رواية خوف الجزء الأول 2 للكاتب أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-04-18

الليلة المشؤومة

عدت ذات ليلة متأخراً للمنزل بعد سهرة مطولة مع أصحابي لكن النوم قد جافاني تلك الليلة ولم أستطع النوم بالرغم من محاولاتي العديدة، لمحت الكتاب الملقي على الطاولة منذ أكثر من شهر وقد جمع على غلافه غير المعنون بعض الغبار توجهت للكتاب وقربته من شفتي ونفخت عنه أثر نسياني له. استلقيت على سريري وبدأت بتصفحه بدافع الملل لا الاهتمام، لم يكن للكتاب اسم مؤلف أو فهرس أو دار نشر أو حتى ترقيم للصفحات كان الكتاب غريبا بلا عنوان على غلافه أو داخله ومحتواه كان يبدو كالمدونة وكان الورق مائلا للصفرة وأطرافه مهترئة.

فتحت الكتاب من المنتصف وبدأت أتصفحه ولم أفهم شيئاً مما كان مكتوبا فيه. لم يكن للكلام المدون على صفحاته معنى يشد انتباهي، حاولت القراءة بتمعن وتركيز أكثر، لكن الكتاب بدا لي عاديا جداً فقد كان يتكلم عن الروحانيات والعالم الآخر وأمور كنت أراها في ذلك الوقت سخيفة ومجرد خيال لا أكثر فلم أكمل الكتاب ورميته على المنضدة التي كانت بجانبي وذهبت للنوم مباشرة. حلمت في تلك الليلة بشخص ذي لحية بيضاء يلبس ثوبا أبيض قصيراً بلا جيوب وطاقية بيضاء صغيرة بالكاد تغطي رأسه وكان يقول لي:

"أكمل ما بدأت!!"

وأخذ يكررها حتى استيقظت من النوم بأنفاس ثقيلة ومتسارعة بالرغم من أني لم أجزع لتلك الدرجة وكان ذلك حوالي الساعة الثانية صباحا لا أذكر لماذا لكن عينين وقعت على الكتاب وبالرغم من أن الكتاب لم يكن يحتوي على صور شعرت بحاجة ورغبة ملحة للبحث فيه عن ذلك الرجل الذي عكر صفو م نامي ففتحت الكتاب ولم أقرأ كل الصفحات بل تصفحت فيها كالمجلة حتى غلبني النعاس ولم أعد أستطيع تمييز الكلمات وعدت للفراش ونمت مرة أخرى. زارني الشخص نفسه في المنام بعد أن غفوت بدقائق لكنه هذه المرة بدا غاضبا ووجهه كان متجهما وأقرب لوجهي من ذي قبل وصرخ بي قائلا:

"أكمل!"

استيقظت مفزوعا هذه المرة وتوجهت لباب الغرفة ومنها نزولا للطابق السفلي بسرعة متوجها للخارج نحو سيارتي وحاولت تشغيلها بسرعة كي أبتعد عن المنزل لإضاعة الوقت حتى الصباح لكن السيارة لم تعمل ولم أربط بينها وبين ما حدث في الحلم في ذلك الوقت وعدت لغرفتي بتردد.

صعدت السلالم ببطء ونظري موجه نحو باب غرفتي وبدأت أشكك فيما إذا كان باب غرفتي مفتوحا عندما رحلت أو أغلقته، بدأت بالقلق والتفكير بأمور جانبية، كان تركيزي مشتتا بسبب الخوف الذي اعتراني، دخلت الغرفة مرة أخرى ووجهت نظري للكتاب وقلت في نفسي:

"سأقرؤه كاملا هذه المرة..".

أمسكت الكتاب وقرأته من الغلاف للغلاف وبعد ما انتهيت من الكتاب وضعته جانبا وأخذت نفسا عميقا وقلت في نفسي:

"لم أفهم شيئاً".

كان الكتاب مكتوبا بلغة مبسطة وأحيانا بلغة أقرب للقصائد المبتورة لكن آخر سطر فيه كان السطر الوحيد الذي لفت انتباهي وحيرني قليلا، كان السطر الأخير يقول:

"لن ترى العالم الذي تعيش فيه بعد اليوم كالسابق لأنني سأكون معك.."

لم تعن لي تلك العبارة شيئاً في ذلك الوقت لكنها كانت أوضح من غيرها مما ذكر في الكتاب وأحسست بعد قراءتها بمشاعر متناقضة لا أستطيع وصفها، كانت أشبه بخليط من القلق والضيق من المجهول، وضعت الكتاب جانبا وعدت للنوم وحاولت نسيان ما حدث.

استيقظت على صوت أذان الفجر الذي كان مريحا ومهدئا لي فنهضت من فراشي وذهبت لدورة المياه للوضوء كي أدرك الصلاة، لم أكن في العادة محافظا على صلاة الفجر لكن سماعي للأذان بعد ما مررت به تلك الليلة أزال الخوف من صدري وجعلني راغبا بالذهاب للمسجد. كانت عيناي شبه مغلقتين تبحثان عن مقبض باب الحمام وكنت لا أزال أسمع صوت الأذان بوضوح لكن بعد دخولي للحمام وإغلاقي للباب بقليل وفي منتصف الوضوء تحديداً انتبهت أن الصوت الذي كنت أسمعه لم يكن آتيا من الخراج بل كان من داخل غرفتي فنظرت للساعة ووجدت أن صلاة الفجر قد انتهت منذ 10 دقائق، قطعت وضوئي ووقف في دورة المياه مفزوعا حتى انتهى الأذان القادم من غرفتي وقبل أن أفكر بمسك المقبض لفتح الباب سمعت صوتا آخر يقول:

"أقم الصلاة!"

كبر صاحب الصوت وبدأ بالقراءة بصوت جهوري خال من الجمال، جلست على طرف المرحاض وأنا أسمع صلاة الفجر تقام في غرفتي وزاد فزعي عندما وصل القارئ لـ "ولا الضالين.."

فرد بعدها معه صوت مجموعة بقول: "آمين".

أكمل من كان أو كانوا في غرفتي صلاتهم ولم أقو على الخروج من دورة المياه وبقيت فيها قرابة الساعة، خرجت من دورة المياه بعد ما تمكنت الشمس من السماء واقترب موعد محاضرتي الأولى، ذهبت وتجهزت مثل أي صباح وخرجت بعدها من المنزل متوجها للجامعة، ركبت سيارتي ودار المحرك بسلاسة ولم يخطر ببالي أن العطل الذي أصابها البارحة كان مصادفة أو غيرها فقد كنت مشوش الذهن وتوجهت مباشرة للجامعة حتى نهاية اليوم.

عدت قبل المغرب بقليل لأني لم أرجع مباشرة ذلك اليوم للمنزل وعندما دخلت غرفتي تذكرت ما حدث معي بالأمس وضاق صدري قليلا ولكني تجاهلت الأمر.

عندما أصبحت الساعة التاسعة قررت الخروج من المنزل كعادتي اليومية فتوجهت لدورة المياه للاستحمام وبعد دخولي للحمام بلحظات سمعت صوتا لن أنساه، سمعت صوت طفل صغير يبكي والصوت كان قادما من غرفتي وفي هذه اللحظة فقط أيقنت أن ذلك الكتاب قد فتح لي باب شر والمسألة ليست مجرد أوهام. توقف صوت البكاء بعد دقيقة أو أكثر بقيل وخرجت مسرعا من دورة المياه ومن الغرفة متوجها لسيارتي وأدرت المحرك وأنا أقول في نفسي:

"ما الذي يحدث...؟"

كنت في طريقي لأصدقائي الذين اعتدت أن ألقاهم كل ليلة لكني وجدت نفسي أتوجه لمنزل قريبي الذي أعطاني الكتاب.

طرقت الباب ففتح لي ابنه فسألت عن والده فقال لي:

"إنه نائم..".

فأخبرته أن يوقظه لأمر طارئ ويجب على مقابلته. وافق الابن على مضض ودعاني لدخول المجلس وطلب مني الانتظار حتى يوقظ أباه. دخل علي قريبي والنوم ما زال في عينيه وقال لي:

"ماذا تريد؟!"

حكيت له ما حدث لي من أيوم حتى لحظة قدومي عنده فرد علي ببرود غريب وقال:

"لكن ما تقوله مجرد خرافات.."

فأقسمت له أن هذا ما حدث معي.

فقال: وما الذي تريده مني الآن؟

فأخبرته أني أريد تفسيراً لما يحدث لأن هذه الأمور لم تحدث إلا بعد قراءتي للكتاب الذي قدمه لي.

فقال: أنا لم أنم في مثل هذا الوقت منذ 40 عاما واليوم ولأول مرة أنام كالحجر أنا أسف يا ابني لكنك الآن ستعيش مع من عاشوا معي كل تلك السنين.

فصرخت في وجهه وقلت: من تقصد؟!

فقال: لا أقصد أحداً.

ثم قام وتركني وحدي في المجلس.

خرجت وأنا مشوش ومرتبك وخائف من العودة للمنزل فاتصلت بأهلي وقلت لهم:

"أنا لن أعود الليلة وسأقضي الليلة عند أحد أصدقائي".

توجهت لأقرب فندق وبت تلك الليلة وهناك. وفي الصباح عدت للمنزل لأخذ مذكراتي والذهاب للجامعة فوجدت غرفتي مقلوبة. رأسا على عقب وفي فوضى عارمة وعندما سألت أهلي عن سبب تلك الفوضى قالوا:

"لم يدخلها أحد منذ رحيلك بالأمس"

وقفت أشاهد فوضى الغرفة وأنا أتذكر كلام الكهل ليلة الباحرة وأتذكر نظرة الراحة في عينيه للتخلص من هم ومعاناة عانى منهما سنين طويلة".

بقيت أرتب الغرفة ولم أذهب للجامعة ذلك اليوم لن ينكسر شيء لكن أغلب حاجياتي كانت مقلوبة أو ملقاة على الأرض وعندما انتهيت لمحت ذلك الكتاب على الأرض فأخذته وبدأت أقلب صفحاته لكن هذه المرة ولسبب لا أعرفه بدأت أفهم الكلمات وأفهم المعاني وأربطها ببعضها ببعض فجلست أقرأ فيه بشغف حتى الظهر وبعد انتهائي من القراءة أدركت وقتها فقط ما الذي حدث لي فقد كان ذلك مذكوراً في إحدى صفحات الكتاب.

ذكرت إحدى الصفحات أن من يقرأ هذا الكتاب سيرتبط ولم يذكر بماذا لكنه ذكر أن الرابط لن يفك إلا عندما يقرأ شخص آخر الكتاب وهو يريد ذلك بقناعة تامة. فأدركت أن الشيء الذي ارتبط بي هو الذي جعل ذلك العجوز لا ينام طيلة تلك السنين. قلبت في الكتاب بحثا عن وسيلة أخرى لفك الرابط لكني لم أجد شيئاً بين تلك الصفحات المهترئة. عدت في تلك الليلة لقريبي العجوز وجلست معه بالرغم من رفضه في البداية مقابلتي لكني أصررت على ابنه بأن يقنعه بمقابلتي وعندما خضع لإصراري وجلست للحديث معه أكد لي كل استنتاجاتي فقلت له:

لماذا فعلت بي ذلك؟

قال: الخيار كان لك وأنا لم أجبرك على شيء.

فسألته عن ما إذا كان هناك طريقة للتخلص منهم دون أن ألقي بهم على غيري.

فقال: لقد بحثت سنين طويلة ولم أجد حلا لتلك المشكلة.

فاقترحت عليه الرقبة كحل لهذه المشكلة.

فقال: جرب فالله قادر على كل شيء.

سكتنا لدقائق ثم استأذنت بالخروج وقبل أن أخرج قال لي:

"جرب القرين.."

فقلت: وما القرين؟

فقال لي: شيطان ملازم لك منذ ولادتك وليس له قوة عليك أو سلطان غير الوسوسة لكن لو أطلقته فقد يطرد كل من حولك من الجن.

فقلت له بسخرية: ولم لم تجرب أنت؟

فقال: قرأت في أكثر من كتاب عنه وعن وحشيته عند يطلق ويتحرر من صاحبه ففضلت أن أبقى مع من معي خاصة وأني في وقتها بدأت أعتاد على وجودهم.

فقلت له: كيف أحرره؟

قال لي: هل أنت واثق من طلبك؟

قلت له: وهل لدي خيار آخر؟

فقال: انتظر هنا قليلا وسأعود لك.

غاب الكهل مدة ليست بالقليلة وجلست أنتظره وأنا أقلب ذلك الكتاب الذي فتح علي أبواب جهنم ثم عاد بعدها وأعطاني كتابا آخر وقال لي:

" لا أنصحك بقراءته فأنا لم أجرؤ على ذلك لكن أنت حر فيما تفعل"

فأخذت الكتاب منه وقلت: حسبي الله ونعم الوكيل.

توجهت للمنزل وأنا أفكر في كلامه وفي الكتاب الأول والكتاب الثاني حتى وصلت. ذهبت لغرفتي ولم أفتح الكتاب الثاني وتوجهت للفراش مباشرة وبعد ما غفوت بقليل استيقظت على صوت يشبه الصفير الخافت في أذني فقمت مفزوعا وانقطع الصوت مباشرة. حاولت أن أعود للنوم بعدها ولم أستطع وبعد ساعة من المحاولات المتكررة تمكنت من العودة للنوم واستيقظت على صوت آخر يشبه فحيح الأفعى قادم من تحت سريري وبالطريقة  نفسها انقطع الصوت عندما استيقظت عدت للنوم مرة أخرى ومرة أخرى استيقظت على صوت لم أعد بعده للنوم. كان صوت ضحكات عالية آتية من الحمام ولم ينقطع الصوت حتى بعد استيقاظي ولأني كنت شابا في بداية العشرينيات من عمري لم أكن حافظا للأذكار كلها ولم أكن أقرأ القرآن بكثرة فلم يخطر هذا الشيء ببالي في ذلك الوقت فبقيت في الفراش احتضن وسادتي مفزوعا وعيناي تراقبان باب الحمام حتى توقف الضحك.

خرجت من الغرفة بعد توقف الضحك مباشرة وتوجهت للطابق السفلي فوجدت أخي الأصغر واقفاً في متصف المطبخ ينظر لي وهو يبتسم فكلمته ولم يرد علي فاقتربت منه ووضعت يدي على كتفه فصعقت بشيء أشبه بالكهرباء وسقطت على الأرض ولم أستيقظ إلا على صوت والدي في الصباح وهو يقول: "قم!"

توجهت مسرعا لغرفتي فلحقني والدي وفي عينيه خوف من الوضع الذي وجدني عليه وأنا أقول له:

" لا تهتم لا تهتم.."

أخذت الكتاب الثاني وخرجت لفناء المنزل وجلست في الحديقة وفتحت الكتاب وقبل أن أقرأ حرفا منه نادتني أمي وقالت:

ألن تذهب للجامعة اليوم؟

فقلت لها بصوت عال: لا!!

وهذه المرة الأولى التي أكلمها فيها بهذه الطريقة فأنا لست حاد المزاج بطبعي وأمي كانت الشخص الوحيد في حياتي الذي لا أستطيع أن أعرض لها كلاما مهما طلبت أو أرفع صوتي عليها لكن هذه المرة كان عقلي ليس في مكانه بسبب الخوف الذي اعتراني. ذهبت أمي ولم ترد علي وبالرغم من تأنيب ضميري وندمي في اللحظة نفسها إلا أن لم أستطع اللحاق بها والاعتذار منها لأن ذهني كان مشغولا بالبحث عن حل لما كنت فيه كنت أشبه بالمدمن الذي يبحث عن جرعة توقف ألمه الذي يقطع أوصاله.

فتحت الكتاب على عجالة وكان كسابقة بلا فهرس أو أرقام صفحات أو دار نشر وغيرها لكن عدد صفحاته كان أقل وغلافه أسود كان الكتاب مكتوبا بصيغة غريبة كان يخاطبني وكأنه يعرفني وكان يتحدث عن قريني وكأنه أخ لي والصاحب الذي يتوق للقائي وعندما وصلت لصفحة التحضير وجدت في أعلى الصفحة كلمة شذت عن بقية كلمات الكتاب. كانت تلك الكلمة هي الوحيدة في الكتاب المكتوبة بخط اليد وكانت تقول: (دجن).

لم أعرها في ذلك الوقت أي انتباه بالرغم من أنها لفتت نظري وأكملت القراءة وكانت الطريقة المذكورة في الكتاب لتحضير قريني تستلزم غياب الشمس كأحد عناصر التحضير فانتظرت حتى غابت الشمس وتوجهت بعدها مباشرة لغرفتي ثم لدورة المياه وأغلقت الباب لأني كنت أحتاج المرأة أيضاً كأحد عناصر التحضير كما قال الكتاب ونفذت بالحرف ما كان مكتوبا في صفحة التحضير وكانت العملية متعبة ومرهقة لكن بعد الانتهاء منها لم يحدث شيء.

خرجت من الحمام وكان الهدوء يعم الغرفة بشكل غير مسبوق فشعرت بالخوف لأن الهدوء كان على غير العادة حتى صوت الشارع الذي اعتدت أن أسمع من خلال أصوات الجيران والمارة والسيارات لم أكن أسمعه. لم أسمع سوى أنفاسي وضربات قلبي وصوت ريقي الذي ابتلعته من التوتر. ذهبت للفراش بعدها ونمت بلا إزعاج تلك الليلة. في الليلة التالية توقعت أنني سوف أواجه ذلك الإزعاج والتحرش الذي كان يبدأ بمجرد خلودي للفراش لكن وللمرة الثانية لم يحدث شيء. كان الجو هادئا والسكينة تعم المكان وتكرر ذلك في الليلة الثالثة أيضاً واستمر الحال على ذلك لمدة شهر حتى نسيت الموضوع من الأساس.

تذكرت الأحداث في لحظة عندما بلغنا خبر وفاة قريبي المسن الذي أعطاني الكتابين. بصراحة لم أحزن عليه كثيراً.

ذهبنا للمقبرة لدفنه وكنت حاقداً عليه كثيراً لما فعله بي لدرجة أني لم أدع له بالمغفرة خلال صلاة الميت. لكني سامحته ودعوت له بالمغفرة عندما رأيت جثمانه ينزل إلى الأرض ملفوفا بقطعة من القماش الأبيض.

عندما بدأنا نواريه الثرى اصطدم كتفي بكتف رجل غريب الشكل نظر لي نظرة غريبة وابتسم لي ابتسامة أغرب.

بدأ الناس بالرحيل وكان الوقت عصراً فتوجهت مع والدي للسيارة وقبل أن أركب سمعت نداء خلفي يقول: "أنتظر.. انتظر"

فنظرت باتجاه الصوت فإذا به ذلك الغريب الذي صادفته عند القبر. كان يلوح بيده لي بالانتظار وهو يهرول باتجاهي وعلى وجهه تلك الابتسامة الغريبة. أتذكر بوضوح ابتسامته الصفراء وعينيه الواسعتين وشماغه الذي لم أر مثله من قبل في حياتي فقد كانت تبدو عليه علامات زمن آخر غير الذي نعيش فيه وعلامات أخرى لم أستطع تفسيرها عندما وصل الرجل عندي ووقف أمامي وضع يده التي مازالت تحمل بعض تراب القبر على كتفي ونظر في عيني مبتسما وقال:

"عظم الله أجرك في المرحوم!"

نظرت له باستغراب ولم أرد عليه وظللت أنظر إليه وأحدق في عينيه اللتين امتلأنا بالعروق الحمراء المتشعبة في بياض عينه المصفر ولم أستطع التوقف عن التمعن في شكله الغريب. لقد كان أسمر البشرة بدرجة حالكة لكن ملامحه لم تكن كبقية من يملكون تلك الدرجة من السمار فقد كان أنفه مسلولا كالسيف وشفتاه صغيرتين ولم يكن يملك شاربا أو لحية وكانت رائحة عطره خانقة. أتذكر أن رائحته كانت نفاذة كالخل لكنها كانت أشبه برائحة الريحان. ظللت أحدق في ذلك الرجل حتى أنزل يده من على كتفي الذي تلوث بتراب القبر وابتسم وقال:

"أشوفك الليلة!"

ثم أدار ظهره ورحل.

وقفت بجانب السيارة والباب نصف مفتوح وإحدى قدمي في السيارة والأخرى ارتكزت في الشارع كي أرفع رأسي. لأنظر إلى ذلك الرجل وهو راحل. لاحظت أنه عاد للمقبرة ولم يتجه للشارع أو لسيارة وخلال نظري له صرخ أبي وقال: "يلا"

ركبت السيارة وسألت أبي عن ذلك الشخص وقلت له:

من هذا الرجل يا أبي؟

فقال لي إنه لا يعرفه ولم يره من قبل لكنه قد يكون صديقا للمرحوم فقد كان يسافر كثيراً لبلدان كثيرة وبعيدة عندما كان يبحث عن علاج للمرض الذي أصابه.

فقلت لأبي: من ماذا كان يعاني قريبنا قبل وفاته؟

قال أبي: هل سنبقى تحت حر الشمس كثيراً؟ شغل السيارة وتحرك وسأحكي لك في الطريق.

أدرت محرك السيارة وعيني على بوابة المقبرة رغبة مني بإلقاء نظرة على ذلك الرجل الغريب لكني لم أجد له أثراً عند مروري من أمامها. فتحت الحوار مع أبي بسؤاله:

"ما الذي كان يعاني منه قريبنا؟"

قال أبي: بصراحة لم تربطني به علاقة وثيقة لكن كل ما أعرفه عنه أنه كان رجلا عصاميا بنى نفسه بنفسه وكان متفوقا في دراسته وكان يعمل في وظيفة حكومية حتى زواجه ثم قرر فجأة تقديم استقالته والخوض في التجارة.

فقاطعت أبي وقلت: وهل فشل فيها؟

أبي: بالعكس تماما.. لقد نجحت تجارته في وقت قياسي وأصبح من الميسورين، وكان في وقت من الأوقات أثرى أثرياء الأسرة.

فقلت: لكن منزلهم الحالي لا يدل على ثرائهم. بل إنه مقيم مع ابنه ولا يملك منزله الخاص.

أبي: دعني أكمل ولا تقاطعني.

فقلت: عذراً.. تفضل يا أبي.

قال أبي إن قريبنا في قمة نجاحه وثروته قرر فتح فروع لتجارته في بعض البلدان الخليجية وبدأ بالفعل في تأسيس تلك الفروع والإشراف عليها من وقت لآخر بالسفر وحده أو بصحبة زوجته وأطفاله أحيانا. وفي إحدى تلك السفرات التي كان فيها وحده وحسب ما أخبرت به زوجته فيما بعد أنه عاد متغير الطباع وأصبح متوتراً وحاد المزاج وبدأ يهمل تجارته ولم يعد يخرج من المنزل كالسابق ومع مرور الوقت بدأت أعماله التجارية بالانهيار لولا أن زوجته حصلت على توكيل منه وقامت ببيع كل أصول ثروته ولحقت ما استطاعت من الأموال.

توقفنا في تلك اللحظة عند إشارة ضوئية فالتقت نحو أبي وقلت:

"وماذا حدث بعد ذلك؟"

قال أبي: بقي على حاله بل زادت حالته سواء وكان يختفي لفترات طويلة ويعود فجأة ولا يذكر أحد عن المكان الذي كان فيه أو ما حدث له كبر أبناؤه وتقبلوا فكرة أن أباهم قد فقد عقله وخلال تلك السنوات صرفت زوجته أموالا كثيرة في محاولة منها لعلاجه لكنها لم تجن سوى الإفلاس والديون. ولم تخرج من تلك الثروة إلا بذلك المنزل الذي تزوج فيه ابنه.

اشتعل ضوء الإشارة الخضراء ولم أنتبه إلا من أصوات منبهات السيارات التي خلفي فتحركت بسرعة وقلت لأبي:

"وما قصة موت أحد أبنائه؟

قال أبي: في إحدى المرات التي غاب فيها قريبنا عن المنزل جاء اتصال لمنزلهم وأخبرهم المتصل أن أباهم موجود في دولة خليجية ويريدون منهم الحضور لاستلامه فخرج ابنه الكبير وحجز تذكرة لتلك الدولة وبعد سفره بساعات دخل أبوهم عليهم في المنزل وكعادته كان سارحا وفي حالة يرثى لها وأنكر وجوده في تلك الدولة وذهب لغرفته بكل برود وأغلق عل نفسه الباب. فقلت لأبي:

وماذا عن ابنه؟

قال: اتصل من تلك الدولة وقال لهم إنه لم يجد أباه وإن الذين اتصلوا بهم قالوا إنه رحل فجأة فأخبرته أمه بأن أباه موجود في المنزل منذ البارحة. أخبرهم الابن بعدم السماح له بالخروج حتى يعود لأنه يريد إخبارهم بشيء مهم. فقلت لأبي:

"وماذا قال لهم عندما عاد؟"

قال أبي: لم يلحق لأنه مات في حادث مروري وهو قادم من المطار.

فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. وماذا حدث بعد ذلك؟

قال أبي: لا شيء.. بقي الرجل مع زوجته وابنه الثاني في ذلك المنزل حتى كبر الابن وتزوج وتوفيت الأم بعد زواج ابنها ببضعة أعوام.

عدت للمنزل وأنا أفكر في كلام أبي عن قربينا وفي صورة ذلك الرجل الغريب التي لم تفارق خيالي ولا أعرف لماذا، لكني وبمجرد وصولنا ودخولنا للمنزل بحثت عن كتاب القرين وعندما وجدته فتحته وقرأته مرة أخرى وانتبهت لكلمة (دجن) المكتوبة في صفحة التحضير بخط مختلف ولم تقدني لشيء فوضعت الكتاب وخرجت كعادتي في التاسعة مساء للقاء أصحابي.

في منتصف الطريق تعطلت السيارة وتوقفت ولم أعرف ما بها فنزلت وفتحت الغطاء لأتفحصها لعلي أجد سبا لذلك العطل وإذا بصوت يأتي من خلفي ويقول:

"سلامات.. سلامات.. عسى ما شر؟!

فنظرت خلفي وإذا به ذلك الشخص الغريب الذي رأيته في المقبرة فجف ريقي وبدأ قلبي بالخفقان وقال لي وهو يبتسم:

"تبي أساعدك في شيء؟"

فقلت بصوت منخفض:

لا، وشكراً.. يمكنك الرحيل..

فذهبت الابتسامة من على وجهه وبدا عليه الغضب وقال لي بنبرة حادة:

"من هم أنت عشان تأمرني؟!

فنظرت له باستغراب وتعجب وقال بالنبرة نفسها:

"رح لربعك ولا تتأخر عليهم!!

رحل الرجل ماشيا على قدميه ووقفت بعدها متسمراً لفترة من الزمن أنظر له وهو يرحل حتى غاب عن ناظري. جلست في السيارة وأمسكت المقود ولم أتحرك لفترة ليست بالقصيرة. كنت خائفا من تشغيل السيارة ولم أعرف لماذا لكني في النهاية جربت إدارة المحرك كمحاولة أخيرة والذي دار فجأة.

دخلت على أصدقائي قبل اكتمال الساعة العاشرة مساء بخمس دقائق وعلى غير عادتي كنت هادئا وقليل الكلام والمشاركة في الحديث وكان بعض أصحابي يلعبون الورق وخلال لعبهم التفت إلى أحدهم وقال:

"في واحد سأل عنك قبل ما تجي.."

فقلت له: من؟

سألته وأن قلبي يخبرني بأنه ذلك الشخص الغريب الذي صادفته في المقبرة وعند تعطل سيارتي وكان ظني في محله فقد أخبرني أصدقائي بأن شخصا غريب الشكل والثياب طرق عليهم الباب وعندما فتحوا له سأل عني بالاسم فأخبروه أني في الطريق وطلبوا منه الدخول لانتظاري لكنه رفض دعوتهم ورحل وهو يقول:

"أنا اصلا بشوفه الليلة.."

كان أصدقائي يخبرونني بذلك وهم يضحكون عليه ويستهزئون بشكله ولبسه ويسألونني قائلين:

"من وين تعرف هالأشكال؟!"

وكنت أبتسم مجاملة لهم وأنا في قلبي خوف من هذا الرجل وظهوره المفاجئ في حياتي وسؤاله عني بهذا الشكل الغريب وهو يعلم أني كنت بجانب سيارتي المعطلة.

في نهاية الليلة وكالعادة توجهت للمنزل وعدت لغرفتي واستلقيت على فراشي وقبل أن أغفو سمعت صوتا قريبا مني. كان الصوت أشبه بصوت شيء يتحرك على الأرض ومع أن المكان كان مظلما لكني أحسست أن هناك من يراقبني أو يجلس أمامي.

أغلقت عيني في محاولة مني لتجاهل ذلك الإحساس لكن بعدها بقليل بدأت أشم رائحة مثل الدخان في الغرفة فتجاهلت الرائحة ولم أفتح عيني لكن الرائحة ازدادت في القوة ففتحت عيني لأجد الكتاب الثاني يحترق أمامي على الطاولة فقمت مسرعاً أحاول إخماده لكني لم أستطع اللحاق به ولم يتبق منه شيء سوى بعض الرماد وقصاصات الورق المحترقة.

استيقظت في اليوم التالي وأنا أفكر في الأحداث التي حدثت منذ أن قرأت الكتاب الأول فقررت سؤال بعض المشايخ لعلي أجد حلا أو على أقل تقدير تفسيراً لما يحدث لي عندهم، فبدأت بإمام الجامع القريب من بيتنا فلم أجد عنده الحل أو الجواب الشافي واكتفي بتذكيري ببعض الأذكار فقررت تجربة مسجد آخر ولم أجد شيئاً حاسما لمشكلتي أيضاً.

استمررت بالبحث في أغلب المساجد التي أعرفها ودب اليأس في صادري وعدت ذلك اليوم للمنزل مرهقا أبحث عن السرير لأنام عليه وأنسى عناء ذلك اليوم لكني لم أنم تلك الليلة لحظة واحدة.

فبمجرد أن وضعت رأسي على الوسادة أحسست بيد قوية تحكم إغلاقها على عنقي وتمنع الأنفاس عني.

بدأت أنفاسي بالتناقص وبدأت عيناي تغرقان بالدموع وكنت أسمع طقطقة فقرأت عنقي الذي كاد ينكسر من القوة التي أحكم عليه وأيقنت وقتها أن هالك لا محالة.

وفي لحظة اختفى الضغط من عنقي فجأة فنهضت من فراشي أبحث عن الهواء كالغريق الذي خرج للتو من الماء وكنت أبحث بعيني الدامعتين حولي عند مصدر هذا الاختناق لكني لم أر شيئاً.

بعد أن هدأت والتقطت أنفاسي حاولت النوم مرة أخرى لكن الضغط عاد على عنقي وبشكل أقوى من السابق وظللت في هذا الصراع فترة تجاوزت في مدتها الهجمة الأولى وكنت أرفس الهواء بقدمي عدة مرات طالبا للنفس حتى ظننت أن هذا الشيء لا يريدني أن أعيش وعازم على قتلي.

تكررت الهجمات طيلة الليل وخاصة عندما أحاول أن أنام وقبل الفجر بدقائق حدثت الهجمة الأخيرة لكن هذه المرة وخلال عملية الخنق وقبل ترك عنقي بثوان سمعت صوتا يهمس في أذني ويقول:

" لا تذهب للمساجد فأنت لست بعابد"

وانتهت بذلك الهجمة الأخيرة ونمت مباشرة من شدة الإرهاق والتعب.

استيقظت قبل المغرب بقليل وكان على عنقي وأكتافي آثار الهجمات في الليلة السابقة وجلست على طرف السرير حزينا على حالي أفكر في صمت. بعد مدة من التفكير توجهت للحمام واغتسلت ثم خرجت من المنزل وذهبت لأجلس أمام البحر أفكار حتى أصبحت الساعة الحادية عشرة ليلا تقريباً.

لم أكن أريد العودة للمنزل لأن ما حدث معي البارحة لم يكن بالشيء اليسير ولا تزال آثاره النفسية والجسدية يانعة في ذاكرتي ومرسومة على جسدي فقررت في لحظة يأس أن أذهب لمنزل قريبي العجوز الذي توفى. وصلت لمنزله عند منتصف الليل تقريبا وترددت في طرق الباب في تلك الساعة المتأخرة لكن خوفي من العودة لغرفتي دفعني لطرق الباب حتى فتح لي ابنه وعندما قابلته افتعلت قصة لأدخل غرفة أبيه وقلت له إن أبه كان قد استعار مني بعض الكتب وأريد استعادتها فسمح لي بالدخول على مضض.

توجهت لغرفة قريبي العجوز وبدأت أبحث فيها كالمجنون، بحثت في كل مكان وفي كل زاوية ولم أكن أعرف عن ماذا أبحث لكن لم يكن بيدي شيء آخر أفعله فواصلت البحث حتى وقعت عيني على صندوق تحت كومة من الملابس فسحبته لمنتصف الغرفة ورأيت أنه لم يكن مقفلا ففتحته. وجدت فيه مجموعة من الكتب وبعض الأوراق والرسومات الغريبة وكانت الكتب الموجودة داخل الصندوق كلها عل نفس هيئة الكتاب التي أعطاني إياها قريبي العجوز.

كنت أريد أن آخذ منها لكني لم أكن أعرف أي منها سينفعني وأي منها سيضرني فقررت الرحيل دون أخذ شيء منها. وقبل خروجي من منزل ابن الرجل العجوز قال لي ابنه:

لماذا لا تحصل على غيرها من المكان نفسه الذي اشتراها أبي منه؟

قلت له: أتمنى معرفة ذلك المكان.

فرد باستغراب وقال:

كنت أظنك تعرف مصدر هذه الكتب.

فقلت له بتوتر:

أخبرني بسرعة أرجوك من أين لأبيك بهذه الكتب؟

فأخذ ورقة وكتب عليها اسم بلد خليجي ثم مزق الورقة.

فقلت له: لماذا فعلت ذلك؟

فقال: أنا لست أحمق كي أدخل عالمكم.

فقلت له: أي عالم؟

فتركني ورحل وقبل رحيله قال:

تثبت من إغلاقه الباب عند خروجك.

خرجت من منزله وتوجهت للمطار مباشرة وحجزت أول طائرة متجهة لتلك البلد التي كتبها ابن الرجل العجوز في تلك الورقة قبل تمزيقها أمامي. عدت للمنزل وأبلغت أهلي بأني سأسافر لفترة قصيرة وبالرغم من محاولات أمي لمنعي من السفر إلا أني لم أستجب لها ولتوسلاتها ولم أرد عليها لكنها استطاعت في النهاية إجباري على قطع وعد لها بأني لن أتأخر وسأعود بسرعة.

ذهبت لغرفتي وأخذت معي الكتاب الأول وبعض الملابس البسيطة وخرجت فوراً باتجاه المطار.

لم يعلم أبي بخروجي لأنه كان نائما وكذلك أخي ولولا أن أمي كانت مستيقظة بالمصادفة لما قلت لهم فلم أكن أنوي إخبار أحد برحيلي لأني كنت عاقد العزم على الذهاب والعودة بسرعة في فترة لا تتجاوز الثلاثة الأيام. وصلت لمطار العاصمة بعد أقل من ساعتين في الجو، نزلت في المطار وأنهيت كل الإجراءات الأمنية وبعد دقائق من خروجي من باب المطار أدركت أني لا أملك عنوانا أو دليلا أو أي شيء يقودني لمصدر الكتاب فلم أكن أملك سوى الكتاب الأول فقط فتوجهت لأقرب فندق وبت فيه حتى الصباح.

لم أنم كثيراً وخرجت أتجول في تلك المدينة والكتاب معي ولا فكرة لدى عن الخطوة التالية التي يجب أن أتخذها.

بعد مدة من التجوال خطرت ببالي فكرة وهي التوجه لأي مكتبة لعلها تعرف دار النشر التي نشرت الكتاب أو أن يكون لديها فكرة عن المؤلف الذي قام بتأليفه.

وفعلا بحثت عن أكبر مكتبة هناك وتوجهت إليها وقدمت الكتاب لأحد المسؤولين في المكتبة الذي نظر بدوره للكتاب وتصفحه قليلا ثم نظر إلي وقال:

"من أين لك بهذا الكتاب؟"

فحكيت له معظم قصتي.

سكت مسؤول المكتبة قليلا وتغيرت ملامح وجهه ثم خرج عن سكوته وقال:

"لن تجد لهذا الكتاب مؤلفا أو ناشراً.. لكن يمكنني أن أدلك على من قد يساعدك في مسعاك".

فأعطاني وصفاً لمكتبة بعيدة عن العاصمة في مدينة أخرى يمكن أن أجد فيها ضالتي فقمت باستئجار سيارة كي أذهب إلى هناك لكني كنت أسأل طيبة الطريق لجهلي بالمنطقة. غطت الشمس في الأفق وتغير لون السماء للاحمرار وبدأ الليل بسط عباءته فلقد أضعت الكثير من الوقت بسبب كثرة سؤالي المستمر خلال الطريق ولم أكن قد وصلت بعد، لكني في النهاية وبعد عناء انتهى بي المطاف في تلك المدينة الصغيرة وفيها وجدت من دلني على تلك المكتبة، وبعد دخولي إليها وجدت على رفوفها كتاب مشابهة للكتب التي وجدتها في صندوق قريبي العجوز لكن صاحب المكتبة كان عجوزاً ضيق الخلق ورفض الحديث معي بخصوص الكتاب الذي كان معي واكتفى بإرشادي لمنزل شخص قال إنه قد يفيدني بهذا الخصوص، وبالرغم من التعب  والإرهاق قررت إكمال المشوار وعدم التوقف، فسألت أحد المارة عن الطريق فأرشدني وقال:

"الطريق الذي يجب أن تسلكه جبلي ووعر وخطر في مثل هذا الوقت من الليل"

وحذرني كذلك من شيء لم أفهمه.

قال: "خلال الطريق ستجد أناسا قامتهم طويلة أو قامتهم قصيرة وسيلوحون لك للوقوف إياك ان تقف لهم..  إياك"

أكملت طريقي باتجاه المكان الذي وصفه لي صاحب المكتبة ولم أشاهد أحداً في طريقي تلك الليلة.

وصلت للمكان المنشود في الفجر ولم أجد سوى منزل بسيط على سفح جبل مغطى بالخضر وكان المنزل بلا جيران وكان أقرب للكوخ منه إلى المنزل انتظرت في السيارة حتى أشرقت الشمس ثم نزلت وطرقت الباب ففتح لي شخص يناهز الستين من العمر ذو لحية حمراء يخالطها بعض الشيب ويلبس على رأسه عمامة ملونة ونظر إلي بتجهم. ثم وجه نظره وكأنه يشاهد شيئاً خلفي وقال:

"ادخل أنت فقط أما هو فليبق بالخارج.."

دخل الرجل بيته وترك الباب مفتوحا. نظرت خلفي ولم أر أحداً فدخلت لمنزله وأنا مرتبك لأن منزله كان غريبا. كان أغلب أثاث المنزل من الخشب وكان السقف عاليا بعض الشيء ورائحة المكان غريبة، كانت تشبه التفاح المتعفن جميلة ومقيتة في الوقت نفسه.

جلست أمامه وقبل أن أتكلم تكلم قبلي وقال:

لن تتخلص منه بسهولة.. لماذا استدعيته؟

صمت وأنا أنظر له ولم أعرف ماذا أقول.

فسألني بغضب: أين مخطوطته؟!

فأعطيته الكتاب الأول فرماه في وجهي بغضب وقال:

ما هذا؟! أين مخطوطته؟!

فغضبت وقلت له:

لا أريد منك شيئاً!!

وتوجهت للباب وأمسكت المقبض بقوة وفتحته ووضعت قدمي على عتبه للخروج فقال الرجل وهو يضحك بهدوء:

يا الله.. أنت لا تعرف شيئا عن عالمنا أليس كذلك؟

فصرخت فيه وقلت:

ولا أريد أن أعرف!!

فقال لي بهدوء وهو يتصفح الكتاب الأول:

أبعد قدمك عن عتبة الباب يا فتى فلو خرجت الآن من الباب دون معرفة اسمه سوف يفصل رأسك عن جسدك في لحظة.

فقلت له: من تقصد؟

قال: الشيطان الذي استدعيته ينتظرك بالخرج ويعرف الآن بعد منعي له من الدخول معك أنك تبحث عن طريقة للتخلص منه وهو لن يبرح مكانه حتى يقتلك.

فقلت له: ولماذا يقتلني؟

قال: لأنك أتيت للمكان الذي يمكن أن يجعلك تسيطر عليه وتتخلص منه.

فقلت: أخبرني إذا عن الطريقة التي يمكنني أن أتخلص بها منه!

قال: لا أستطيع دون المخطوطة التي استخدمتها لاستدعائه ومهما حاولت فلن تستطيع الخروج من هنا دون معرفة الطريقة الرادعة لذلك الشيطان لأنه سيبقى في الخارج ينتظرك دون أن ينعس أو يغلبه التعب.. صيفا وشتاء.. حتى لو استغرق الأمر منه أن ينتظرك مائة عام فلن يبارح مكانه حتى يقتلك.

بلعت ريقي وأنا أنظر للخارج من خلال الباب المفتوح وبدأت بالتراجع للوراء مبتعداً عن الباب الذي كنت أبعد عنه خطوة واحدة فقط وقلت للرجل وأنا أحدق للخارج بصوت خافت يعتريه الخوف:

وما العمل الآن...؟

قال لي: تعال هنا يا فتى واجلس بجانبي.

جلست مع الرجل لعدة ساعات أحكي له حكايتي وكيف انتهى بي المطاف لعتبه باب.. فسكت قليلا ثم قال:

ليس أمامك إلا حل واحد.

فقلت له: ما هو؟

فقام من مكانه وأشار بيده نحوي للحقا به فذهبت خلفه لغرفة كبيرة كلها كتب ومجلدات ضخمة كانت أشبه بالمكتبة العامة وكانت رفوفها مرتفعة وبعضها يستلزم سلما قصيراً للوصول إليه فقال لي وأنا أحدق بتلك المكتبة الضخمة بفم مفتوح وأعين متسعة:

هل تحب القراءة...؟

فقلت له وفمي مازال مفتوحا وعيناي تحدقان بتلك الرفوف العالية:

أحبها لكن ليس للدرجة التي تحبها أنت..

فضحك الرجل وقال:

ابحث عنه بين هذه الكتب وستجده وتجد اسمه وعندها ستعرف كيف تتخلص منه.

أغلقت فمي ووجهت نظري إليه وقلت له:

لكن.. من أين أبداً؟

قال وهو يسحب كرسيا ويضعه خلفي:

لا يهم من أي كتاب تبدأ فلن يشكل ذلك فرقا لأننا لا نعرف عنه شيئاً فأنت كما يقال تبحث عن إبرة في كومة قش.

جلست على الكرسي أحدق بتلك المكتبة الضخمة وخلال تحديقي بها وضع الرجل يديه على أكتافي وقال:

لا تضيع الوقت فالأمر قد يستغرق زمنا طويلا..

فابتسمت وقلت له:

لقد وعدت أمي بأن لن أتأخر ولا أنوي ذلك.

فرفع كفيه عن أكتافي وهم بالخروج من المكتبة وقال:

فلتبدأ إذا!

بدأت بالقراءة وكنت أظن أن الأمر سيستغرق ساعات أو على أكثر تقدير بضعة أيام لكن الأمر استغرق 3 سنوات كاملة لم ينقص منها إلا بضعة أسابيع وفي كل مرة كنت أحاول الخروج فيها عندما أصاب بحالة من اليأس كي أطمئن أهلي وأمي بالذات كان يحذرني الرجل من الخروج ومما قد يفعله بي ذلك الشيء الواقف في الخارج إذا خوت خطوة واحدة خارج الباب.

عشت بين تلك الكتب اللعينة التي تحدثت عن كل شيء يخص العالم الآخر. أصبحت ملما بالكثير من علومهم لكن لم أعرف شيئاً عن شيطاني الذي يقف عند الباب.

نمت بيني وبين الرجل علاقة صداقة على مر تلك السنوات وبدأ يشفق على حالي وكان دائما يردد كلمة لن أنساها ما حييت كان يقول:

"اصبر على ذنبك"

لم أكن أعرف معناها.. لكن كنت أحب سماعها منه وأرتاح عندما يقولها. خلال تلك السنوات الثلاث قرأت أكثر من ثلثي المكتبة التي كانت عبارة عن مجموعة من الكتب والمدونات والأوراق المنفردة بالإضافة إلى بعض الرموز الغريبة التي كانت تحمل معاني مجهولة لم أفهم معناها إلا بشرح من ذلك الرجل. وفي يوم لا أنساه كان المطر يهطل فيه بغزارة على سفوح الجبل الأخضر قرأت هذا السطر:

"تسلك من سواد ضاحك الثغر "دجن" ينهض من تراب وسيده يبكي في عدن"

تذكرت كلمة "دجن" التي كانت مكتوبة في الكتاب الأسود بخط يد مختلفة وبدأت بالبكاء بلا شعور حاملا الكتاب للرجل لأضعه بين يديه مشيراً لذلك الاسم اللعين بإصبعي وأنا أبكي كالطفل وكأني مسجون اتسلم للتو صك براءته.

نظر لي الرجل والكتاب مفتوح أمامه وقال:

"هل هذا هو شيطانك يا فتى؟"

فأشرت برأسي بـ "نعم" لأن صوتي سرق مني من شدة البكاء.

أجلسني الرجل بجانبه وحكى لي قصة (دجن) القرين المتمرد بالتفصيل. بعد ما فرغ الرجل من رواية قصة (دجن) قال لي إن الكتاب الذي قرأته لم يكن عن القرين بل كان خدعة لاستحضار (دجن) وهذه حيلة يستخدمها بعض السحرة والمشعوذين لإطلاق شياطينهم وتمكينهم من الوصول لعامة الناس لإيذائهم.

فقلت له وأنا أبتسم:

أعرف هذه المعلومة فقد قرأت عن هذا الموضوع في أحد كتبك منذ عدة أشهر.

وقف الرجل وأغلق الكتاب وقال لي:

هل أنت جاهز للرحيل؟

فقلت له: منذ أول يوم دخلت فيه منزلك.

وقبل أن أخرج قال لي الرجل ردد اسم (دجن) كي تحبسه في مكانه إلى الأبد ويجب أن تنطقها قبل أن تخرج لأنه قد يختلك قبل أن تنطقها بثوان.

فخرجت وأنا أردد: "دجن".. "دجن".. وتوقفت عن ترديدها عندما ابتعدت عن البيت أمتاراً قليلة ولم يحدث شيء.

فأردت نظري نحو باب المنزل لأجد الرجل واقفا عند بابه مبتسما.

عدت للرجل وودعته وشكرته بحرارة على حلمه وصبره معي تلك السنوات وعلى مساعدته لي في التخلص من ذلك الشيطان الذي عكر صفو حياتي وتوجهت مسرعا باتجاه السيارة التي ظلت مركونة لثلاثة سنوات وكل ما يدور في بالي هو:

"هل ستعمل؟"

ركبت السيارة وقبل أن أدير المحرك قال لي الرجل بصوت عال من أمام شرفة منزله:

عندما تعود في المرة القادمة أحضر لي بعض التين من بلدك!

فضحكت وقلت له بصوت أعلى:

لن أعوداً أبداً أيها الرجل الطيب!

فقال ضاحكا: ستعود.. صدقني ستعود!

وقد كان معه حق.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا