لأن الضغوط وصلت ذروتها الآن بالذات .. أنت هادئ متحفظ خجول ميال للوحدة .. وعقلك الباطن لا يحب هذا .. لهذا تحرر جزء من عقلك .. هذا الجزء نشط متوثب إيجابي .. يفعل كل ما لا تجرؤ على عمله .. أرجوك اختلط بالناس قليلا .. إن البقاء وحيدا مع فكرة كهذه لهو الطريق المفروش بالورد إلى الجنون.
ساعة ونصف مرت على المقابلة .. سجل فيها الدكتور ملاحظاته .. وطلب مني زيارته في وقت لاحق كي يقوم بعمل بدراسة حالتي بتأني عله يكتشف شيئا آخر متعلق بحالتي النفسية .. فكل كلامه الذي قاله هو مجرد نظرة أولية تحتاج إلى تأكيد ..
نهضت من على الأريكة وودعته على أن أزوره غدا ..
الأفكار تتضارب في عقلي .. لم لا يكون كلامه كله صحيحا ؟ .. لم لا تكون حياتي كلها وهما ؟ .. هل أنا هو أنا حقا ؟ ما الذي يثبت هذا ؟ .. الواقع أنني أنا نفسي لم أعد واثقا من شئ .. كل ما رأيت كان ملموسا وماديا إلى حد مرعب .. لكني لم أهلوس من قبل .. لربما كانت كل الهلاوس مقنعة هكذا.
عدت إلى الشقة وإلى غرفتي .. طيلة الليل ظللت أذرع الغرفة كالأسد الحبيس .. أدخن سيجارة وهمية هي قلمي .. وأحدث أشخاصا لا وجود لهم .. كانت الأفكار تتصارع في رأسي .. حتى أنها ليسحق بعضها البعض .. وهنا سالت العبرات مرة أخرى من عيني .. البكاء صمام الأمان كي لا ينفجر الإنسان .. أنا عاجز عن عمل أي شيء .. وأملك خيارين فقط .. أفضلهما مر .. إما الاستسلام بأنني واهم أو بعبارة أقل رقيا: جننت أخيرا .. أو أموت غيظا وأضرب رأسي بالحائط.
طوال أسبوعين أصبحت حالتي النفسية تحت الصفر .. فقد نمت ذقني المشعثة .. شعري مبعثر .. فبدوت كالمجانين .. أنتم تعرفون أن الصحة والنظافة مرادفان للسعادة .. والاكتئاب يجعل المرء شاحبا قليل الاستحمام .. صرت أتجنب الجميع في المدرسة .. حتى المدير الذي لم ينس أن يسألني عن لقائي مع صديقه الطبيب .. وقد أخبرته بأن كل شيء على ما يرام .. وأنني في طريقي إلى العلاج ..
أنظر إلى نفسي في المرآة .. ما أقبحني ! بالفعل لا أجد سببا يجعل فتاة كـ(إيما) –إن وجدت أصلا- تهيم بي .. لا بد أنني ظريف أو رائع إلى حد مذهل .. بحيث تغطي جاذبية روحي على وجهي المريع ..
سهر .. توتر .. قلق .. غضب .. حزن .. ماذا يبقى من جهازك العصبي بعد هذا .. أرى وجهي في المرآة الذي أصبح وكأنه وجه خريج سجون و(ولد شوارع) كما نقول في (الكويت) عن الشباب عديمي التربية .. رباه .. كانت أياما قاسية بحق .. ذهبت إلى الطبيب النفسي ثلاث مرات بعد المرة الأولى إياها .. ووعدته بأنني سأحاول نسيان الأمر وإقناع نفسي بأنني واهم .. ولا أدري حقا إن كنت أستطيع إقناع نفسي بأمر كهذا.
وبالطبع لاحظت جدتي كل التغيرات التي طرأت علي .. حتى أنها لم تستطع السكوت أكثر من ذلك .. فعادة لا تسألني عما يضايقني حتى لا تمارس أي ضغوطا علي وتنتظر مني أن أشكو إليها .. ولكن في هذه المرة الأمر فاق صبرها .. فجاءت ذات ليلة إلى غرفتي .. وجلست بجواري على طرف الفراش .. لتحيطني بذراعها ..
(خالد) .. لا أستطيع أن أراك بهذه الحالة وأسكت أكثر من ذلك .. إنك تقلقني كثيرا يا بني .. لقد تغير حالك .. لم تعد تأكل جيدا .. أنظر إلى وجهك في المرآة .. لم تعد (خالد) ولدي الذي أعرفه .. هل هو الحسد ؟ .. لا شك أنه كذلك .. الجميع يحسدك على تفوقك .. وشرعت تقرأ آيايت قرآنية وتبسمل وتحوقل كي تبعد عني الحسد والكآبة التي أمر بها ..
لم أرد على كلامها .. فأكملت قائلة وهي تكاد أن تبكي:
بني .. ليس لي في هذه الدنيا سواك .. بذلت كل ما أستطيع كي أربيك على أفضل القيم .. ويكون لك مستقبلا باهرا .. فأرجوك يا ولدي لا تحطم كل ما بنيته من أجلك .. وأرجوك تذكر جيدا أحلامك وأمانيك للمستقبل ..
التفت إليها بهدوء .. وقبلت جبينها ويدها .. وأخبرتها بأنني متعب قليلا .. لكني سأكون على ما يرام .. نظرت إلي بقلق .. ثم نهضت لتقبل جبيني وتحتضنني بقوة .. لتخرج بعدها من الغرفة ..
يا لجدتي الحبيبة .. أرجوك سامحيني .. لكنني مشوش الذهن .. وأشعر أنني ضائع .. آه .. لو علمت ما جرى لي ..
جلست في غرفتي حزينا مهموما .. أفكر .. أتعذب .. أتساءل إن كنت فعلا واهما .. أم مجنون .. لكن كيف يكون الجنون أليما قاسيا هكذا ؟ .. كنت أظن أنه الراحة ذاتها .. حمقى من قالوا أن المجانين في نعيم .. المجانين في جحيم لو كنت مجنونا .. غرقت في هذه الخواطر حتى جاء وقت النوم .. وسرعان ما غبت عن الكون من شدة الإرهاق والتوتر ..
ولم أكن أعلم أن هذه الليلة هي الليلة الموعودة !!.
حلم .. حلم من تلك الأحلام الغريبة .. أركض في الأدغال وشيئا مجهولا لا أدري ما هيته يطاردني .. ثم أجد نفسي بعدها أعيش فيلما سينمائيا وأتحدث مع أحد نجوم هوليوود في حديقة غناء.. بالطبع حلم غير مترابط ولا يخضع لمنطق .. ولكن ظهر فجأة ضوء ساطع قوي جدا .. حتى أنني استيقظت من شدة هذا الضوء الذي ظننته جزءا من حلمي .. ولكن !! .. انتهى الحلم وبقي الضوء الذي يبهر العين والذي استمر لبضع ثوان !! ..ثم .. صوت هامس ينادي بخفوت:
(خالد) .. (خالد) ..
هل أنا واهم أم أنه صوتها بالفعل ؟! .. تداركت نفسي بعد ثوان قليلة والتفت إلى مصدر الصوت فرأيت مشهدا لن أنساه مدى الحياة .. مشهد من المفترض أن يخلد في كتب التاريخ أصابني بذهول ما بعده ذهول.. حبيبتي (إيما) !! .. (إيما) إنها هي !! .. كانت تقف أمامي بصورة هي أبدع ما خلق الخالق عز وجل .. جمالها يفوق كل وصف وتصور .. لم أشعر بالخوف .. بل شعرت بنشوة هائلة وأنا أراها.. وكأنني تحت تأثير مخدر .. كنت مفتونا مسحورا بكل هذه الفتنة .. كانت ترتدي ثيابا غريبة بيضاء لامعة تزيدها بهاء وإبهارا .. وبكل الرهبة والانبهار .. تطلعت إليها بصمت للحظات وهي تبتسم ابتسامة حزينة ..
وفي انبهار ونشوة وجدت نفسي أسألها همسا – وقد عرفت الآن أن اللغز الذي أنا بصدده سيتضح .. وسأعرف سر عذابي طيلة الشهرين الماضين - :
من .. من أنت ؟!
أتاني صوتها رومانسيا عذبا رقيقا كعهدي به وهي تقول:
أتيت من كوكبي يا (خالد) .. أتيت من كوكبي يا حبيبي .. من أجلك ..
رددت مصعوقا مصدوما:
من كوكبك ؟! .. أتعنين أنك ؟!
نعم .. نحن من مخلوقات الله عز وجل ومن كوكب يبعد عن كوكبكم ما يقرب من ألفي سنة ضوئية ..
خرجت الكلمات من فمي بصعوبة من هول المفاجأة وقلت بصوت متحشرج:
لـ .. لا أصدق ما أرى ..
ثم ازدردت لعابي وقلت وأنا أرتجف بشدة:
ولماذا ؟! .. ولماذا هنا في (الكويت) ؟! .. ولماذا تزورين كوكبنا ..
قالت ببراءة عذبة:
إنه عملي .. فأنا مستكشفة أرتاد الفضاء لاستكشاف الكواكب المأهولة .. ودراسة حضارة كل كوكب أنتقل إليه أنا ..
ولماذا في (الكويت) بالذات ؟!
قالت برقتها التي تذيبني:
ومن قال هذا ؟! .. هناك مجموعة كبيرة منا في كوكبك .. يفوق عددنا المائتي شخص تقريبا .. وموزعين في كل أنحاء العالم ..
لا أصدق .. حقا لا أصدق .. كان النوم قد طار من عيني تماما .. وأنا مذهولا مصعوقا ..
مخلوقا فضائيا من كوكب آخر في غرفتي ؟! .. إنه شيء لا يصدق وقد يحلم به عشرات الملايين من الناس وآلاف العلماء .. وهأنذا بكل بساطة أستقبل أحد تلك المخلوقات في غرفتي ..
عدت أسألها وجسدي ينتفض بشدة وكانني مرتديا ثياب السباحة في وسط ثلوج سيبيريا:
و.. ولكن .. ولكن .. هناك أمور كثيرة غريبة في أمرك .. كيف .. كيف حدث ما حدث ؟! .. كيف نسي الجميع أمرك وتذكرتك أنا فقط ؟! .. كيف حلمت بك أول مرة قبل رؤيتي لك ؟؟ .. كيف تسافرين إلى كوكبك وتعودين إلينا بهذه البساطة رغم فارق المسافة الهائل بيننا ؟! .. وكيف تتحدثين لغتنا ؟! و ..
قاطعتني ببساطتها المحببة بعد أن لاحظت أنني ألهث وأنا أتحدث إليها من هول المفاجأة وقد بلغ مني الانفعال مبلغه:
حبيبي .. سأخبرك بكل شيء ..
تقدمت إلي وجلست بجانبي في الفراش وأمسكت بيدي بقوة محاولة منحي شعورا بالاطمئنان .. ثم نظرت إلي بحنان جارف وقالت:
(خالد) .. إننا نسيطر تماما على عقولنا .. فنحن نفوق حضارتكم بعشرة آلاف عام تقريبا .. وقدراتنا العقلية متقدمة جدا بالنسبة إليكم .. فنحن نستطيع قراءة أفكاركم أما أنتم فلازلتم تعيشون في بدايات هذا العلم وتطلقون عليه اسم: (تيليباثي)* .. كما نستطيع أن نخترق عقولكم وحثكم على نسيان أمورا كثيرة مهما كانت بديهية بالنسبة لكم .. وذلك بواسطة طرق متطورة جدا لم تتوصلوا إليها من التنويم المغناطيسي الذي لا زال علما رضيعا لديكم في حين يجيده كل سكان كوكبي بإتقان .. إنكم في بدايات الطريق فحسب وستحتاجون لألفي عام على الأقل لتصلوا إلى ما وصلنا إليه من علوم .. إن ما نفعله هو - باختصار- ليس سوى سيطرة الروح والعقل على الجسد .. وهذا ما يجعلنا نتحكم تماما في عقولنا.
وهو ما يفعله فقراء الهنود عندكم كما أخبرتك .. وما يفعله ممارسي اليوجا وغيرها.. وحتى عندما كنت في غرفتك أدعوك إلى التأمل .. كنت أنا من يسيطر على عقلك لأعطيك هذا الشعور الرائع بأنك تحلق في الكون ..
ثم سألتني بحنان ممزوجا بالخجل:
ألست غاضبا مني لأنني خدعتك ؟ ..
ابتسمت في حزن وقد احتشد الدمع في عيني:
كيف لي أن أغضب منك؟
ثم صمتت قليلا .. واستطردت:
لقد أمسكت بميكروفون الإذاعة في المدرسة يوم تكريم الطلبة المتفوقين ووقفت في ساحة العلم حتى ألفت انتباه الجميع .. عندها مارست مرحلة متطورة جدا لم تصلوا إليها بعد من التنويم المغناطيسي .. ولهذا استطعت أن أجعل الجميع ينسون كل ما يتعلق بي .. وقمت بعدها بمسح كل ما يتعلق بأوراقي وملفاتي من أجهزة الكمبيتور .. ولم أنس بالطبع شطب اسمي من
* تيليباثي (Telepathy): مصطلح كان وما زال يثير الكثير من الجدل، والكلمة تعني تبادل الخواطر أو انتقال الأفكار من شخص لآخر دون استخدام أي وسائل مادية، أي أنها ببساطة القدرة قراءة أفكار الناس، وهي قدرة يدعي البعض امتلاكها بالفعل وإن لم يثبت ذلك بشكل قاطع حتى الآن، وهناك دراسات عديدة جدا حول تلك الظاهرة وتجارب علمية حققت نجاحا وأثارت الكثير من التساؤلات.
كشف الحضور .. كل هذه أمور بسيطة جدا لا تشكل أي صعوبات لنا .. وحتى تزوير أوراقي للانضمام إلى المدرسة كان من الأمور السهلة ..
والنقود التي دفعها من انتحل شخصية والدي –وهو بالطبع مواطن من كوكبي - كرسوم للمدرسة كانت مزورة ولكن لا يستطيع أفضل خبراءكم أن يكشف أمرها فهي مصنوعة بوسائل تفوقكم تطورا بكثير .. وهذه أمور بسيطة جدا يفعلها الأطفال في كوكبي .. أما أنت فقد مرضت وغبت عن المدرسة في تلك الأيام .. كان الغائبون أنت مع ستة آخرين بينهم مدرس .. وكان الحصول على عناوينهم ليس بالأمر بالصعب على الإطلاق .. فقمت بزيارتهم ليلا ومارست التنويم المغناطيسي معهم أيضا .. أما انتقالي من مكان لآخر بهذه البساطة فهو بوسيلة الانتقال الآني* .. وأنت تعرف أن الانتقال الآني مازال عندكم علما رضيعا يحتاج إلى آلاف السنين حتى يصل إلى طموحاتكم .. كنت في كل يوم أذهب إلى المدرسة وأعود بعدها إلى كوكبي بواسطة الانتقال الآني .. وعندما كنت أزورك كانت الزيارة تتم بنفس الطريقة .. أي أنني كنت
أبيت في كوكبي وأنهض صباحا لأكون في كوكبك بعدها بعدة دقائق .. بفضل الانتقال الآني الذي قطعنا فيه شوطا طويلا جدا .. ولكن بالطبع لا يستطيع أحد من كوكبنا أن يستخدم وسيلة الانتقال هذه إلا إذا كان مسكتشفا وعضوا في هيئة دراسات أبحاث الفضاء ..
انتهت من كلامها .. ولم يتوقف انبهاري .. كنت لازلت أحدق بها .. ثم انتبهت إلى أنها قد انتهت وهي تنظر لي بحنان وتتوقع مني مزيدا من الأسئلة .. وكان لها ما أرادت .. فقد سألتها بصوت متحشرج وأنا أشعر أن العبرات بدأت تنزل من عيني:
وماذا عن ثيابك العجيبة ؟! .. إنني لم أجد ذرة غبار واحدة في حذائك أو في ثيابك.
*الانتقال الآني: مطصلح يطلق على انتقال الجسم المادي عن طريق تفكيك جزيئاته من مكان .. بحيث يعاد استقبالها وإعادة تجسيدها إلى مكان آخر .. كما يحدث تماما عن إرسال الفاكس. وهناك بالفعل تجارب عديدة في هذا الشأن حققت نجاحا محدودا، إلا أن نتائج تلك التجارب مشجعة كما يرى العلماء.
ابتسمت بحب وهي تقول:
ثيابي الجديدة مصنوعة من أقمشة مبتكرة جدا شديدة النعومة والصلابة بنفس الوقت .. وخيوطها قوية متماسكة جدا .. لا تنسى أنها مصنوعة بتكنولوجيا متطورة للغاية قياسا لكم .. أما الحذاء فهو من مادة لم تتوصلوا إليها بعد .. فهي مادة مقاومة الاحتكاك .. ويستحيل خدشها أو تآكلها .. وطلاؤه من مادة تطرد ذرات الغبار بواسطة مجال كهرومغناطيسي محدود .. كلها أمور متقدمة جدا قد تذهلك أما في كوكبي فكل ما ذكرت لك من الأمور المعروفة التي لا يجهلها أحد وجميع الثياب والأحذية عندنا مصنوعة بتلك الطريقة ..
ثم قالت وكأنها تذكرت شيئا بالغ الأهمية:
حبيبي .. كوكبنا شبيه جدا بكوكبكم .. شبيه إلى درجة لا يمكن أن تتصورها .. كما أن تكويننا بشري تماما .. فلا يمكن أن تجد فرقا بين أحدا من سكان الكوكبين .. ولكن الحياة في كوكبنا بدأت قبل كوكبكم بفترة طويلة جدا .. أي أننا كنا نعيش في العصور الوسطى - كما تطلقون عليها – في الوقت الذي كان كوكبكم يمر في العصر الجليدي .. نحن وأنتم نتبع النظرية التي يؤمن بها علماؤكم والتي تقول: (إن البدايات المتشابهة تؤدي إلى نتائج متشابهة) .. وبدايات كوكبينا متشابهة .. ولكننا نسبقكم في عامل الزمن .. أي أنني عندما أكون في كوكبك أشعر وكأنني أعيش أحداثا تاريخية في كوكبي .. والمعلومات التي تتلقونها في المدرسة قد عفا عليها الزمن عندنا وتعتبر من البيديهيات .. ولهذا كنت متفوقة جدا بمقايسكم .. ولكن بمقاييس كوكبي فإن المعلومات التي أعرفها عادية جدا.
صمتت قليلا .. وتابعت حديثها الذي لا يصدق لتقول:
- حبيبي (خالد) .. إننا نعيش في عالم مثالي مليء بالحب والسلام .. نعيش في بيئة مثالية خالية من التلوث .. يحكم كوكبنا مجلس من الحكماء .. حياتنا بسيطة جميلة .. لم نقسم أنفسنا إلى دول وأجناس وطوائف كما تفعلون هنا .. لقد حاولت أن أختار الهجرة إلى كوكبك والإقامة معك لأنني أحببتك بالفعل وما زلت أحبك .. ولكن الحياة في كوكبك مستحيلة .. التلوث والفقر والمجاعات .. القوي يأكل الضعيف .. حروب بسبب طوائف وجماعات .. إن الحياة عندكم أسرع مما ينبغي .. أعقد مما ينبغي .. وأكثر مادية مما ينبغي .. إن الحياة عندكم لا ترحم .. قد تظن أنه من المبتذل أن أقول أن العاطفة قد ماتت في عالمكم تاركة المجال للمادة .. إلى آخر هذا الكلام الذي يقوله الجميع تقريبا دون أن يدركوا أهميته .. لكنها الحقيقة .. الحقيقة المؤلمة!.
كم بدا لي ما تقوله جميلا .. كم أود أن أعيش في عالم كهذا .. لقد قالت بأنها تحبني .. أي أنها لم تخدعني إطلاقا .. إن الأمر مذهلا .. لكني مرغم على تصديقه .. كل الملابسات ترغمني على تصديقه .. إما هذا وإما الاعتراف بأنني مجنون ..
ثم تذكرت شيئا وقلت دون أن يفارقني الانبهار:
ولكن لماذا لم تزوريني في غرفتي للسيطرة على عقلي كي أنساك ؟
لم أشأ على الإطلاق أن أزورك في البيت لأمحو من عقلك ما تعرفه عني .. شعرت أن هذا عملا قاسيا .. ولكني كنت مخطئة .. مخطئة جدا بتركك ضائعا هكذا ..
- وماذا عن الحلم ؟! لقد حلمت بك قبل رؤيتك كما أخبرتك سابقا .. فهل كان هذا الحلم نبوءة ؟!..
حين صارحتني بحلمك لم أشا إخبارك عن حقيقتي .. فهذا سر يجب ألا أبوح به لأحد كما تنص عليه قوانيننا .. ولكني أحبك وأريدك أن تعرف كل شيء عني ..
وأنا أذوب في هواك ..
قلتها والدموع تنساب على خدي .. فمسحت دموعي بأصابعها الرقيقة .. وأكملت كلامها:
- إن الانتقال الآني لا يحدد لنا نقطة هبوطنا على كوكبك .. وقد كانت نقطة هبوطي على كوكبك هي غرفة نومك !! .. وكنت أنت لحسن الحظ نائما .. ووجدتها فرصة كي اخترق عقلك لأتعلم لغتكم .. وهو من الأشياء التي يحلم بها علماؤكم ولديهم تجارب بدائية جدا في هذا الأمر* .. لقد اخترقت عقلك وتعلمت اللغتين العربية والإنجليزية التين تجيدهما .. وتعلمت منك كل ما تعرفه .. أعرف أن لك عيوبا .. فمن منا ليس له عيوبا .. ولكن عيوبك طفيفة جدا .. لقد وجدت فيك طيبة وصفاء روحي لم أجده في أحد في كوكبك .. لهذا أحببتك .. أحببتك قبل أن نتبادل الحديث في مكتبة المدرسة .. كنت أحاول مقاومة هذا الشعور .. لكني لم أستطيع .. أعلم أنك ستقول أنني سأجد الكثير من الرجال في كوكبي وسيسعدهم أن ينالوا حبي .. ولكني لا أملك قلبي .. إن قلبي قد أصبح ملك لك .. وأنا سعيدة بذلك.
أنهت حديثها وقد اغرورقت عيناها بالدموع ..
أما أنا فقد كنت أبكي بصمت .. ولكن بعد أن رأيت دموعها – أخجل من الاعتراف –
انهارت أعصابي تماما .. فشرعت أبكي كطفل لم أدر قط أنني أملك كل هذه الدموع .. وأنه يمكني البكاء أمام فتاة .. وقامت هي تربت فوق كتفي بحنان .. ذلك الحنان الذي لا تمنحه سوى حبيبتك ولا يفهمه سواك .. قلت لها بصوت باك:
ليس لك عيوب يا حبيبتي
ابتسمت بحب .. ابتسمت بامتنان ..
ثم قالت بحزن وهي تمسح دموعي بيدها الرقيقة البلورية:
لقد أحببتك كثيرا يا (خالد) .. أنت إنسان نادر .. تحب الخير ولا تكره أحد .. لقد كنت أقرأ أفكارك .. حتى عندما كنت بجانبك في غرفتك لم تفكر أبدا في شهواتك .. بل كنت محبا مخلصا لي .. إنني أحبك .. أحبك يا (خالد) .. أحبك بكل ذرة من كياني ..
* حقيقة .. إذ يجري العلماء منذ عام 1989 في ولاية كاليفورنيا الأمريكية أبحاثا ودراسات جادة لتلقين العلوم للجنين وهو في بطن أمه، إلا أن تلك التجارب لم تحقق نجاحا يذكر حتى الآن.
ثم تنهدت لتقول:
- حبيبي .. أعرف أنك عشت في عذاب في الأسابيع الثلاث الأخيرة لأن الكل يظنك مجنونا في حين أنك الوحيد العاقل بينهم .. لقد جعلني هذا أشعر بذنب عظيم .. لم أشأ أن أمحي ما في عقلك عني .. وفي نفس الوقت كنت مترددة بإخبارك بكل شيء منتهكة قوانين كوكبي .. ولكنني قررت أن أضرب تلك القوانين بعرض الحائط من أجلك .. من أجلك يا حبيبي .. كما أن أحدا لن يعرف أنني أخبرتك بهذا السر .. لأنني أعلم أنك ستحتفظ به لنفسك.
نظرت لها بنظرة هي مزيج من الحب والحزن والامتنان .. ثم سألتها السؤال الذي أخشى إجابته:
حبيبتي .. ماذا سيحدث الآن ؟! إلى ماذا سينتهي حبنا ؟!
سكتت للحظات خلتها دهرا .. وقالت بعدها بحزن شديد:
- إنكم كائنات جديرة بالدراسة .. أنتم قادرون على تحقيق أجمل الأحلام .. وصنع أسوأ الكوابيس .. ولكن معظم ما يفعله بنو جلدتك هو صنع الكوابيس .. وهذا يخيفني كثيرا .. إنكم تشعرون بالضياع .. بالوحدة ..
ثم انفجرت ببكاء خافت أذاب قلبي .. وقالت والدموع تنهمر من عينيها:
- كم أتمنى أن نكون معا للأبد .. صدقني يا (خالد) إنني أتعذب .. أتعذب كثيرا .. لا أريد الابتعاد عنك .. وداعا يا (خالد) .. وداعا يا حبي الأول والأخير .. أقسم لك بأنني لن أنساك أبدا .. وسيظل حبك في قلبي ما حييت .. لقد انتهت مهمتنا في كوكبكم .. والعودة إليه تحت أي ظرف ممنوعة تماما .. فقوانينا تحرم ذلك .. ولن يسمحوا لي بجلب أحد معي .. فهذا أمر محظور تماما ..
صحت بلوعة وأنا أمسك بيديها بقوة:
لا تتركيني يا حبيبتي .. خذيني إلى كوكبك .. أرجوك .. أريد أن أعيش معك .. إنني إلى عالمكم أنتمي .. لا أريد الحياة على هذا الكوكب ..
قالت والدموع تنهمر من عينيها:
لا يمكن يا (خالد) .. لا يمكن يا حبيبي .. إن هذا مستحيل وإن كنت أتمناه من كل قلبي .. لن يسمحوا لك .. سامحني يا حبيبي .. سأرحل إلى كوكبي تركة قلبي معك .. قلبي الذي لن أهبه لأحد سواك .. إنني أحبك يا حبيبي .. وداعا ..
ثم ضغطت على زر صغير في حزام كانت ترتديه .. فتلاشت بعدها بثوان قليلة .. عائدة إلى عالمها .. كدت أن أجن .. حتى أنني نسيت حذري .. وأصبحت وحيدا في غرفتي أصرخ:
.. إيمااااااااااا ..
أصرخ حتى بح صوتي ونزفت شراييني .. وانفجرت أوردة عنقي .. وتمزقت أوتار حنجرتي:
إيماااااااااااااااااا ..
كانت هذه آخر صرخة في رصيد حنجرتي رحت بعدها أبكي بكاء هستيريا .. وسمعت بعدها جدتي تناديني وهي تدق باب غرفتي بقوة وتصرخ هلعا:
(خالد) افتح الباب يا بني .. ما الذي يجري ؟! ..
فتحت لها الباب وارتميت في حضنها وأنا أبكي:
إنه كابوس يا جدتي .. كابوس صحوت منه للتو ..
بسم الله الرحمن الرحيم .. اذكر الله يا بني ..
قادتني بعدها إلى فراشي وهي تقرأ بعض الآيات القرآنية .. وقبلتني وهي تطمأنني .. لتبقى بعدها معي في غرفتي أكثر من نصف ساعة .. لم تكف فيها عن النظر إلي بنظرتها الحنون الخائفة على حفيدها وابنها الوحيد .. ثم عادت إلى غرفتها بعد أن اطمأنت إلى أنني سأنام أخيرا ..
كنت مندسا تحت الأغطية أنتفض بقوة وأبكي بكاء ينيط القلوب .. وفطنت إلى أنني لا أحب (إيما) فحسب .. بل أذوب في هواها .. أذوب في هوى تلك الطفلة البريئة التي منحت كل عذوبة روحها لي .. وأحلم أن أعيش في عالمها .. وكان كل هذا يقتلني قتلا .. لا أصدق بأني لن أراها مرة أخرى .. ولا أصدق أنني سأعيش في هذا العالم الأسود في حين يوجد عالم آخر جميل نظيف طاهر مليء بالحب والسلام ..
ولم أنم في تلك اليلة على الإطلاق .. ولحسن الحظ حدث كل هذا في ليلة (أربعاء) .. وربما لم يكن هذا من حسن حظي .. بل هو أمر متعمد من حبيبتي التي زارتني في هذا اليوم لأنها كانت تعلم تماما بأنني لن أنام ليلتها.
أيام قليلة مرت على رحيلها .. حزن عميق جدا .. شعور بأنني وحيد إلى أقصى حد .. أنا الوحيد في هذا العالم الذي يعرف شيئا لا يعرفه كل سكان كوكب الأرض .. أنا الوحيد الذي يعلم علم اليقين أن هناك كوكبا آخر يزخر بالحياة .. أنا الوحيد الذي يعلم أن مخلوقات هذا الكوكب قد زارتنا ولازال بعضها هنا .. وليتني أستطيع التعرف إليهم .. أنا الوحيد الذي يشعر أننا سكان كوكب الأرض مجرد نمل نعيش فوق برتقالة فاسدة نتصارع ونكره ونحقد .. بينما يردد الكون لحنه الأعظم .. دون أن نصغي .. كنت دائما أقول أنه لا بد أن يكون هناك في مكان ما في الكون ما هو أفضل من الإنسان .. وكنت على حق ..
أمشي على شاطئ البحر ليلة الإثنين .. في وقت متأخر .. أريد بعض الهواء النقي .. أرى النجوم البريئة بأسى .. تلك النجوم التي كانت لامعة براقة قبل أن يغمرها صدأ المدينة ويصيبها التلوث الضوئي .. أمعن النظر فيها بحزن ..
كان الشاطئ خاليا تماما من البشر بسبب البرودة الشديدة .. وكان كل شيء يتلألأ في ضوء القمر .. ولم يكن هناك من يراني سوى خالقي .. يداي في جيب بنطالي .. والريح تصفر في أذني كأنني أصغي السمع إلى قوقعة عملاقة .. ورذاذ البحر يبلل وجهي .. ويملأ فمي بمذاق مالح .. رمال .. رمال .. وخواطر لا تنتهي ..
كنت متأبطا فردتي حذائي .. أمشي عاري القدمين .. أتسلى بمداعبة الأمواج لقدمي .. فتارة تتسخان بالرمال .. وتارة تنظفان .. خواطر كثيرة لا تنتهي .. لقد كان يوم لقاءي بـ(إيما) يوما مخلدا في تاريخ البشرية كونه لقاء بين مخلوقين عاقلين من كوكبين مختلفين .. لكن لن يعرف أحد ذلك سواي .. فقد قررت بالفعل أن أكتم هذا السر ولا أبوح به لأحد ما حييت .. وحتى لو كشفت السر .. فلن يصدقني أحد .. ولسخروا مني .. ولن ألومهم في الواقع إن اعتبروني مجنونا .. إن الكلام عن وجود مخلوق فضائي في (الكويت) لا يختلف كثيرا عن الكلام عن بطريق في مجمع الفنار التجاري .. سألت نفسي مرارا: لماذا حدث كل هذا لي أنا بالذات ؟! .. ثم وجدت أنه سؤال سخيف بلا معنى .. فلو حدثت هذه القصة لـ(عبدالعزيز) أو (سلمان) أو حتى (متولي) .. لبدا الأمر غريبا بنفس القدر ..
لقد تعلمت أشياء كثيرة من تلك التجربة .. تعلمت أن أفهم الكون وأحبه بعدما أضعت أوقاتا طويلة في محاولات خرقاء لتغييره أو تهذيبه .. عرفت معنى التسامح مع الكون .. وتعلمت أن الإنسان ضعيف جدا وثمين جدا بنفس الوقت .. وأننا ننتمي إلى شيء عظيم لا أدري ما هو .. ولكننا ننتمي إليه .. تذكرت كلامها عن الحروب التي تقوم بين شعوب الأرض .. كان كلامها مليء بالحكم .. إن عالمنا يزداد سكانه ويتناقص طعامه وينكمش إنتاجه وتزداد ملوثاته والإنسان –مع الأسف- مشغول في استغلال أعظم ما وصل إليه من علم لتحقيق أحط مشاعره وأحقر رغباته .. وهي قتل أخيه الإنسان !! .. وهذا يفضح وحشيته بحق أيا كانت عقيدته أو جنسيته ومهما كان سلاحه .. فحتى إطلاق سفن الفضاء والسباق لغزو الفضاء هدفه هو تغيير مواقع القتال فحسب وليس لاستكشاف الكون مثلا .. إنها فضيحة كونية بحق .. كنت دائما أحلم بعالم موحد بلا حدود ولا حروب ولا جوازات سفر ولا تسيطر عليه دولة واحدة كعالم حبيبتي (إيما) ..
كم أفتقدها .. كم أحبها .. أحاول أن أفعل ما كانت تفعله حبيبتي معي .. أركز تفكيري .. أمتزج بالكون .. أحاول ألا أوجد .. أنبذ مخاوفي الخاصة .. أذوب في الأبدية .. أفقد ماديتتي .. ثم أدرك أنني أوهم نفسي وأنني عاجز عن التأمل كما كنا نفعل سويا .. فأتأمل النجوم حزينا:
- (إيما) .. أنا بحاجة إليك.
أهمس بهذا وأنا أبكي ..
يبدو أنني أمضيت 90% من وقتي معها أبكي كالأطفال .. ولكن لا أعتقد أنكم تلوموني ..
أتذكر كلمات (عبدالحليم حافظ) ..
ما أصعب أن تهوى امرأة يا ولدي ليس لها عنوان ..
.. رباه ! .. ألن ينتهي كل هذا الألم ؟! ..
بدأت حياتي تعود طبيعية شيئا فشيئا .. وبدأت أصلح كل ما أفسدت ..
لقد احتجت إلى جهود كونية .. كي أصلح الخراب الذي أحدثته ..
تحججت لدي البعض بإرهاق أعصابي .. أو بحيرتي .. أو بمرضي النفسي .. أو بخرقي وغبائي .. واعتذرت بشدة لذلك الولد الذي أشبعته ضربا .. المهم أن كثيرين لم يقبلوا مبرراتي ..
وصرت أتحمل سخرية الطلبة بشجاعة وثقة بالنفس لأنني وجدت لذة برؤية جهل الآخرين.. فهم لا يعرفون ما أعرف .. كما أن هذا يذكرني بمقولة رائعة قرأتها يوما ولا أذكر قائلها: ((لو كان في يدك لؤلؤة .. وقال الناس: إنها جوزة .. فما ضرك وأنت تعلم أنها لؤلؤة)) ..
كما أن الأيام تمر بسرعة وما هي إلا شهرين أو أقل حتى أتخرج من الثانوية .. لألتحق بكلية الطب .. علي أن أبذل كل جهدي في الدراسة .. علي أن أتخرج بنسبة عالية جدا تشرفني وتشرف جدتي ..
ولا أنسى أن أخبركم بما فعلت .. فقد اشتريت خاتم زواج .. ونقشت بداخله اسم حبيبتي (إيما) مع تاريخ لقاءنا .. لن أتزوج إلا (إيما) .. وإن لم أستطع فلن أتزوج على الإطلاق ..
فمن يدري .. ربما تعود .. ربما تتغير قوانينهم .. كل شيء ممكن .. وحتى إذا لم تعد فسأظل أحيا بذكراها .. هي .. هي التي تملك كل أفكاري وأحلامي وآهاتي .. هي التي سأحارب كل وحوش العالم من أجلها .. هي التي اكتشفت فيها معنى الكون .. في يديها .. في شعرها .. وفي عينيها .. وفي كل ذرّة من جسدها الطاهر.
هل تشككون في وقائع تلك القصة ؟ .. هل تسخرون مني ؟ .. لا تنكروا هذا ولا تتهموني بالبارنويا .. أنا أعرف أسلوب الشباب في السخرية .. أعرف تلك النظرات التحتية والتعليقات الخفيضة التي لا يمكن تبين مصدرها ..
أنا لا أكذب .. ولماذا أكذب ؟ .. لم أعد راغبا في أن أخترع الأحداث لأثير شغف أحد .. ولو أثارت الأحداث السابقة اهتمامكم فاعلموا أنها أحداث حقيقية تماما لا فضل لي فيها .. وأن هذه التجربة قد غيرتني تماما وفتحت عيني على أمور كثيرة جدا .. كل هذا بسبب فتاتي وحبيبتي (إيما) .. التي يعتقد الجميع - سواي- بأنها لم تكن.
حلم البشرية
أخيرا !!.. أنهيت دراستي الثانوية .. كنت أعد الأيام والساعات والدقائق .. وهاأنذا الآن حر .. نجحت بتفوق وظهرت النتيجة لتنفر الدموع من عيني من شدة الفرح .. كنت واثقا من النجاح ومن إحراز معدل مرتفع .. كنت واثقا من أنني على أعتاب دخول كلية الطب .. ولكن هذه الثقة لم تقلل من شعوري بالفرحة بعد ظهور النتائج .. وبالطبع كانت فرحة جدتي لا توصف .. فقد اغرورقت عيناها بدموعها الغالية .. وأؤكد لكم وبكل ثقة أنها لم تشعر في حياتها كلها بالسعادة مثلما شعرت وهي تتلقى خبر نجاحي .. وارتميت في أحضانها وقبلت يديها في نهم .. اليدين المعروقتين العزيزتين ..
أما هي فقد دفنت رأسها الحبيب في صدري:
أخيرا يا (خالد) .. أخيرا يا بني ستتحقق أمنيتي وأراك تلتحق بكلية الطب..
فكنت أرد بصوت حان وأنا أقبل رأسها ويديها:
أطال الله في عمرك يا أمي لتريني طبيبا ناجحا .. ولأكون دائما عند حسن ظنك إن شاء الله ..
كنت أعلم بأنني سأحصل على بعثة دراسية بسبب معدلي المرتفع .. وقد حصلت عليها بالفعل .. ولكنني رفضتها دون تردد .. فلن أترك جدتي وحدها أبدا.
كما أنني أستطيع دراسة الطب في جامعة (الكويت) .. وهذا ما أنوي عمله بالفعل.
تعرفون بالطبع ما مررت به من تجارب غيرت مجرى حياتي تماما وإن لم أخبر أحد عنها .. فمن سيصدقني إذا تحدثت عن تجربة تحضير الأرواح* .. أو عن معرفتي بقاتل (راشد) الذي قررت التستر عليه** .. أو عن حبيبتي (إيما)*** ..
* راجع قصة: قشعريرة !!.
** راجع قصة: الصدمة !!.
*** راجع قصة: الفتاة التي لم تكن !!.
وعندما يطرأ ببالي اسم (إيما) بالذات تخرج مني تنهيدة حارة لا شعورية .. هذا الملاك الرقيق الذي خلب لبي .. كم هو مؤسف ألا أملك أي شيء لها على سبيل الذكرى على الأقل .. ولا حتى صورة تذكارية ..
آه .. لا زلت أشعر باللوعة عندما أتذكر أجمل أيام عمري التي قضيتها معها .. تلك الأيام الرائعة التي جعلتني أقرر ألا أتزوج أبدا كي أعيش على ذكرى حبيبتي .. لا زلت أعاني جراحا نفسية هائلة لا أعتقد أنها ستشفى بعد قصة حبي العجيبة التي لم يمض على نهايتها أكثر من شهرين .. حتى أن حياتي قد تغيرت كثيرا .. وصرت ميالا إلى الوحدة أكثر من الماضي .. فبعد أن عرفت وكشفت سرا هائلا من أسرار الكون لا يعلمه أحد غيري على وجه الأرض .. أصبحت أحب الجلوس في شرفة غرفتي معظم الوقت أتأمل النجوم وأشعر بالحزن والنشوة في مزيج غريب .. إنه حزن .. لكنه حزن لذيذ أعجز عن وصفه لكم .. وأصبحت أشعر بثقة أكبر في نفسي سببها شعوري ومعرفتي بأننا لسنا وحدنا في هذا الكون .. وأن الإنسان يضيع عمره في صراعات تافهة ولا يفكر لحظة في تأمل النجوم ليعرف أن الكون يعزف سيمفونيته الخالدة فلا نصغي ولا نتعلم.
لم أكن أعلم بالطبع عما سيحدث لي .. وأن نمط حياتي سيتغير أكثر وأكثر .. وأن ما مررت به مع حبيبتي (إيما) لن يكون أغرب ما رأيت .. فهناك المزيد !! .. اقرؤوا السطور التالية وستعرفون.
جالسا في غرفتي أستمع إلى أغنية (نونو يا نونو) لفرقة المرجانة الكويتية .. تلك الأغنية التي أعترف بأنني أهيم بها حبا وأسمعها سرا لتجنب سخرية الساخرين .. أشعر بأنني على أعتاب حياة جديدة حقيقية بعيدة عن هراء المراحل الدراسية السابقة .. أفكر بجبل الأوراق التي علي إنهاؤها حتى ألتحق بكلية الطب .. قبولي في تلك الكلية هو أمر محسوم .. فمعدلي ولله الحمد مرتفع جدا يؤهلني للإلتحاق بأي كلية أريدها .. ولكن المشكلة تكمن في إنهاء الإجراءات اللازمة لذلك .. فلدينا في (الكويت) –كما هو الحال مع معظم الدول العربية مع الأسف- أساتذة في وضع العراقيل وتعقيد الحلول .. أوراق ومستندات وشهادة ميلاد زوجة عم خالة جدتك .. وما إلى ذلك من معاملات لن تنتهي قبل ثلاث شهور على الأقل.
وإن كنت –عزيزي القارىء- قد سافرت إلى أوروبا أو أمريكا أو اليابان .. وترددت هناك على البنوك والشركات فإن لك دون شك حكايات ومقارنات لا حصر لها مع المؤسسات في (الكويت) .. وجميع تلك المقارنات ليست في صالح الإدارة الكويتية والعربية بشكل عام ..
أعتذر لهذا الاستطراد .. أستطرد كثيرا .. وأعتذر كثيرا .. أعرف ذلك ..
ولكن هذا عيبي وأرجو ألا تؤاخذوني عليه .. أين وصلنا ؟ .. آه .. أغنية (نونو يا نونو) .. انتهت الأغنية وفرغت من خواطري فلم أجد شيئا أفعله سوى فتح جهاز التلفاز لأشاهد واحدة من تلك المسرحيات الهابطة السخيفة المليئة بالتهريج والإسفاف والتي تحقق أرباحا طائلة مع الأسف مما يدلك على المستوى الثقافي الذي وصلنا إليه .. إن المسرح الكوميدي هو الذي يجد فيه الناس عيوبهم ويضحكون عليها .. ويكون الضحك علاجا للإنسان كي يخجل من حماقاته ويكف عن ارتكابها .. ومن ثم يقرر أن يقلل من ارتكاب تلك الحماقات .. هذا هو المعنى الحقيقي للمسرح الكوميدي .. أما هذه المسرحيات الهزلية فهي تسخر من هذا لأنه سمين .. ومن ذاك لأنه قصير .. حتى أن المشاهد يخرج بعد ساعات من الضحك دون أن يعرف قصة المسرحية .. إن كان لها قصة أصلا ..
أعتذر –كما اعتذرت سابقا ومرار- لهذا الاستطراد .. ولكن هذه مذكراتي كما تعلمون .. ومن الطبيعي أن تقرأوا شيئا عن آرائي في الحياة وإن كانت آرائي أغلب الأحيان سخيفة لا قيمة لها ..
لم يكن هناك شيئا يستحق الذكر في هذا اليوم سوى ذلك الاتصال .. اتصال هاتفي مفاجئ في بدايات شهر يوليو الحارق .. وأنتم تعرفون أن الهاتف عندنا لا يرن إلا نادرا جدا .. وقد كان المتصل هو آخر شخص أتوقعه ..
آلو (خالد) ؟
نعم
إنه أنا .. أستاذ (إبراهيم) مدير مدرستك
قلت بحماس وانفعال صادقين:
أستاذ (إبراهيم) مرحبا بك .. يا لها من مفاجأة سارة
تبادلنا التحية لبعض الوقت وأنا أتساءل في سري عن سبب هذا الاتصال المفاجئ .. فهذه أول مرة أتحدث فيها إلى مدير مدرستي عبر الهاتف .. ولم تطل حيرتي كثيرا ..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا