حدث في ذلك البيت !
كما هو واضح فإن اسم القصة: حدث في ذلك البيت !! .. لذا .. نستطيع أن نخمن جميعا بذكائنا المعهود أن هناك بيت في قصتي هذه .. وأن هناك أحداثا رهيبة جرت فيه .. ولكن كيف بدأت القصة ؟! .. وماذا حدث في ذلك البيت بالضبط ؟! .. وما هي المفاجأة المدوية التي يحملها ؟! .. فلنتابع لنعرف !! ..
ها نحن في عام 2003 .. فترة الصيف.. أيام قليلة مضت منذ قصتي الأخيرة (الغابة السوداء) وقد أقسمنا -الأستاذ (إبراهيم) وزوجته وأنا - أن نحفظ السر في صدورنا إلى الأبد.. لأن أحدا لن يصدقنا وسيتهمنا الناس بالجنون دون شك .. ألم تفعلوا أنتم ؟! .. ألم تكذبوني وتتهموني بالجنون ؟! .. من المؤكد أنكم فعلتم.
نسيت أن أخبركم أن شقتنا تقع في الدور الثالث من منزل تم بناؤه على نظام شقق للإيجار - وما أكثر المنازل من هذا النوع في (الكويت) - وهو بدوره يقع في حي هادئ جدا بعيدا عن الشارع العام ..
وفي وقت متأخر جدا .. حين يصمت الصاخبون ويعزف الليل لحنه العتيد الذي لا يسمعه سواي .. ترون كل نوافذ الحي (الفريج) مصمتة مسربلة بالسواد .. عدا نافذة واحدة مضاءة بضوء خافت جدا في طابق علوي !! .. نعم .. الكون كله نائم عدا شخص واحد يظل وحيدا ساهرا حتى الرابعة فجرا .. لماذا ؟! .. لأنه وطواط آدمي .. إنه أنا !! .. فهذه شرفة غرفتي .. والإضاءة الخافتة هي إضاءة مصباح النوم .. فأنا لا أفوت أبدا السهر في شرفة غرفتي منذ بدأت الإجازة الصيفية .. لأن هذا يجعلني أشعر بانعزال تام عن العالم حيث أجلس في منتصف اللامكان أتأمل الكون كالعجائز .. وأنقي ذهني من ضوضاء الناس وكل الشوائب المتشابكة الأخرى التي تكاد تذهب صفاء المشاعر والفكر ..
أفعل هذا كل ليلة من ليالي الصيف تقريبا .. حيث أضغط على زر وحدة التكييف .. ثم أفتح باب الشرفة وأتأكد أنه لا توجد أي حشرات هنالك .. فأنا أهاب الحشرات الغامضة التي قد تدخل غرفتي وتملأ المكان صخبا .. بعدها أعد لنفسي كوبا من العصير البااااارد الذي يتكاثف حوله البخار !! .. هل تعرفون ليالي الصيف هذه ؟! .. أحضر مقعدا إلى الشرفة المظلمة إلا من ضوء القمر وضوء النوم الخافت .. أنسام وحدة التكييف الباردة تداعب ظهري وتساعدني على البقاء في هذا الجو الحار ..
ومن جهاز التسجيل .. بصوت خافت لا يسمعه سواي .. يشدو (عبدالله الرويشد) بصوته الحزين المفعم باللوعة ويدغدغ كل آلامي .. يتحدث عن حب ضائع .. عن حياة قاسية .. عن ديار الأحباب .. عن كل شيء حزين يعتمل في صدرك .. ولا تجد الجرأة كي تفصح عنه حتى لنفسك ..
يأتي بعدها أهم ما في الأمر!! .. إن أفضل ما أفعله في ليالي الصيف شديدة الاسوداد كهذه أن أمسك قلمي ليداعب الورق .. وأكتب خواطري .. وهو أمر معتاد لمن لا يجد في نفسه القدرة على الفضفضة .. أو لا يجد الشخص المناسب الذي يستطيع تفهم المشاعر والأحاسيس التي تكتنفه .. دعك أنه من خلال الورق تنطلق مشاعري وأحاسيسي بكل حرية .. فلا شيء كالكتابة يقودك مباشرة إلى الروح .. إن الصوت قد يكذب وقد يحبط الخيال .. لكن الكتابة تفتح عالما براقا هائلا من السحر والرومانسية !! .
ثم أشرع أتأمل القمر وأحدّثه بهمّي في الليل .. ليل (الرميثية) الحزين .. متعبة هي (الرميثية) .. وحزينة .. لكنها برغم تعبها لا تنام .. تظل ساهرة تحرسني .. أو هذا ما أشعر به .
وهناك بالطبع الشعور المعروف لكل من أنهى هراء المدرسة بأن الكون قد قرر أن يتجمل قليلا ويعتذر عن فظاظته السابقة .. أسأل نفسي في حيرة ؟! .. هل أنا سعيد الآن بعد أن انتهى كابوس المدرسة ؟! .. لا توجد سعادة حقيقية بوجهة نظري .. إن تعريف السعادة الذي أعرفه هو أن تكون لديك القدرة على خداع نفسك بأن كل شيء على ما يرام !! .. وأنا لا أستطيع خداع نفسي !! .. هل أنا سعيد ؟! .. قطعا لا .. ولو كنت سعيدا لما سألت نفسي هذا السؤال !! .. هكذا هي حياتي .. سلسلة من الوحدة والاحباطات والأيام المتشابهة كحبّات العدس .. سوى ما عكر صفوها في السنتين الأخيرتين من تجارب رهيبة زعزعت روحي وقلبت كياني !! ..
أتطلع إلى النجوم بأسى .. فأشعر وكأنها تلوح لي وتخبرني كم هي سعيدة في بعدها عن عالمنا .. كم أعشق لمعانها الشفاف الرائع .. كم أتمنى أن أعرف أسرارها وأسمع همسها .. وحين أدرك أنني أعجز عن ذلك .. أشعر بمزيدا من الحزن .. وتترقرق الدموع في عيني !! .. إن الحزن جميل إلى درجة الثمل .. إلى درجة الإدمان .. وللمزيد من الحزن .. تنفجر الألغام واحدا تلو الآخر في أرض ذكرياتي .. وأتحسر على حبيبتي (إيما) .. وأبكيها .. لا زلت أبكيها !! .. فهي حبيبة عمري وأجمل ما حدث لي في حياتي ..
ما أجمل الذكريات .. تجعلك كالمجنون !! .. بعد دقائق من الغوص في بحر ذكرياتك تفطن أنك كنت تكلم نفسك وتردد عبارات قلتها لحبيبتك .. وتضحك وتقطب استجابة لأفعال أشخاص لا وجود لهم !! .. لقد أضاءت حبيبتي التي رحلت إلى النجوم شمسا من الاهتمام في صدري الضيق الملول .. حبيبتي التي جاءت من بعيد .. من قلب الكون حيث تنعس الأسرار .. من وراء السُدُم في المجرات البعيدة .. من كهوف لم يزرها بشر .. من جزر لم ترسم على خريطة .. من كواكب لم يرها مرصد ..
كانت تسألني
ماذا ترى حين تنظر إلى السماء؟
فأجيبها بهيام
أرى عالما آخر يجذبني إليه .. أرى نجوما تضيء بداخلي لتمحو جميع معالم الألم ..
لقد رحلت حبيبتي وتركتني أتضاءل أكثر وأكثر !! .. أقرأ أحيانا - على سبيل التغيير- بعض الكتب التي تدعو إلى التفاؤل .. وتطلب من الإنسان أن ينظر إلى النصف الممتلئ من الكوب .. ولكن .. ماذا لو كان كوب الحياة فارغ أساسا ؟؟!! ..
و .. !!!! هاأنذا أعود مرة أخرى لهوايتي في الاستطراد ووصف آلامي .. إنها غريزة كل إنسان أن يصف أحزانه وآلامه لمن يستمعون إليه .. لذا .. سأتوقف عن الثرثرة - التي أراهن بأن أغلبكم قد قفز إلى نهايتها - ولنعد إلى قصتنا ..
كنت جالسا تلك الليلة في شرفة غرفتي بأجوائها الرائعة التي لا يبدد روعتها سوى ذلك البيت الذي تطل الشرفة عليه .. نعم .. إنه البيت الذي تحمل قصتي عنوانه .. بيت مهجور من طابق واحد - وضع ألف خط تحت كلمة مهجور - مظلم تماما كقاع المحيط !! .. يطل على شارعين ويحمل بناؤه طراز أوائل الثمانينيات الشهير حيث الحجر الجيري الذي كان موضة تلك الفتر
.. بيت يمكنك أن تراه في كل مكان بل ويمكن أن يكون بيتك شبيها به ما لم تكن مليونيرا أو فقيرا معدما .. ولا يميزه سوى مساحته الكبيرة كحال معظم بيوت منطقة (الرميثية) ..
وبحكم وجود شقتنا في الدور الثالث فإنني أستطيع أن أرى سطح البيت جيدا .. حيث قطع القرميد الملقاة في كل مكان .. والمقاعد المهشمة .. وهوائي التلفزيون الصدئ .. وحبل غسيل قديم للغاية !! .. كما أرى رؤوس أشجار الحديقة الداخلية التي يبدو عليها علامات جمال وروعة محا الزمن معظمها بعد أن ذبلت تماما .. فأصبحت الآن مهملة بطبيعة الحال تملأها أشجار كثيفة ذبلت تماما !!..
عندما أرى هذا البيت أتخيله وكأنه قلعة تاريخية تحوم حولها البوم !! ..
ويساعدني خيالي الواسع وعقدتي تجاه المنازل القديمة على تخيل أصوات تنبعث منه !!.. ولكنه - على سبيل الإنصاف - بيت هادئ جدا جاثم على النفس كأي بيت مهجور .. ويصبح مخيفا أكثر في المساء بطبيعة الحال بسبب الظلام المخيم عليه !! .. والواقع أنني أشعر بنوع من الأمان الطفولي حين أجلس آمنا في شرفتي والوحوش التي يصورها خيالي تزأر في هذا البيت !! ..
كنت خلال فترات جلوسي في الشرفة في الأيام الماضية أسترق النظر أحيانا كثيرة إلى ذلك البيت .. إلا أنني لم أرى شيئا غير عاديا على الإطلاق .. سوى في هذه الليلة !! .. كانت الساعة قد قاربت الثالثة فجرا حيث خلا شارع (الفريج) تماما من أي سيارة عابرة .. عندها فقط لمحته !! .. شخصا يرتدي ملابس شبابية خفيفة يلتفت يمينا ويسارا بتوتر .. وهو يحمل شيئا بحجم صندوق صغير ملفوفا بعناية متجها به إلى ذلك البيت المهجور !! .. عندها تحفزت حواسي !! .. إلى أين يتجه هذا الأبله؟!! .. أحاول الاختباء كي لا يراني إذا نظر ناحية شرفتي .. لحسن الحظ أنني لا أضيء أنوار الشرفة على الإطلاق والضوء الذي استخدمه للكتابة هو ضوء خافت ينبعث من غرفة نومي .. لذا فمن العسير أن ينتبه لوجودي .. أحاول أن أتمعن النظر أكثر .. و .. عرفته !! .. إنه أحد أولاد جيراننا .. أشاهده كثيرا متسكعا مع أصدقائه عندما أخرج من الشقة .. هو في السابعة عشر من عمره .. لا يدخل بيته إلا ليغادره !! .. كحال معظم الشباب .. خاصة في إجازات الصيف .. لحظة !! .. إنه يتسلق سور ذلك البيت المهجور !! .. و .. هووب .. صوت منخفض جدا تكاد ألا تسمعه .. مما يدل على نزوله من على سور البيت إلى داخل الفناء .. ثم اختفى بعدها تماما .. لم يعد في محيط بصري .. انتظرت لأكثر من ساعة لكنه لم يظهر مرة أخرى !! .. يبدو أنه قد خرج من السور الخلفي .. ما الذي كان يحمله بيده ؟؟! .. هل يمارس نشاطا مشبوها ما ؟؟!! .. وما الذي يجعله يتسلق السور ويدخل هذا البيت أصلا ؟؟! .. لا أدري .. ثم أنه لم يعد إلى بيته بعد !! .. وإلا كنت قد رأيته .. لا أدري ما أفعل !!! .. فكرت في الاتصال بالشرطة .. على الأقل لإبلاغهم عما فعله هذا الصبي .. فاقتحام البيوت -حتى المهجورة منها - جريمة يعاقب عليها القانون لأنها أملاك خاصة .. ولكنني غيرت رأيي !! .. فقد ظننت أن الأمر لا يستحق الاهتمام ..
ذهبت إلى الفراش بعد أن ثقلت جفوني ودسست نفسي تحت اللحاف .. وتحت ضوء النوم الخافت وصوت (إينيا) (enya) الحزين الذي يشعرني أنني أطير بلا أجنحه .. كان من الطبيعي أن أنسى ما رأيت وأزور عالم الأحلام ..
لم أستيقظ بعد سهرة الأمس إلا في الحادية عشرة صباحا على صوت جرس الباب .. ثم الخادمة الآسيوية التي تطرق باب غرفتي لتخبرني أن هناك شخصا ما يطلب رؤيتي !! .. خرجت من غرفتي متثاقلا متسائلا عن هوية هذا الزائر .. فليس لي أصدقاء كما تعلمون !! .. كنت مرتديا منامتي وأثر النوم لم يفارق عيني بعد .. فإذا بفتى قصير القامة هزيل البنية .. لا يتجاوز الرابعة عشر من العمر .. يرتدي ميكروسكوبا !! .. أ .. أ .. أعني نظارة سميكة جدا !! .. أنا أعرف هذا الفتى !! .. أعتقد أن اسمه (زياد) .. وهو فتى له عيوب ومزايا كل الأولاد في مثل عمره - إن كانت لهم مزايا- يتحرك دائما وسط مجموعة صغيرة من أصدقائه فلا يفعلون شيئا تقريبا سوى لعب الكرة بجانب المسجد القريب أو الجلوس دون هدف عند باب منزلهم .. ولكن - وهذا الأهم - (زياد) هو الشقيق الأصغر على حد علمي لذلك المتسلل الذي رأيته في الأمس !! .. وبالطبع .. استغربت تلك الزيارة .. فلا تربطني بهذا الفتى أي صلة .. ومعرفتي به شبيهة بمعرفة هز الرأس كما يصفها الإنجليز .. هل للأمر علاقة بما رأيته في الأمس يا ترى ؟!! ..
(خالد) ؟
قالها بخجل شديد .. فرددت عليه
أهلا وسهلا ..
قلتها بلهجة مرحبّة ودود وأنا أدعوه إلى الدخول والجلوس .. لم يكذب خبرا !! .. فدخل مسرعا وجلس في الصالة وقد بدا عليه التوتر بشكل واضح !! .
بيني وبينكم .. توجست من وجوده !! .. بدا لي وكأنه سيحاول إقناعي .. إقناعي بماذا ؟!! .. بشيء يصعب أن أقتنع به بكل تأكيد !!! .. ثم أن هذا الفتى يخشى شيئا !! .. فأنا أفهم جيدا تلك النظرات المذعورة القلقة المتوترة !! .. رأيت أن أعطيه بعض الوقت ليستجمع أفكاره .. كما أن واجب الضيافة يحتم أن أقدم له شيئا !! .. ناديت الخادمة .. وهي بالمناسبة شديدة الكبرياء تعاملنا - نحن أصحاب المنزل- باحتقار لا مبرر له ولسان حالها يقول: أنا لست خادمة لأبيكم .. إنه الزمن الأغبر الذي يجعلكم تصدرون الأوامر لي !! .. ولكنها والحق يقال لا تثير أي مشاكل وتؤدي عملها بكل أمانة .. فطلبت منها تقديم شيء لضيفنا ..
تشجع (زياد) قليلا بعد هذا الترحاب .. ويبدو أنه لم يرد الدخول في أي مقدمات .. لذا فقد قال باستعجال وبنوع من التوتر
- لم أجد أحدا ألجأ إليه في بادئ الأمر .. ولكن عندما وجدت جدتك عندنا في البيت تذكرتك !! .. ووجدتها فرصة كي أتحدث معك على انفراد .. أريدك بأمر هام !! .. أرجوك أن تستمع إلي !!.
قالها وقد فاح الحرج من صوته !! .. حتى كدت أشتم له رائحة !! ..
لقد نسيت أن أذكر لكم معلومة مهمة .. فإن كنت أنا إنسانا انطوائيا إلى درجة غير معقولة .. فإن جدتي الحبيبة اجتماعية إلى درجة غير معقولة أيضا !! .. فسرعان ما ذاب الجليد بينها وبين جيران (الفريج) كلهم تقريبا بعد فترة قصيرة من انتقالنا للشقة الجديدة .. وباتت تزورهم أوقاتا كثيرة في مختلف المناسبات .. حتى أصبح جيراننا يحبونها .. ويسألون عنها ويزورونها بدورهم بين حين وآخر .. أما أنا .. فعلاقتي بهم كعلاقتي بالكواء الذي في فرع الجمعية !! .. لا يمكن أن تزداد عمقا أو تسوء !! ..
كنت أتوجس خيفة من هذه المقدمات .. لذا فقد وضعت ساقا على ساق ورسمت على وجهي تأثير اهتمام غير مصطنع .
وأخيرا تحدث قائلا
- (خالد) .. إنني بحاجة إلى شخص قريب نوعا ما من عمري .. موحي بالثقة .. مثالي وكتوم .. ومختلف .. وعلى قدر هائل من الحكمة .. أحتاج إلى شخص رزين .. إنه أنت .. أنا أحتاج إليك بشدة!!
آه .. لا بد أن طباعي المتحفظة المنغلقة الشبيهة بطباع النسر قد راقت له !! .. و..
(خالد) .. لقد اختفى أخي الأكبر .
سألته باستغراب:
ماذا تعني ؟!
أخذ نفسا عميقا كمن يحاول طرد التوتر عن روحه .. ومع هذا لم تتوقف ساقه اليسرى عن الهز .. وقال:
لقد خرج أخي في وقت متأخر من مساء أمس ولم يعد حتى الآن !! .
تذكرت أخاه الذي رأيته عندما كنت جالسا في الشرفة !! .. فتحفزت حواسي وسألته بحذر:
أين من الممكن أن يكون ؟!
قال بتوتر:
أنا أعرف أين ذهب .. ولكن لا أجسر على مواجهة أهلي بهذا ..
نظرت له متسائلا عما يعنيه .. فقال بأسف:
أخي يمارس بعض الأنشطة المشبوهة .. وقد نصحته كثيرا بالابتعاد عن المشاكل .. ولكنه لا يستمع إلي !! .
سألته باستغراب:
- وما هي الأنشطة المشبوهة التي يمارسها أخوك ؟!
لم يخبرني .. بل نظر إلي نظرة خجولة من طراز (هذا - ليس - من - شأنك) !! .
شعرت بالدم يصعد إلى رأسي .. وكأن الأحمق يظن أن قضية حياتي هي معرفة أسراره .. أنا غير مهتم بأسرار هذا الإنسان .. لو شاء أن يقولها فليقلها .. لكني لن أجهد ذهني لحظة في التنقيب عنها !! .. ويبدو أنه رأى في وجهي علامات الاستنكار لتصرفه .. لذا فقد تدارك نفسه بسرعة قائلا بشيء من الحرج:
أخي يتاجر في الأفلام الخلاعية !! .. يبيعها على شكل أقراص مدمجة ة"ّدّلادة
) .
هززت رأسي بأسف واشمئزاز .. قبل أن يستطرد (زياد) قائلا:
لقد ضبطه والدي أكثر من مرة وانهال عليه ضربا .. وأصبح يقوم بتفتيش غرفته بين حين وآخر ليتأكد من عدم وجود أي شيء مشبوه .. لذا فإن أخي يقوم مؤخرا بإخفاء أقراصه المدمجة في مكان آخر .. في ذلك البيت المهجور المقابل لشقتكم .. يتركها هناك لصديق له كي يأخذها ويبيعها .. لقد أصبح هذا البيت هو الوكر !!.
هززت رأسي بمعنى أن كل ما قاله جميل .. ولكن لم أفهم حتى الآن دخلي أنا في الموضوع !!
(خالد) ..
همم !! ..
والدتي تكاد أن تجن خوفا على أخي .. ووالدي عاجز عن عمل أي شيء .. كما أننا لا نجرؤ على إقحام الشرطة في الأمر !! .. لأننا نخشى أن يكون أخي قد ارتكب عملا أخرق .. إن والدتي كويتية الجنسية لحسن الحظ .. ولكن والدي من فئة (البدون) - قالها بنوع من الحرج- وأنت تعلم جيدا أن أي مشكلة مع الشرطة قد تقضي على كل آمالنا في الحصول على الجنسية الكويتية التي نسعى إليها منذ سنوات طويلة !! ..
لم أكن أعلم أنهم من فئة (البدون) لا يملكون أي جنسية وكأنهم مخلوقات من كوكب (بلوتو) !! .. إن هذه الفئة من الناس تعيش حياة مستحيلة بالفعل .. فلا فرص للعمل ولا فرص للتعليم ولا أي أمل في الغد .. وكأن حكومتنا الرشيدة تدفعهم دفعا لارتكاب الجرائم والسرقات !! .. إن مشكلة (البدون) وصمة عار في جبين (الكويت) مع الأسف!! ..
استطرد قائلا بحزن:
لك أن تتخيل الحال عندنا في البيت .. إنه أشبه بمكان للعزاء .. إن جدتك مع والدتي الآن تحاول أن تهدئ من روعها ..
هززت رأسي متفهما .. ثم قلت له بصدق
أتفهم ظروفكم تماما يا (زياد) .. ولكن لا أفهم حتى الآن دوري في الموضوع !! .
قال لي بحذر:
- لقد جاءتني فكرة غير عادية !! ..
ثم سكت قليلا ليزدرد لعابه .. وأردف قائلا
لا بد أن أدخل ذلك البيت !!..
وأضاف في رهبة وهو يلتفت يمينا وشمالا
لكن المشكلة أنني لا أجسر على دخوله وحيدا .. إنه مخيف وله رهبة كما تعلم .. خاصة في الليل !! .. ولا أستطيع دخوله نهارا خوفا من أن يراني أحد ويسبب لي مشكلة ..
ثم قال بابتسامة خجول مليئة بالرجاء:
فإن لم تكن نسرا .. كن عصفورا تحت جناح نسر على الأقل ..أنا أحتاجك أيها النسر كي تدخل معي ذلك البيت !! ..
قالها (زياد) وأنا أجرع ما بقي في كأسي .. وكان هذا كافيا كي يتوقف العصير في حلقي بالطبع !! .. رحت أسعل بشدة فناولني لكمة بين لوحي كتفي .. لأشعر عندها بتحسن .. وأقول له بحدة لم أقصدها
- أرجوك لا تقحمني في أمر كهذا .. و ....
قاطعني برجاء قبل أن أكمل كلامي
(خالد) .. إنني واثق من أن أخي قد دخل ذلك البيت فجر اليوم قبل شروق الشمس .. كان من المفترض أن يخفي أقراصه المدمجة الجديدة فيه .. ولكنه لم يعد حتى الآن .. وهاتفه النقال مغلق !! .. أنا أعرف أ
ه يترك مع أقراصه المدمجة رسائل لصديقه للاتفاق على بعض الأمور بشأن بيع وترويج هذه الأفلام .. فهو يتعامل بحذر في نشاطه المشبوه هذا ولا يستخدم الهاتف إطلاقا .. ربما نجد إحدى رسائله لشريكه في هذا البيت .. أي شيء قد يدلنا على مكانه !! ..
قلت له بدهشة بالغة .. غير مصدق ما يطلبه مني:
هل .. هل جننت ؟! .. تريد مني أن أقتحم معك منزلا مهجورا ؟؟ .. إن الأمر مخالفا للقانون .. ثم أنني لا أجسر أنا الآخر على فعل هذا .. إنني بكل
صراحة أخشى الظلام .. وأعتبر دخول إنسان بيتا كهذا نوعا من معجزات الأولياء!! .
رد بإلحاح:
إنه أخي يا (خالد) .. أخي .. أخشى أن يكون قد أصابه مكروه .. أرجوك ساعدني .. فأنا لا أريد دخول ذلك البيت من باب اللهو والمتعة !! ..
لحظة .. تذكرت شيئا هاما
(زياد) .. كيف تعرف أسرار شقيقك بهذه الدقة ؟!
رد بحنق:
كثيرا ما أكون معه حين يقابل أصدقائه .. فهو يعلم أنني لن أشي به أبدا .. إنني بالمقابل أنصحه كثيرا كي يكف عما يفعل !! .. ولكنه لا يصغي متعللا بأننا نحتاج إلى المال ..
ثم زفر بقوة وهو يقول
- لا أستطيع أن أنكر حاجتنا إلى المال .. فالمصروف الذي نأخذه من والدي مضحك .. بل إنني - وأصدقك القول- كثيرا ما آخذ من أخي مصروفي الشخصي دون علم والدي .. فأنا أحتاج إلى المال أيضا .. ولكن .. أخشى أن يقع أخي في قبضة الشرطة .. إن هذا سيحطم عائلتنا تماما ..
تنهدت قليلا .. وقلت له بأسف ورجاء:
- أرجوك أن تنسى الأمر برمته .. فأنا لن أدخل ذلك البيت أبدا .. إنه لعمل غير أخلاقي أن تقتحم منزلا - ولو كان مهجورا - كما أن هذا مخالف للقانون كما أخبرتك .. وقد نقع في مشكلة.
صاح في لوعة حقيقية
لكنني أحتاج إليك .. أرجوك !!..
هززت رأسي آسفا أن لا جدوى هنالك .. في هذه اللحظة أمسك بذراعي راجيا كأنما يوشك على الغرق !! ..
المشكلة أن التهذيب يجبرنا دائما على إظهار عكس ما نبطن .. إلا أن التهذيب له حدود أيضا !! .. فقلت له بنوع من الحدة وقد نفذ صبري وبدأ مخزون الود الذي أملكه يستنزف
- إن أحدا لا يفعل شيئا كهذا على سبيل المجاملة .. ألا تفهم ؟؟!!! .
- بلى ولكن ... !!
لم يجد ما يقوله .. فسكت .. وقدا بدا محبطا إلى أبعد حد .. هل فهم أخيرا أنه لا جدوى من التوسل إلي ؟! .
سألته
- لماذا لا تجد أحدا غيري ؟! ..
رد بعصبية لا تتناسب أبدا مع سنه:
ما رأيك لو أتاك صبي في مثل عمري وأخبرك بهذه القصة ؟! .. ألن تقول له: اذهب يا حبيبي والعب بعيد ؟؟!! .. لقد ظننتك مختلفا .. ولكن ها أنت تقولها لي بصيغة مختلفة .. كما أنني لا أستطيع الاعتماد على أصدقائي .. لأنني لا أثق بكتمانهم للسر ..
ثم قال بحنق
المشكلة أن الجميع سيقترحون إبلاغ الشرطة .. وهذا حل غير وارد إطلاقا .. لقد ذكرت لك السبب .. كما إنني أخشى دخول ذلك البيت وحيدا .. لقد أخبرتك بذلك !! ..
ثم ترقرقت الدموع في عينيه حتى شعرت بشفقة حادة تجاهه .. وقال:
- لقد سألنا أصدقائه وجميعهم لا يعرفون عنه شيئا .. لذا فالخيط الأخير هو أن أدخل هذا البيت لعلي أجد ما يدلني على مكانه .. ثم أنه مجرد بيت مهجور .. صحيح أنني لا أجرؤ على دخوله وحيدا أنا الآخر -خاصة في الليل - لكننا لن نخاف لو دخلناه معا
قلت له بصراحة وبصوت لا يخلو من الأسف:
- أنت مخطئ إذا !! .. صحيح أن هذا البيت ليس قلعة من قلاع أوروبا المليئة بالأشباح .. لكنه اكتسب هيبة خاصة به بالفعل شأن أي بيت كبير مهجور .. وأقولها لك للمرة الثالثة .. هذا أمر يعاقب عليه القانون !!
نظر إلي بإحباط .. وقال يائسا:
- لا أستطيع أن أعتمد على أحد غيرك يا (خالد) .. ثم أنك الآن تعرف سر أخي .. وأخشى أن تبلغ عنه الشرطة ..
فقلت له بصدق رافعا يدي وكأنني أؤدي قسم (أبو قراط),َ
- أقسم بالله العظيم بأنني لن أفتح فمي .. لقد خرست .. أنا لا أرى ولا أسمع ولا أتكلم .. سرك في بئر سحيق .. اطمئن
تحولت نظراته الحزينة الراجية إلى نظرات برود وكراهية عندما أدرك أنه لا أمل هنالك إطلاقا في قبولي لهذه المهمة .. فقال بكبرياء
كنت أظنك مرهف الحس يا (خالد) .. فتبين لي أنك معدومه .. أهنئك على نقاء ضميرك .
أخرسني كلامه تماما وعجزت عن الرد !!! .. ثم نظر إلي نظرة باردة .. ومط شفتيه ولسان حاله يقول: يا خسارة الرجاء فيك !! .. نهض بعدها خارجا من الشقة .. ودّعته فلم يرد علي !! .. فالسكوت هو أسرع طريق للاحتقار !!! .. خاصة عندما أوصد الباب في وجهي بطريقة أقرب إلى الصفعة على قفاي !! .. فوقفت بعدها حائرا بضع دقائق .. الحقيقة هي أنني لا أجرؤ على دخول مكانا كهذا حتى لو دفعوا لي ذهب العالم كله !! .
إن دخول هذا البيت يحتاج إلى حافزا قويا .. حافز أقوى بكثير مما يقدمه لي (زياد) .. ثم أنني مرتاب بطبعي .. وأؤمن تماما بأنني مصاب بنوع خاص من النحس يوقعني في شراك كل ما هو غريب .. وغير عادي .. ومرعب !! ..
عادت جدتي العزيزة إلى الشقة .. وأخبرتني بحال أسرة الولد .. الجميع يبحثون عنه .. ووالده يخشى إبلاغ الشرطة .. و.. كلام كثير قالته لي سمعت معظمه من (زياد) كما تعلمون .. ولم أخبرها بالطبع بأمر تلك الزيارة لأنني وعدته بكتمان الأمر متوقعا أن دوري في هذه القصة قد انتهى عند هذا الحد .. ولكن يبدو أن الوغد لا ييأس .. فقد غدت الأيام الثلاث التالية جحيما لا يطاق .. خاصة مع اختفاء أخيه تماما وعدم العثور على أي أثر له .. فبات فهذا المعتوه يتصل بي طوال الوقت ويواصل رجاءه بإلحاح !! .. إن الذبابة تستطيع أن تدمر حياتك إذا ما كنت مثلي إنسانا متوترا طوال الوقت أصلا .. فكيف أستطيع أنا الذي أبدل وضع قدمي ألف مرة عند الجلوس من فرط الملل أن أتحمل تلك الذبابة البشرية اللزجة اللحوح (زياد) ؟؟!! .
كان يتصل بي ليقول
- ظننتك شجاعا لا تخشى شيئا .
فأرد عليه بعصبية
وكنت مخطئا .. أنا جبان جاهل .. فهل هذا كاف لتتركني ؟!..
ثم أقفل سماعة الهاتف حتى لا أنفجر في وجهه .. لقد حذرته مرارا من هذا الأمر .. ولكن الأمر شبيه بأن تحذر طفلا من الكهرباء .. فهو لن يفهم أبدا ما لم يشعر بالصعقة الكهربية .. أو يرى أحدا تقتله الصدمة .. و(زياد) لن يفهم ما سيحدث لو رآنا أحدهم وأبلغ الشرطة .. سنكون عندها في موقف لا نحسد عليه أبدا .. دعك من أن القصة كلها لا تعنيني .. إن الأمر شبيه بمباراة في كرة اليد بين (كينيا) و(تنزانيا) لا ناقة لي فيها ولا جمل !! ..
لم يتغير رأيي إلا في اليوم الرابع من اختفاء أخيه .. كيف ؟! .. لقد اتصل بي وهو يقسم بأغلظ الأيمان أنه سيدخل المنزل وحيدا في وقت متأخر من هذه الليلة .. قال ذلك بكلمات سريعة جدا كي يسمعني أكبر قدر من الكلام ويشعرني بالذنب قبل أن أضع السماعة في وجهه كما يتوقع !! ..
عندها فقط تغيرت نظرتي للأمر .. فقد تحرك ذلك الكائن الغريب الذي يسكن عادة تحت (جِلدك) ويخرج إليك قبل النوم كل ليلة ليمارس (جَلدك) !! .. إنه الضمير!!! .. آه أيها الضمير الراقد كالثعبان في أعماقي .. تبا لك .. لماذا تحركت في بطء لتلومني على عدم مرافقتي لهذا الفتى .. تحرك الضمير الرابض في أعماقي يسألني عن الشهامة !! .. إن الفتى لا رفيق له بين الناس وهو مسكين يريد إنقاذ شقيقه بعيدا عن متاعب الشرطة !! .. وفوق هذا يتصرف بمسؤولية تروق لي بكل صراحة رغم صغر سنه !!! .. لقد بدأت أشعر بأنني نذلا تخلى عن إنسان !!.. ألست أنا الوحيد في هذا العالم الذي يعلم بأمر هذه المغامرة الصبيانية ؟! .. ها هي الكيمياء المعقدة في الذهن البشري تؤدي عملها ببطء لكن بثقة !! .. سرعان ما يتحول حمض الكبريتيك الحارق إلى ملح كبريتات النحاس المسالم .. وتتحول أبشع الأفكار وأكثرها إثارة لنفورك إلى أفكار معقولة ومنطقية للغاية !! .. وهكذا في النهاية !! .. قررت أن أرتكب الحماقة وأدخل معه ذلك البيت !!! .. مشكلة أبطال القصص أنهم يتصرفون بتهور مستفز للغاية !! .. يصرون دون سبب واضح على فعل كل ما لا يجب فعله !! .. كنت أظن أنني سأكون أذكى منهم وأقبع في فراشي هذه الليلة .. لأنني أعلم جيدا بأنني عاجز عن لعب دور الشجاع الواثق ولو مرة واحدة في حياتي .. لكنني وجدت نفسي شيئا فشيئا مبالغا نوعا ما في رفضي .. لقد فكرت في الأمر فوجدت أنني لن أخسر شيئا بالفعل .. سأدخل المنزل برفقة (زياد) وستزيح هذه الرفقة معظم مخاوفي من الظلام .. الشرطة ؟؟! .. سندخل المنزل في وقت متأخر جدا من الليل كما تعلمون ولن يرانا أحد - أو هذا ما أتمناه - و .. وجدت رقم هاتف منزله في مفكرة هواتف جدتي التي أحفظ لها فيها كل الأرقام التي تهمها .. واتصلت به في التاسعة مساء معلنا عن موافقتي !! .. دون أن تعلم جدتي ودون أن يعلم أحدا من أهله بالطبع !! .. وهنا تبدأ القصة !! .. القصة التي ستتخذ منحنى آخر غير ما نتوقعه جميعا !!. يقولون في (مصر),َ دخول الحمام ليس كالخروج منه .. ومشكلة هذه الأمثال الشعبية أنها دائما ما تكون صادقة إلى درجة تثير الغيظ فعلا !!.
كما اتفقنا تماما .. خرج كل منا متسللا من منزله في تمام الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل .. كنا قد اتفقنا على أن نلتقي عند سور البيت في الناحية التي تطل عليها شرفة غرفتي .. وكان الطقس شديد الحرارة .. فنحن في شهر أغسطس كما تعلمون ..
كنت مرتديا حذاءا رياضيا .. وملابس خفيفة .. وأحمل مصباحا يدويا صغيرا .. أما هو فقد ارتدى شورتا وفانلة ومنديلا فوق رأسه .. ومن فوق المنديل وضع الكاب الواقي !! .. حتى بدا لي كأحد جنود الحملة الإنجليزية في (الهند) !! .. بل وكان يحمل معه حبلا !! ..
لماذا الحبل ؟!
سألته بدهشة !! .. فأجاب ببساطة
لأنهم يحملون حبلا دائما في الأفلام !! .
هذا الأحمق يظن أنه سيتسلق جبال الهمالايا .. لا يهم ..
توقعت أن يشكرني على موافقتي للدخول إلى هذا البيت وأن يصارحني كم أنا رائع !! .. إلا أنه لم يقل حرفا .. بل كان عمليا للغاية .. فقد نظر إلي نظرة من طراز (فلنسرع - قبل - أن - يرانا - أحد) .. فأومئت برأسي كناية عن الفهم !! .. وها نحن الآن نقف بجانب سور البيت الذي اتشح بعباءة المساء الكئيبة .. نتأكد من أن أحدا لا يرانا .. نلتفت يمينا وشمالا .. و.. تسلقنا معا .. أ .. أ .. أعني أنه تسلق السور في لحظات .. بينما لازلت أحاول التسلق .. إن الأمر في منتهى الصعوبة .. فلست رياضيا ولا أملك القوة البدنية اللازمة .. و .. هوووب .. تسلقت بصعوبة قبل أن أقفز على الأرض مرتطما بها بقوة !! .. إن المرتفع الوحيد الذي تسلقته في حياتي كان كومة رمال أمام باب منزلنا القديم والذي تركه عمال البناء هناك عاما إلى أن اختفى تماما !! .. طوال عمري مختلفا عن الآخرين .. لم أفعل أبدا ما يفعلونه من هم في مثل سني !! ..
حسنا .. نحن الآن داخل أسوار البيت .. نهضت من على الأرض .. وشرعت أنفض الغبار الذي تراكم على ركبتي بنطلوني .. ثم .. نظرة فاحصة للتعرف على فناء البيت - أو (الحوش) كما نطلق عليه في الكويت - فناء كبير نوعا يمتلئ ببقايا الأثاث وقطع من القرميد هنا وهناك .. ولا ننسى الحديقة الداخلية الكبيرة المهملة التي تغفو في الظلام .. يخيل إلي بسبب الظلام الدامس أن الأشجار حية تصغي لكلامي وتراقبني في صمت !! .. أشجار كثيفة بحق وكأنها من العصر الطباشيري .. لن أندهش لو برز رأس ديناصور من بينها ليخور خوارا عميقا يرج الشارع رجا !! .. هناك أيضا بركة ماء لا أعرف مصدرها تشرب منها قطة سوداء !! .. لو كنت وحيدا لتوقف قلبي هلعا .. غريب هو الليل !! .. الأشياء المسالمة في ضوء النهار تتحول بقدرة قادر إلى وحوش وأشباح مخيفة ما أن يغلفها الظلام !! .. ولولا صحبة (زياد) لما جرؤت أبدا على دخول بيتا مهجورا في وقت كهذا .. ولو دفعوا لي أموال العالم ..
لماذا يرتبط الرعب دائما بالظلام ؟! .. ربما لأن الخوف من الظلام شيء راسخ في وجدان البشرية منذ الأزل !! .. فالظلام بالنسبة لأجدادنا البدائيين يعني وقت ظهور الحيوانات المفترسة !! .. ثم توارثت الأجيال هذا الأمر .. ليظل الاعتقاد محفورا في نفوسنا وفي عقلنا الباطن .. رغم كل القفزات التي قطعناها في طريق المدنية والتقدم !! ..
مرت هذه الخواطر إلى ذهني في لمح البصر .. ونحن نبحث عن أي شيء غير عادي في فناء البيت .. الحر الشديد والرطوبة يلتفان حول كل شيء ليصبح الجو خانقا كريها لزجا في ظرف دقائق معدودة .. يقف (زياد) مع الأحمق الوحيد الذي قبل أن يساعده في هذه المهمة اللاداعي لها أصلا بوجهة نظري .. إنه أنا بالطبع !! .. و .. شيئا فشيئا بدأت الوساوس تعربد في أعماقي .. خاصة وأنا أرى البيت كئيبا صامتا كالقبر !! .. ولكن .. مهلا .. من قال أن القبور هادئة أو صامتة ؟! .. إنها تصدر أصواتا في كل قصص الرعب .. وأنا اعتدت منذ فترة أن تكون حياتي كلها قصص رعب !! ..
استر يا رب ..
قلتها بصوت هامس لم يسمعه (زياد) .. ثم ذهبنا إلى باب البيت لندخله بعد أن عجزنا عن إيجاد أي شيء ذو أهمية في الفناء .. ولكن .. باب البيت مقفل .. يظهر أنه لم يفتح منذ سنوات طويلة .. ما قصة هذا البيت ؟؟! .. بالفعل !! .. سؤال كان يجب أن أطرحه منذ مدة طويلة !! .. قد يكون هناك تنازع ورثة سيبقى إلى يوم الدين كما هو معتاد .. ربما !! ..
قررنا أن نلف حول البيت لعل الباب الخلفي مفتوحا .. نمشي في الفناء المظلم دون أن نضيء مصابيح بطارياتنا كي لا يرانا أحد من أي نافذة علوية من البيوت المجاورة .. نمشي بخوف وترقب وصوت أوراق الشجر الصفراء التي تتكسر تحت أقدامنا يخيفنا كثيرا .. الباب الخلفي مغلق أيضا وبإحكام !! .. بل وجميع النوافذ موصدة ولا توحي بأن هناك من حاول فتحها .. عدا تلك النافذة !! .. نافذة يبدو أن هناك من كسر زجاجها ليدخل منها .. ولا زالت بقايا الزجاج موجودة على الأرض وجزء منها على أطراف الإطار .. نظرنا إلى بعضنا .. هناك من دخل قبل وقت ليس ببعيد .. لاشك أنه شقيق (زياد) !! .. بالطبع قررنا بدورنا الدخول!! .. وقلبي بدأ يخفق كالطبل .. في حين أرى (زياد) وقد كان - والحق يقال - أكثر تماسكا مني رغم أنه يصغرني بأربعة أعوام ..
لست أدري ولكن !! .. شعورا غامضا يعتريني بأن هذا البيت يراقبني أيضا !! .. حاولت أن أتجاهل هذا الشعور وأنا أتسلق حاجز النافذة المغبر .. وشعرت ببقايا خيوط نسيج عنكبوت أتلفه من دخل قبلنا تلتصق بثيابي !! .. هذا أمر طبيعي .. بيت قديم مهجور من المؤكد أن يتناثر فيه غبار الأعوام ونسيج العناكب !! .. رحت أسعل بخفوت وأبصق وأبعد الغبار عن ثيابي .. ليدخل بعدي (زياد) .. أضئنا المصباح فزالت العتمة قليلا .. أسلط كشاف بطاريتي إلى داخل المنزل لأرى قطع أثاث قديمة مهملة متناثرة هنا وهناك يغطيها الغبار .. أرى أيضا جبل صغير من القمامة تنبعث منه رائحة كريهة للغاية !! .. في حين تملأ الأرض طبقة لا بأس بها من الغبار المتناثر هنا وهناك وكأنني في مقبرة فرعونية تم اكتشافها للتو !! .. خطوة إلى الداخل .. ثم خطوات استكشافية مترددة خجولة سببها الخوف طبعا .. كأننا نخضع لقواعد الدراما الإغريقية .. حيث البطل يسير بإصرار مزعج نحو قدره .. وحيث ينذره كل شيء بالمصير المحتوم لكنه لا يبالي!! ..
استر يارب !! ..
قلتها مرة أخرى بهمس وأنا أسمع صوت خطوات أحذيتنا تحتك بالغبار الموجود على الأرض .. حبيبات العرق تنبت فوق رأسي وتحت إبطي وكل موضع من جسدي في لحظات قليلة .. والأمر نفسه مع (زياد) .. تبا .. لا أتحمل ملمس الثياب على جلدي عندما أعرق ..
هدوء مريب جدا .. مريب إلى درجة جعلتنا نتوتر .. وهذا ما يجعلني أمشي لا شعوريا على أطراف قدمي وكأنني راقصة في بحيرة البجع وألتفت يمينا ويسارا .. إن القط المتسلل يكون عادة حزمة من الأعصاب المرهفة .. فلو إنك صحت فيه: (بخ) .. لوثب في الهواء مترين !! .. كان هذا هو حالنا .. ولو سمعت صوتا يقول لي: ماذا تفعل هنا يا ولد ؟؟! .. لمت ذعرا على الأرجح !! ..
ثم تذكرت شيئا مهما .. فهمست بخفوت بسبب رهبة المكان
(زياد) ؟! ..
همم ..
لماذا لم يخف شقيقك (بضاعته) في فناء المنزل ؟! ..
قال بحنق هامس
هلا تكف عن ذكر كلمة (بضاعة) تلك ؟؟ كأننا في فيلم عربي !! .
قلت معترضا
لم أذكر هذه الكلمة سوى الآن !! .. لا عليك ... أجب على السؤال من فضلك.
قال بنفاذ صبر
لأن الشمس ستتلفها .. لا تنسى أنها أقراص مدمجة تتأثر بحرارة الشمس .. لذا فقد وضعها داخل البيت على حد علمي .. و .
قاطعته مستغربا:
ولكن .. ألم يكن من المفترض أن يتركها بالقرب من النافذة ؟! ..
قال بصوت متوتر
بالفعل !! .. فليس منطقيا أن يخفيها في مكان بعيد عن النافذة التي دخل منها .. كل ما عليه هو وضع أقراصه المدمجة داخل البيت قرب النافذة حتى يسهل على شريكه أخذها في أي وقت يريد !!
ثم نظر إلي نظرة من طراز (فلنبحث - في - أرجاء - البيت) .. أومأت برأسي كناية عن الفهم .. و ..
.: .:.:.: : .: :.:. ..:. . . : :. .: : : : . ن: : : : .: ! . . . . .:.:. : . :! ة :!: .. !
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا