السنة الأولى مع (عمار}َ
استمررت بالقراءة واستمرت نوبات غضبي بالازدياد لكن (عمار) كان صبوراً وحليما بشكل غريب. كان يؤمن بي أكثر من إيمان بنفسي ولم أعرف السبب وراء ذلك. لكن مع مرور الأيام بدأت أتعود شيئاً فشيئاً على نظام (عمار) الغذائي والحياتي. قلت الأوقات التي كنا نتحاور فيها لأني لم أعد أسأل كما كنت في السابق فالكتب أصبحت مألوفة وبعضها بدأ يترابط مع الآخر في ذهني ولم أكن أستعين ب (عمار) إلا في الأمور المستعصية. كنت أتوقف عن القراءة في موعد الوجبة الوحيدة ذلك اليوم وهي تلك الهريسة التي كان يصر (عمار) على تناولها يوميا بالرغم من محاولاتي المتكررة لإقناعه بالتغيير ولو لفترة بسيطة لكنه كان يرفض بشدة.
بعد عدة شهور من البحث في الكتب بدأ (عمار) يتحدث معي ويمازحني ونمت بيننا علاقة جيدة دفعته لمساعدتي في البحث من وقت لآخر، تعلمت منه أشياء كثيرة غير المكتوبة في الكتب كان رجلا طيبا بالرغم من أنه كان ساحراً خبيثاً.
أذكر مرة أني قلت له:
ألا تدرك يا عمار أن الساحر كافر؟!
فضك وقال: وماذا عن من يأتيه؟
فسكت ولم أفتح معه الموضوع مرة أخرى.
طلبت منه يوما أن يحضر لي أدوات حلاقة لأن شعر رأسي وذقني وجسمي بدأ يزعجني فرفض وقال كثرة الشعر على الساحر مصدر قوة له.
فقلت له: أنا لست بساحر يا (عمار) ولا أريد أن أكون ساحرا!
فقال: الأمر لم يعد خياراً أنت منا وستبقى كذلك.
قلت له: أنا هنا مجبر وبمجرد أن أنتهي من شيطاني هذا سأتخلى عن هذا العالم اللعين.
قال لي وهو يضحك:
"هذا العالم له باب واحد وهو للدخول فقط"
لم يعجبني كلامه وقاطعته أسبوعا كاملا، بعدها جاء ليصالحني وقال لي: لقد أرسلت مرسلا لمنام أمك ليطمئنها عليك.
فقلت له بلهفة: كيف؟!
فوضع في يدي كتاب وقال: اقرأ وتعلم.
فرفضت وقلت له: لن أقرأ كتابا من كتبكم لغير حاجة وأمي مؤمنة وستصبر على بعدي حتى أعود.
كنت في أول سنة من بقائي معه أصلي ولم يكن (عمار) يرفض لكنه كان يخرج من المكان عندما كنت أفعل ذلك لكن وللأسف في السنتين الأخيرتين أهملت الصلاة بسبب ما كنت أقرؤه في تلك الكتب اللعينة.
حل شهر رمضان خلال السنة الأولى وهي المرة الأولى التي بدأت فيها ملاحظة بعض التغيرات في الروتين فقبل الشهر المبارك بأيام أحضر (عمار) كمية كبيرة من الأرض وبعض المؤن وقال:
"سوف نغير نوعية الأكل في رمضان لأجلك"
فرحت في البداية لكني لم أكن متيقنا من صدق كلامه عندما قال إن التغيير كان لأجلي وما زادني يقينا التغيرات الأخرى التي حدثت مثل تخزين كمية كبيرة من الماء داخل المنزل في براميل وكأنه يستعد لغارة جوية سوف تنزل عليه من السماء عندما انتهى (عمارا) من استعداداته جلست بجانبه والعرق يتصبب من جبينه يعد حمل تلك البراميل الثقيلة وقلت له:
ما الذي يحدث؟ ولا تخبرني بأنك تفعل ذلك من أجلي.
(عمار),َ لا يمكننا الخروج خلال رمضان.
قلت له: أنا محبوس هنا طيلة السنة على أية حال فما الفرق.
(عمار),َ الفرق أنني سأكون محبوسا معك ولن نحصل على الطعام أو الماء.
فقلت له: أخبرني لماذا؟
فنهض (عمار) ولم يرد على سؤالي.
رمضان كان شهراً قاسيا على (عمار) وكنت أحسس فيه أن قواه تضعف أو تزول ولم أنتبه إلا في السنة الثانية أنه كان يحضر طعاما يكفينا شهر رمضان بأكمله كي لا يخرج وفي السنة الثالثة فهمت أن قدرته تضعف بسبب ربط شياطينه خلال الشهر الكريم لذلك سألته مرة.
لماذا لا أخرج في رمضان فالشياطين تربط في السماء بمن فيها ذلك الشيطان الذي ينتظرني؟ فقال لي:
"اذهب وجرب فأنا لن أمنعك"
لم يكن إيماني قويا في تلك الفترة لذلك لم أجرب لكني أعرف اليوم أن قول الله حق وأن ذلك الشيطان كان يربط معهم طيلة شهر رمضان المبارك ولو كنت قد خرجت لما أصبت بأذى لكن وجودي مع (عمار) وكتبه جعلني أفقد إيماني وجعلني أسيراً لهم.
كان (عمار) يقفل الباب على عند المغرب ولا يفتحه إلا مع الشروق لكن خلال شهر رمضان لم يقم بذلك بل كان يطلب مني ترك المكتبة والجلوس معه للحديث دائما خلال الليل. ومن تلك الأحاديث المطولة كل ليلة أخذت علما كثيراً منه لم أجده في تلك الكتب بل في الواقع إجابتي على تساؤلات كثيرة لم أجد لها تفسيراً خلال القراءة. كان (عمار) مختلفاً خلال رمضان كان متعبا ويبدو مريضا أو مخموراً. لم أسأله كثيراً عن حالته لأني كنت أعرف أنه لن يجيب. أخرج (عمار) في إحدى الليالي علبة سجائر وبدأ بالتدخين وهذه كانت المرة الأولى التي أراها فيها يدخن. مد لي سيجارة وقال: خذ واحدة.
فقلت له: أنا لا أدخن.. ثم ألم تختر غير هذا الشهر الفضيل كي تبدأ بالتدخين؟
فقال: ومن قال لك إني لا أدخل من قبل؟
فقلت: لم أرك تدخن من قبل.
فقال: أنا لا أدخن إلا في الليل عندما تكون محبوسا فيا لمكتبة.
فقلت له: لم تخبرني يا (عمار) عن سبب حبسك لي داخل المكتبة من الغروب للشروق من قبل.. لماذا؟ هل تظن أني سأهرب؟
فضحك (عمار) بقوة ورفع رأسه ونفخ سحابة من الدخان وقال:
إلى أين ستهرب وذلك الشيطان بالخارج؟
فقلت له: لماذا إذا.. لماذا تغلق الباب؟
فقال: هناك أحداث تحدث في الليل لا أريد منك أن تراها.
فقلت له: مثل ماذا؟
فقال: ما زال الوقت مبكراً كي تعرف
قلت له: ولماذا لا تدخن إلا ليلا؟
فقال: التدخين في النهار يضرب (الهالة).
وكانت هذه أول مرة أسمع بمصطلح (الهالة) فقلت له: وما هي (الهالة)؟
فقال: أحد مصادر قوتي التي جعلتني أوقف ذلك الشيطان بالخارج.. كل إنسان يملكها لكن قوتها تختلف من شخص لآخر.
فقلت له: وكيف تعرف ما إذا كانت هالتك قوية أم لا؟
فقال: بفحصها من قبل شخص ب (هالة) مفعلة.
فقلت: مفعلة؟
قال: نعم مفعلة.. كل الهالات سواء قوية أو ضعيفة تكون في طور الخمول ويستلزم عليك تفعيلها كي تستفيد منها.
فقلت له: هل تستطيع فحص هالتي؟
فقال: هالتك قوية جداً ولا أحتاج لفحصها.
فقلت له: كيف عرفت؟
فقال: عندما تفعل هالتك تستطيع الإحساس بالهالات الأخرى بسهولة. هل ترغب مني أن أفعل هالتك؟
فقلت: لا أعرف.. ماذا سأستفيد؟
فقال: سترى العالم بشكل مختلف. ستتضاعف قدراتك الحسية والذهنية والجسدية.. ستصبح قادراً على القيام بأمور لم تكن تستطيع القيام بها من قبل ست ولم أرد عليه.
أكمل كلامه وقال:
وفوق كل ذلك سوف تجد سهولة أكبر في قراءة تلك الكتب وفهمها ولن تصاب بالإرهاق والرغبة في النوم كثيراً حتى أنك مع قليل من التدريب ستتحكم بأحلامك وفي مراحل متقدمة أحلام غيرك.
فقلت: لهذه الدرجة؟
فقال: وأكثر من ذلك بكثير.
فقلت له: وما المطلوب مني القيام به.
فقال: هالتك قوية وتفعيلها لن يستلزم الطرق المعقدة التي نستخدمها مع الهالات الضعيفة لذلك لا أحتاج منك سوى القبول.
فقلت: قبول ماذا؟
قال: قبولك بأن أفعل هالتك.
فقلت: أقبل ذلك.
فنهض (عمار) من مكانه ووضع كفه على جبيني وأنا أقول في نفسي: يبدو أن هذا الرجل يتسلى بي ويريد أن يضيع الوقت قليلا.
ولكن خلال وضع يده على رأسي سمعت صوتا لن أنساه جعلني ألتفت يمينا ويساراً مما دفع (عمار) لسؤالي وقول:
ماذا بك.. هل سمعت شيئاً؟
فقلت له.. نعم طنينا قويا وكأنه طنين ذبابة تطير.
فضحك (عمار) ورفع يده من على رأسي وجلس وأشعل سيجارة وقال:
"مبارك لقد تفعلت هالتك والذبابة هيه الدليل".
فقلت له: أعتقد أن الذباب دليل فقط على أننا لم نستحم لفترة؟
فضحك (عمار) بقوة وأخذ يسعل ويكح من شدة الضحك ثم قال:
الصوت الذي سمعته هو ذبابة تطير في آخر الغرفة.
فسكت بتعجب ثم قلت:
ما هذه الذبابة العجيبة التي تطن بهذه القوة؟
فقال: الذبابة طبيعية لكن أنت الآن لم تعد طبيعيا وحواسك كذلك.
فقلت له: هل هذا من فعل الهالة؟
فقال: نعم.. وسوف تبدأ من الآن ملاحظة أشياء غريبة فلا تجزع وتذكر أن قدراتك الآن اختلفت.
لم أفهم معنى كلامه حتى حان وقت السحور ووضع (عمار) أمامي الطبق اليومي المعتاد وهو حساء مع قليل من الأرز لا أعرف محتواه. لكنه كان تغييراً إيجابياً عن تلك الهريسة. لكن هذه المرة عندما تذوقت الحساء كان طعمه مختلفا. كان ألذ وكانت النكهات واضحة ويمكنني تمييزها فقلت له:
ماذا وضعت في الحساء اليوم.. طعمه ألذ بكثير من السابق؟
فقال: لم أضع شيئاً وهو الحساء نفسه الذي نتناوله منذ بداية رمضان
فقلت له: مستحيل.. الطعم مختلف تماماً.
فقال: أخبرتك أن تفعل هالتك سيغير أموراً كثيرة في حياتك وهذا الحساء أبسطها.
أخذت رشفة ثانية من طبق الحساء ثم قلت:
بصل.. ملح.. قليل من الفلفل.. وعنصر غريب لا أعرفه
فقال (عمار),َ صحيح.. هذه مكونات الحساء.
فقلت: كيف يمكنني معرفة ذلك الآن؟
فقال: يبدو أنك لا تدرك معنى تفعيل الهالة.. أنسي الموضوع الآن ولنذهب للنوم.
لم أم مباشرة تلك الليلة وعدت للمكتبة للقراءة وكانت المفاجأة عندما بدأت بإكمال كتاب قد بدأت بقراءته منذ أيام.. فقد وجدت أن فهمي للكلمات والمعاني قد أصبح أعمق وقدراتي على القراءة تطورت وأصبحت أنهي صفحات أكثر في وقت أقصر بكثير. وكنت أحفظ وأستوعب كل كلمة بطريقة أخافتني في البداية لكن معا لوقت بدأت أعتاد على قدراتي الجديدة وأستمتع بها. أخبرني (عمار) مرة في إحدى ليالي رمضان أنني يجب أن أخفي اسمي واسم أمي على أي ساحر كي لا يؤذيني فقلت تله أنا أعرف اسمك فقال (عمار) ليس باسمي إنه الاسم الذي اخترته ليمثلني أمام بقية السحرة وأنت يجب أن يكون لك اسم غير اسمك كي لا يصلوا إليك عندما تصبح منا.
فصرخت فيه بقوة وقلت: لن أصبح ساحراً!
فرد بهدوء وقال: اختر اسما حتى إن كنت لا تريد أن تصبح ساحراً.
سكت.. ثم قلت: كيف أختار لي اسما؟
قال: ما هو شعورك الآن؟
قلت له: أشعر بالخوف.
فقال: اسمك من الآن فصاعدا هو (خوف) ولن أناديك بغيره ومنذ ذلك الحين وأنا في عالمهم معروف باسم (خوف).
لكني اكتشفت لاحقا أن (عمار) هو اسمه الحقيقي بالفعل ولم يكن يخفيه على أحد ومازالت إلى هذا اليوم لا أعرف لماذا أخبرني بأن أسمه الحقيقي ليس ب (عمار).
انتهاء شهر رمضان المبارك كان عيداً حقيقياً ل (عمار) فقد خرج من الباب صباح العيد وهو مسرور جداً وكأنه قد خرج للتو من السجن. كنت اراقبه من النافذة وأحسده على تلك الحرية. عاد (عمار) للمنزل وغير ملابسه ليخرج فقلت له:
إلى أين؟
فقال وهو يلبس عباءة بيضاء جديدة:
هذه أول مرة تسألني مثل هذا السؤال.. هل أصبحت ولي أمري الآن؟
فقلت له: لا تراوغ يا (عمار) أين ستذهب؟
فخرج من الباب وهو يضع عمامته ويقول:
لن أتأخر.. عد وأكمل القراءة حتى أعود.
خرج (عمار) من المنزل وتركني في صباح العيد الأول ولم أكن أريد القراءة في ذلك الوقت لكني لم أعرف بماذا يمكنني أن أقضي وقتي. لاحظت أن عمار خرج ولم ي غلق الباب ولم أستطع إغلاقه لأن المقبض كان خارج المنزل ولم أقدر على الإمساك به دون الخروج عن حدود المنزل فتركت الباب مفتوحا. بعد عدة ساعات دخل علي رجل أسمر البشر طويل القامة وقال:
أين (عمار)؟!
فقلت له: خرج
فقال: إلى أين؟
فقلت: لا أعرف.
فغضب وقال: أخبره أن (فاطمة) تبحث عنه!
فقلت له: حسنا
وخرج الرجل وأغلق الباب في طريقه.
عاد (عمار) بعد خروج الرجل بساعة تقريبا.. وعندما دخل أخبرته بما قاله لي ذلك الرجل ولم يكن مهتما. وضع (عمار) أمامي قدراً مغلقا وقال:
افتح القدر ففيه مفاجأة.
تبسمت ومددت يدي نحو غطاء القدر ورفعته وأنا أبتسم لكن سرعان ما تبدلت ابتسامتي لحزن عندما رأيت تلك الهريسة المقرفة مرة أخرى وقلت بغضب:
ما هذا يا (عمار)؟!
فقال وهو يبتسم طعامنا المفضل.. يمكنا العودة الآن لتناوله بعد انتهاء رمضان.
فقلت له بعد ما رميت الغطاء على الأرض ونهضت من أمامه:
الطعام المفضل لك أنت وليس لي!
دخلت المكتبة وبدأت القراءة بغضب وبعد دقائق دخل (عمار) المكتبة وقال:
المغرب اقترب.. هل أنت واثق أنك تريد البقاء الليلة دون طعام؟
فقلت له دون الالتفات إليه: لن آكل من هذه الهريسة مرة أخرى لقد سئمت منها.
لم يرد (عمار) علي وخرج وأغلق الباب.
مضت الأيام والشهور وانقضت سنة أخرى مع (عمار) وأصبح يومي روتينيا ولا يوجد فيه غير الكتب وبعض الحوارات الجانبية مع (عمار) بالإضافة لتلك الهريسة المقيتة التي خضعت لها عندما فتك الجوع بأحشائي بالرغم من نحسن طعمها قليلا بعد تفعيل هالتي.
السنة الأخيرة مع (عمار),َ
السنة الثالثة والأخيرة مع (عمار) كانت الأجمل بين تلك السنين فقد اعتدت كثيراً على نظام حياته وكنت قد بدأت خلالها بالاستمتاع بالقراءة لأن علمي قد تعمق وأصبح غزيراً فيها مما كان يدفعني لتعلم المزيد والمزيد حتى أني بدأت أستسيغ تلك الهريسة والتي بعد تفعيل هالتي لم تكن بذلك السوء.
خلت السنة الأخيرة مع (عمار) من الأحداث المميزة لكن أذكر أنه في إحدى الليالي وخلال سهري على أحد الكتب سمعت أو توهمت أني سمعت أحداً يتكلم مع (عمار) فنهضت من على الكرسي ووضعت أذني على باب المكتبة لأسمع بوضوح أكثر فتوقف الحوار بين (عمار) والصوت الآخر والذي بد لي وكأنه صوت امرأة لكني لم أكن متيقنا من أنها كانت امرأة في ذلك الوقت ولم أكن متيقنا من أني سمعت حواراً من الأساس لذلك عدت وأكملت قراءتي للكتاب الذي كان بين يدي.
في الليلة التالية تكرر ما حدث معي في الليلة السابقة لكن هذ
ه المرة تيقنت من أن (عمار) كان يتحدث مع امرأة لكن حديثهما لم يكن واضحا. حاولت الإنصات قدر استطاعتي لكني لم أستطع فاستغربت كثيراً فبعد تفعيل هالتي كنت أسمع أدق الأصوات لكني لم أستطع سماع ذلك الحوار الذي يدور بنيهما. قررت في اليوم التالي مواجهة (عمار) وسؤال عن ما سمعت فأنكر وقال:
يبدو أنك تتوهم.. أخبرتك أن تفعيل هالتك سيجعلك تسمع أشياء غريبة لكن هذه المرة أنت تتوهم.
فقلت له: أنا لا أتوهم وأنت كنت تتحدث مع امرأة.. لماذا تخفي علي هذه المعلومة ماذا تظن أني سأفعل؟
فقال: لا يوجد امرأة وافعل ما شئت.
خرج (عمار) من المنزل بعد هذه الجملة غاضبا لكني لم أكترث وبدأت أبحث في أرجاء المنزل عن آلة حادة. كنت أريد أن أحدث ثقبا في الباب كي أرى بعيني مع من كان يتحدث. بعد بحث طويل وجداً مسماراً صغيراً لكن رأسه حاد وبدأت بحفر الباب. عاد (عمار) قبل أن أنتهي من إحداث الثقب اللازم فخبأت المسار في جيبي وقررت أن أقوم بالحفر كل يوم عندما يخرج. تكرر الحوار تلك الليلة لكن هذه المرة لم أنهض كي أسترق السمع وبقيت مكاني أقرأ. سمعت هذه المرة ضحكات المرأة مع (عمار) وجاءني إحساس أنهما يضحكان علي.. لا أعرف لماذا لكن كان ذلك إحساسي في تلك اللحظة.
استمررت بالحفر لعدة أيام. حتى أحدثت الثقب اللازم في الباب وكنت متشوقا لكشف (عمار) ومواجهته بالحقيقة عند حلول المساء بدأت بالقراءة لكن قلبي كان معلقا بمعرفة من هي تلك المرأة التي كان (عمار) يقضي معها الليلة بطولها. انتظرت وطال انتظاري ولم أسمع شيئاً.
توقعت أنها كانت مشغولة تلك الليلة وسوف تحضر في الليلة التالية لكنها لم تحضر ولم أسمع صوتها مرة أخرى.
الشهر الأخير مع عمار:
لم أكن أدرك أن أيامي مع (عمار) قد شارفت على الانتهاء وكنت في تلك المرحلة قد تمكنت كثيراً من علومهم حتى أن (عمار) عرض علي أن أكون مساعداً له في حال ما إذا وجدت ما أبحث عنه في كتبه لكني رفضت بشدة وقلت:
لقد أخبرتك من قبل بأني لست بساحر يا (عمار) ولن أكون في يوم كذلك!
فقال لي: ولكنك تملك الآن من علومهم ما يجعلك أستاذاً عليهم جميعاً.
فقلت له: لكن هذا لا يكفي كي أبيع نفسي وديني.
فقال متهكما: أي دين، أنا لم أشاهدك تصلي منذ سنة؟!
فقلت له: أعترف بتقصيري لكن هذا ليس سببا يجعلني أندفع نحو الهاوية.
أنهى (عمار) الحديث بابتسامة عندما أدرك أنني لن أسلك طريقة باختياري أبداً.
قرر (عمار) الخروج بعد هذا الحوار من المنزل لإحضار الطعام فقلت له:
كيف تستطيع أن تخرج وذلك الشيطان بالخارج ألا تخشى أن يؤذيك؟
فضحك وقال: هل تستطيع النملة أن تؤذيك؟!
فقلت له: لا.
فقال: شيطانك هذا بالنسبة لي أقل من نملة.
فقلت له ساخراً: ومن أين لك كل هذه الثقة؟!
فرد علي وقال: هل تريد إثباتا؟
فقلت له: وكيف ستثبت لي ذلك؟!
قال وهو يبتسم: سأسمح له بالدخول عليك الآن.
فسكت وبدأ قلبي بالخفقان وقلت له: لا تتأخر على مشوارك.
فضحك بصوت مرتفع وخرج.
الأسبوع الأخير مع عمار:
لم يكن هذا الأسبوع خارجا عن المألوف لكن حدث فيه أحداث غريبة لم أشهدها من قبل كان أبرزها أن (عمار) تركني لمدة ثلاثة أيام وحدي ولم يخبرني قبلها بأنه سيغيب كل تلك المدة لذلك عندما عاد قلت له بغضب:
لماذا لم تخبرني أنك ستغيب كل هذه المدة؟!! لقد كدت أموت من الجوع!
فقال بكل برود: لكنك لم تمت.. ولقد تركت لك ما يكفيك من الماء.
فقلت له بغضب: لماذا لم تخبرني؟!.. ماذا كنت ستخسر؟
فضحك وقال: هل تريد بعض الهريسة؟
اليوم الأخير مع (عمار),َ
قد أكون واهما لكني أحسست بطريقة ما أني سأرحل عن هذا المكان في أي لحظة. حتى (عمار) كان يتعامل مع في تلك الآونة بطريقة مختلفة وكأننا سنفترق قريبا. لكنني لم أ عرف أن ذلك اليوم هو اليوم الذي سأجد فيه مفتاح خلاصي. مددت يدي إلى أحد الرفوف كعادتي في صباح ذلك اليوم وسحبت كتابا كبيراً مغلفا بطريقة جلدية سوداء نصحني (عمار) بقراءته ووضعته على الطاولة وفتحته وبدأت بالقراءة. كان (عمار) يجلس في غرفة المعيشة يدخن في النهار على غير عادته فبدأت بالقراءة كالمعتاد.
الساعة الأخيرة مع عمار:
كنت أقرأ وأنا أتوسد يدي وأنظر في تلك الصفحات الكبيرة. بدأ المطر بالهطول بغزارة وهذا لم يكن غريبا في تلك المنطقة. عم الهدوء المكان ولم أكن أسمع سوى نفخات (عمار) لسيجارته وكنت أقول في نفسي:
"لماذا يدخن الآن.. لم أره من قبل يفعل ذلك في وضع النهار؟"
أكملت قراءتي ولم أفكر كثيراً في سبب تدخين (عمار) كان الكتاب يتكلم عن تاريخ السحر في جنوب الجزيرة ولم يكن يحمل الكثير من المعلومات العملية لذلك ش عرت بالملل خلال القراءة وفكرت أكثر من مرة في إغلاقه والبحث عن كتاب آخر لكني تذكرت كلمة قالها لي أبي عندما بدأت القراءة أول مرة في صغري:
" لا تغلق كتابا أبداً إذا بدأت بقراءته حتى تنهيه"
أكملت القراءة حتى وقعت عيني على ذلك النص:
"تسلط من سواد ضاحك الثغر "دجن" ينهض من تراب وسيده يبكي في عدن"
الدقيقة الأخيرة مع عمار:
لم يكن (عمارا) شخصاً عاطفيا بطبعه كما هو الحال مع معظم الرجال لكن الدقيقة الأخيرة التي قضيتها معه كانت في عناق طويل لم نتحدث خلالها لم يقل غير جملة واحدة عندما أنهي عناقه لي:
"سأفتقدك يا (خوف).."
توجهت بعد لتلك السيارة التي ظلت مركونة لثلاث سنوات.
رحلة العودة ل (عمار)
توجهت للمطار بعد ما اشتريت بعض التين المجفف لأني لم أجد تينا في ذلك الوقت فهو لم يكن موسمه، ركبت أول طيارة باتجاه بلد (عمار) وخلال الرحلة أحسست بضيق في التنسيق أكثر من مرة. الأولى كانت عندما كنت في طريقي للمطار والثانية كانت عندما ركبت الطائرة والأخيرة عندما خرجت من بوابة المطار بعد وصولي لمسقط رأس (عمار).
بحثت عن سيارة للأجرة لتأخذني مباشرة لمكان إقامة (عمار) لكن السائق رفض وقال لي لن أوصلك إلا للمدينة المجاورة لهذا العنوان، فوافقت على مضض وسار بي إلى المكان الذي اتفقا عليه ومن هناك قررت أن أستأجر سيارة من تلك البلدة الصغيرة لكن بعد رحيل سائق الأجرة اكتشفت أن تلك المدينة لا يوجد بها سيارات للأجرة فهي أقرب للقرية من المدينة. تجولت فيها بحثا عن أحد يمكنه إيصالي لوجهتي لكني لم أجد من لديه الاستعداد للقيام بذلك، بدأت أسأل الناس عن إمكانية توصيلي لكني بعضهم رفض وبعضهم وافق لكنه غير رأيه عندما عرف وجهتي. لم يبق على المغرب الكثير عندما بدأت أشعر أني نفي ورطة حقيقية.
ذهبت للمسجد وصليت المغرب وبقيت في المسجد أفكر في مخرج من هذا المان فاقترب مني رجل وجلس أمامي وقال لي:
"هل تبحث عن شيء؟ تبدو غريبا ولست من هنا"
فأخبرته عن رغبتي بالذهاب لمنزل (عمار) دون ذكر اسم (عمار) لأنه حذرني من نطق اسمه لأحد فقال لي الرجل:
هل تعرف أحد هنا؟
فترددت في الإجابة وقلت:
نوعا ما.
فقال: هل تبحث عن (عمار)؟
فسكت.
قال لي: يا بني (عمار) هذا إنسان سيء ولا أنصحك بالذهاب إليه.
فحكيت له حكايتي فقال لي: أين إ يمانك بالله؟!
فقلت: ونعم بالله لكن.
فقاطعني وقال: لا يوجد "لكن" مع الإيمان بالله.. راجع نفسك يا بني فهذا الطريق آخره هلاك.
فسكت ولم أستطع الإجابة.
مضي الرجل في طريقه وخرجت من المسجد وأنا أنتظر الفرج لكني لم أجد حلا، رفع أذان العشاء وصليت وشاهدت الرجل الذي كلمني ينظر لي بعين ثاقبة من بين جموع المصلين الذين بدأوا بالخروج من المسجد لم أحب تلك النظرة. خرجنا من المسجد فرأيت شخصا يركب سيارته فذهبت إليه مسرعا وعرضت عليه استئجارها منه فرفض وعندما ألحت قال:
لا أريد منك مالا!
فقلت: وماذا تريد إذا؟!
قال: أن ترحل من هنا فإذا أردت أن أعود بك للعاصمة فقط فسوف آخذك إلى هناك.
فرفضت وغادر الرجل وأصبح الشارع خالياً من الناس وعم الهدوء المكان وكان الظلام شبه دامس عدا إنارة المسجد الخفيفة التي كانت معكرة بسبب بعض الحشرات الطائرة التي التصقت بنورها وكان صوت جنادب الليل هو الصوت الوحيد حولي وعندها أحسست بضيق في التنفس يصاحبه صداع شديد ج علني أنزل من شدة الألم على ركبتي وبعدها سمعت ضحكات تأتي من الظلام المحيط بي.
زاد الألم حتى أغمي علي، استيقظت في الصباح في منزل لا أعرفه فخرجت دون أن أعرف من حملني إليه وقررت الذهاب لمنزل (عمار) مشيا على الأقدام فالمسافة لا تزيد على عشرة كيلومترات فبدأت بالتوجه نحو منزله لكن كان الطريق شاقا لأنه كان يتحرك ارتفاعا ولم يكن مستقيما عندما انتصف بي الطريق سمعت صوتا يقترب مني خلفي فالتفت فوجدت خيال رجل يقترب مني وعندما وصل ذلك الخيال عندي رأيت أنه كان من حدثني بالمسجد.
قال لي: سوف أمشي معك حتى تصل.
فقلت له: لا، وشكراً لا أريد العودة.
فقال: لا تقلق سوف أوصلك إلى حيث تريد فأنا لا أريد أن تموت هنا في هذا الطرق الموحش بسببي.
صاحبني الرجل في وجهتي وتحدث معي في الطريق وحاول إقناعي بالعودة لكني لم أستجب له وعرفت أنه من أخذني لبيته البارحة فشكرته على ذلك. عندما وصلنا لبيت (عمار) ضاق صدري قليلا لأني تذكرت تلك السنوات التي كنت فيها حبيس مكتبته وتذكرت (دجن) الواقف خارج داره مشلولا لا يقوي على الحراك منذ أكثر من سنة. ودعت الرجل وسألني إذا كنت أريده أن ينتظر فقلت له:
شكراً لقد كنت عونا كبيراً ولا أريدك أن تغيب عن منزلك أكثر.
قبل أن يرحل الرجل نظر لبيت (عمار) بطريقة غريبة وكأنه يرى كومة من القمامة المكشوفة وقال:
"سيأتي يوم ونقتص فيه منك أيها المشعوذ"
توجهت لباب بيت (عمار) وقبل أن أطرق سمعت صوته من وراء الباب يقول:
هل أحضرت التين؟!
فابتسمت ودخلت لمنزله.
دخلت لمنزل (عمار) ومددت يدي لمصافحته لكنه قابلني بعناق وترحيب حار دفعني للابتسام رغم ضيقي. مددت له التين فضحك وقال:
ألم تنس؟!
جلست معه وحكيت له ما حدث معي ومع أخي وأمي.. فتجهم وقال:
القرين المحرر من أقوى الشياطين فهو ضعيف عندما يكون مقيداً بصاحبه لكن عندما يتحرر يصبح أقوى وأشرس من أي شيطان آخر.
فقلت له: ألا تستطيع إيقافه؟
فقال: قرينك لم يأت معك وهذا دليل على أنه يريد أن يلحق الأذى بأهلك.
فقلت له: وما العمل يا (عمار)؟
سكت (عمار) لفترة ثم قال:
الحل الوحيد الذي أراه لن يعجبك.
فقلت له: سأقبل بأي شيء يا (عمار) أمي في خطر وكل دقيقة أتأخر فيها أعرض حياتها لخطر أكبر.
قال لي: لا يمكنك قتل قرينك لأنك ستموت معه.
قلت له: لا يهم المهم أن أنقذ أمي منه.
قال: إذا كنت تريد فعلا المخاطرة فجرب الحل الذي أراه.
قلت: وما هو حلك؟
قال: لا يوقف القرين المحرر إلا قرين محرر آخر يكبره في العمر.
فقلت له: ومن أين لي بقرين محرر وعمره أكبر من قريني؟
فأشار بأسه إلى الخارج وهو صامت
فصرخت فيه: (دجن)؟!
قال: ليس أماك إلا هذا الحل
قلت: مستحيل.. كيف يساعدني بعد ما حبسته؟!
قال: تكلم معه فهو يستطيع سماعك وحاول أن تعرض عليه صفقة لا يستطيع رفضها. فالشياطين تؤمن بالعطاء بمقابل.
فقلت: وأي نوع من الصفقات يمكن أن يعقده الإنسان مع الشياطين؟
قال: لا تقلل من شأنها فهي ليست غبية مصلحتها تهمها بالدرجة الأولى و(دجن) الآن مكسور ومحطم وعلى يقين أنه هالك ستكون أنت بالنسبة له طوق النجاة وليس حبل المشنقة.
فقلت له: وكيف أعرف بأنه وافق على عرضي أو لا قبل أن أحرره؟
قال لي: لن تعرف يجب أن تخاطر.
فجلست أكفر مدة تجاوزت الساعة و(عمار) جالس أمامي يأكل التين الذي أحضرته له.
قلت ل (عمار) بعد سكوت طويل:
وماذا سيحدث لو رفض وحررته؟
فرد (عمار) وفي فمه قطعة من التين وبكل برود وقال:
سيقتلك طبعا.
نظرت إليه بتعجب ثم قال:
ماذا.. هل تريد مني أن أكذب عليك؟
قلت له.. سأخرج.
فقال (عمار),َ هل أنت واثق؟
فقلت له: لا لكن ليس أمامي خيار آخر.
خرجت بعد أن طلبت مني (عمار) أن يعيد جثتي لأهلي ولا يدفنني هنا إذا أصابني مكروه فقال:
تفكيرك غريب يا (خوف)
فقلت له: هل تعدني بذلك؟
فقال: لا تقلق لن أدفنك هنا
خرجت وبدأت أتحدث في الهواء وقلت:
(دجن).. أنا (خوف) الذي حبسك وأنا فقط من يستطيع أن يحررك هل توافق أن تكون تحت أمري إذا حررتك؟
لم أعرف ماذا أقول بعد هذا الكلام لكن هذا ما خطر في بالي تلك اللحظة، ثم أضفت وقلت:
لكن قبل أن أحررك أريدك أن تعيد تقييد قريني وهذا ثمن حريتك والآن سوف أقوم بتحريرك.
أحضر (عمار) مرآة ووضعها لي با لخارج ودخل المنزل فانتظرت وقمت بتنفيذ طريقة التحضير عندما غابت الشمس وبعد انتهائي بلحظة وجدت نفسي ملتصقا بالجدار وعنقي يكاد يت حطم من الضغط وصوت أنفاس غاضبة تفح في أذني وبعد ثوان قليلة من هذا الحصار الخانق سمعت صوتا في أذني يقول:
"مطاع!"
وسقطت بعدها على الأرض مباشرة.
خرج (عمار) وهو يضحك وفي فمه آخر حبة من التين الذي أحضرته له وهو يقول:
"مبارك.."
رمى (عمار) كيس التين الفارغ علي وقال:
رافقتك السلامة!
توجهت للقرية مشيا على الأقدام وحرصت على المرور بمنزل ذلك الرجل الذي رافقني لمنزل (عمار) لأشكره وأودعه لأن استقباله كان لطيفا جداً وقد ساعدني أكثر من مرة وجهني الرجل بعد وداعي له لمنزل شخص قام بإيصالي للمطار ومن هناك عدت لبلادي على أول رحلة.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا