رواية خوف الجزء الأول ٣ للكاتب أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-05-09

قصة (دجن) كما رواها الرجل

عندما رأيت اسم (دجن) في ذلك الكتاب وأخبرت الرجل بأنه الشيطان الذي يطاردني أخبرني هو بدوره عن قصة الشيطان (دجن) القرين المتمرد قال لي إن (دجن) كان قرينا للساحر (نجد) فتذكرت أني قرأت في أحد كتبه أن اسم القرين يكون عكس الاسم الأول لصاحبه نطقا وليس بالكتابة ولو غير صاحب الاسم اسمه سيبقى اسم قرينه عكس اسمه الذي ولد به.

وهذا الساحر كان يعيش في عدن قبل مئات السنين وكان دائما يعبث بالناس بتجريب السحر والطلاسم عليهم وقد تأذى منه الكثير ولم يكن هناك أحد يردعه عن أفعاله. وفي يوم حاول فيه إيذاء أحد المارة في السوق وجد نفسه مشلولا لا يستطيع التحرك وأحس معه بألم شديد في صدره سقط على إثرها أرضا وهو يصارع الألم وعدم القدرة على التحرك وعندما كان الساحر (نجد) في هذه الحالة اقترب منه الرجل الذي كان يريد إيذاءه وقال له:

"اخترت الشخص الخطأ لتؤذيه هذه المرة يا (نجد).

ثم قام الرجل بقراءة بعض الطلاسم التي حررت قرين الساحر (نجد) وأمر الرجل القرين بتعذيب (نجد) حتى يموت ثم يأتي إليه. وفعلا قام (دجن) بتعذيب الساحر بشكل حشي حتى فارق الحياة. ذهب (دجن) للرجل كما أمره بعد ما انتهى من قتل وتعذيب صاحبه (نجد)، واتضح أن الرجل كان ساحراً قوياً معروفاً بين السحرة الكبار وكان يفوق بقوته (نجد) بمراحل فأخبر الساحر (دجن) بأنه حر ليفعل ما يشاء بشرط ألا يقتل أحداً من الإنس إلا من يتعامل بالتحضير والشعوذة وقال له أيضاً:

"سوف أكتب لك كتابا.. كل من يقرؤه يحق لك قتله بعد ما تتنسى له لفترة لكن احذر أن يعرف أحد اسمك فلو نطق به ستحبس في مكانك حتى يحضرك غيره".

بعدها افترق الاثنان واستمر كتاب (دجن) يلف من الغرب إلى الشرق يقتل كل من يقرؤه حتى وقع في يد امرأة من أهل الحجاز كانت تريد أن تعرف عن تحضير القرين وقرأت الكتاب فخرج لها (دجن) ليقتلها لكنه منذ أن رأى شعرها الأسود وقامتها القصيرة وهي من الصفات الفاتنة للشيطان وقع في حبها ولم يؤذها وظل يزورها كل ليلة متشكلا بصورة بشر كي تقبل وجوده حولها.

وبعدما فرغ (دجن) من رواية إحدى قصصه ذات ليلة فتح (دجن) قلبه لها وظل يتحدث عن ماضيه مع الساحر (نجد) والساحر الذي حرره وعن الذين حضروه قبلها وقتله لهم جميعا وأخبرها كذلك بأن نطق اسمه هو الطريقة الوحيدة لإيقافه وتجميده.

فسألته: وما اسمك؟

فقال ضاحكا: وماذا تريدين باسمي؟

قالت: بما أن حبي لك عظيم ولن أقدر على نطقه كي لا أفارقك أريد سماعه.

فقال وهو مخمور بحبها: (دجن).. اسمي (دجن)

فوضعت ظهر يدها على خده وقالت:

"وداعا (دجن).."

وينطق اسمه حبسته مرة أخرى، وبسبب محاولاتها المتكررة والفاشلة في التخلص من الكتاب بحرقه وتمزيقه قررت كتابة اسمه في صفحة تحضيره بخط يدها كي يعرف الناس سر التخلص منه.

هنا قاطعت الرجل وقلت له:

لماذا لم تستطيع المرأة أن تتخلص من الكتاب بتمزيقه أو إحراقه؟

فرد علي وقال:

هل حاولت أنت فعل ذلك منق بل؟

فقلت له: لا.

فقال: حتى وإن حاولت كان الكتاب سيعود كما كان فقلت له: لكن الكتاب احترق في غرفتي وأمام عيني.

فقال: هذا بفعل (دجن) لأنه علم بما صنعته المرأة ولا يريد لأحد أن يحبسه. كان يريد أن يبقى حراً إلى الأبد وأحرق الكتاب ليمنع أحد من تجميده مرة أخرى وعندما قمت أنت بتحضيره كانت تلك فرصته لفعل ذلك وتحرير نفسه إلى الأبد.

بعد ما انتهى الرجل من سرد حكاية (دجن) سألته:

كيف عرفت كل هذا؟

سكت قليلا ثم قال:

نحن السحرة نتعامل مع الكثير من الجن والشياطين وأخبارهم تصلنا دائما منهم بسرعة البرق فنقوم نحن بتدوينها في كتب ومدونات وهذا جزء من اتفاقنا معهم لكن أخبار (دجن) انقطعت منذ فترة ولم يسمع عنه أحد حتى قمت أنت بتحضيره وإطلاق سراحه.

فقلت له: لماذا إذا قلت لي إنك لا تعرف اسم شيطاني؟

فقال وهو يبتسم هناك المئات بل الآلاف من الشياطين الذين يذكرون في المدونات يوميا هل تظن أنك الوحيد أو أن (دجن) هو الوحيد الذي تم تناقل أخباره؟ ثم إن الأخبار كانت عنه وليست عنك.

سكت قليلا ثم سألته بعدها سؤال أخيراً وقلت:

هل سيبقى (دجن) محبوسا إلى الأبد إلى نطقت اسمه؟

قال: نعم.. فكتاب تحضيره أحرق والشخص الوحيد الذي يعرف طريقة تحضيره وتجميده ومازال على قيد الحياة هو أنت وأنا فقط وبموتك يموت (دجن) لأنه لن يجداً أحداً ليحرره.

فابتسمت وودعت الرجل وخرجت لأحبس (دجن) إلى الأبد.

 

 

رحلة العودة لبلادي

لن أدخل في تفاصيل ما حدث معي في المطار وصعوبة العودة لبلادي حيث لم يكن معي مال وكان هناك بلاغ مسجل باسمي للبحث عني في تلك الدولة بسبب البلاغ المقدم من أهلي كشخص مفقود وتسليمي أمنيا إلى دولتي والتحقيق معي لفترة فهذه أمور يطول شرحها لذلك سأبدأ من لحظة وصولي للمنزل ودخول بالباب بعد 3 سنوات من الغياب.

كان استقبال أهلي خليطا من الفرح لعودتي والحزن والغضب من رحيلي، كان أخي وقتها ق بلغ العشرين من عمره وأنا قد ناهزت الثلاث والعشرين وأمي قد بدا عليها التعب والمرض. أمي كانت تبكي وهي تقبلني وأبي كان يدعو لي وعلي في الوقت نفسه وأخي يبتسم ودموعه في عينيه وأنا بينهم أبتسم مرتاحا لأن كل شيء قد انتهى وفي تلك اللحظة قررت أن أنسى الماضي وأستعيد زمام حياتي.

فصلت من الجامعة لكن بلدي بلد الواسطات فعدت إلى مقعد الدراسة خلال أيام وبدأت أدرس مثل أي طالب آخر وعادت حياتي لطبيعتها حتى دخل علي أخي في غرفتي في أحد الأيام وكان الوقت بين المغرب والعشاء وأخذ يبكي بخوف ويقول:

"ساعدني يا أخي لم أعد أستطيع التحمل!"

فقلت له: ما بك؟!

فقال: بعد رحيلك واختفائك المفاجئ بحثا عنك في كل مكان ولم نجد لك أثراً وسألنا عنك جميع أقربائنا ولم يخبرنا أحد بشيء يدلنا عليك إلا قربينا ابن الرجل العجوز (كان يقصد ابن الرجل الذي أعطاني الكتابين) فقد قال لي إنك أتيت إلى منزله في الليلة التي اختفيت فيها وبحثت في غرفة أبيه وقرأت بع كتبه وخرجت منها مسرعا. فطلبت منه أن يعطيني تلك الكتب.

وقبل أن يكمل جملته صرخت فيه وقلت:

هل أخذت تلك الكتب؟!

رد وهو يبكي:

"نعم وقرأت كتابا واحداً فقط ومن ذلك الوقت لا أستطيع النوم أرجوك ساعدني يا أخي!"

قلت له: أحضر جمع الكتب بما فيه الكتاب الذي قرأته.

أحضر أخي جميع الكتب وبسبب خبرتي وعلمي الواسع الذي اكتسبته من مكتبة الرجل فرزت الكتب إلى ثلاث فئات:

كتب تحضير حقيقية.

كتب تحضير وهمية.

كتب سحر وربط.

وطلبت من أخي أن يشير إلى الكتاب الذي قرأه وقلبي يتمنى أن يكون من كتب التحضير الوهمية، لكن للأسف فقد خاب ظني فالكتاب الذي اختاره كان كتاب تحضير حقيقيا مسؤولا عن تحضير شيطان اسمه (يعرم) وهو شيطان علوي قوي جدا يعذب من يحضره بالكوابيس والعبس في جسده حتى يمل منه وقتله. (يعرم) هذا ليس بشيطان سهل فقد قرأت عنه من قبل أنه يملك قوة غير اعتيادية وينحدر من قبيلة "الأباطحة" وابن لأحد ساداتها.

طلبت من أخي الرحيل وطمأنته أن كل شيء سيكون على ما يرام ثم قمت بتصفح الكتب المتبقية وبواسطة خبرتي كنت أقرأ الطلاسم بذهني لا بشفتي لأن بعضها لا يكون له تأثير إذا لم تنطقه بشكل مسموع، وخلال تقليبي للكتب وجدت بينها كتاب لتحضير القرين وقد كان حقيقيا ولم يكن فخا كما كان مع كتاب (دجن)، وحسب ما قرأت فيه فإن القرين المحرر سيمكن السيطرة عليه وتسخيره ببعض الطلاسم التي حفظتها من المكتبة، والقرين المحرر يكون أقوى من الكثير من الشياطين بما فيها (يعرم) نفسه لذلك قررت تحضيره ولو كنت أعرف ما سيحدث بعدها لما حضرته لكن نظراً لصغر سني في تلك الفترة وضعف وازعي الديني وجهلي بالحلال والحرام فيما يخص هذا العالم وما مررت به في السنوات الثلاث الماضية كان لذلك كله تأثير على قراراتي لذلك لم أفكر في وقتها عن الأضرار التي قد تنجم عن العبث في مثل هذا العالم.

نفذت كل ما ذكر في صفحة التحضير بالحرف وظهر قريني أمامي متشكلا بشكل لكنه كان مختلفا قليلا وكان دون إحدى عينيه.

قال لي:

"شكراً يا أخي سأتخلص من (يعرم) لأجلك الان"

ثم اختفى.

وبعد قليل سمعت صوت صراخ قوي يأتي من غرفة أخي فذهبت له مسرعا ودخلت عليه في غرفته لأجده على سريره غارقا في بركة من الدماء وهو يبكي وسطها ولم يكن يعاني من أي جروح فقلت له وأنا أتفحص جسمه بسرعة:

ماذا حدث؟!

قال: لا أعرف أنت من دخل علي وطلبت مني أن أغمض عيني ففعلت ثم أحسست بهذه الدماء تغطي جسدي دفعة واحدة. فعانقت أخي مدركا أن (يعرم) قد مات على يد قرني وهذه الدماء التي تغطي أخي ما هي إلا دماء ابن سيد "الأباطحة" (يعرم) انتهت مشكلة أخي مع (يعرم) وعادت حياته طبيعية وفي تلك الفترة عادت حياتي أنا كذلك لطبيعتها مع أصدقائي وأهلي وزملائي في الدراسة وبعد سنة تقريبا من هذه الحادثة زارني قريني في المنام وقال لي:

"دينك اليوم يا أخي ينقضي.."

استيقظت وأنا أفكر في تلك الجملة لكني لم أستطع فهم معناها وفي اليوم التالي وبعد ذهابي للنوم ببضع ساعات استيقظت مفزوعا بصرخة كانت قريبة جداً من أذن وبعد ما استيقظت سمعت صوتا يشبه صوتي قادما من داخل غرفتي لكني لم أستطع أن أرى وجه المتكلم وكان الصوت يردد اسم مكان معروف في مدينتا.

بعد انقطاع الصوت قررت التوجه لتلك المنطقة وكانت الساعة قرابة الواحدة صباحا فركبت سيارتي وتوجهت للمنطقة وبدأت أتجول فيها وبين بيوتها ومحلاتها حتى رأيت شخصا يشير لي بيده لأقف. في السابق لم أكن لأقف لمثل هذا الشخص الغريب وفي مثل هذه الساعة في هذا المكان المجهول نسبيا بالنسبة لي لكن يبدو أن قلبي قد مات خلال السنوات الأربع الماضية.

توقفت وفتحت النافذة وسألت عن ما يريده الرجل مني فعاتبني لأني تأخرت وطلب مني الدخول لمنزله. نزلت من السيارة وأنا محتار بين الدخول والانصراف فقررت الدخول. دخلت إلى مكان ضيق أشبه بالمنزل الصغير وشممت رائحة تشبه الرائحة التي شممتها في بيت الرجل الذي مكثت عنده ثلاث سنوات. دخلت وسمعت صوتا ينادي ويقول: "من هنا".

توجهت باتجاه الصوت ووجدت شخصا جالسا على الأرض يشبه في لبسه وهيئته صاحبي الذي مكثت عنده في الجبل الأخضر وكان الشخص الذي فتح لي الباب يقف خلفه وفي يده كأس لم أستطع رؤية محتواه لأنه لم يكن شفافا. طلب مني الرجل الواقف الجلوس أمام الرجل الآخر وقال:

هل أنت جاهز؟

فقلت له: جاهز لماذا بالضبط؟

قال: للمرحلة الأخيرة من تنصيبك؟

قلت: تنصيب ماذا؟ عن ماذا تتحدث؟

فغضب الرجل الجالس وصرخ بي قائلا:

هل أتيت هنا لتسخر مني؟

فصرخت في وجهه وقلت:

هل أنت مجنون؟!

فوضع الرجل الذي كان واقفا الكأس على الأرض وأنهضني بسرعة وخرج بي للخارج وهو يقول:

ماذا بك؟ ما الذي تفعله؟

فصرخت فيه وقلت: ماذا بك أنت؟!

فرد بغضب واستغراب وقال:

تنهي جميع الشروط الصعبة وعندما تصل للمرحلة السهلة تقف؟!

لم أفهم منه شيئاً وقلت له:

أنا سوف أرحل يبدو أني أتيت للمكان الخطأ.

وقبل أن أخرج امسك الرجل بذراعي وقال:

لن يسمحوا لك بالهروب منهم بهذه السهولة أنت واحد منهم الآن ويجب أن تتم مراسم التنصيب.

تفلت منه وخرجت وركبت سيارتي وعدت للمنزل لأجد أخي في حالة من الخوف وهو يقول لي إن أمي صرخت فجأة ثم سقطت على الأرض وأخذوها للمستشفى. ذهبت مسرعا للمستشفى وأخبرني الطبيب أنها في غيبوبة وصارحني بأنه لا يعرف سبب الحالة. دخلت عليها مسرعا ورأيت عليها علامات لم يرها الطبيب وكنت قد قرأت عنها في أحد الكتب في تلك المكتبة اللعينة وكانت كلها تشير إلى أنها تعرضت لمس شيطاني مرسل وليس مختاراً أي إن هناك من أرسل لها شيطانا ليعبث بها فلم يخطر ببالي إلا ذاك الرجل المجنون ومساعده ركبت سيارتي متوجها لمنزله بنية الانتقام. توجهت للمنزل وكان الفجر قد اقترب طرقت الباب بقوة ففتح لي رجل لم أره من قبل وقلت له:

أين الذي يسكن هنا؟

فقال: أنا من يسكن هنا

فقلت له: أنت كاذب!

وتشاجرت معه واجتمع علينا الناس الذاهبون لصلاة الفجر وفرقوا بيننا فركبت سيارتي ورحلت. في طريقي للمنزل كنت أقود سيارتي بسرعة وفي لمح البصر ظهر قريني معي في السيارة وكان جالسا في المقعد المجاور للسائق وقال بصوت مرتفع:

"دينك اليوم ينقضي!"

ففزعت منه وفقدت التحكم بالمقود ووقع لي حادث شنيع نقلت على أثره إلى المستشفى. لم أعان من أي كسور أو جروح بالرغم من أن السيارة قد تحطمت تماما، دخل علي الطبيب وكانت الساعة قرابة السادسة صباحا وقال نجوت بأعجوبة وستخرج من هنا غدا بإذن الله. زارني أخي في المستشفى وأوصيته أن يشغل سورة البقرة بجانب أمي وأن ينام معها تلك الليلة ويمسح على جبينها من ماء زمزم.

رحل أخي ونمت قليلا حتى العصر وعندما استيقظت أحسست ببرودة شديدة فطلبت من الممرضة إطفاء التكييف لكن لم يتغير شيء طلبت منها غطاء إضافيا لكن لم يجد ذلك نفعا فحاولت النهوض من السرير لكني لم أستطع لأني أحسست بشيء ثقيل على صدري، شيء كاد يحطم أضلعي وأخذ الثقل يزداد تدريجيا حتى ثبتني تمام على السرير.

حاولت الصراخ لكن شيئاً ما كمم فمي عرفت وقتها أنه قريني الذي حررته وأنه عاد ليحصل ذلك الدين الذي يتحدث عنه. عندما خف الضغط عن فمي بعد خمس دقائق تقريبا استطعت تحريك لساني وقلت:

"ماذا تريد؟!"

 لم يرد علي أحد فكررت العبارة وكنت أرفع صوتي تفي كل مرة حتى عاد الضغط على فمي مرة أخرى وسمعت همسا بصوتي في أذني يقول:

"أريد أن أتواصل معك أريد أن تستجيب لهم أريد أن تراني"

لم أفهم كلامه وظل مطبقا على صدري وبدأ يضربني ضربا مبرحا حتى أغمي علي. استيقظت صباحا على صوت الطبيب وهو يقول لي:

"ماذا فعلت بنفسك؟!"

لم أعرف قصده حتى رأيت الضمادات تغطي صدري وذراعي ولفافة ملفوفة على رأسي. نهضت ببطء من الفراش والطبيب يحاول إمساكي وأنا أتفلت منه وفي النهاية نجحت بالخروج من المستشفى وخرت متوجها للمنزل. قابلت أخي وأخبرته أنني يجب أن أسافر فأمسكني وقال:

"لن تسافر مرة أخرى!"

فقلت له: يجب أن أسافر وإلا فلن أسامح نفسي لو أصاب أمي مكروه!

فقال: وما علاقة سفرك بها؟

قلت له: لا عليك فقط انتظروني.

توجهت للباب وأخي يتذمر مني ومن الذي سيحدث لأبي بسبب غيابي للمرة الثانية فلم أرد عليه إلا بسؤال واحد عندما أمسكت مقبض الباب في طريقي للخروج من المنزل وقلت له:

"هل نحن في موسم التين؟"

 

 

الـ 3 سنوات التي قضيتها محبوسا في المكتبة

الرجل الذي قضيت معه ثلاث سنوات من عمري رغما عني ودون اختياري كان اسمه (عماراً) كما حكى لي فيما بعد. منذ أول يوم قضيته معه كنت ثائراً وساخطاً على حالي خاصة عندما طال البحث عن (دجن) في كتبه. كنت حبيسا للمكان وكان هو يخرج من وقت لآخر لإحضار الطعام وكان بيته معزولا عن المدينة وسط تلال خضراء وكنت أشعر بالملل والقلق دائما على حال أهلي بعد رحيلي وغضبت منه كثيراً لأنه رفض التواصل معهم ومأنتهم علي وعلى حالي لكني تفهمت سبب خوفه فيما بعد.

الفترة التي قضيتها مع (عمار) لم تكن بسيطة وأثرت على شخصيتي وسلوكياتي كثيراً وفي مرحلة متأخرة أبعدتني عن ديني وخلقت مني إنسانا مختلفاً.

الدقيقة الأولى في بيت (عمار):

كانت تلك الدقيقة مليئة بالانبهار والاستغراب من شكله وشكل بيته الذي كان بسيطا ومكونا من دور واحد فقط وليس به غرف كثيرة وسقفه المغطى بالأخشاب بالرغم من أن المنزل كان من الطوب.

لم أتحدث في هذه الدقيقة لكني أدركت أني دخلت لعالم مختلف.. عالم يختلف كليا عن العالم الذي أتيت منه، ومنذ تلك الدقيقة ورغبة الخروج من منزله تراودني.

الساعة الأولى في بيت (عمار):

هي الساعة التي قدم فيها لي (عمار) مفتاح خلاصي وفي اللحظة نفسها رماه في بحر عميق وقال لي اذهب وابحث عنه وأنا لم أكن أجيد السباحة. قضيت ساعتي الأولى في بيته وأنا أقرأ على عجالة كي أدرك طائرتي قبل إقلاعها.. لم أكن أعرف وقتها أن الرحلة سوف تؤجل قليلا. عندما أعطاني (عمار) الخيار لأبدأ من أي كتاب لم أكفر في الاختيار بشكل محدد بل مددت يدي على أول كتاب رأيته وفتحته وبدأت القراءة فيه بلا هواده أو تركيز. كنت أبحث عن شيء لا أعرفه لذلك لم أجده. قلبت الصفحات وفي معظم الوقت لم أفهم شيئاً لأن تلك الكتب كانت تتحدث مع القارئ وكأنه يعرف المقصود من الكلام والرموز لذلك ذهبت لـ (عمار) بعد نصف ساعة من القراءة وقلت له:

لا أفهم شيئاً مما هو مكتب.. ولا أظني أستطيع الإكمال

قال: لن تفهم شيئاً في البداية لكن استمر وأعدك أنك ستفهم أغلقت الكتاب ووضعته على المنضدة التي كانت بجانب (عمار) وأخذت نفسا عميقا وقلت له:

لا أستطيع.

فقال: هل تنوي البقاء هنا للأبد؟

سكت وأنا أنظر في عينيه اللتين كانتا تحدقان بي بجدية قم قلت له: لا أستطيع.

نهض (عمار) من مكانه وبيده اليسرى حمل الكتاب وبيده اليمنى أمسك بكتفي وهزني وقال بنبرة صارمة:

لقد استطعت قراءة كتاب تحضير ذلك الشيطان وسوف تستطيع إيجاد الكتاب الذي يخلصك منه!

مددت يدي وأخذت الكتاب بشمالي وأنا أقول:

"ليتني لم أقرأ ذلك الكتاب.."

بعد ذلك نهضت من مكاني وعدت للمكتبة وأكملت قراءة الكتاب.. اليوم الأول مع (عمار):

بقيت أقرأ في المكتبة حتى غابت الشمس ولم أشعر بالوقت حتى دخل على (عمار) يعد غروبها تماما بمصباح في يده وقال: هل وجدت شيئاً؟

فقلت له: لا.. ولم أفهم شيئاً أيضاً.

فضحك وقال: توقف عن القراءة الآن وتعال لتأكل.

فقلت له: لا أستطيع يجب أن أجد ما أبحث عنه.

فقال لي: لا أريدك أن تقرأ وقت الغروب

فقلت له: ولماذا؟

فقال: لا تسألني الآن سوف أخبرك عن السبب يوما ما.

نهضت من مكاني وتوجهت لغرفة المعيشة لأجد (عمار) جالسا ومعه إناء واحد وفيه خليط غريب أشبه بالهريسة وقال لي:

تفضل تناول معي طعام العشاء.

لم أرغب في البداية يتناول ذلك الطعام فقد كان الأكل الذي أحضره (عمار) غريبا لا يشبه الأكل الذي تعودت عليه وعندما سألته عن نوع الطعام ومصدره قال لي:

"كل ولا تسأل"

ترددت في البداية لكن جوعي أرغمني على التذوق. لاحظت أن (عمار) لم يسم وكان يأكل بيده اليسرى لكني لم أعلق على ما لاحظته. بعد الانتهاء من الطعام سألني (عمار) وقال: كيف وجدت الطعام؟

فقلت له: لقد كان جيداً.

قلت ذلك من باب الذوق لكن الطعام كان بلا طعم تقريبا. ولم يكن به ملح أو أي مصدر للتذوق لكني لم أرد أن أكون فظا مع من فتح لي باب منزله.

عدت للقراءة بعد تناول الطعام مباشرة بالرغم من أن (عمار) حاول إقناعي بتأجيل ذلك للغد لكني لم أكن أريد أن أضيع الوقت فرحلتي في المطار كانت بعد يوم. دخلت المكتبة وكانت مظلمة فبحثت عن مصدر للكهرباء كي أشعل الإضاءة لكني لم أجد بالرغم من تذكري وجود إضاءة في غرفة المعيشة عندما كنا نتناول الطعام. عدت لغرفة المعيشة ووجدت (عمار) جالسا يكتب في إحدى مدوناته ورفعت نظري لأبحث عن مصدر النور في الغرفة فوجدته مصباحا يعمل على الزيت فتعجبت وسألت (عمار):

ألا تملك كهرباء في هذا المنزل؟

لم يرد (عمار) على سؤالي واستمر بالكتابة.

كررت السؤال عليه أكثر من مرة لكنه كان يكتب بتركيز وكأنه لا يعي شيئاً مما حوله. عدت للمكتبة وبدأت أبحث عن مصدر الضوء فيها وخلال بحثي دخل علي (عمار) وفي يده مصباح غير المعلق في غرفة المعيشة وقال:

خذ.. استخدم هذا المصباح.

فقلت له: ما الذي حدث قبل قليل.. لماذا لم ترد علي؟

تجاهل (عمار) سؤالي ودخل المكتبة وهو يحمل المصباح في يده ويقول:

تعال سأريك شيئاً.

لحقت به ونسيت أمر سؤالي. جلس (عمار) على الطاولة التي كانت تتوسط المكتبة ووضع المصباح في المنتصف ثم أحضر كتابين ووضعهما بجانب بعضهما بعضاً وقال: افتح الكتابين.

جلست بجانب (عمار) وفتحت الكتاب الأولى فوجدته شبيها بالكتب التي قرأها ذلك اليوم ثم فتحت الكتاب الثاني فوجدته مختلفا فقد كان مكتوبا بخط اليد فقلت له:

ما الذي تريد قولي لي؟

قال: هناك نوعان من الكتب.. الكتب المطبوعة وهي كتب جيدة لكنها ليست نادرة ويوجد منها عدة نسخ لكن الكتب المكتوبة بخط اليد لا يوجد منها إلا نسخة واحدة أو على أكثر تقدير نسختان في هذا العالم وأنا أملك منها خمسة.

فقلت له: ولماذا تخبرني ذلك؟

فقال: لا تقرأ الكتاب المكتوبة بخط اليد

فقلت: لماذا؟

فقال: لست مستعداً لها بعد.

فقلت: لكن ربما خلاصي موجود بين طياتها.

فقال: لا تقلق أنا أدري بمحتواها وهي لا تحتوي على شيء يفيدك لم أجادل (عمار) كثيراً لأني لم أكن حريصا على قراءة المزيد من كتبه بل في الواقع كنت سعيداً لأن الكتب التي يتوجب على قراءتها الآن قد نقصت خمسة كتب.

بعد ساعات من القراءة تحت ضوء المصباح دخل علي (عمار) قبل الفجر وقال:

يجب أن تنام الآن

فقل له: لا أستطيع.. يجب أن أجد ضالتي.

فقال: هذا ليس طلبا بل أمر.

فقلت: أنا متعب على أي حال.. أين سأنام؟

عاد (عمار) لغرفة المعيشة ثم عاد ومعه لحاف متين وأعطاني إياه وقال:

سوف تنام بالمكتبة على الأرض.

فقلت له: ألا تملك وسادة؟

فقال: لا تحتاج لها.

ثم خرج وأغلق على الباب.

الأسبوع الأول مع (عمار):

الأيام الأولى في منزل عمار كانت الأصعب فقد كنت مثل السجين الذي يريد أن يخرج من سجنه وينهي معاناته وكنت في حالة نفسية غير مستقرة. كنت شديد العصبية خاصة بعد فوات رحلتي التي كانت ستأخذني لبلادي. كنت أقرأ بسرعة وعل عجالة بين الكتب كي أصل لهدفي المجهول بأسرع وقت ممكن وتجاهلت نصائح (عمار) بالتروي والتدبر في الكلمات المكتوبة وعدم المرور عليها مرور الكرام لم أستمع لكلامه واستمررت أقرأ بطريقتي لكن دون جدوى. فلم أكن أفهم ما اقرأ ولم أكن أعرف عن ماذا أبحث فقد كنت في دوامة ناهيك عن بعض الكلام المقزز المكتوب في تلك الكتب من تمجيد للشياطين لقد كانت هذه الكتب أشبه بتلك الهريسة المقرفة التي تناولتها مع (عمار) في أول يوم والتي اتضح لي فيما بعد أنها طعامه اليومي ولا يأكل غيرها ولم يكن أمامي خيار غير أكلها معه.

لقد فرض على نظام حياة جديد ومختلف عن نظام حياتي. كان (عمار) يقفل الباب علي في المكتبة من المغرب وحتى شروق الشمس ولا يترك معي إلا المصباح وقليلا من الزيت يكفي لساعتين من القراءة ولم أكن أعرف السبب لفعله ذلك. قلت في نفسي وقتها "لعله لا يريد تحمل نفقات الزيت المكلفة".

واجهت (عمار) في اليوم الرابع تقريبا وسألته عن سبب إغلاقه باب المكتبة علي في المساء فقال:

ولماذا تريد الخروج؟

فقلت له: لا أريد الخروج لكني لا أريد الإحساس بأني سجين فيها.

فقال: أنت بالفعل سجين فيها وعندما تدرك ذلك سترتاح.

صرخت في وجهه وقلت: الموت أهون مما أنا فيه

فقال: الموت ينتظرك في الخارج وأنا لم أمنعك من معانقته.

سكت وأنزلت بصري إلى الأرض وعدت للمكتبة لإكمال القراءة.

الشهر الأول مع (عمار):

قد تكون هذه الفترة أصعب فترة قضيتها مع (عمار) فقد كنت فيها مستاء جداً وبدأت أمل من القراءة ومن الطعام ومن كل شيء. مرضت في هذه الفترة مرتين وكان (عمار) يسقيني شرابا غريبا خلال مرضي وبالرغم من أن مرضي في المرتين كان مختلفا إلا أنه كان يسقيني الشراب نفسه. لم أمانع طعمه المر لأنه كان تغيير لطيفا عن تلك الهريسة المقرفة. خلال ذلك الشهر بدأت التعرف أكثر على روتين (عمار) اليومي وبدأت أنتبه لغرابة نمط الحياة التي كان يعيشها فقد كان قليل الخروج من المنزل ويكتب أكثر مما يقرأ وكان يتمتم أحيانا بينه وبين نفسه بعض الكلمات التي لم أفهمها ناهيك عن التحدث مع نفسه أحيانا. ومع ذلك لم يكن (عمار) حريصا على إخفاء أسلوب حياته الغريب عني فقد كان يتعامل معي وكأني غير موجود أو معتاد على هذه الأمور. وبالفعل مع الوقت بدأت أتعود على ما أراه.

المنزل الذي كنت فيه مكون من غرفة للمعيشة وغرفة نوم صغيرة جدا كان (عمار) يأوي إليها في المساء بالإضافة للمكتبة التي احتلت أكبر مساحة من المنزل لم أكتشف عدم وجود دورة للمياه إلا بعد اليوم الأول عندما احتجها فقال لي (عمار):

أنا أقضي حاجتي في الخارج.

فقلت له: وما العمل.. أنا لا أستطيع الخروج من هنا.

فضحك (عمار) بقوة فقلت له:

هل هذا وقت الضحك؟

فقال: عذرا لكن حالتك الأن مضحكة!

فقلت له: أعطني الحل واضحك كما تشاء.

فخرج (عمار) للخارج وعاد ومعه دلو معدني وقال:

ستكون هذه دورة المياه الخاصة بك طيلة فترتك هنا.

لم أجادله ودخلت المكتبة وقضيت حاجتي ثم عدت وقلت له:

أحتاج للماء كي أغتسل.

فقال: الماء شحيح هنا والبئر الذي أحضر منه الماء ليس بالقريب.

فقلت له: أرجوك لا أستطيع البقاء دون الاغتسال.

فتعاطف معي أول مرة وأحضر لي الماء.

كانت تلك الفترة صعبة وشاقة فقد سلبت مني الكثير من وسائل الحياة التي كنت أعتبرها من المسلمات فقد كان الاستحمام مرة في الشهر وشيئاً فشيئاً أقنعت (عمار) بتوفير ماء الاستحمام لي مرة في الأسبوع لكن عندما حل الشتاء القارس كان الماء شبه متجمد لم أستحم لأكثر من شهرين.

لم أشرب غير الماء (وعمار) كان يحتسي مشروبا ساخنا من وقت لآخر وكنت أسأله:

هل هذا شاي أم قهوة؟

وكان يجيب: هل تريد بعضه؟

وكنت أقول: أريد أن أعرف محتواه أولا

وكان يرد وهو يأخذ رشفة أخرى: صدقني لا تريد أن تعرف في هذه الفترة كنا في الشتاء وعلى مشارف الربيع وكنت أستمتع بالطبيعة الخلابة التي استرقت النظر إليها من وقت لآخر من خلال نافذة غرفة المعيشة فالغرف الأخرى لم يكن بها نوافذ.

سألت (عمار) يوما عما إذا كان بمقدوري فتح النافذة لاستنشاق الهواء فقال:

لا بأس فالشيطان بالخارج لن يستطيع الدخول منها للمنزل لكن كن حريصا ألا تطل برأسك.. (قالها وهو يضحك).

فتحت النافذة واستنشقت بكل قوتي عبق الحرية الذي افتقدته، كانت رائحة زهور الربيع اليانعة زكية ونسيم الجبل بارداً وعليلا. أحسست بالسعادة لأول مرة منذ دخولي لهذا المنزل. لكن خلال استنشاقي لهذا العبير الزكي صدمت برائحة كريهة جداً أشبه بالبيض المتعفن المختلط برائحة الدخان فكتمت أنفاسي وأغلقت النافذة وسألني (عمار) وقال: ماذا بك؟!

فقلت: لقد شممت رائحة كريهة جداً كالجيفة المحترقة.. هل قمت بحرق شيء بالخارج؟

ضحك (عمار) وقال: الرائحة التي وصفتها هي رائحة شيطانك.. يبدو أنه اقترب من النافذة جداً على أمل أن تخرج.

سكت وأنا أنظر للخارج من خلال النافذة وأقول في نفسي:

"سأجدك بين تلك الكتب".

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا