كم دام هذا الحلم ؟ دام ثلاث شهور .. ولماذا انتهى ؟ انتهى لأن الربيع دائما ينتهي .. ومنذ بدء الخليقة .. كنت أشعر أنه ثمة نذير شؤم يخيم على هذا الجو المزدهر .. إن الأمور لا تسير أبدا بتلك السلاسة والبساطة .. صبرا يا رفاق فالقصة لم تبدأ بعد !! .. وما ذكرته لكم لا زال بداية .. فقط بداية .. والمصائب قادمة .. وليتها مصائب من التي اعتاد الإنسان سماعها .. بل كانت شيئا من نوع آخر !!.
بعد ثلاث شهور تقريبا –كما ذكرت لكم- من قصة حبي مع أجمل ما وقعت عليه عيناي .. وفي بدايات شهر يناير .. أذكر أن هذا كان يوم (ثلاثاء) .. عندما مرضت مرضا شديدا .. فقد أصبت بالأنفلونزا .. وأصبحت طريح الفراش تعتني بي جدتي أفضل عناية .. وبجانبي كما هائلا من الأدوية .. وعصير الليمون .. حتى أنني غبت عن المدرسة يومين متتاليين هما (الثلاثاء) و(الأربعاء) .. ولم أستطع حضور حفل المدرسة السنوي لتكريم الطلبة المتفوقين حيث كانت (إيما) الأولى على المدرسة وحللت أنا –ولأول مرة- ثانيا .. ولكني كنت سعيدا .. تقاريري لم تسوء .. بل حافظت على مستواي الدراسي .. لكن (إيما) كانت أفضل مني ولا يغضبني هذا إطلاقا .. بل يشعرني بالفخر ..
الغريب أن (إيما) اتصلت بي ليلة (الثلاثاء) وتحدثنا بعض الوقت قبل أن تصر على إنهاء المكالمة لأرتاح .. خاصة وأن صوتي بدا متعبا منهكا من شدة المرض .. وظللت طريح الفراش حتى أنني لم أشعر بتحسن سوى أواخر يوم (الجمعة) .. والغريب أن (إيما) لم تتصل بي على الإطلاق .. ولم تزرني كما تفعل منذ ثلاث شهور بشكل دائم وفي كل عطل نهاية الأسبوع ..
ضايقني الأمر قليلا .. ولكني عزوت الأمر إلى أنها تريدني أن أرتاح قدر الإمكان حتى أشفى من مرضي .. وفي يوم الجمعة شعرت بتحسن كبير حتى أنني قررت الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي.
يوم السبت صباحا .. ذهبت إلى المدرسة بلهفة لأرى حبيبتي .. ولكنها لم تكن هناك .. انتظرت حتى طابور الصباح ولكنها لم تحضر .. غريب هذا !! .. هل أصابتها الأنفلونزا هي الأخرى !! .. انتهى طابور الصباح ودخلنا إلى الفصل .. وكان بالطبع مقعدها فارغا .. نادى المدرس اسماءنا ليوقع على كشف الحضور .. ولكنه لم ينادي اسمها !! .. غريب !! .. ما الذي يجري ؟ .. هل انتقلت إلى فصل آخر مثلا ؟؟ .. انتقلت ؟؟ .. قد يكون هذا حصل فعلا .. ولكن متى وكيف ؟ .. والمدير لم يطلب رأيي ولم يخبرني .. ثم تذكرت .. هذا متوقع طبعا .. فلست أنا من القيادات المهمة في المدرسة .. أو أولئك الذين يجب وضعهم في الصورة .. أنا مجرد طالب من مئات الطلبة .. ولا أمثل سوى 1% من اهتمامات المدير .. إننا نعطي أنفسنا أهمية أكثر من اللازم لمجرد أننا نحن .. نتصور أن العالم لم يخلق إلا ليحيط بنا.. بالطبع كتمت خواطري وأنا أشعر بالقلق على حبيبتي (إيما) .. وانتظرت حتى دق جرس نهاية الحصة .. عندها اندفع الطلبة خارج الفصل في حين انشغل بعضهم بوضع كتاب الفيزياء في حقيبته ليخرج كتاب وكراسة اللغة العربية وهي حصتنا الثانية .. في حين اندفعت خلف مدرس الفيزياء وسط حشود الطلبة في ذلك الرواق الضيق المؤدي إلى ساحة المدرسة لأسأله عنها:
استاذ ؟! ..
- آه .. مرحبا خالد .. كيف حالك ؟! ..
تعرفون بالطبع مدى تفوقي ومدى احترام المدرسين لي ..
بخير والحمدلله .. هل لي أن أسألك سؤال ؟! .. أين (إيما) ؟!
سألني بحيرة:
من ؟!
(إيما) .. زميلتنا في الفصل ؟!
قال باستغراب:
لا توجد لدينا أي فتاة بهذا الاسم .. ولو كنت تمزح يا بني فأنا على عجالة لأن لدي حصة أخرى و ..
قاطعته باستغراب دون مراعاة لقواعد اللياقة:
استاذ !! .. (إيما) الفتاة التي تجلس في الخلف .. هل نسيتها ؟ ..
قال لي وقد تغيرت لهجته إلى شيء من الصرامة وهو يقول:
- أنا أعرف كل تلامذتي ولا يمكن أن أجهل أحد منهم .. خاصة وإن كانت فتاة بهذا الاسم الذي لم أسمع به من قبل ..
تركني وهو يمشي مسرعا للحاق بحصته .. في حين وقفت مكاني وأنا أخاطب نفسي مستغربا:
- كيف ينسى (إيما) ؟! .. يا له من أحمق ..
ثم تذكرت شيئا فذهبت مسرعا إلى الفصل حيث كشف الحضور .. فتحت الكشف وبحثت عن اسمها فلم أجده ؟! .. ما الذي يجري ؟! ..
توجهت كالملسوع إلى أحد طلبة الفصل .. اسمه (طلال) وهو ولد طيب و(في حاله) كما يقولون .. فسألته:
(طلال) .. أين ذهبت الفتاة ؟! ..
أي فتاة ؟!
(إيما) ..
من ؟! .. لم أسمع بها من قبل ؟! .. هل هي طالبة معنا في المدرسة ؟؟
قلت له بحدة:
بل معنا في الفصل .. ما الذي جرى لك ؟! .. هل نسيتها ؟! .. إنها زميلتنا منذ بداية السنة الدراسية تقريبا !!.
رد باستغراب:
ما الذي تتحدث عنه يا (خالد) .. لم توجد أبدا فتاة بهذا الاسم في الفصل .. ولم ينتقل أحد من فصلنا منذ بدء هذه السنة !!
هنا سقط قلبي .. وشعرت بحيرة وذهول ما بعده ذهول ؟!!
سألت طالبا آخر وطالبة أخرى .. والإجابة واحدة .. حتى أنهم نظروا لي باستغراب وكأنني أؤكد لهم ظنونهم .. فكثير من طلبة الفصل والمدرسة يطلقون علي لقب (المعقد) كما أخبرتكم في البداية .. لأنني في حالي ولا أصادق أحدا على الإطلاق .. وانا أعلم هذا وأتجاهلهم .. وهم يرون الآن – بوجهة نظرهم- دليل لا يقبل الشك على جنوني وعقدي الدفينة .. ولكن هذا لم يهمني .. ولم أترك أحدا إلا وسألته .. وكانت الإجابة واحدة .. لا أحد يعرف (إيما) وجميعهم يصرون على أنه لم توجد في مدرستنا فتاة بهذا الاسم .. ولكم أن تتصورا ذهولي ودهشتي !!.
انتظرت حتى حان وقت الفسحة وأنا مشوش الذهن تماما .. فذهبت إلى مشرف جناح الصف الرابع الثانوي .. دخلت غرفته وإذا به يلتهم ساندويتش أحضره معه من المنزل .. دخلت غرفته ناسيا كل أساليب التهذيب من طرق الباب وغيره .. وسألته بلهفة ممزوجة بشيء من الحدة:
أين ذهبت ؟!
رفع رأسه بهدوء وخداه منتفخان بطعام لم يجد الوقت ليمضغه .. وتساءل بدهشة:
عما تتحدث ؟!
قلت له بصوت بذلت جهدا خرافيا كي أجعله هادئا:
عن (إيما)
من ؟!!
قلت بنفاذ صبر:
أتحدث عن (إيما) .. أين ذهبت ؟!
مط شفتيه وقال:
لا أعرفها .. ولا توجد لدينا فتاة بهذا الاسم ..
هنا جن جنوني .. وقلت وأنا أضغط على اسناني باذلا جهدا خرافيا كي لا أصرخ بوجهه:
أستاذ .. أنت بالتحديد من قدمها إلينا في الفصل عندما انتقلت إلى مدرستنا في بداية العام الدراسي .. كيف نسيت بهذه السرعة ؟!
نظر إلي لحظات وكأنه يتذكر .. ثم قال بحزم:
أنا لم أقدم لكم أي فتاة ولم تنتقل لدينا أي فتاة هذا العام ..
تصاعد الدم إلى رأسي وقلت بغضب:
إذا فنظام العمل هنا لا يزيد على نظام سوق الأغنام.
هنا طبعا فقد السيطرة على أعصابه .. فنهض من مكانه ووقف أمامي وهو يقول:
قلة الأدب هذه يا ولد لا نريدها هنا .. أنت تلميذ مهذب للغاية .. وهذه أول مرة أراك تتحدث فيها بهذه الطريقة الوقحة .. سأسامحك هذه المرة لأنها الأولى !! .. إذهب إلى فصلك ..
قالها وهو يصرخ .. أخرج ..
المشكلة أنني طالب محترم .. طالب من الذين يحترمون أساتذتهم حقا .. ويجلونهم حقا .. فما كان غضبه من الأشياء التي تناسب شخصا حساسا مثلي .. ولولا الظرف الذي أعيشه لما جرؤت على فعل ما فعلت .. لذا فقد اكتفيت بهذا .. وخرجت من غرفته مذهولا مصعوقا .. ما هذا الذي يجري ؟! .. أين ذهبت حبيبتي ؟! .. هل يمزحون جميعا ؟! .. جلست في فترة الفسحة أفكر وأجوب ساحة المدرسة كالنمر الحبيس أو الكلب المسعور .. أو .. لا أدري بالضبط .. لكنني أجوب مثله الآن .. إنهم يحاولون دفعي للجنون .. كيف ينكر الجميع وجود (إيما) .. كيف ؟! .. كيف ؟! .. ظل السؤال يتردد في ذهني طوال الوقت .. هل هي مزحة مثلا .. كيف يتفق الطلبة والمدرسين ومشرف الجناح جميعا على مزحة كهذه .. ولماذا ؟! .. إننا لسنا في أول إبريل .. وإن كنا كذلك .. فلا يمكن أن أتصور بعين الخيال أن هناك مزحة تمت بالاتفاق بين جميع الطلبة والمدرسين والإدارة .. إن الأمر عسير التصديق ويكاد أن يكون مستحيلا .. وفي الحصة الرابعة من نفس اليوم وحين كان مدرس اللغة الإنجليزية ينادي أسماء الطلبة لتحضير كشف الغياب .. كنت قد وصلت إلى ذروة العصبية .. عندما تجاوز مثل باقي المدرسين اسم (إيما) وكانه لم يكن موجودا أصلا في كشف الغياب .. فقاطعت المدرس وأنا أسأله بنفاد صبر:
أستاذ .. أين هي (إيما) ؟!
التفت إلي باستغراب .. و .. نفس القصة .. لا أريد تكرارها حتى لا يصيبكم الملل .. ولكن هذه المرة اختلف أمر واحد .. نهضت من مقعدي وقلت لجميع الطلبة بعصبية وأنا أصرخ كالمجنون:
هل هذه لعبة سخيفة منكم ؟! .. أين هي (إيما) .. أين ذهبت ..
لم ينبس أحد ببنت شفة .. فهذه أول مرة يسمعونني أصرخ فيها بهذه العصبية دعكم من أن المفاجأة قد أخرستهم تماما ..
إلا أن المدرس قد صرخ بي قائلا:
إجلس يا (خالد) .. ما الذي يجري لك .. لم توجد أبدا فتاة بهذا الإسم عندنا في الفصل ..
ثم قال أحد الطلبة بخبث:
يظهر أن (خالد) قد جن فعلا ..
إخرس ..
قالها له المدرس حتى يعيد الهدوء إلى أجواء الفصل .. وهكذا جلست صامتا رغما عني .. إلا أنني كنت أغلي في داخلي ..
المدرس يشرح الدرس .. في حين أسمع همس بعض الطلبة وغمزاتهم عني بأنني مجنون فعلا ومعقد كما يقال.
هل تعرفون مقولة: بين العبقرية والجنون شعرة ؟! .. قالها أحد الطلبة ذات مرة عني .. ومن يومها يطلق علي الكثير من الطلبة لقب: (المعقد) .. وكان هذا لا يضايقني ولا يهمني كثيرا .. ولازال الأمر لا يهمني .. فذهني مشغول بما هو أهم بكثير .. ذهني مشغول بهذه القصة العجيبة !!.
انتهي اليوم الدراسي .. وذهبت إلى المنزل وسط نظرات السخرية التي أراها على وجوه أكثر زملائي في الفصل .. فالمراهقين والشباب عموما -إن كنت لا تعلم- هم ملوك التعذيب في العالم .. ولا أدري سببا لهذا.
عدت إلى المنزل وفي ذهني ألف خاطر وخاطر .. وكان يومي في البيت هادئا جدا وبذلت جهدا هائلا كي أبدو طبيعيا حتى لا تعرف جدتي ما يحدث لي .. وفي الفراش كانت الأفكار تتصارع في ذهني .. إن ما يحدث لهو أمر غريب يفوق الوصف .. ولا أطيق الانتظار حتى يأتي الغد .. أريد أن أخبر المدير بما يجري .. ستكون له كلمة .. وإن كانت هناك مؤامرة فأنا واثق من أنه سيكشف كل شيء ..
ظللت أفكر بما قد يحدث غدا حتى غبت عن الوجود ..
لم يكن نوما هنيئا –كما يقولون- بل كان نوما متقطعا مليئا بالكوابيس .. وعند استيقاظي في الصباح الباكر للذهاب إلى المدرسة تمنيت لو أن كل ما حدث في الأمس كان حلما .. ولكن هيهات.
ذهبت في الصباح الباكر قبل أن يدق جرس الطابور لرؤية المدير .. لكنه لم يكن قد وصل بعد .. فاضررت إلى الذهاب إلى الفصل كاتما غيظي .. وبالطبع وكما توقعت فقد تزايدت سخرية الطلبة مني .. وكانوا بين الحصص الدراسية وفي فترة الاستراحة القصيرة يطلقون تعليقاتهم السخيفة من طراز: (إيما) و(خالد) الثنائي لطيف .. وأسئلة ساخرة مثل: هل هي مجنونة مثلك ؟ .. من المؤكد أنها ليست مجنونة .. لأنها لا توجد أصلا .. نياههها .. أو .. (خالد) .. هناك مؤامرة كبرى في المدرسة .. ولسوف تكتشفها أليس كذلك .. وتعليقات كثيرة أخرى.
حتى أن الفتيات كن يتهامسن ويسخرن مني .. ولكن كل هذا لم يهمني .. أريد أن أذهب إلى غرفة المدير في الفسحة .. أريد أن أتحدث إليه .. لا بد أن يعرف ما يحدث .. لا بد أن يعرف ما يحدث .. رحت أردد هذا كالمجنون .. ولم أكذب خبرا حين جاء وقت الفسحة .. فقد خرجت راكضا من الفصل .. حتى أنني تعثرت عند عتبة باب الفصل .. فأصبحت إضحوكة .. ضحك وسخرية لا نهاية لهما .. لا يهم .. حقا لم أخيب ظن الطلبة إطلاقا أن أجعلهم يشعرون بأنني مجنون .. إنني غريب الأطوار صامت أكثر الأحيان .. والآن أخبرهم بوجود فتاة في المدرسة لم يشاهدها سواي .. ماذا يريدون أكثر من ذلك حتى يؤمنوا بأنني معقد أو مجنون .. وصلت إلى مكتب المدير وأنا ألهث .. طرقت الباب ..
تفضل !
قالها باقتضاب ..
دخلت إلى غرفته وإذا به يقوم بالتوقيع على بعض الأوراق .. رفع رأسه ونظر إلي .. فقال بلهجة أبوية:
أهلا (خالد) ..
بالتأكيد هو يعرفني جيدا .. فأنا الأول على المدرسة .. منذ الصف الأول الابتدائي وحتى الآن .. وهو بالمناسبة نحيل الجسد قصير القامة يرتدي بذلة رسمية ولم اره من قبل مرتديا الزي الوطني (الدشداشة) .. ذو وجه ممتلئ مريح يشعرك بالأمان والثقة حين تتحدث إليه .. وهو إنسان تربوي فعلا .. قبل أن يكون إداريا .. كما أنه متعاطف جدا معي كوني يتيم الأبوين .. و ..
إذا كان الأمر غير مهم فأرجو أن تأتي في وقت لاحق ..
قالها لي برجاء ..
لكني لم أستطع الانتظار:
- أستاذ .. هناك شيئا ما يدور في المدرسة .. شيئا غريبا ..
نظر لي بدهشة ..
- ما الأمر ؟!
سيدي هناك مؤامرة واسعة النطاق ما لا أعرف دوافعها ..
قال لي بقلق:
ما هذا الكلام يا (خالد) ؟! .. ما الذي تتحدث عنه بالضبط ؟! ..
لقد اختفت فتاة من الفصل والجميع ينكر أنها وجدت أصلا ..
ومن هي الفتاة ؟!
(إيما) .. اسمها هو (إيما)
وأخبرته باسمها الثلاثي ..
قطب حاجبيه وكأنه يحاول أن يتذكر .. ثم قال:
- لا أعرف أحدا بهذا الإسم .. وهو ليس من الأسماء التي تنساها بسهولة .. دعني أطلب مشرف الجناح ولنرى ما سيقوله ..
وبعدها بدقائق كان المشرف موجودا في غرفة المدير:
هل توجد لديكم فتاة اسمها (إيما) ؟!
رد عليه مشرف الجناح وهو يرمقني بنظرة جانبية غاضبة:
لا ..
- كذب !! .. صرخت وأنا أثب على قدمي محنقا .. عازما على تحطيم رأس أي إنسان فلما لم أجد ركلت –للأسف- الكنبة فكادت ساقي أن تتحطم .. ولولا الخجل لوقعت أرضا أتأوه.
نظر لي المدير نظرة عتاب .. وقال لي بهدوء:
(خالد) .. إهدأ قليلا .. ولا تتكلم بهذه الطريقة أبدا مرة أخرى .. ولا تغير نظرتي إليك.
هذا الرجل معجب بي .. أعرف هذا .. معجب بذكائي وتفوقي ولنهمي للمعرفة .. وليس بجمال منظري طبعا .. وأستطيع أن أرى هذا في عينيه .. ولكنه بالطبع لا يكشف لي عن هذا بصريح العبارة .. لذا فهو يتعاطف معي كثيرا كما أخبرتكم ..
أكمل مشرف الجناح حديثه قائلا بحزم:
لقد جاء هذا الولد إلى مكتبي يسألني عن هذه الفتاة المزعومة .. وأخبرته أنه لا توجد لدينا طالبة بهذا الإسم .. ما الأمر يا سيدي ؟!.
ثم قال المدير بحزم:
أرجو تزويدي بقائمة أسماء الطلبة في كل فصول الصف الرابع ثانوي.
إذا لازال المدير يعتقد أنني محق .. أعرف أنه يثق بي كثيرا .. ولكن لم أتوقع أن تكون ثقته بي بهذه الدرجة .. وبالطبع فإن ما حدث بعد ذلك كان كافيا لزعزعة هذه الثقة ..
إذ لم يجد أي فتاة بهذا الإسم في سجلات المدرسة .. عندها فقط نظر لي المدير وقال بحزم:
- خالد .. إنك واهم .. أو مخطيء .. فلا توجد لدينا طالبة بهذا الإسم.
إن هذا كابوس مريع يأبى أن يتزحزح .. من المؤكد أن جرس المنبه سيرن الآن .. عندها سأضحك كثيرا .. ولكن كل شيء يوحي بأن ما يحدث حقيقي بالفعل ..
هنا قلت للمدير وأنا أكاد أبكي:
سيدي .. إن (إيما) زميلتي في الفصل .. وهي متفوقة جدا حتى أنها كانت الأولى على المدرسة ولأول مرة أحتل أنا المركز الثاني تاركا لها المركز الأول بجدارة .. لقد - وأستمحيك عذرا لذلك – خلبت هذه الفتاة لب الجميع بجمالها وسحرها وذكائها وتفوقها الدراسي ..
نظر لي المدير باستغراب وقد بدأت نبرة صوته تتغير .. ليقول لي بشيء من الصرامة:
لقد أخبرتك يا (خالد) بأنك واهم .. وأرجو أن تذهب الآن .. فلا يوجد لدي ما أستطيع تقديمه لك .. ثم أنك أنت الأول على المدرسة هذه السنة أيضا ولم يتفوق عليك أحد ..
قلت له بذهول وتوتر شديين:
أقسم لك يا سيدي أنها كانت زميلتي في الفصل طوال العام الدراسي الحالي .. لم أرها وحدي بل رآها الجميع معي .. كيف تجهلون أو تنسون أفضل طالبة لديكم في أهم مرحلة دراسية .. إنه الصف الرابع ثانوي.
فقال بشيء من الحدة وقد نفد صبره:
لن أعيد كلامي .. هل أكذب عليك أنا أيضا ؟! ..
كنت على وشك القول بأنني لا أرى ما يمنعه من الكذب .. ولا أرى ما يمنع أن يكون مخادعا هو والمدرسين والطلبة الأوغاد .. ولكنني لحسن الحظ لم أنطق بكلمة ..
وشعرت بأنه يحاول السيطرة على غضبه ليواصل كلامه:
قبل أن ترحل .. دعني أخبرك بشيء .. كل الأوهام تبدو حقيقية وإلا ما أطلقنا عليها اسم: أوهام .. ليست هناك أوهام تبدو كأنها أوهام .. صدقني .. لقد كنت واهما ..
ثم قال بشيء من التردد:
قد .. قد تحتاج أن تزور طبيبا نفسيا يا (خالد) ..
نظر إلى الأسفل قليلا وكانه يفكر عن كان يجب أن يخبرني بما سيقوله .. ثم أطلق زفرة صغيرة وهو يقول:
- أنت يتيم الأبوين .. وصداقاتك شبه معدومة .. لذا فأعتقد أنك معرض جدا للإصابة بالأوهام .. لست خبيرا في الطب النفسي .. ولكن أعتقد أنني على حق.
لم أتفوه بأي كلمة .. استدرت خارجا من مكتبه شاعرا بالضياع أحمل أطنانا من الهموم والتوتر وفي ذهني ألف سؤال وسؤال .. ثلاث شهور عشتها كالحلم الجميل .. ثلاث شهور هي مجرد أحلام وأوهام ؟! .. إن هذا مستحيل .. مستحيل تماما .. لقد كانت (إيما) هي كل شيء في حياتي .. وكنا نحب بعضنا إلى حد الجنون .. وقد جلسنا معا في حجرتي .. ومزحنا معا .. لو كان كل هذا وهما لأصبح الوجود كله وهما أيضا .. لست من مصدقي كلام الفلاسفة الإغريق الذين قالوا أن الحياة نفسها غير حقيقية .. وأنا واثق أنه لو لمس أحدهم عود ثقاب مشتعل أو انغلق الباب على إصبع قدمه لعرف أن هذا الوجود هو الحقيقة المجسدة ..
خرجت من مكتب المدير وذهبت إلى ساحة المدرسة غاضبا متوترا حزينا وقد تبقى على نهاية الفسحة بضع دقائق .. هنا رأيت أحد الطلبة البغيضين جدا والذين يسخرون مني دائما .. بل يسخر من كل شيء وأي شيء ويظن نفسه مضحكا .. هو فتى ممتليء الجسد له رقبة عريقة متعرقة أكثر الوقت .. ثقيل الظل له ابتسامة صفراء بغيظة تجعله مقرف المنظر إلى حد بشع ..
لذا فقد كنت أتجنبه قدر الإمكان .. ولكن هذه المرة جاء هو إلي بابتسامة خبيثة .. ليقول لي:
هل تعرف ما أظن ؟ .. أعتقد أنك مصاب في ازدواج بالشخصية .. وهذه الفتاة التي تدعي وجودها ليست سوى شخصيتك الأخرى .. نياهاهاهاه ..
وبعدها ضربة عنيفة على كتفي .. هنا فقدت التحكم نهائيا في أعصابي .. وتدفق الأدرينالين أنهارا في دمي .. وصرت قادرا على القتل والركل والضرب والعض والصراخ و .. إلخ .. ووثبت نحوه .. وكورت قبضتي ولكمته في أنفه .. أغلى لكمة كان لي أن أوجهها في حياتي .. لم أضرب أحدا في حياتي .. لكني لا أعتقد بأنني سأتمتع بضرب شخص بهذا القدر .. بالطبع أخذته المفاجأة تماما .. فلم يعرف عني أبدا بأنني من هؤلاء الفتية الذين يتشاجرون .. ترى هل هو الإيحاء أم أن عظام أنفه قد تهشمت حقا ؟! .. وقبل أن يفهم أنني ضربته .. وجهت له لكمة أخرى في معدته .. وأخرى وأخرى .. وثبت لأنشب مخالبي في عنقه .. ووجهت له سيل من اللكمات .. كان قويا .. لكني كنت غاضبا .. سددت له لكمات لم أتوقف عن تسديدها إلا عندما سقط على الأرض .. وشرعت بعدها أشبعه ركلا .. ركلات عشوائية إلى ضلوعه ..
هذه من أجل سخريتك مني
طاخ .. بوم ..
هذه من أجل دفعي في الشهر الماضي
طراخ .. بوم ..
هذه من أجل ثقل ظلك وسخافتك وتدخلك بشوؤن الغير ..
طراخ .. بوم .. طاخ .. طاخ .. بوم ..
دق الجرس معلنا عن نهاية الفسحة .. ولكن بدا أنني لن أتوقف أبدا حتى يموت .. ولم أتوقف فعليا إلا بعد أن شعرت بيد قوية تمسكني من قفاي .. التفت لأرى يد وكيل المدرسة .. أما الصبي فقد تحول إلى نفاية .. وتحول قميصه الناصع البياض إلى أحمر ناصع الإحمرار - إن صح التعبير - بسبب الدماء التي سالت من فمه وأنفه وأسنانه وأذنه بعد هذا السيل من الصفعات والركلات .. كان الوكيل يجرني جرا إلى غرفته وأنا أصرخ وأتوعد .. الحديث في مدرستنا غالبا ما يكون بالإنجليزية .. إلا أنني كنت أصرخ بعبارات مبهمة بالعربية كالمجنون .. فلغة المرء الأم هي اللغة التي يستطيع التشاجر بها .. ولغتي الأم هي العربية .. سكرتيرة فلبينية تصرخ بهلع بلغتها الشبيهة بدقات الأجراس بعد أن شاهدت وكيل المدرسة يجرني من قفاي .. ألهث بقوة وتخرج من بين أسناني عبارات التهديد والوعيد لهم .. وأنا لا أدري من هم بالضبط .. كنت أريد أي شئ أصب غضبي عليه .. من الواضح أن تماسكي النفسي أصبح هشا جدا بعد أن قابلت المدير وأنكر هو الآخر وجود (إيما) .. لقد وصلت إلى مرحلة تجعلني أتشاجر أو أصرخ أو أضرب لدى أي استفزاز .. كنت على الرغم من صراخي في حالة ذهول تام .. قبل أيام قليلة كنت أعيش أسعد لحظات حياتي .. وفي يومين انقلب كل شيء رأسا على عقب وأجد نفسي أواجه شيئا غريبا لا تفسير له .. حتى أنني بدأت أميل إلى أنني حقا مجنون .. عدد من الطلبة يحتشدون حولي في فرح عند مدخل إدارة المدرسة .. ليروا ذلك الوغد الذي سينال جزاؤه: أنا .. وهم يتمنون أن تزداد الأمور سوءا.
أدخلني الوكيل مبنى الإدارة وإلى غرفة المدير مرة أخرى .. كان ينتفض غضبا ويصرخ وهو الذي لم يتوقع مني إطلاقا شيئا:
أفضل طالب في المدرسة يتصرف بهذا الأسلوب .. ما الذي تركته للفاشلين؟! .. إنك لست (خالد) الذي أعرفه .. لقد تغيرت كثيرا في فترة قصيرة للغاية .. ما الذي يجري لك ؟ ..
لم أجد ردا على سؤاله .. فأنا نفسي مذهول مصدوم لا أصدق ما يجري ..
جلس على كرسي مكتبه محاولا التقاط أنفاسه .. نظر قال لي بعصبية:
يؤسفني يا (خالد) بأنني سوف أفصلك لعدة أيام من المدرسة ..
ثم قال بلهجة العليم ببواطن الأمور:
إنك تثير قلقي .. ثيابك مهملة .. نظراتك زائغة حائرة .. لقد تغيرت كثيرا .. إنك تنحدر ..
صمت للحظة .. ثم قال:
- إسمع .. يجب أن ترى طبيبا نفسيا .. أنت مصاب بمرض نفسي .. شخصيتك انطوائية بحتة غير مستقرة .. أنت حتما تحتاج إلى طبيب نفسي ..
ضايقتني كثيرا النبرة التربوية في صوته .. حتى أنني صرت على وشك قتله ..
قلت له بحدة:
أستاذي .. يمكنك أن تعاقبني كما تشاء .. لكن هذا لن يغير حقيقة أن هناك فتاة اسمها (إيما) ..
قال لي بحدة مماثلة:
لا تكابر .. أنت تعلم جيدا أننا لا نخدعك .. لا توجد فتاة في المدرسة بهذا الإسم .. ألا تفهم هذا ؟؟!!!.
سكت قليلا محاولا السيطرة على أعصابه .. ثم قال:
- أنت في طريقك للخبال .. وقد حان وقت سماع رأي الطب النفسي في حالتك .. سأعطيك رقم طبيب نفسي وهو صديق لي .. وسأعرف إن كنت قد ذهبت إليه أم لا .. ستغيب عن المدرسة لمدة أسبوع .. وسأتولى أنا حمايتك من أهل الطالب الذي تهجمت عليه .. لأنني أشك في أنك مسؤولا عن تصرفاتك .. لا يمكن أن تكون أنت نفس الطالب الذي أعرفه طوال تلك السنوات.
لم أرد عليه .. فقد انفجرت ماسورة عواطفي وأحزاني .. بكيت أمامه .. ولأول مرة أظهر ضعفي أمام أحد .. لا أصدق أنني مجنون .. إنهم هم الكاذبين الأوغاد .. لقد فعلوا شيئا بحبيبتي .. فعلوا شيئا لا أدري دوافعه !!.
لا أدري لماذا تذكرت مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه: ((كلما ازداد أعدائي .. ازددت قوة)) .. وهو قول غبي .. فأنا أرى أن الجميع أعدائي .. ولا أشعر بأي قوة.
عدت إلى المنزل بعد الظهر .. وقد دخلت سريعا إلى الحمام متحججا لدي جدتي بأنني أريد قضاء حاجتي .. وكنت طبعا لا أريدها أن تلحظ ثيابي التي توسخت من فعل الشجار .. وتمزقت في بعض الأجزاء ..
كنت آخذ حماما دافئا .. وذهني يعمل بسرعة البرق .. إن ما يحدث لهو أمر يفوق الوصف ..
بعد الانتهاء من الحمام الدافيء وتناول طعام الغداء مع جدتي بصمت مقبض جعلها تشعر بأنني لست على ما يرام .. سألتني عن سبب ضيقي .. فقلت لها بأنني لا زلت متعبا قليلا بسبب الأنفلونزا .. وسأكون بخير ..
دلفت بعدها مسرعا إلى غرفتي .. أحتاج إلى ترتيب أفكاري على الورق كما أفعل دائما عندما أكون مشتت الذهن.. أمسكت بورقة وقلم وبدأت التدوين بعصبية بالغة:
لقد حدث كل شيء عندما أصبت بالأنفلونزا وغبت عن المدرسة ليومين متتاليين لحقتهما عطلة نهاية الأسبوع وبالطبع فاتني حفل تكريم الطلبة المتفوقين .. في هذه الأيام حدث شيء لا أدري ما هو .. ولا أستطيع أن أفكر سوى بتفسيرين:
فرضية الجنون .. هي أفضل الفرضيات ها هنا .. أتراني مجنون حقا ؟.
هل يا ترى كل ما مررت به طوال تلك الفترة كان تلفيقا سببه طفولتي المعقدة وذهني المكدود .. مستحيل .. أنا أعرف نفسي .. ولكن .. كل المجانين يزعمون أنهم يعرفون أنفسهم مثلي .. حسن .. لنقل بأنني قد أكون مجنونا بنسبة .. فماذا بيدي أن أفعل .. أتعالج ؟! .. هذا ما سأفعله ..
فرضية المزحة .. وهي مزحة عسيرة حقا تم ترتيبها من قبل جميع من في المدرسة .. حيث اجتمعوا .. وقرروا تدبير هذا المقلب لي .. وهذا شئ مستحيل تقريبا ..
لا يوجد أي تفسير آخر .. سوى أن كل ما يحدث هو حلم .. حلم شديد التعقيد .. هل هذا حلم آخر أعيشه ؟!.. ربما أصحو من النوم في أي لحظة .. وعندها سيكون كل ما حدث هو حلم من نسج خيالي .. من يدري ربما كانت حبيبتي نفسها إكذوبة .. جزء من حلم كبير أراه وأنا نائم في فراشي .. ربما كانت حياتي كلها حلم .. حلم يراه طفل هندي أو مكسيكي عمره لا يتجاوز الخمس أعوام .. إن من الأحلام ما يبدو أكثر واقعية من الواقع ذاته ..
إنني ضائع تماما .. ربما يجب أن أزور الطبيب النفسي بالفعل .. لدي ثلاث أيام إجازة إجبارية أستطيع أن أفعل فيها الكثير .. أحتاج أن أعرف ما يجري لي .. وإلا سأجن حتما وسأعترف بعدها أنني مجنون بنسبة 100% .
في صباح اليوم التالي استيقظت متعبا .. يقولون أن المرض الوحيد الذي يصحو فيه المريض مرهقا بعد نوم تسع ساعات كاملة هو الاكتئاب .. كل الأمراض الأخرى تقريبا يصحو منها المريض أفضل حالا .. وأنا بالفعل أشعر باكتئاب شديد .. الاكتئاب الخام – على غرار النفط الخام- الذي من الممكن أن تضع قطعة واحدة منه في منبع مياه الشرب لتجعل أمة من البشر تقرر زيارة مستشفى الطب النفسي .. أخبرت جدتي بأنني أشعر بالإرهاق وأن الطبيب قد منحني راحة أخرى لثلاث أيام .. أي لنهاية الأسبوع .. وخرجت بعدها إلى عيادة الطبيب النفسي الشهير (......) بناء على توصية من مدير المدرسة .. وكنت قد اتصلت به قبلها بيوم للحصول على موعد .. وهأنذا الآن أجلس في عيادته منتظرا دوري .. إن العيادات النفسية تؤدي عملا جيدا في (الكويت) .. فهي أولا وقبل كل شيء تحتاج إلى مستوى اجتماعي مترف .. ومجتمعنا في الكويت وفي الخليج عموما -ولله الحمد مترف - جلست متوترا في العيادة النفسية .. أنا أثق بهذا الطبيب النفسي كثيرا .. فهو يعطي مرضاه كل ما يحتاجونه من وقت .. وهو رجل عرف عنه تعطشه للمعرفة والتي هي أهم عنده من الكسب المادي .. ولكني لم أزر طبيبا نفسيا في حياتي .. حتى في قصتي مع تحضير الأرواح لم أفعلها على الرغم من أنني كنت أقول بأنني سأزور طبيبا نفسيا .. وانتظرت نصف ساعة حتى جاء دوري .. ودعتني الممرضة الهندية إلى الدخول .. دخلت إلى غرفته وصافحته .. ثم أخبرته بأنني من طرف السيد (.....) مدير المدرسة .. فصافحني بحرارة ودعاني إلى الجلوس ..
قلت له بصراحتي المحببة:
الحق أنني لا أثق بالطب النفسي البتة .. فهو علم ليس له مقاييس .. ولم أكن لآتي لولا إصرار مدير المدرسة على ذلك.
ابتسم وكأنه يتوقع شيئا كهذا:
لماذا لجأت إلي إذا ؟! ..
لأنك على الأقل ستعرف إن كنت مجنونا ..
إن المرض النفسي لا يعني الجنون .. الاكتئاب مرض نفسي .. وكلنا مكتئبون .. ولكن بدرجات متفاوتة.
ثم قال وكأنه تذكر شيئا:
- دعنا لا نضيع الوقت .. ولتحك لي مشكلتك ..
طلب مني بعدها أن أرقد على الأريكة الواسعة وقام بإضاءة الغرفة بضوء خافت حتى يساعدني على الاسترخاء.. فرقدت على ظهري أرمق السقف وأرتجف .. ومن عيني سالت عبرتان لم أستطع منعهما .. إن ما حصل لي هو شيئا أجهله تماما .. وما أجهله يثير رعبي حتى لو كان غير خطر .. وحكيت له قصتي بصوت حزين أثار شجني شخصيا .. ولم أنس أدق التفاصيل بدءا من رؤيتي لـ(إيما) في الحلم وحتى شجاري مع ذلك الولد السخيف .. فظل الطبيب يستمع باهتمام ويسجل ملاحظاته.
وبعد الانتهاء سألته وأنا راقد على الأريكة:
هل استحققت لقب مجنون بعد ؟!
قال بصوته الهاديء الواثق وهو يشبك أصابع يديه ببعضهما:
لا أظن .. فيما مضى كانوا يطلقون على من هم بمثل حالتك (مجانين) .. فجاء بعدها علماء النفس ليطلقوا أسماء جديدة .. مثل وساوس .. أو ضلالات..
سألته باهتمام:
- وما هو الفرق بين الاثنين ؟!.
قال وكأنه يلقي محاضرة:
الوساوس يعرف المريض أنها أوهام .. ولكن الضلالات يصر المريض على أنها واقع .. ويقاتل من أجل أن يبرهن على ذلك .. والوساوس أو الضلالات لا تعني الجنون بالضرورة .. وإلا لما عاد في الكون عاقل ..
ثم سكت قليلا وقال:
هناك عدة تفسيرات لحالتك .. أعتقد أنك واهم .. فالأوهام ترضي حاجة نفسية ما .. وأنا أعتقد أنك تتوهم وجود فتاة تحبك لأنك في هذا السن محروم من العلاقات العاطفية كما أخبرتني .. وقد يكون هناك سبب آخر .. وهو البارانويا .. أو جنون الاضطهاد .. فأنت تعتقد أن الجميع يحيكون مؤامرة ما ضدك .. لأنك ترى نفسك شديد الذكاء وحقك مهضوم بنفس الوقت.. وعلى كل حال هناك تفسيرات عديدة ولا أستطيع الجزم بتفسير محدد إلا بعد أن أدرس حالتك جيدا.. ولكن أولى خطوات العلاج هي أن تؤمن أن هذه الفتاة لم توجد قط على أرض الواقع .. هل تؤمن بهذا ؟.
هززت رأسي بقوة نفيا .. وقلت:
بالطبع لا ..
وماذا عن كل المحيطين بك ؟
رأيي بصراحة أنهم – وأرجو المعذرة لصراحتي- أوغاد كاذبون .. جديرين بحطب جهنم ..
ابتسم في حكمة وكأنه معتاد على مثل هذه الردود .. وقال:
إذا كنت تريد علاجا نفسيا جيدا فيجب أن تمنحني ثقتك يا بني .. فثقة المريض بطبيبه هي من أساسيات العلاج ..
سألته بتحد:
وما الذي يجعلني واهما ويجعل الناس صادقين ؟! ..
لأن هذا ناموس الكون .. فالأشياء لم ولن تغادر الأحلام إلى عالم الواقع .. أحب أن أصدقك يا بني .. ولكن لا يوجد دليل على صدقك .. المنطق والعقل يقولان أنك تعاني أمراضا واضطرابات نفسية .. إنك تمر بضغوط كثيرة أحرقت جهازك العصبي .. فحياتك رتيبة مملة أكثر من اللازم .. لا بد من الفرار بعيدا .. أستطيع أن أوصي لك بإجازة طبية لمدة أسبوع كي تسافر مثلا أو تفعل أي شيء آخر يريح جهازك العصبي .. إن مرضك نفسي بحت ..
نفسي ؟ .. ولماذا ؟ .. لا توجد لدي مشاكل نفسية ..
قاطعني الدكتور في نوع من الحدة:
حينما يقول لي مراهق حساس يتيم الأبوين عديم الأصدقاء تعرض لضرب مبرح قضى بسببه شهرا في المستشفى بأنه لا يمر بأي مشاكل نفسية فإنني أتهمه بالسخف.
ولكن .. لماذا يحدث لي هذا الآن بالذات ؟ ..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا