، فقد تحمل مسؤولية الجميع. كنا بحاجة لشخص متماسك مثله بيننا. ومع الوقت أصبح وجوده أهم بكثير،

في تلك الليلة عدنا بحمد إلى الشقة في وقت متأخر، اقترح الطبيب أن يبيت ليلتها بالمستشفى لكنه أصر على الخروج، كان يقاوم المرض، ويحاول تحدي ضعفه، أسنده فواز طوال الوقت إلى أن وضعه في السرير،

جلست بجواره برهة ثم فتح لي ذراعيه ليضمني إلى صدره، استكنت بقربه وذراعاه حولي تطوقاني بارتخاء من شدة ضعفه،

قال حمد: أتمنى أن أشفى. أتعلمين لماذا؟

 قلت له وأنا أقاوم رغبتي بالبكاء: لماذا؟

فقال: كي لا أتركك وحيدة.

دفنت وجهي بصدره وقلت بحرارة: ستشفى، وستصبح هذه الأيام مجرد ذكريات.

سكت حمد.

سألته: حمد. تحبني؟

فتح عينيه بصعوبة وقال: أتشكين في حبي لك؟

نظرت في عينيه. وقلت: لا. أنا أثق كم تحبني. وغط في نوم عميق.

في صباح اليوم التالي شهقت وأنا أرى حمد يخرج من الحمام وقد حلق شعر رأسه بالكامل،

قال ضاحكاً: ألست أكثر وسامة هكذا؟

قلت له بجزع: لماذا حلقت شعرك؟

قال بهدوء: قررت أن أتخلي عنه قبل أن يتخلى عني، سيسقط كله بسبب العلاج.

وسكت. وشعور عميق بالخسارة يتملكني. فقد ذهبت تلك الدبابيس التي أحبها!

***

(38)

صبي شجاع

يتم سحب الخلايا الجذعية من الشخص الذي يتبرع بالنخاع عن طريق نخاع العظم من عظمة الورك بعد أن يتم تنويمه بتخدير كامل ومن الممكن عدم اللجوء إلى التخدير العام لكن لصغر سن سعود ولأنه كان خائفاً بشدة تم ذلك تحت التخدير العام. لذلك لم يشعر سعود بأي شيء خلال تلك العملية،

لكن أمه شعرت بالكثير من الخوف. أو لأكون أكثر دقة بالكثير من الهلع، كان قلبها يكاد ينفطر على ولدها الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره، ورغم تأكيد الطبيب لها بأن الأمر عادي وآمن، وأن هناك الكثير من المتبرعين يصغرونه عمراً إلا أنها أم لا تستطيع التحكم بمشاعرها.

حاولت مؤازرتها قدر استطاعتي لكنها لم تمنحني الفرصة. نعم. كان توترها أكبر من استيعاب وجودي، ربما لأنها لم تكن تعرفني جيداً، فأنا عروس جديدة وجدت بينهم في ظروف صعبة، ولم أكون مع أي منهم علاقة راسخة بعد، وبالتالي كان هناك نوع من الجفاء يسود التعامل بيني وبين أم حمد في تلك الفترة.

كان حمد يتألم كثيراً لأنه عرض آخاه لهذه التجربة، همس لي كم يتمني لو استطاع إعفاء سعود من التبرع له، لكن لم يكن هناك طريقة أخرى لإنقاذ حمد الذي أنهكه العلاج الكيماوي كثيراً لدرجة أنه كان يتمنى ضرب رأسه بالحائط من شدة ألمه.

أغلق حمد هاتفه النقال في تلك الفترة وعندما حاولت فتحه من ورائه وجدت أنه أضاف رقماً سرياً لا أعرفه بالطبع ليمنع تشغيل الهاتف.

كانت تلك الأيام طويلة جداً علي. وكنت أبقى في المستشفى طوال النهار مع حمد وفي الليل انسحب خلسة واتصل بشريفة لأبثها همي وغمي.

كانت شريفة عند وعدها لي. تتلقى اتصالاتي العشوائية بها والتي لم أكن أحسب فيها لفرق التوقيت حساباً.

وتستمع إلي بصبر، أخبرتها عن شكي بحمد. ذلك الشك الذي لم تستطع هي أيضاً استيعابه،

قالت لي إنني قد أكون واهمة، وأن على نسيان الموضوع وتصديق حمد الذي يحتاج إلى وبشدة، والذي ضحيت بكل شيء لأكون معه،

تحولت شريفة في تلك الفترة إلى طبيبتي النفسية فلم أكن أستطيع الشكوى لأحد غيرها، خاصة أهلي الذين كنت أخفي عنهم وجعي كي لا أتعرض للومهم. لم أكن أريد أن أقلقهم على ولم أكن أستطيع التذمر أمامهم، فقد نصحوني كثيراً وأنا عاندتهم ورميت بكل نصائحهم عرض الحائط.

تم تحضير حمد لزراعة النخاع في نفس اليوم الذي خضع فيه سعود لعملية التبرع بالنخاع، وتم تحضير حمد ليتلقى الخلايا السليمة وريدياً بعد تجميعها،

استفاق سعود من التخدير خائفاً فهو لا يزال طفلاً وادعي أنه غير قادر على الحركة وغير قادر على التبول أيضاً.

أخبره الطبيب أنه قطعاً يستطيع ذلك، وأن كل ما في الأمر أنه خائف، كانت أمه مصفرة الوجه تماماً وقد أشفقت عليها كثيراً، نهر فواز أخاه بقسوة وأخبره أنه رجل الآن وأن عليه التحلي بالمسؤولية!

اقتربت أنا من سعود. لاطفته وأنا أخبره نحن فخورون به وكم هو ولد شجاع، وأنه سينقذ حمد والوحيد القادر على ذلك

تخطى سعود مخاوفه تماماً. وفي وقت لاحق تم نقل الخلايا الجذعية التي تبرع بها إلى حمد عن طريق القسطرة الوريدية في عملية مشابهة لنقل الدم. بقينا حول حمد الذي كان متوتراً وبدأنا نداعبه ونطلق النكات ونحن نتصنع المرح، حتى فواز كان يذكره بأحداث مضحكة من طفولتهما، ارتاح حمد قليلا مع حديثنا وبدأ ينظر إلى الكيس الأحمر الكبير الذي يضم علاجه وأمله الكبير بالشفاء والمتصل بذراعه من خلال إبرة وأنبوب طويل ملتو. كانت تلك الخلايا تحتاج إلى مدة من الوقت حتى تنمو بداخله. لذلك كان حمد يحتاج إلى عناية خاصة وإلى تغذية جيدة بالإضافة إلى تناول السوائل بكثرة. كما يحتاج لعمل تحاليل دم يومية لمعرفة عدد الخلايا في الدم.

مر على وجود حمد في المستشفى شهر كامل، كان منهكاً وقد اصفر وجهه، وفقد الكثير من وزنه.

كنت أبيت معه هناك، فقد كنت أشعر براحة أكبر لوجودي بقربه فخوفي وقلقي عليه كانا يمنعاني من النوم عندما أكون بعيدة عنه، في المستشفى كنت أنام نوماً متقطعاً لا يزيد عن ساعات قليلة، فحركة الممرضات والأصوات خارج الغرفة يقتحمون نومي الخفيف،

لم أخبر أمي أنني أنام في المستشفى مع حمد، ولم أعطها أية تفاصيل عن حالته كل ما قلته لها أن عملية زراعة النخاع تمت وبنجاح وأننا قد نعود قريباً. لم استكثر عليها الأمل في عودتنا خاصة وأنا أسمع همس الألم مختبئاً بين نبرات صوتها.

في تلك المرحلة قرر والد حمد الحضور إلينا مع أخته هبة. ليعود سعود إلى الكويت بعد ذلك بصحبة أبيه حيث ستبدأ المدارس قريباً، أما هبة فقد قررت البقاء معنا لفترة، بعد أن تركت ابنتها مع زوجها في الكويت.

وصلت هبة مع والدها. وأضفى وصولها جواً مرحاً حولنا. تغير وجهها بمجرد أن رأت وجه حمد الشاحب لكنها تملكت نفسها على الفور، لم أكن أعرف أن وجهي أنا أيضاً كان شديد الشحوب فالقلق كان ينهش أعصابي طوال الوقت.

بكي والد حمد بمجرد أن رآه واحتضنه بقوة في مشهد مؤثر، فانهمرت دموعنا جميعاً. حاولت هبة تلطيف الأجواء حولنا وتقدمت من سعود وهي تهتف: هذا هو البطل إذن.

قبل الأب يد سعود الصغير وضمه إلى صدره، كانت تلك العائلة تعيش ظروفاً صعبة، وكنت أنا جزءاً منها. في الحقيقة كنت جزءاً غريباً، لا أعرف لم شعرت دوماً بالغربة بينهم!

 وكأنه قد تم اختطافي وحشري معهم في تلك الظروف. لم أعد تلك الفتاة المدللة التي تعيش في البيت الكبير كالأميرة، أصبحت فجأة فتاة كادحة، تجاهد لتخدم زوجها المريض في بلد لا تعرف فيه أحداً سوى أهله الذين تعرفت بهم مؤخراً فقط.

مر أسبوع آخر وحمد في المستشفى وأنا معه وامتلأت ذراعه بآثار سحب الدم. ياه كم أخذوا منك الدم يا حبيبي. كنت أشعر بكل وخزة في قلبي كلما وخزوا ذراعك ليختبروا دمك.

بعد فترة قصيرة عاد والد حمد إلى الكويت بصحبة سعود الذي قام بمهمته على أكمل وجه،

بقيت أنا وفواز وهبة وأم حمد معاً. كانت الأمور تبشر بالخير إلى أن استيقظ حمد في صباح يوم مشؤوم وقد امتلأت يداه بطفح جلدي كالحروق. جزعنا لرؤية ذلك الطفح الغريب على يديه واكتشفنا أن هناك بعضاً منه أيضاً على قدميه. وعندما حاول دخول الحمام سقط مغشياً عليه وجرح وجنته. صرخنا نستنجد بالممرضات وأتى طبيبه مسرعاً وطلب منا الخروج من الغرفة.

أحسست بالدوار لما يحدث. وقد شلني الخوف ولم يكن أهله بحال أفضل خاصة بعدما لمحنا القلق على وجه الأطباء الذين توافدوا تباعاً لفحصه.

في تلك اللحظة رن هاتفي. جاءني اتصال غير متوقع، من رقم محلي لا أعرفه،

أجبت على الاتصال ذاهلة: ألو.

فجاءني صوت عمتي حصة متدفقا كالماء العذب البارد عند ما ينسكب في جوف شخص صائم، وقبل أن أعي كلامها انفجرت باكية على الهاتف.

***

(39)

الله لا ينسانا

لم أتت عمتي حصة في نفس الوقت الذي أصيب فيه حمد بداء مهاجمة الجسم الحاد للخلايا المزروعة بدمه؟ إنه تدبير الله عز وجل الذي أرسل لي أحب الناس إلى وأقربهم من أهلي إلى قلبي في ذلك الوقت العصيب.

أتت عمتي حصة إلى الولايات المتحدة بصحبة زوجها وولدها الذي حصل على بعثة في ولاية مقاربة لمقر علاج حمد،

لا أستطيع أن أصف لكم شعوري عندما جاءني اتصالها يومها.

أخبرتني أنها ستأتي لرؤيتي بعد يومين،

أنهيت الاتصال بعدها وقلبي يخفق بسعادتي، وقد ارتفعت معنوياتي فجأة رغم كل ما نمر به، كان مجرد شعوري أن هناك أحداً من أهلي بقربي يريحني، لم أكن أعلم أن عدوي أيضاً كان قريباً مني في تلك الأيام.

أدخل حمد إلى العناية الفائقة يومها، والتجأنا إلى الدعاء كلنا، عرفنا يومها أن زراعة النخاع لم تفد حمد بشيء، فجسده لم يتقبل تلك الخلايا الشافية، ويجب السيطرة الآن على أعراض رفضها.

أصيب حمد بتقلصات حادة بالمعدة واصفرت عيناه بشدة، لكن المؤلم أكثر كان ذلك الطفح في جلده، وبدأت أعتني بجلده، فأضع له المراهم اللازمة التي وصفها الطبيب له.

اتصلت بعمتي لتؤجل حضورها إلي فحمد في العناية المركزة وأنا لا أستطيع تركه أبداً.

كنت أسير في ممرات المستشفى وأنا أسمع أنين المرضى، وأشاهد آثار المرض عليهم وأبكي.

إن الصحة غالية، بل هي أغلى من كل كنوز الأرض، عرفت معنى أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى،

كنت أشعر بألم لاحد له وأنا أراقب آلام الآخرين عن قرب وأصبحت أدعو ليل نهار بالشفاء لكل مريض وليس فقط حمد.

في العناية الفائقة كنت ألمح حمد وهو ينظر إلي ويلوح لي بضعف، تتحرك شفتاه باسمي. فأحرك شفتاي وأنا أقول: يا بعده.

أحب حمد. أحبه كثيراً. لم ينقص حبي له أبداً. لكن هذا الحب أصبح ممزوجاً بخوف عظيم من أن أفقده. وهذا الخوف قتل في داخلي الشعور بالأمان.

بعد عدة أيام تم إخراج حمد من العناية المركزة لكن الطبيب لم يسمح له بعد بالخروج من المستشفى. قبلت يد حمد كثيراً يومها، وكان جلده شديد الجفاف لدرجة أن بعض الشقوق ظهرت فيه، داومت على العناية به ولم أكن أفارقه تقريباً،

عندما يدخل الطبيب كنت أمطره بالأسئلة فيجيبني عليها بصبر، وبمجرد خروجه كان فواز ينهرني لحديثي المطول مع الطبيب، الأمر الذي لم يكن يعجبه، لم أكن أرد على فواز. ولم يكن يهمني رأيه في تصرفاتي. لكنني رغم ذلك كنت أقدره كثيراً لأنه يخدم أخاه بإخلاص لا حد له.

في إحدى الليالي نام حمد باكراً من شدة الإرهاق فذهبت مع هبة إلى مقهى مجاور للمستشفى، أصرت هي على ذهابي معها، فأنا شبه مقيمة بالمستشفى وقد تأثرت نفسيتي كثيراً بذلك.

تركنا حمد النائم مع أمه وأخيه وسرت مع هبة التي أخذت تحدثني عن ابنتها وزوجها لتخرجني من جو المرض الذي أصبحت أعيشه بتفاصيله.

كانت شهيتي قليلة للطعام ونفسيتي متعبة ورغم ذلك لم أحب أن أحرج هبة وطلبت معها بعض الأصناف وأرغمت نفسي على الأكل مجاملة لها، أسهبت هبة بالحديث عن هاجر. وابتسمت وأنا أتذكر غيرتها البريئة مني علي حمد.

قلت دون تفكير: أنا أحب الأطفال كثيراً. وكنت أحب أن أنجب ستة أطفال على الأقل.

سكتت هبة. ثم استو عبت سبب سكوتها،

وأخيراً قالت: بسمة. هناك أمر لابد أن تعرفيه حبيبتي.

سألتها: ما هو؟

قالت بحذر: الأمر متعلق بحمد. لا أظن أنه يستطيع الإنجاب و.

قاطعتها: أعرف ذلك.

شهقت هبة: تعرفين؟

قلت بحزن: نعم. عرفت ذلك قبل سفرنا، بل عرفته بنفس اللحظة التي قمت أنت بإخبار حمد بالأمر، لقد كنت معه وقتها وسمعت كل حديثك له.

ظهرت الدهشة على وجه هبة ثم قالت: كم أنت عظيمة يا بسمة. لم أكن أعرف أنك تحبينه لهذه الدرجة.

قلت لها بصدق: أنا أعشق حمد، إنه حب عمري، ومستعدة للتضحية بنفسي لأجله، وكل ما أريده من هذه الدنيا هو شفاؤه من هذا المرض، وأن أقضي بقية عمري معه، عندما أخبرتك للتو عن رغبتي بالأولاد، نسيت حقاً أن هذا الحلم أصبح مستحيلاً، لكن لا يهم، ما يهمني حقاً هو حمد.

ربتت هبة على يدي بحنان وعرفت كما يعني لي أخاها.

تجرأت لحظتها وسألتها: هبة. هل أحب حمد قبلي فتاة أخرى؟

فوجئت هبة بسؤالي غير المتوقع،

وقالت: لا أظن ذلك. أنت الفتاة الوحيدة التي أخبرنا بحبه لها، والتي أصر على الزواج بها رغم ظروفه الصعبة.

وسكت. عرفت أن ما أبحث عنه لن أجده عند هبة،

في اليوم التالي تحسن حمد نسبياً واستطاع تناول بعض الطعام كما خف الطفح الجلدي كثيراً عن السابق.

أخبرت حمد عن وجود عمتي حصة في ولاية مجاورة فأصر على بالاتصال بها والخروج معها،

قال لي بحنان: لقد تعبت معي كثيراً، وأريدك أن تقضي بعض الوقت خارج المستشفى، افعلي ذلك لأجلي.

ابتسمت له. وكنت فعلاً محتاجة لأن أفعل،

اتصلت بعمتي حصة التي وعدت بالحضور لرؤيتي بعد يومين،

وفي الموعد المحدد انتظرتها في الشقة لأخرج معها،

تركت حمد ذلك الصباح مع أخته وأمه وأخيه. ولم تحبذ أمه زيارة عمتي لحمد، وتفهمت أسبابها، فهو مرهق مريض وفي أسوأ حالاته ولم أرد إحراجه ما دام لا يرغب بلقاء عمتي، خاصة وأن زوجها عادل معها.

ووصلت عمتي حصة. كان قلبي يخفق بشدة لمجرد التفكير بلقائها.

صعدت عمتي وزوجها إلى الشقة.

وبمجرد أن فتحت لهما الباب صاحت بي: بسمة، وفتحت لي ذراعيها، وبلحظة رميت نفسي بين أحضانها باكية.

ربتت هي على شعري وقد انهمرت دموعها لتمتزج بدموعي.

كان عادل يردد كالرجل الآلي: لا بأس عليك، أجر وعافية إن شاء الله.

 أشعرني بكلماته تلك بأنني أنا المريضة لا حمد، وحقاً كنت أشعر بالمرض والحزن، صدقت يا أبي الغالي، من يرافق مريضاً يصبح مريضاً مثله، والحمد لله على كل حال.

وخرجت مع عمتي وزوجها، أخذاني لمركز كبير للتسوق، بعثت رسالة هاتفية لحمد، ورد عليها فوراً أنه بخير. فارتحت.

اشتريت بعض الملابس لي. وكانت المرة الأولى منذ سفري التي اشتري لي فيها شيئاً.

دعتني عمتي على الغداء في مطعم جميل وتحدثنا كثيراً في أمور بعيدة عن المرض. ولأول مرة منذ زمن بعيد أحسست بالحياة تدب في عروقي، أعادتني عمتي إلى الشقة قرابة السابعة مساء بعد أن قضيت معها ساعات طويلة، أوصاني زوجها كثيراً بالاتصال بولده في حال احتجت شيئاً وقبلتني عمتي كثيراً قبل أن تذهب وقالت: إن شاء الله يكون لقاؤنا القادم في الكويت ومعك حمد.

رددت آمله: آمين يا رب العالمين.

وضعت مشترياتي في غرفتي بسرعة دون أن أرتبها وبدلت ثيابي وفي السابعة والنصف تماماً كنت جاهزة لأذهب لحمد،

وبمجرد خروجي من غرفتي فتح باب الشقة ودخلت خالتي وهبة وفواز وبيدهم الكثير من الأكياس!

وتعجبت. فسألتهم: ما هذا؟ ألم تكونوا مع حمد؟

أثار سؤالي استغرابهم وقالت هبة بحيرة: في الرابعة أخبرنا حمد أنك في الطريق إليه وأصر أن نخرج نحن أيضاً لنتنزه، فتركناه.

هززت كتفي مستغربة، فقال فواز: المسكين يشعر بالذنب نحونا، لابد أنه فعل ذلك لنحظى ببعض التغيير بعيداً عن المستشفى.

قالت أمه: اذهبي إليه إذن وسنلحق بك فوراً.

قلت وأنا اتجه لباب الخروج: حاضر.

وذهبت إلى المستشفى. كنت في مزاج رائق وقد أفادني الخروج كثيراً. وصلت إلى الجناح الذي يرقد فيه حمد، اقتربت من ممرضة جديدة لم أرها سابقاً وسألتها: كيف حال المريض في الغرفة العاشرة؟

ابتسمت لي بلطف وقالت: هو بخير، ويبدو سعيداً وكانت زوجته معه.

وارتعشت ركبتاي. لدرجة أنني كدت أفقد توازني. تمالكت نفسي بصعوبة شديدة وسألت الممرضة مرة أخرى: تقولين إن زوجته كانت معه؟

قالت بسذاجة: نعم. وقد أحضرت له ورداً جميلاً جداً. اذهبي وسترينه بنفسك في غرفته.

ودارت بي الدنيا، لهذا السبب تصرف حمد علي هذا النحو، صرفني عنه وألح علي لأخرج مع عمتي ثم كذب على أهله وأخبرهم أنني سأعود إليه وأصر عليهم أن يخرجوا. ثم التقى بها.

من هي؟ عشيقته؟ زوجته؟ حبيبته؟

يعلم الله وحده من هي بالنسبة إليه، لكن وجود تلك المرأة أصبح حقيقة راسخة منذ تلك اللحظة.

توجهت إلى غرفة حمد وقد اسودت الدنيا في عيني، دخلت إليه والشرر يقدح من عيني وبلحظة رأيت باقة من الورد الأحمر موضوعة على الطاولة التي بقربه.

نظرت إليه بحدة. في عينيه مباشرة. فارتبك. كطفل ضبطته أمه بجرم ما. لكن حمد لم يكن طفلاً. كان رجلا كبيراً. رجلاً خائناً للأسف.

وقبل أن أنطق دخلت أمه ومعها هبة وفواز.

قالت أمه: الحمد لله، وجهك استعاد لونه.

ظلت عيناي الغاضبتان معلقتان به بصمت حارق. وفجأة اقتربت من تلك الباقة والتقطتها وبلحظة مزقت ورودها إرباً إرباً ورميت بها في القمامة بحقد.

شهقت هبة: بسمة ما الذي تفعلينه؟

قلت لها بحدة: لقد طلبت هذا الورد لحمد، ودفعت فيه ثمناً غالياً. لكن العاملين في ذلك المحل أغبياء حقاً. لقد أرسلوا لي هذه الباقة الرخيصة والقبيحة. يا لغبائهم. يظنون أنهم يستطيعون استغفال الآخرين والسخرية منهم!

وأصابت كلماتي حمد في مقتل، وفهم أنني أعرف من أحضر له باقة الورد،

قال فواز لحمد: كيف قضيت وقتك وحدك؟

قلت بحدة وأنا أخرج من الغرفة وأصفق الباب ورائي بعنف غير مبالية بكوني في مستشفى: لا تقلق عليه. ربما كان صديقه فهد معه!

وخرجت وكل خلية في جسمي تختنق، جريت في ممرات المستشفى ودموعي تسابقني، وخرجت إلى حديقة صغيرة ملحقة بالمستشفى، جلست منهكة على أحد المقاعد ولحسن الحظ كانت الحديقة خالية تماماً في هذا الوقت من المساء، وأجهشت بالبكاء، بكيت كل دموعي، دموع القهر والألم، إن حمد يخونني، يخونني بعد كل تضحياتي من أجله، أنا التي تركت أهلي، وضربت برضاهم عرض الحائط من أجله، أنا التي تخليت عن أمومتي ورضيت الزواج به حتى لو كان غير قادر على الإنجاب، أنا التي تركت دراستي وقررت إيقاف قيدي لأجل أن أكون معه. أنا التي تغربت ورضيت الزواج به واحتملت ظروف مرضه القاسية بصبر وحب. لقد قابل إحساني بالإساءة واستغفلني وأتى بالأخرى دون مراعاة لوجودي، لماذا لم يتزوجها ويريحني أنا؟ لكنت الآن هانئة في بلدي، في كنف أمي وجدتي.

لا أعرف كم من الوقت بقيت وأنا أبكي لكنني اتصلت بشريفة وأخبرتها بكل ما حصل.

ذهلت هي لكل ما قلته. وأخيراً قالت لي بحزم: بسمة. إلى هنا ويكفي ما قدمته لهذا الرجل. أنا أنصحك بالعودة إلى الكويت، لقد بدأت الدراسة منذ فترة قصيرة، ويمكنك تسجيل بعض المواد المتاحة. يمكن لإدارة الجامعة أن تتفهم ظروفك وتساعدك على استئناف الدراسة هذا الفصل، سأذهب إلى الجامعة غداً وسأرى ما يمكنني فعله لأجلك اتركي حمد مع أهله وعودي إلى الكويت فوراً.

وفوجئت بكلامها: كيف أعود وأتركه؟

صرخت شريفة: قولي له إنك تريدين العودة من اجل دراستك، مضى على وجودك معه حوالي شهرين. ثم إنه لا يستحق تضحيتك، لا تستمري بتقديم التنازلات لأجل رجل لا يستحقك. إنه يخونك، وأمام عينيك.

واقتنعت بكلام شريفة.

***

(40)

أريد أن أعود

حجزت تذكرة إلى الكويت. سأعود بعد ثلاثة أيام، نجحت شريفة بتسجيل ثلاثة مواد لي، بعد أن شرحت ظروفي لمدير الجامعة شخصياً، أخبرت أهلي بموعد وصولي، وكادت أمي أن تطير من الفرح لخبر عودتي،

لم أذهب إلى حمد في ذلك اليوم، ادعيت أنني أشعر بتوعك وبقيت طوال اليوم في فراشي، ولم أخبر عمتي حصة أنني سأعود لأنني لم أستطع التفكير بتبرير مناسب أقوله لها وقد كنت بالأمس فقط أخبرها أنني لن أترك حمد وحده على الإطلاق.

في اليوم التالي ذهبت إلى حمد، كان الحزن مرتسماً على وجهه وقد ركب له مصل ما في ذراعه لم أسأل حتى ما هو، لم يعد يهمني. لتسأل عنه الأخرى، وأمام أهله فجرت مفاجأتي غير المتوقعة وأنا أقول: سأعود إلى الكويت.

وصمتوا جميعاً، وراقبت وجه حمد وهو يتلقى طعنتي،

قالت أم حمد: لماذا تعودين؟ وحمد؟

قلت لها: أنتم معه، أريد أن ألحق بدراستي، لقد بدأت الجامعة، ولا أريد أن يضيع علي الفصل الدراسي الحالي.

قالت هبة بتردد: لكن حمد يعتمد عليك كثيراً، أنت التي تقومين برعايته بالكامل وهو لا يرتاح مع أحد غيرك.

قلت بقسوة: يستطيع فواز عمل اللازم أو أنت يا خالتي.

لم ينطق حمد بكلمة واحدة. وانصرفت باكراً لأحضر حقيبتي وفي اليوم التالي ذهبت إليه بصحبة هبة التي سألتني في الطريق عن سبب تغيري فلم أخبرها بشيء. لم أتح لحمد الفرصة ليحادثني وحدنا، أردت معاقبته على خيانته. لكنني في الحقيقة كنت أعاقب نفسي معه، فعندما نقسو على أطباعنا ونتصرف بطريقة مغايرة لطبيعتنا، فإننا نتألم. كما لو كنا ننسلخ عن جلودنا.

تمنيت أن أبكى على صدر حمد، أن أسأله. أن أحاسبه أن أقتل تلك الفتاة التي لا أعرف موقعها في حياته، لكنني لم أستطع سوى معاقبته بهروبي منه.

وأنا أعلم مدى حاجته لي، كان عقابي له قاسياً، بقدر قسوة خيانته لي، وغدره بي. واستهانته بمشاعري.

وجاء يوم السفر، ذهبت إلى المستشفى وحدي، فتحت الباب ونظرت إلي حمد طويلاً، كان نائماً، كتبت له رسالة صغيرة: أنا ذاهبة. انتبه لنفسك.

وخرجت دون أن أوقظه. اتجهت إلى المطار بعد أن سلمت على أهله الذين لم يعجبهم انسحابي المفاجئ قطعاً، ركبت سيارة الأجرة وحدي وبمجرد أن أغلقت بابها، أنهرت أبكي كل دموع خيبتي. وقسوتي.

***

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا