الأبعاد المجهولة الجزء الأول 11 للكاتب عبدالوهاب السيد الرفاعي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-05-09

(خالد) أنت تعلم يا بني أنني أكن لك معزة خاصة جدا .. وأنني أحترمك كثيرا .. وحتى في الفترة التي عانيت فيها من اضطرابات نفسية كنت أقف معك قدر استطاعتي ..
أنا لم أنكر هذا لحظة يا أستاذ .. ولكن حمد لله .. لقد تخلصت من أوهامي تماما بعد الاستماع إلى نصائح الطبيب النفسي والانخراط في ممارسة الرياضة .. كما أنني أنوي السفر بعد بضعة أيام لتغيير روتين حياتي قليلا!! ..
أنتم تعلمون جيدا أنني كذبت في كل حرف من كلامي .. ولا أملك سوى أن أكذب مع الأسف .. ليته يعلم أنني لم أكن واهما .. ليته يعرف ما أعرف .. ليته يعرف أن حبيبتي (إيما) كانت واقعا ملموسا وليست خيالا على الإطلاق ..
قال الأستاذ (إبراهيم) بسعادة:
هذا رائع .. حمدا لله  .. لقد كنت واثقا من أنك ستتجاوز أزمتك النفسية ..
ثم سكت قليلا وقال بجدية ليغير مجرى الحديث ويدخل في صلب الموضوع:
(خالد) إنني أود مساعدتك قدر ما أستطيع .. وأنا أعتبر نفسي والدك .. لذا فإن مصلحتك تهمني كثيرا ..
قلت له بامتنان بالغ:
أشكرك كثيرا يا أستاذ (إبراهيم) .. وتأكد بأن شعوري متبادل نحوك .. 
أعرف هذا يا بني .. وإنني لفخور بك .. 

كم هو رائع أن يحترمنا هؤلاء الذين نحترمهم ونعتبرهم مثلا أعلى .. فهذا يمنحنا احتراما لأنفسنا وثقة بالنفس ..  
سكت قليلا ثم قال:
- (خالد) .. لن أطيل عليك وسأخبرك بسبب اتصالي المفاجيء .. إنني مدعو غدا لحفل عشاء في مزرعة الدكتور (علي) .. وهو صديق قديم لي وشخصية مرموقة في كلية الطب بنفس الوقت .. أريد اصطحابك معي إلى هذا الحفل .. أريدك أن تلتقي به .. وتوطد علاقتك معه .. أعرف أنك ستتفوق في دراستك بإذن الله دون الحاجة لأحد .. ولكن زيادة الحرص لا تضر .. قد يفيدك الدكتور (علي) في أمور كثيرة عندما تبدأ دراستك وحياتك الجديدة في كلية الطب.. هه ..  ماذا تقول؟.
قلت له ممتنا:
وهل لي أن أرفض لك طلبا يا سيدي .. إن لك أكثر من جميل علي .. وأقل ما يمكنني فعله هو الموافقة .. 
قال بصوته الأبوي:
رائع .. بارك الله فيك .. سأمر لاصطحابك غدا في الساعة الثامنة مساء .. 
تذكرت شيئا قبل أن أغلق السماعة:
عفوا أستاذ (إبراهيم) .. كيف عرفت رقم هاتفي ؟ .. وهل تعرف عنواني كي تصطحبني غدا إلى الحفل ؟ .. 
ضحك قائلا:
هل نسيت أنك أفضل الطلبة عندي على الإطلاق وأذكاهم ؟ .. ملفك موجود في المدرسة ومنه أخذت كل معلوماتك .. 
وأنهيت المكالمة وأنا أشعر بالامتنان الشديد له .. غير عالما بالطبع بما سيحدث في هذا الحفل الذي سأقضي فيه ساعات سوداء لن أنساها مدى الحياة.. 

في اليوم التالي كنت مستعدا .. مرتديا بذلة رسمية كحلية اللون .. لحسن الحظ كنت قد اشتريت واحدة قبل بضع شهور .. فأنا وبكل صراحة لا أحب ارتداء الزي الوطني (الدشداشة) على الإطلاق .. ليس لشيء سوى أنني أشعر أنه يعوق الحركة كثيرا عند ارتدائه .. دعك من أن المدير قد طلب مني ارتداء بذلة لأن الحفل على حد قوله رسمي جدا وسيكون جميع المدعوين تقريبا مرتدين بذلات رسمية ..
وقبل الساعة الثامنة بدقائق كانت سيارة المدير بانتظاري .. فاستأذنت جدتي بالذهاب وأخبرتها بأنني قد أتأخر قليلا .. نزلت من الشقة لأجد بانتظاري مفاجأة .. فقد كان الأستاذ (إبراهيم) بصحبة زوجته التي لم أكن أعلم أنها ذاهبة هي الأخرى إلى الحفل .. الأمر الذي جعلني أركب السيارة بارتباك وخجل واضحين .. وقام بتقديمي لزوجته السيدة (أوراد) التي رحبت بي بحرارة وكان واضحا أنه حدثها عني كثيرا ..
كانت امرأة في الخمسين من عمرها على أقل تقدير .. ملامحها تبعث إلى الإرتياح وتبدو عليها الطيبة الشديدة .. كانت نحيفة الجسد تبدو بصحة جيدة للغاية وترتدي حجابا أنيقا وفستانا ينم عن ذوق رائع –كما لاحظت لاحقا بعد أن نزلنا جميعا من السيارة- حتى أنني قلت في سري أنها جديرة بالفعل بزوج طيب محترم كالأستاذ (إبراهيم).. وأحسد أولادهما بالفعل على هذين الأبوين الرائعين وإن كنت أجهل إن كان الله قد رزقهما بأولاد أصلا أولاد أصلا.  
طوال الطريق كنت صامتا أجيب على أسئلتهما بأدب .. لقد أخبرني الأستاذ (إبراهيم) أن صديقه الدكتور (علي) هو من أقدم أصدقاؤه وأنه بالغ الثراء .. وقد اشترى للتو مزرعة هائلة في منطقة الوفرة الزراعية .. وأن زوجته فرنسية الجنسية تزوجها منذ فترة قصيرة بعد أن ظل أرملا أكثر من عشر سنوات .. ولم يرزقه الله أي أولاد من زوجته الأولى .. إن شيئا كهذا نادرا في (الكويت) .. فعلى الرغم من علاقاتي المحدودة جدا .. إلا أنني أكاد أن أجزم أنه من النادر أن تجد رجلا في سن الدكتور (علي) لم يرزقه الله أي أولاد .. تحدثنا بعدها عن أمور أخرى جانبية إلى أن أصبح الصمت سيد الموقف بعد أن مللنا الحديث ونحن متجهين إلى منطقة الوفرة الزراعية التي تبعد عن شقتي مسافة ساعة ونصف تقريبا حيث مزرعة الدكتور (علي) ..
صمت مطبق سوى صوت المذياع الذي يبث أغنية (وحياة قلبي وأفراحه) لـ(عبدالحليم حافظ) .. دائما أشعر أن أيام (عبدالحليم حافظ) كانت مليئة بالحب والمودة .. وأن الدنيا كانت –كما يقال -  بخير .. أشعر دائما بهذا الشعور حين أستمع إلى أغاني (أم كلثوم) و(عبدالحليم حافظ) و(عوض الدوخي) .. كان الناس في تلك الأيام السعيدة بسطاء طيبون كما يقول الجميع .. حتى أنني أحيانا أتمنى لو كنت قد عشت في ذلك الزمان .. في فترة الخمسينيات أو الستينيات .. 
غارقا في خواطري وأنا أتأمل الطريق .. الازدحام الشديد والفوضى في بعض الشوارع تجعلني أتحسر على حالنا بالفعل .. نحن قادرون على أن نجعل (الكويت) نظيفة جدا وأن نجعل الشوارع أنهارا تنساب فيها موجات المرور دون أي اختناق مروري .. ولكننا لا نريد .. لماذا ؟ .. أترك الجواب للمسؤولين.
أرى أيضا مجموعة من الأطفال الذي راحوا بغيظ وشراسة يقتلعون الشتلات الزراعية الوليدة .. لدينا الكثير من هؤلاء الأطفال الذين هم رجال المستقبل !!.. منهم من يصاب بنوبة صرع إذا وجد حائطا نظيفا لمدرسة أو محول كهربائي .. فتراه يستشيط غيضا ليذهب ويكتب ألفاظا نابية على الجدران .. يفعل هذا ويستريح لأنه أراح غريزة التدمير الموجودة في داخله .. وهل التدمير غريزة؟ .. بالطبع !! .. وإلا أخبروني .. لماذا يحرص إنسان بكامل قواه العقلية على أن يفعل ما يفعل ؟. 
ظللت غارقا في تلك الخواطر حتى وصلنا إلى مزرعة الدكتور (علي) ..
كانت المزرعة رائعة هائلة الحجم بالفعل تم الاعتناء بها بكل دقة .. فكانت أقرب إلى حديقة لإحدى القصور أو القلاع التي نشاهدها في صور الأوروبية الأثرية  .. حتى أننا دخلنا إلى المزرعة بالسيارة لمسافة تتجاوز المائتي متر تقريبا قبل أن نصل إلى المنزل الذي بناه الدكتور في وسط المزرعة .. وإنني أتساءل حقا .. كيف سيبدو منزل الدكتور (علي) ومحل إقامته الدائم إن كانت هذه مزرعته فحسب والتي تعتبر مكانا للراحة والاستجمام فقط ولـ(تغيير الجو) –كما نقول في الكويت-؟! .. 
نزلنا من السيارة ومشينا في ممر مرصوف يزدان على جانبيه بالزهور وحول الزهور حديقة خلابة معتنى بها جيدا هي الأخرى ..  
وعند وصولنا فتح لنا الباب شخصا شديد الأناقة .. بدا واضحا أنه هو الدكتور (علي) .. هيئته واعتداده الواضح بنفسه جعلني متأكد أنه هو الطبيب الثري صاحب المزرعة .. ولم أكن مخطئا .. فقد كان هو بالفعل .. نحيل الجسم كثيف الشعر يرتدي نظارات أعطته وسامة لا بأس بها وكان الشيب يملأ فوديه حتى بدا وكأنه طبيب يمثل دور البطولة في فيلما سينمائيا .. ولم يكن ينقصه سوى رداء الأطباء الأبيض الشهير .. 
قام بمصافحتنا بود واحدا تلو الآخر ليقوم بعدها بمعانقة الأستاذ (إبراهيم) مما دل فعلا على عمق صداقتهما ..
كان لا بد أن أدعوك إلى مزرعتي كي أراك .. لا أصدق أنني لم أر أفضل أصدقائي منذ سنتين .. يا لك من جاحد .. كيف تنسى صديق الطفولة ؟! .. 
يقولها بمرح وعتاب ..
ويرد عليه الأستاذ (إبراهيم) بمرح أيضا:
إنه مشاغل الدنيا التي تسرقنا من أصدقائنا وأحبابنا .. 
كانت هذه واحدة من اللحظات التي أكرهها كثيرا .. فعند رؤيتك لصديق قديم لم تكن قد رأيته منذ فترة .. لابد من الكثير من الصراخ والمرح والقسم وأن المحبة موجودة في القلب وإن كانا متباعدين جسديا .. وما إلى ذلك من هراء !!.
دخلنا بعدها إلى صالة المنزل الرئيسية لنجد أكثر من ثلاثون ضيفا وضيفة .. لم أقم بعدّهم طبعا .. لكنه الانطباع العام .. إذا بدا لي أن عددهم ثلاثون تقريبا .. 
كان أول ما لفت انتباهي في هذا المنزل الكبير هو النمط الأوروبي الذي بدا واضحا في كل ركن من أركانه .. فقد كان الأثاث من الطراز الأوروبي القديم شديد الفخامة .. وكان يعج بالتحف واللوحات الفنية الثمينة هائلة الحجم .. 
بل أن المنزل نفسه كان بحد ذاته تحفة فنية .. اللون الأزرق الهادئ الذي يمتزج مع ألوان أخرى .. لتعطي لونا واحدا ينساب بظلال هادئة جميلة .. ولا توجد أريكة أو كرسي أو قطعة أثاث ليست في مكانها الصحيح .. مع نباتات زينة رائعة لم أر معظمها من قبل .. كل شيء في منتهى الروعة والجمال .. وبالطبع فإن هذا الجو جديد تماما بالنسبة لي .. إذ لم أحضر حفلا من قبل .. وحتى لو كنت قد فعلت .. فلا أظن أنني كنت سأحضر حفلا في مكانا راقيا فخما كهذا ..  
وانتبهت إلى أنني أصغر الحاضرين سنا .. في حين تبين أن الباقين رجال أعمال وأطباء وبالطبع مدير مدرستنا الأستاذ (إبراهيم) وزوجته السيدة (أوراد). 
كان جميع المدعوين تقريبا من علية القوم - إن صح التعبير -  ولم يفتني بالطبع أن أنتبه لزوجة الدكتور (علي) الفرنسية .. فقد بدت وكأنها ابنته !! .. كانت صغيرة السن .. جميلة .. بل فاتنة بيضاء البشرة رشيقة القوام تحمل على رأسها شعرا أسودا  قصيرا .. وعرفت أن اسمها هو السيدة (موريسا) .. وكانت تتحدث اللغة الإنجليزية بشكل جيد .. وإن كانت لكنتها الفرنسية ونطق حرف الراء (غ) واضحة جدا في كلامها .. ولا أعلم في الواقع سبب زواجها من الدكتور (علي) الذي هو في عمر أبيها .. هل الأمر متعلق بثروته ؟ .. هذا جائز ولكنه ليس من شأني بالطبع.  
كان حفلا رائعا شبيها بحفلات رجال الأعمال التي نشاهدها في السينما ..  أكواب العصير تتوزع على الحضور من خادمتين ترتديان زيا موحدا .. والحديث غالبا ما يكون جانبيا بين مجموعات من الضيوف أو علنيا في أحيانا قليلة .. وكان جو الحفلة العام صاخبا نوعا ما .. الأمر الذي أشعرني بشيء من عدم الارتياح .. خاصة وأنني أعيش حياة هادئة راكدة بعيدة عن الصخب تماما .. دعك من أن الأستاذ (إبراهيم) مدير المدرسة قد انشغل عني بمصافحة هذا والحديث مع ذاك .. كان واضحا أن له صداقات وصلات عديدة مع معظم الحضور .. 
هكذا الحياة في (الكويت) .. مبنية تماما على العلاقات الشخصية .. فأنت تحاسب في أغلب الأوقات على من تعرف .. وليس على ما تعرف !! .
. وبما أنه ليست لي أي علاقات شخصية على الإطلاق سواء مع أشخاص مهمين أو غير مهمين داخل نطاق الحفل أو خارجه .. فقد اخترت الذهاب إلى المكان الوحيد الهادئ البعيد عن كل هذا الصخب .. الشرفة .. حيث المفر الوحيد لي من كل هذا الصخب وإن بدا هذا أمرا غير لائق ..
تسللت إلى هناك وأعطيت ظهري لكل هؤلاء الناس .. ورحت أرمق الظلام النقي المخيف على المزرعة الكبيرة .. وانتابتني رجفة حزينة في عروقي .. هذا الشعور المتفرد العتيد الذي زاد كثيرا منذ أن عرفت ومنذ أن أحببت (إيما) ومنذ أن عرفت أمورا كثيرة لا يعرفها أحد في هذا العالم .. هذا الشعور المتفرد الحزين حين تدير ظهرك للصخب .. وتقف وحدك في الظلام شاعرا بلذة الحزن .. لذة الشجن .. المزرعة هادئة صامتة تماما تنعكس عليها الأضواء الشاحبة التي تنبعث من المنزل .. كنت أسمع صوت المدعوين الذين أدير لهم ظهري وأسمع ضحكاتهم المتبادلة ..
وفي جو الحفلات والولائم تصبح كل دعابة بسيطة وكأنها نكتة عظيمة تدفع الجميع إلى الضحك والقهقهة ولا أعرف لذلك سببا في الواقع  .. لكنني انتبهت إلى أنهم قد صمتوا جميعا فجأة .. فاستدرت لأرى ما هنالك .. وإذا بالدكتور (علي) يقف في منتصف الدرج المؤدي إلى الدور الثاني وكأنه يريد أن يلقي خطابا ثوريا .. فدخلت إلى صالة المنزل الفخمة لأرى ما يدور هناك .. وإذا به يقول باعتداد وثقة هائلة بالنفس:
أتشرف فعلا بوجودكم هنا .. وإنها لفرصة نادرة أن أقوم بدعوة أقرب أصدقائي لمزرعتي الجديدة .. 
وهنا تعالى التصفيق .. وكأنني في البلاط النمساوي .. إن هذا الجو يختلف كثيرا عن أجواء الدعوات المعتادة في (الكويت) .. حيث ينتهي الأمر بصواني اللحم والدجاج على الأرض ليتجمع حول الواحدة منها خمس أو ستة أشخاص للإجهاز على ما فيها .. 
أما هنا فالأمر يختلف والجو رسمي لأقصى حد .. و.. وكأن المدير قد قرأ أفكاري .. فمال إلى أذني هامسا مبتسما: 
إن الدكتور (علي) قد أقام في أوروبا أكثر من ثلاث وعشرون عاما .. وهو منبهر كثيرا بكل ما هو غربي ..
فقمت بهز رأسي متفهما .. 
واستمر الحفل بصورته المعتادة .. أتأمل وأجوب المكان بعيني.. التماثيل الأثرية الرائعة التي تبدو لي إغريقية واللوحات الفنية بالغة القدم والفخامة .. كل هذا إلى جانب الإفراط في توزيع نباتات الظل ..  وهذا مريح للعين إلى حد لا يوصف .. لقد كنت أستمتع بروعة المكان وأنا منطويا ملتصقا بالمدير .. الأمر الذي أعطاني شعورا طفوليا محببا بأنني في حماية (بابا) .. وهو أمر لم أشعر به في حياتي .. بل أنني لم أستخدم كلمة (بابا) على الإطلاق .. أما كلمة (ماما) فقد قلتها لجدتي ولازلت أقولها .. 
كانوا يصخبون .. يمرحون .. يضحكون .. لكنني كنت أنظر إلى كل شيء بشرود وبنظرة خاوية .. عيناي ترحلان إلى عوالم أخرى غير مرئية .. سمعي وذهني كانا في أرض أخرى .. أرض نائية بلا بشر .. ورحت أدعو الله أن ينتهي هذا الحفل بأسرع وقت .. كي أنفرد بنفسي وأحلامي .. إن جو الحفلات هذا لا يناسبني إطلاقا .. 
تقولون أنني إنسان كئيب لا يستمتع أحد بمرافقتي ؟‍! .. أقول: معكم حق !!.
وأنا غارق في تلك الخواطر التفت لأرى لوحة قديمة جدا يطل من كل جزء منها العمق الحضاري لأوروبا وتاريخها العريق .. ولكنها  - وعلى الرغم من هذا - كانت لوحة مخيفة لا تخلو من البشاعة .. والغريب أنها كانت تحتل ركنا هاما من المنزل .. كيف لم ألحظها من البداية ؟ .. لا أعلم .. 

كان الدكتور (علي) يقف مزهوا وهو يشرح لنا ولع زوجته بالتحف الأثرية واللوحات الفنية القديمة .. لأنه –كما يقول- يحترم هواية زوجته ويحب ولعها بالآثار التي نطلق عليها اسم (الأنتيك) .. حتى أنه قد دفع ثروة طائلة للحصول على هذه التحف واللوحات الفنية .. ولكن أحد الحاضرين قاطعه ليسـأل السؤال الذي يجول بخاطري في هذه اللحظة بالذات:
معذرة لمقاطعتك يا دكتور (علي) ولكن هذه اللوحة غريبة للغاية .. وأرجو ألا تنزعج لو قلت لك بأنها تبدو مخيفة بعض الشيء .. نعم .. إنها تبدو  بالغة القدم .. ولكن .. ليست كل اللوحات الفنية الأثرية جميلة .. أليس كذلك ؟!. 
سمعت همهمة من البعض تؤيد كلام الضيف الذي سأل ذلك السؤال ..  
تأملت اللوحة مرة أخرى .. لا يمكن ألا ينتبه أحد لهذا الجو الكابوسي المريع الذي  يجعل روحك تقشعر بين الضلوع .. كانت اللوحة تحوي أشجارا سوداء وسماءها قرمزية حالكة .. لا أستبعد أن يكون الرسام مريض شيزوفرانيا موهوب .. حيث يرينا قطعة من ذاته المنذرة بالويل والأهوال .. وكان أكثر ما يثير الاشمئزاز في  اللوحة هو تلك المرأة .. امرأة سوداء الشعر ترتدي ثوبا أسودا طويلا تدير ظهرها لنا فلا نستطيع تبين وجهها ..
لوحة مرعبة بحق .. بل هي الهول ذاته .. كما أن الطابع العتيق الأثري لها الذي لا تخطئه العين الخبيرة ولا حتى العين غير الخبيرة قد أعطاها جوا كابوسيا رهيبا..
يا للبشاعة .. 
كذا صحت دون أن أشعر ..
فالتفت إلي الدكتور (علي) مبتسما بفخر لا أعرف سببه .. ليحمر وجهي خجلا ويبدو ارتباكي واضحا .. 
ثم التفت الدكتور إلى من سأله هذا السؤال ليقول:
قد تكون بشعة كما ذكرت .. لكنها ثمينة للغاية وبالغة القدم .. إذ يعود عمرها لأكثر من خمسمائة عام .. لقد اشتريتها من أوروبا ودفعت ما يقارب النصف مليون جنيه إسترليني ثمنا لها .. إنها لوحة (الغابة السوداء) .. ألم تسمع بها من قبل ؟ 
هز الضيف رأسه علامة النفي ..
لن أعرف أبدا لماذا يهوى الأثرياء جمع تلك الأشياء الغريبة .. فهناك من يشتري الأفاعي النادرة .. وهناك من يقتني التحف النادرة ويدفع الملايين للحصول عليها كما يفعل الدكتور (علي) .. لقد قرأت العجائب في أحد الكتب التي تتحدث عن الهوايات الغريبة التي يمارسها الأثرياء عادة .. أي فائدة ستعودها عليهم تلك الهوايات ؟! .. بالطبع لا شيء سوى قتل وقت الفراغ .. هذا الوباء الذي اجتاح مجتمعنا والذي يعتبر السبب الرئيسي وراء اتجاه الشباب الكويتي إلى المخدرات كما تدل الإحصائيات*.    
استطرد الدكتور (علي) قائلا بصوت مرتفع كي يسمعه الحضور:
إن وراء هذه اللوحة والتي تحمل اسم (الغابة السوداء) –كما ذكرت- قصة مشوقة للغاية.. 
ونظر إلى زوجته بخبث .. ليكمل قائلا:
هي التي سترويها لكم .. فهي التي طلبت مني شراء اللوحة .. وتعرف قصتها بكل تفاصيلها المهمة .. لذا فالأفضل أن تكون على لسانها هي .. 
التفت إليها الجميع باهتمام .. فابتسمت في ثقة .. وبشيء من الفخر بدأت تروي قصة اللوحة:
يعود عمر هذه اللوحة إلى عام 1504م .. حيث كانت هناك مقاطعة هادئة 
* حقيقة
في (فرنسا) يعيش فيها فلاحين بسطاء يحكمهم حاكم طيب متسامح يحبه الجميع .. وكانت توجد على الحدود الغربية للمقاطعة غابة كثيفة قيل أنه تعيش فيها ساحرة اسمها (ناتاشا).. لم ير أحد هذه الساحرة من قبل ولم يعرف الأهالي البسطاء مكان إقامتها في الغابة .. ولكن أسطورتها كانت متداولة بشكل واسع .. خاصة بعد أن اختفى في الغابة أربع من أطفال القرية .. حيث ظن الجميع أن هؤلاء الأطفال قد اختطفوا من قبل الساحرة لتحقيق مآربها المخيفة ..  ولم يجرؤ أحد من الأهالي البسطاء على الولوج إلى الغابة للبحث عن النسوة المختطفات .. وأصبحت الغابة بمثابة المنطقة المحرمة التي يخشى الأهالي وحتى الحاكم نفسه الولوج بين أشجارها الكثيفة المتشابكة.
صمتت السيدة (موريسا) قليلا لترى تأثير كلامها على وجوهنا .. كنا جميعا مشدودين تماما إلى القصة .. فابتسمت بفخر وأكملت قائلة:
- وبعد سنوات طويلة توفي حاكم المقاطعة .. ليحكمها ابنه الذي كان رجلا شجاعا باسلا وكاثوليكيا متدينا .. لذا فقد كان أول ما يريد فعله هو تحطيم أسطورة تلك الساحرة .. فالإنجيل واضح وصريح بشأن الساحرات .. إذ أن هناك جملة في الإصحاح (22) الآية (18) تقول (لا تدع ساحرة تعيش)* .. والساحر أو الساحرة كما تعلمون ملعونين في كل الأديان السماوية .. 
 ولم يكن إقناع الأهالي البسطاء باقتحام الغابة والبحث عن الساحرة بالأمر السهل .. فقد كانت أسطورتها مسيطرة تماما على عقول الأهالي على الرغم من أن أحدا منهم لم يرها في حياته .. وأمام خوف الأهالي ورهبتهم من الأمر برمته .. لم يجد الحاكم الجديد بدا من أن يقوم بتجميع عدد كبير من الرجال الأشداء من المقاطعات الأخرى ليقودهم هو بنفسه وبوازع ديني للولوج إلى الغابة والبحث عن تلك الساحرة وقتلها بأي ثمن .. وهذا ما حدث بالفعل !!.. ففي غضون أشهر قليلة كان الحاكم قد كون جيشا صغيرا قوامه أكثر من ستون رجلا للبحث عن الساحرة في الغابة والقبض عليها وإعدامها.. ولكن
* حقيقة 
البحث عن مكان إقامتها لم يكن بالأمر الهين .. خاصة في غابة هائلة الحجم كثيفة الأشجار .. فظلوا يبحثون فيها لفترة طويلة وصلت إلى أسبوعين تقريبا.. إلى أن جاء الفرج ووجدوا كوخ صغير متواضع مخفي وسط الأشجار العملاقة .. فاقتحموه .. وفتشوا كل ركنا فيه .. وكان واضحا لهم من خلال 


الأوراق التي وجدوها في الكوخ والتي حوت رموز غريبة لم يفهموا منها شيئا
أن هذا هو المكان المقصود .. لكنهم لم يجدوا أي أثر للساحرة .. كل ما وجدوه في الكوخ هو تلك الأوراق ذات الرموز الغريبة .. واللوحة التي ترونها أمامكم الآن.
لقد قيل أن الساحرة استطاعت بوسيلة ما أن تحول جسدها بواسطة السحر إلى صورة مرسومة وهي تلك الموجودة في اللوحة !! .. قد يبدو هذا سخيفا .. ولكن هذا ما كان يقال بالفعل حول تلك اللوحة بوجود المرأة التي تدير لنا ظهرها .. خاصة بعد اختفاء الساحرة تماما وعدم ظهور أي أثر لها .. 
ولسبب أجهله لم يتخلص أحد من اللوحة .. لتنتقل بعدها إلى الكثير من التجار  حتى استقرت في منزلنا بعد خمسمائة عام تقريبا من تاريخ العثور عليها .. إنها تحفة أثرية رائعة .. وإن كانت بشعة المنظر .. وقد أطلق على اللوحة اسم (الغابة السوداء) كما أخبركم زوجي العزيز. 
انتهت من حديثها الذي كان باللغة الإنجليزية بالطبع – فهي لا تجيد اللغة العربية - ولم ينته صمتنا وانبهارنا .. لوحة عمرها خمسمائة عام ؟.. هذا أمر يفوق الوصف فعلا .. ولكن أن تأتي هذه السيدة الفرنسية وتدفع نصف مليون جنيه إسترليني للحصول عليها ؟.. إن المجانين في هذا العالم لا حصر لهم .. لماذا لا تشتري إذا هيكلا عظميا لفيل الماموث .. قلتها لنفسي ساخرا .. راقت لي الدعابة .. فشرعت أضحك بخفوت .. في حين راح الحضور يسألون مزيدا من الأسئلة عن تاريخ هذه اللوحة التي أثارت اهتمام الجميع – بما فيهم أنا- إلى أقصى حد .. 
إن قصة اللوحة مثيرة بالفعل ومخيفة نوعا ما .. وأنا لا أسخر من شيء سوى المبلغ الهائل الذي تم دفعه لاقتنائها ..  
نسينا مع مرور الوقت كل ما يتعلق بهذه اللوحة الأثرية .. وشرع الجميع  يتحدثون بأمور كثيرة أخرى لم يكن لي أي دور فيها سوى الاستماع .. ولم يفت الأستاذ (إبراهيم) أن يخبر الدكتور (علي) عني وأنني سأكون طالبا جديدا في كلية الطب .. وأن عليه أن يرعاني وينتبه إلى ذكائي خاصة وأنني نابغة أحتاج إلى الاهتمام كي أصبح من أفضل الأطباء .. ليس هذا كلامي بل كلامه هو .. وأنا أشكره كثيرا في الواقع .. فشرع الدكتور (علي) بدوره يسألني أسئلة عديدة متعلقة بميولي وهواياتي ولماذا أريد أن أصبح طبيبا وما هو الفرع الذي سأجد نفسي فيه .. إلخ .. 
 
مر الوقت سريعا .. حتى أنني نظرت إلى ساعتي ووجدتها الحادية عشرة والنصف مساء .. وبدأ الزوار شيئا فشيئا بالانصراف واحدا تلو الآخر حتى تبقى ستة أشخاص فقط .. أصحاب المزرعة بالطبع وهم مضيفينا الدكتور (علي) وزوجته الفرنسية (موريسا) ..الأستاذ (إبراهيم) مدير مدرستنا وزوجته السيدة (أوراد) .. وشخصي المتواضع .. بالإضافة إلى رجل أعمال عرفت أن اسمه هو السيد (حامد) .. وهو بالمناسبة قصير القامة نسبيا .. يتمتع بصحة هائلة وذو بنية رياضية على الرغم من سنوات عمره التي تجاوزت الخمسين كما يبدو لي .. ذو شخصية كاسحة كما لاحظت في الحفل .. ويتحدث بصوت عال دائما .. يبدو لي أنه رجل عصامي بدأ حياته من الصفر وكوّن نفسه بنفسه .. وهو رجل أعزب  يرفض تماما فكرة الزواج .. لأن الزواج –كما يقول- هو مقبرة الإنسان .. علاقة متشابكة معقدة هي مزيجا من النكد وتحمل المسؤولية .. فعادة ما ترى المرأة أن الرجل كاذب كبير يتصنع الرقة .. في حين يراها هو سخيفة تافهة لا هدف لها في الحياة .. إن الرجل والمرأة - والكلام للسيد (حامد) أيضا-  لا يكشفان عن نفسيهما إلا بعد الزواج .. حيث تختفي كل مظاهر الحب والرقة التي كانا يعيشانها بداية زواجهما .. فلا نرى الرجل يفعل ما يفعلونه في السينما حين يضع البطل الجاكيت على كتف زوجته خوفا عليها من البرد .. بل هو في الواقع يتمنى لها أن تبرد وتموت من البرد ويستريح منها ويعود لحياة العزاب التي تبدو له أمنية يدفع من أجلها نصف عمره .. ولا نرى المرأة رقيقة حساسة كما كانت قبل الزواج .. بل تصبح مجرد كتلة من الشحم واللحم حتى تكاد لا تصدق أنها نفس الفتاة التي أحببتها وتزوجتها .. 
هذا هو رأي السيد (حامد) في الزواج .. لا أستطيع أن أقبل رأيه .. ولا حتى أرفضه .. 
هذه هي الخلطة البشرية الموجودة في تلك المزرعة الهائلة .. وما دمت أنا معهم .. فلك أن تتوقع مصيبة ما .. 
والواقع إن ما سيحدث ليس بمصيبة .. بل شيء آخر سيغير مجرى حياتي .. ذلك المجرى الذي أصبح يتغير أكثر من اللازم مؤخرا .. ولكن .. دعونا لا نستبق الأحداث.
جلسنا جميعا في صالة الاستقبال وباسترخاء أكثر .. خاصة بعد أن أصبح المكان هادئا برحيل الزوار .. مرت ساعة ونحن نتحدث بأمور عديدة عن حال البلد الذي يدعو كل مواطن إلى التشاؤوم والقلق .. فلا خطة واضحة نسير عليها .. وقوانيننا لا يلتزم بها أحد .. ومسؤولينا لا يحاسبهم أحد .. دعك من القضايا الاقتصادية والاجتماعية العديدة الأخرى التي تحتاج إلى إصلاح ما بعده إصلاح .. ولكن متى سيحدث هذا ؟ .. نعيش من أجل هذا الحلم .. من أجل القيام بثورة شبيهة بالتي قامت بها (اليابان) .. وهي الثورة الوحيدة من نوعها في تاريخ الإنسانية .. ثورة بلا دماء .. حيث نقل الشعب الياباني نفسه من القرون الوسطى إلى القرون الحديثة وتقدم على كل الشعوب التي تعلم منها مباديء الحساب .. متى سيأتي هذا اليوم ؟ .. وهل سيأتي أصلا ؟! .. العلم عند الله. 
مع مرور الوقت بدأت أشعر بالملل والنعاس ..  المشكلة أن الأستاذ (إبراهيم) يرى أنه من أعز وأفضلل أصدقاء الدكتور (علي) .. لذا فإنه يرى أن من حقه المكوث ليكون آخر الخارجين ولقضاء أطول وقت ممكن مع صديق العمر .. خاصة وأن مشاغل الدنيا تجعل من لقاءات كهذه فرص قليلة جدا بل ونادرة .. 
وأعتقد أن الأمر نفسه ينطبق على رجل الأعمال السيد (حامد) الذي بقي أيضا. 
كان كل شيء يوحي بأن السهرة اقتربت من نهايتها .. إلا أن السيدة (موريسا) قد  استأذنتنا للذهاب إلى المطبخ لجلب بعض أكواب العصير لأنها كما أخبرتنا قد صرفت جميع الخدم الذين أنهكهم التعب على أن يعودوا جميعا في الغد للتنظيف.. وبعد ذهابها إلى المطبخ بدقيقتين على الأكثر ..  حدث شيء لم يتوقعه أحد على الإطلاق .. لقد انقطع التيار الكهربائي ليحل علينا الظلام فجأة ثقيلا على صدورنا كالجاثوم .. فشهقت السيدة (أوراد) فزعا .. لينهض مضيفنا الدكتور (علي) من مكانه وهو يضحك بطريقة توحي بأن كل شيء تحت سيطرته .. فنادى زوجته بصوت مرتفع كي تسمعه وهي في المطبخ:
(موريسا) .. أرجو أن تجلبي لنا بعض الشموع .. 
سمعناها ترد بصوت متوتر وقد بدا واضحا أنها تخشى الظلام:
هذا ما أفعله ..
ثم قال لنا الدكتور (علي) بمرح مصطنع محاولا تلطيف الجو: 
لحسن الحظ أن هذا قد حدث بعد أن رحلوا جميعا .. أما أنتم فلستم أغرابا ولن أشعر بالخجل أمامكم ..  
همهموا بكلمات شكر ..  
لم تكن هناك أي أضواء قادمة من أي مكان خارج الفيلا .. فهي تقع وسط مزرعة كبيرة .. وتبعد عنا أقرب مزرعة مسافة بعيدة نسبيا .. لذا فقد كان الظلام دامسا .. والحقيقة أنني كنت أشعر بتوتر بعض الشيء .. فأنا – وعلى الرغم وجود الصحبة الآدمية- أخشى الظلام .. أخشاه بشدة منذ قصتي
 
الكابوسية إياها مع تحضير الأرواح* ..  وكان الظلام دامسا بالفعل .. 
هل نذهب للتأكد من صندوق الكهرباء ؟ 
قالها الأستاذ (إبراهيم) مستفسرا ..
رد عليه الدكتور (علي) بحرج:
لا عليك .. إن أشياء كهذه تحدث .. سأذهب أنا على كل حال .. سأستخدم قداحتي .. لقد نسيت أن أشعلها حتى أبدد بعضا من هذا الظلام ..
وبالفعل أشعل قداحته ونهض بعدها ليطمئن على صندوق الكهرباء في الطابق العلوي .. لم يغب أكثر من خمس دقائق على الأكثر .. قبل أن نسمع صراخا رهيبا .. 
أنقذووووووني .. آآآآآآآآه 
كان هذا صراخ الدكتور (علي) قادما من الطابق العلوي ‍‍‍‍!! .. تجمدت الدماء بعروقنا .. وسمعنا بعدها بثوان صوت زوجته تنادي من المطبخ بهلع:
ما الذي يجري هنا ؟! .. أرجوكم تعالوا إلي .. لا تتركوني وحدي .. 
كان واضحا أن صراخ الدكتور (علي) والظلام الشديد قد جمدا الدماء في عروقها حتى أصبحت لا تجرؤ على أن تأتي بنفسها وتريد من يأتي إليها ليصطحبها إلى صالة الاستقبال ..
صعقنا لثوان مما يحدث حتى أننا تجمدنا بدورنا في مكاننا ونحن نشعر بارتباك شديد عاجزين عن اتخاذ أي رد فعل سريع .. ولكن الأستاذ (إبراهيم) كان أول من تدارك الوضع وتحرك .. فقد هب من مكانه مسرعا معتمدا على صوت السيدة (موريسا) حتى يعرف مكان المطبخ ليذهب ويأتي بها إلى صالة الاستقبال .. وكان في نفس الوقت ينادي الدكتور (علي) أيضا كي يعرف مكانه وسبب صراخه .. ولكن هذا الأخير لم يرد على الإطلاق .. وبالطبع فإن هذا قد سبب له ارتباكا وخوفا شديدين على صديقه وعلى ما يجري .. فاصطدم بقطع 
   * راجع: قصة:قشعريرة !!

من الأثاث في طريقه إلى مكاننا .. حتى أنني سمعته يطلق سبابا لم أسمعه منه من قبل ناسيا كل قواعد اللياقة .. وبعد لحظات بدت لنا دهرا .. سمعنا صوتهما قادمين والسيدة (موريسا) تسألنا بفزع وبصوت باك:
ما الذي حدث لزوجي ؟.. لماذا كان يصرخ ؟ .. فلنذهب إليه .. ماذا ننتظر؟ ..
رد عليها السيد (حامد) بتوتر:
لا نعرف أين نبحث عنه في الطابق العلوي .. فالمنزل كما هو واضح كبير ومليء بالغرف .. والظلام دامس .. 
صاح الأستاذ (أبراهيم) بشيء من الحدة:
- لن يكون الظلام مشكلة .. ستعتاده أعيننا سريعا .. لنذهب أنا وأنت للبحث عن الدكتور (علي) يا سيد (حامد) .. 
وبالفعل ترك الأستاذ (إبراهيم) السيدة (موريسا) مع زوجته ونهض مع السيد (حامد) للبحث عن الدكتور مستعينين بجهاز إشعال البوتاجاز الذي لم تنتبه إليه السيدة (موريسا) إلا بعد أن سألناها عنه .. وهذا ليس غباء منها بالطبع .. فكل إنسان معرض لأن ينسى في ظروف كهذه .. خاصة حين يسمع أقرب أقربائه وهو 
يصرخ بهذه الصورة التي أفزعت الجميع  ..
غاب الأستاذ (إبراهيم) والسيد (حامد) بعض الوقت ونحن غارقون في ظلام اعتادته أعيننا نوعا ما .. ليعودا بعد دقائق بدت لنا دهرا .. والتوتر والوجوم باديا على وجهيهما رغم نور مشعل البوتاجاز الخافت ..  وهما ينزلان من درج الدور الثاني .. كنت أظن أنهما سيقولان بأن الدكتور (علي) قد مات بسبب مس كهربائي أو ما شابه .. 
ولكن السيد (حامد) فجر قنبلة لم نتوقعها إطلاقا عندما قال بحنق:
لم نجده على الإطلاق .. لقد اختفى .. 
صاحت السيدة (موريسا) بهلع حقيقي:
كيف ؟ كيف اختفى .. وإلى أين ذهب ؟ .. لا يمكن أن يذهب لأي مكان بعد صراخه هذا .. إن شيئا غريبا يحدث هنا ..
ثم قالت بقلق وكأنها تذكرت شيئا:
   - ولماذا كان يصرخ أصلا ؟ ..  من يصاب بمس كهربائي يصرخ بطريقة تختلف تماما عن صراخ زوجي الذي طلب منا أن ننقذه .. ولو سلمنا بأن مسا كهربائيا قد أصابه لرأيتماه مستلقيا على الأرض بلا نفس .. أما أن يختفي هكذا فهذا أمر أمريب غير مفهوم ..  
والواقع أن كلامها صحيحا تماما .. كذا قلت في سري .. كيف يختفي الدكتور (علي) بعد سماعنا لصراخه ؟ .. ولماذا ؟ .. وأين ذهب ؟ .. هل هو حي ؟ .. هل هو مصاب ؟ .. لا أدري .. اللعنة .. إنه أمر محير فعلا ..   
 ظللنا في هذا الوضع بعض الوقت مصدومين مشدوهين في حالة رعب .. وكان التوتر يسيطر علينا تماما .. حتى السيدة (موريسا) دفنت وجهها في راحة كفيها وهي تهتز بقوة من شدة الانفعال والقلق على زوجها .. في حين رأيت السيدة (أوراد) ملتصقة تماما بزوجها وكأنها تستمد منه الأمان وعلامات القلق بادية على كل خلجة من وجهها .. أما السيد (حامد) فقد كانت ساقه اليسرى تهتز بقوة من شدة القلق وقد تلاشى كبرياؤه وشخصيته التي كنت أظنها كاسحة .. أما الأستاذ (إبراهيم) فكان أكثرنا تماسكا .. إذ رأيته جالسا يفكر بعمق محاولا فهم ما يجري  وهو ما كنت أفكر به بالضبط .. لقد كنت أشعر بأننا ضائعون تماما .. فكل شيء مبهم غير مفهوم ..
ظللنا على هذا الحال ما يقارب الخمس دقائق حين سمعنا أصواتا هائلة مفاجئة جعلتنا نثب كالقرود من على مقاعدنا .. حرك الأستاذ (إبراهيم) المشعل الصغير بيده لنرى ما يحدث حولنا .. وهنا رأينا شيئا مهولا لم أكن لأصدقه لولا أن شاهدته بنفسي !! .. 
صحت بالجميع بهلع:
أنظروا !! .. قضبانا حديدية قد أقفلت على الأبواب والنوافذ !! .. 
 لم يكن هناك داع لإخبارهم بهذه الملاحظة الغبية .. فقد شاهدوا جميعا ما حدث .. ولكنه التوتر والانفعال الزائد الذي يجعل من يرى حادث سيارة أن يصرخ ويقول ببلاهة: انظروا .. حادث سيارة !!.
كان ما حدث يفوق الاحتمال حتى أننا وقفنا مشدوهين وقد التصقنا –لا شعوريا- ببعضنا البعض من شدة الرعب ونحن نرمق ما يحدث بذهول ما بعده ذهول ..  
هنا صاح السيد (حامد) بعصبية شديدة وهو يهرع مسرعا ناحية الهاتف:
سأطلب الشرطة .. إن الأمر يفوق الاحتمال 
ولكن – بالطبع – تبين أن خط الهاتف مقطوع .. أما بالنسبة  للهواتف المحمولة فقد كانت جميعها خارج منطقة التغطية .. حتى أن السيدة (أوراد) قالت بحيرة شديدة:
إن هذا مستحيل .. من المفترض أن تعمل الهواتف النقالة .. إن منطقة (الوفرة) ليست خارج نطاق التغطية .. 
فعاد السيد (حامد) وجلس على مقعده كاتما غيظه أو -ربما- خوفه .. ولا أعلم إن كان غاضبا أم خائفا ..  
كنا في أسوأ حال ممكن .. وكانت الخواطر والأفكار تصطرع في ذهني بسبب ما يحدث .. أشعر بأننا نبحر في ليلة مظلمة دون أي وسيلة للإنارة .. فلا نرى أمامنا وقد نصطدم بأي شيء في اي لحظة ونغرق .. تخيل أن يكون شعورك كهذا .. دعك من أننا منقطعين تماما عن العالم الخارجي .. فحتى لو صرخنا لما سمعنا أحد في هذه البقعة المنعزلة ..
وجدت نفسي بعد هذه الخواطر السوداء أسأل نفسي بعصبية وبصوت مسموع من دون قصد:
- ما الذي يجري هنا بالضبط !! .. إننا تائهون تماما .. 
قال السيد (حامد) وكأنه قد تذكر شيئا:
مهلا .. سيفتقدنا ذوينا وسيتصل أحدهم بالشرطة لا ريب ..  
قلت له وأنا أحاول أن أستجمع أفكاري وأسيطر على أعصابي:
لا أعتقد أن من قام بحجزنا هنا سينتظر ذلك .. 
صاح السيد (حامد) بعصبية وقد زال تماما قناع الحضارة الذي كان يرتديه أثناء الحفل:
وما أدارك أن أحدهم يحتجزنا هنا ؟!
قلت له ببساطة أغاظته:
هذا هو التفسير الوحيد لوجود هذه القضبان الحديدية التي هبطت فجأة قبل قليل .. وأراهن بأن التيار الكهربائي قد قطع بفعل فاعل.
صمتوا جميعا .. 
إن كلامي منطقي تماما ولا يحتاج لذكاء .. ولكن الأستاذ (إبراهيم) صاح فجأة وكأنه قد تذكر شيئا هاما: 
لقد نسينا أمر الدكتور (علي) تماما .. يجب أن نبحث عنه مرة أخرى .. قد يكون في خطر .. لقد كان صراخه مخيفا .. وكأن أحدهم كان يحاول قـ... أ .. أعني .. يجب أن نبحث عنه مرة أخرى .. 
لم يشأ أن يقول أن الدكتور (علي) كان يصرخ وكأن أحدهم يحاول قتله ..  فقد تذكر أن زوجة الدكتور تجلس معنا .. 
ثم أكمل حديثه بحذر:
 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا