أما بالنسبة للفتيات .. فالأمر مختلف قليلا ..
كانت الفتيات الجميلات قد أنشأن لأنفسهن عصابة صغيرة .. يجلسن في نهاية الفصل ليمارسن حيلا صغيرة على المدرسين .. أو يمزحن بصوت خافت ولا يتابعن حرفا مما يقال .. كان هذا حالهن قبل أن تظهر (إيما) .. أما الآن فقد نسي جميع الأولاد جمالهن وتجاهلوهن تماما .. الأمر الذي - بالطبع - أثار غيظهن كثيرا .. وجعلهن يكرهون (إيما) ويناصبونها العداء .. وكثيرا ما أساءوا معاملتها وسخروا منها .. ولكنها لم تتأثر أبدا بسخرية الفتيات .. بل كانت تبتسم لهن في رقة وتحاول كسب ودهن .... وكان هذا يثير انبهاري كثيرا.
تسألوني كيف عرفت كل هذا ؟! .. حسنا .. كنت أراقب تحركاتها .. ومن منا لم يفعل!! .. الجميع كان يفعل هذا .. فالنظرات تتوجه إليها أينما ذهبت .. حتى أصبحت (إيما) حلم كل طالب في المدرسة .. و أكثر فتاة شعبية - كما يصفها الأمريكان - كما اكتشفت أنني أحمق .. أحمق إلى درجة غير عادية بعد أن عرفت أنها تفوقني كثيرا في تفوقها الدراسي .. أنا الحمار المغرور الذي كنت أظن نفسي الأذكى والأكثر تفوقا .. فكثيرا ما كان المدرسين يبدون انبهارهم بإجاباتها .. حتى أن مدرس الفيزياء أخبرها ذات مرة بأنها قد اقترحت عليه حلا لمسألة معقدة لم يفكر هو نفسه به على الإطلاق !! .. وكان لديها جواب جاهز في كل ثانية يوجه إليها الكلام أو السؤال .. حقا إنها لشيء نادر.
كنت أظن أنني لن يكون لي أي دور في الموضوع سوى دور المتفرج الحزين الذي يندب حظه لأن هذه الفتاة لن تلتفت إليه .. ولكن حدثت تغيرات كثيرة جدا بعد حوالي أسبوعين من انتقالها إلى مدرستنا !!.
في المدارس الحكومية تكون مكتبة المدرسة – مع كل أسف - مجرد ديكور .. فقلما تجد طالبا يدخلها .. حتى أنني أكاد أن أقسم أن 90% - إن لم يكن أكثر- من الطلبة الذين أنهوا دراستهم في المرحلة الثانوية لم يدخلوا إلى مكتبات مدارسهم من قبل لقراءة كتاب مثلا .. فإذا طلب المدرس من الطلبة إعداد بحث أو دراسة مثلا .. تجدهم يلجئون إلى مراكز خدمة الطالب التي تجدها في كل مكان في (الكويت) .. حيث يوجد هناك من يعد لهم بحوثهم ويطبعها لهم مقابل أجر مادي .. وأغلب المدرسين يعرفون ذلك حتى أنني أتساءل ما الهدف من كل هذا إن كان الطالب لا يستفيد أصلا .. وعموما فإن جميع المكتبات الحكومية تقريبا في (الكويت) قد عفا عليه الدهر .. وتمتليء بالفئران والصراصير .. أتذكر هذا وأتذكر ما شاهدته في التلفاز وقرأته عن المكتبة السلطانية في سلطنة (عمان) والمزودة بأحدث الأجهزة وكل ما يحتاج إليه الباحث .. عندها ينتابني القهر والحزن .. إننا نستطيع بناء أعظم صرح ثقافي في العالم .. نملك كل الموارد لذلك .. لكننا لا نريد .. السبب ؟ .. لا أعلم.
وحال المكتبات في المدارس الخاصة أفضل قليلا .. إذ تجدها مرتبة أنيقة تحوي كل ما يحتاج إليه الطالب من كتب .. إذ يضطر الطالب في بعض الأحيان أن يدخل إلى المكتبة لاستعارة بعض الكتب لإجراء بحث أو دراسة ما .. ويكون المدرس بالمرصاد .. حيث يناقش الطالب في أمور كثيرة متعلقة بالبحث .. ومن الممكن أن يكتشف إن كان معد البحث شخصا آخر وليس الطالب.
كنت أقضي بعض أوقات الفسح في مكتبة المدرسة للقراءة .. لا أمل القراءة أبدا .. ولن أتوقف عن المطالعة إلى أن يحين أجلي .. وأنا مؤمن تماما أن سبب تخلف العرب وتأخرهم هو أنهم لا يقرأون .. وهذا ما قاله عنا أعداؤنا في أكثر من مناسبة. كنت أجلس وحيدا في المكتبة حين دخل الفجر .. وغردت العصافير .. وهمست الورود .. فعرفت أن (إيما) قد دخلت إلى المكتبة .. تحفزت كل حواسي وأنا أحاول جاهدا ألا أنظر إليها .. أكره أن أرمق الفتاة بنظرات الإعجاب فهذا يجعلني أبدو كواحد من هؤلاء الأوغاد الذين يلتهمون الفتاة التهاما بنظراتهم .. لذا فلكم أن تتصورا مدى معاناتي في عدم النظر إلى وجهها الملائكي .. طلبت (إيما) من أمين المكتبة واحدا من كتب التاريخ .. فجلبه لها ونظرات الإعجاب لا تفارق عيناه على الرغم من أنها في عمر ابنته .. لا أدري ما هو شعورها وتلك النظرات تطاردها في كل لحظة .. شيئا كهذا قد يكون رائعا في بعض الأحيان .. ولكن في كل الأحيان ؟ .. إن هذا قد يحيل حياة الإنسان إلى جحيم .. وهذا هو حال نجوم السينما العالميين الذين دائما ما يقولون بأن نظرات الإعجاب تضايقهم أحيانا .. لأنهم يريدون أن يكونوا أناسا عاديين في بعض الأوقات .. و(إيما) كانت نجمة هذه المدرسة .. وإنني واثق – وأقولها دون أي مبالغة – أن أجمل جميلات هوليوود كن سيشعرن بالغيرة من جمالها وأناقتها الدائمة لو رأينها..
هل ترغب بشيء يا (خالد) ؟! ..
قالها لي أمين المكتبة بلهجة أبوية .. فهو أحد الذين يعرفون أنني يتيم الأبوين لذا كان يتعاطف كثيرا معي .. كما أنني من الرواد الدائمين لمكتبة المدرسة .. لذا فتربطني به علاقة جيدة ..
قلت له بأدب:
- شكرا يا سيدي ..
سألني باهتمام:
ماذا تقرأ ؟!
أريته غلاف الكتاب الذي بيدي .. وقلت:
كتاب (أعظم الخالدين) لأنيس منصور ..
أهااه .. إنه كتاب جيد .. لقد قرأته من قبل .. وأثار اهتمامي كثيرا كون أن كاتبه ألماني الجنسية مسيحي الدين ومع هذا فإنه يرى أن النبي (محمد) عليه الصلاة والسلام هو أعظم البشر .. كما أنني ..
قطع حديثه دخول أحد المدرسين إلى المكتبة وهو صديقا شخصيا له .. فاستأذن وتركني ليذهب ويجلس مع صديقه .. وظللنا على طاولة القراءة أنا و(إيما) فقط تجلس على بعد أمتار قليلة مني تقرأ أحد كتب التاريخ باهتمام شديد .. فاستغللت الفرصة لأمعن النظر في ملامحها الملائكية ..
أخبروني .. هل يوجد في الكون جمال كهذا ؟ .. هل يوجد في الكون سحر كهذا ؟.. كنت أنظر إليها في هيام .. ولكنها فجأة استدارت لتنظر إلي !! .. شعرت بإحراج شديد جدا فدفنت وجهي الذي احمر خجلا في الكتاب .. أحاول قدر الإمكان أن أندمج مرة أخرى في الكتاب .. ولكنني بعد لحظات رأيتها بنظرة جانبية تنهض من على كرسيها وتأتي لتجلس مقابلي .. هنا شعرت بأن العرق يغمر وجهي من شدة الخجل .. ما الذي تريده مني يا ترى ؟! ..
نظرت إلي وابتسمت:
- مرحبا
ابتسمت بحرج وأنا أقول:
أهلا
قلتها بصوت متحشرج من شدة الخجل .. فأنا مع الأسف لا أملك أي ثقة بنفسي .. خاصة حين يتعلق الأمر بالفتيات:
هل تسمح لي أن أسألك سؤالا ؟ ..
استجمعت ما أملك من شجاعة لأقول لها بلطف:
يبدو لي أنك تعرفين كل شيء .. إنك تجيبين على كل سؤال ببساطة .. فما الذي قد تودين معرفته من شخصي المتواضع ؟!
قالت برقة تذيب الصخر وابتسامة رائعة لا تفارق شفتيها:
اسمح لي تطفلي ولكن .. لماذا أنت دائما هكذا وحيد معزول عن باقي الطلبة ؟! .. إنني لم أرك تجلس مع أحد من قبل أو تصادق أحد .. وكأنك تعيش في عالمك الذاتي .. مرة أخرى أعتذر عن تطفلي .. ولكن عزلتك هذه لفتت انتباهي نوعا ما ..
قلت لها بخفوت شديد سببه الخجل وعدم الثقة بالنفس –كما تعلمون-:
لا أعتقد أنني أفتقد شيئا في عزلتي .. أشعر بأنني أعيش في عالم تافه .. وأن السوقية تنتصر يوما بعد يوم .. في حين أن صوت الحكمة هامسا يكاد لا يسمع في زحمة الحياة ..
وكان ما قلته هو مفتاح حديثنا .. فقد تحدثنا بعدها عن حال الدنيا .. وشرعت تستجوبني عن حياتي ونفسي استجوابا ناعما رقيقا .. فأجبتها بكل صراحة عما أرادت .. ولا أخفي عليكم بأنني لم أمنع نفسي من استشعار لذة خفية في ذلك .. أضف لهذا أنني أمتلك رغبة كل شاب بمحاولة إثارة إعجاب الفتيات بذكر كل ما يتعلق بإيجابياتي .. وتناقشنا بعدها بعدة قضايا سياسية وعلمية و.. .. وانقطع كل شئ فجأة عندما سمعت أكثر صوت كرهته في حياتي !! .. صوت جرس المدرسة معلنا نهاية الفسحة .. وقد أثار هذا غيظي كثيرا .. فمع (إيما) أستطيع أن أقضي العمر كله جالسا أتحدث إليها .. تركنا المكتبة عالما أننا –على الأقل- غدونا صديقين .. شدتني كثيرا بساطتها في الحديث .. كانت تتحدث وكأنها تعرفني من زمن .. وبرغم هذا لا تبدو متحررة أو وقحة .. كانت وكأنها تناقش أخاها أو قريبها بلا أي غرض سوى المناقشة في حد ذاتها .. إن هذا الأسلوب غير معتاد هنا في الشرق .. فعادة ما نتوقع من الفتاة التي لا نعرفها أن تكون شديدة التحرر أو شديدة الحياء .. ولا نفهم أي أسلوب آخر للتعامل مع الفتيات .. أما هذه البساطة فهي غريبة بالفعل.
كان لقائي معها في مكتبة المدرسة نقطة تحول بالغة الأهمية .. فبعد هذا اللقاء بدأت علاقتي مع (إيما) تزداد قوة .. وبدأنا شيئا فشيئا نقضي أوقاتا طويلة مع بعضنا البعض في الفسحة أو حتى بين أوقات الحصص الدراسية نتحدث عن كل شيء .. كانت تقول بأنها لم تتوقع أن تجد شخصا مثلي .. قارئ .. مثقف .. له اطلاع واسع .. متفوق .. ذكي طيب القلب –كما تقول- وكان هذا يرضي غروري كثيرا .. أما هي .. فلم تفعل سوى أنها زادت من إعجابي بها .. فلا يمكن لأحد أن يتخيل أن هذا الرأس الجميل يحوي مخ عبقري .. والعباقرة –كما علمتنا القصص والأفلام- لا علاقة بينهم وبين الجمال بتاتا .. لكن هذه الحسناء الملائكية حطمت هذه القاعدة تحطيما.
ثلاث أسابيع مضت منذ لقاؤنا الأول .. ثلاث أسابيع قضيت فيها أوقاتا رائعة مع هذه الفتاة في المدرسة .. والغريب أنني أؤكد لكم مرة أخرى وأخرى أنني لم أر بها عيبا واحدا .. حتى ثيابها وحذائها .. نفس الأناقة والنظافة الشديدة .. كأنها ابتاعتهم للتو .. كنت أود سؤالها عن هذا الأمر .. لكنني خجلت من التدخل بشؤونها.
لقد أثار ذهولها –تقول هي- ما بدا على وجهي من معاناة على الرغم من صغر سني .. إلا أنني –تقول هي أيضا- كنت أوحي بالثقة .. وعلى حد قولها (ارتاحت لوجهي السمح) .. أما أنا فماذا أقول عنها أكثر مما قلت .. السحر والرقة والبراءة والذكاء والثقافة والجمال الخارق .. بمزيج أسطوري لا يمكن أن يوجد بفتاة .. لها ضحكة عذبة تشعرك بأنك شيطان من شدة براءتها .. حتى لأنك لن تمل التحديق بها لساعات .. لقد كانت طرازا نادرا من البشر .. لا يوجد إنسان بلا عيوب لكن من المؤكد أن عيوب (إيما) كانت خافتة جدا لأنني لم أنتبه إلى أي منها.. ولا أنسى أن أذكر لكم أن علاقتي معها كانت شيئا فاق قدرة الطلبة على التخيل .. وأخرسهم تماما .. وحين ثابوا لرشدهم أدركوا أن الفتاة لن تكون لهم .. كانوا يكرهونها بشدة بعد أن هاموا حبا بها .. لماذا ؟ .. لأنها لم تخترهم .. بل اختارتني أنا !! .. هكذا يرون الأمر .. يعتقدون أننا نعيش قصة حب – وإن كنت أتمنى ذلك- إلا أن هذا لم يكن صحيحا مع الأسف .. فلنقل أنه صحيح من جانبي أنا .. فقد أحببتها بالفعل .. ومن هو الأحمق الذي لا يفعل ؟! .. ولكم طبعا أن تتصوروا نظرات الحسد التي كانت تلتهمني التهاما من زملائي حين كانوا يروننا معا .. نظرات مليئة بالحقد ترمقني طوال الوقت .. ولو كانت نظراتهم سهاما تقتل لحولتني إلى مصفاة !! .. عرفت كل شئ عني – عدا قصتي مع تحضير الأرواح وقصتي مع (راشد)*- فقد أخبرتها عن جدتي .. هواياتي .. طموحي .. أحلامي .. تحدثنا كثيرا في كل شئ .. وعن كل شئ .. وعما إذا كان هذا العالم يستحق أن نعيش به .. وما إذا كان هناك أمل أن تختفي السوقية من عالمنا ..
أصبحت أحب الحياة .. وأحبها هي بجنون .. ولكن علاقتنا بقيت في المدرسة فقط ولم تتجاوز سورها إطلاقا طوال تلك الأسابيع .. أنا واثق من قدراتي العقلية ..
*راجع: قصة الصدمة.
لكني أعرف تماما قدراتي الجسدية والجمالية المحدودة .. وعندما يزهو المرء بنفسه فعليه أن يزهو بما يملكه حقا .. وإلا غدا طفلا تافها يحسب نفسه قادرا على مصارعة الأسود ويصدق نفسه.
لقد أصبحت (إيما) تعرف كل شيء عني .. ربما أكثر مني .. كانت تقول أنني أملك قدرا هائلا من الرومانسية .. وعالمي الذاتي ثري جدا ويعذبني بألف فكرة وألف عاطفة في الثانية .. كانت تقول أنني طينة فنان حتى وإن لم أخلق شيئا .. ألم أقل لكم أنها تعرف كل شيء عني .. وربما أكثر مني ؟! .. كان الشيء الوحيد الذي يضايقني هو تجنبها
الحديث عن عائلتها بشكل واضح .. كنت أنا من يتحدث في معظم الأحيان .. وكانت هي فقط تسأل .. وأنا أجيب.
وكان لا بد أن يأتي اليوم الموعود .. عندما تجرأت وطلبت منها أن تأخذ رقم هاتفي .. وجاء الجواب الذي لم أتوقعه على الإطلاق ..
بالتأكيد إن هذا سيسعدني كثيرا ..
قالتها بحماس لم أتوقعه ..
انفرجت أساريري .. وكتبت لها رقم هاتف المنزل .. على أمل أن تتصل بي في نهاية الأسبوع .. وكانت هذه هي البداية الحقيقية للقصة !!.
كان هذا في عطلة نهاية الأسبوع .. وبالتحديد يوم (الأربعاء) .. في شهر أكتوبر .. كنت أنتظر على أحر من الجمر موعد اتصالها وهو العاشرة مساء.. وكانت جدتي قد ذهبت إلى الفراش مبكرا كما هي عادتها ..
أعددت جوا رومانسيا للمكالمة الموعودة .. صوت (Enya) الهاديء الحالم ينبعث من جهاز التسجيل .. وضوء النوم الخافت جعل غرفتي تبدو وكأنني أعيش حلما جميلا .. أي ضير في أن يحب الإنسان حبيبته بجنون ؟ أن يقضي الساعات يحلم بتعبيرات وجهها الصبوح وأن يسهر الليل محاولا فهم ما كانت تريد قوله حين أخبرتها بكذا .. وكذا .. و .. ولم تجعلني حبيبتي أنتظر على الإطلاق .. ففي تمام العاشرة دق جرس الهاتف .. وأنا لا أدري حال الهاتف في بيوتكم .. لكنه عندي لا يدق إطلاقا .. لذا كنت واثقا أنها هي ..
نهضت ملسوعا لأرد على الهاتف .. كانت هي بالفعل ..
مرحبا (خالد) .. كيف حالك ؟ ..
قلت لها في هيام ولهفة:
أهلا (إيما) أشكرك كثيرا على اتصالك في الموعد المحدد ..
ثم ازدردت لعابي:
- إنك دقيقة في كل شيء ..
قلتها بهيام قلتها بافتتان .. قلتها بامتنان ..
دار بيننا حديثا جانبيا عاديا لفترة بسيطة .. ثم ..
(خالد) لماذا طلبت مني محادثتك في الهاتف ؟! ..
قلت لها بعد لحظات من السكوت والتردد:
(إيما) أرجوك ألا تغضبي مني .. أود فقط أن أخبرك بأنني .. بأنني .. بأنني أهيم حبا بك .. أحبك بكل ذرة من كياني .. و ..
وأخبرتها كم أنا مفتون بها .. وكيف تسللت هي إلى حياتي كالحلم الجميل .. حتى أنني تركت لها نفسي في رضا .. وارتياح .. ولو طلبت مني أن أتبعها إلى آخر الأرض لفعلت دون تردد ..
أعلم جيدا بوجود فارق كبير بين الهيام والسحر .. وبين الحب والافتتان .. وكلاهما لا يبطل الآخر ولا يتعارض معه .. إلا أن مشاعري مزيجا من كل هذا ناحية حبيبتي (إيما) كنت أقول لها بانفعال:
حبيبتي .. إنك رقيقة لطيفة لم تتربين إلا على أجمل القيم في الحياة .. ومن يراك يشعر وكأنك خلقت من فورك من فرط أناقتك وطهارتك .. إنك تجعلينني أشعر بأنني ملفوفا بالمخمل بعيدا عن مخالب المجتمع الشرير .. (إيما) .. كنت أظن أن جميع الفتيات في البداية رقيقات حالمات .. حتى تجدن زوجا .. عندها لا يعود لديهن وقت للحب والرومانسية .. فتجديهن قد أصبحن كالكرة من شدة بدانتهن .. ويرين كل شيء يتحدث به رجلهن هو سخافات وتفاهات .. ولكن الأمر مختلف معك تماما .. أنت أطهر من أن تكوني في هذا العالم .. أنت .. أنت ..
ولم أستطيع إكمال حديثي من فرط الانفعال ..
شعرت بأنها رأفت لتوتري وانفعالي .. فقالت مقاطعة:
(خالد) .. إنك أنت الإنسان النادر .. إنك مختلف .. ومتميز .. إنك إنسان حنون طيب القلب تحب الخير .. لقد أخبرتك بهذا من قبل .. وصدقني هذا ما جعلني أتقرب إليك وأكسب صداقتك ..
صداقتي ؟!! .. قلتها في سري بشيء من الحزن ..
(إيما) إنني أطمع فيما هو أكثر من صداقتك .. إنني أحبك .. أحيك يا حبيبتي .. وأقسم لك بأنك أول حب في حياتي .. وآخر حب .. إنني ضعيف لا أملك شيئا من الوسامة .. ولا أملك سوى قلبي الذي يحبك ويموت في هواك ..
لا أدري كيف ولا متى بكيت .. وبدأت أتخمط كالطفل الصغير ..
قالت بحنان جارف وبصوت مليء بالحسرة:
أرجوك أن تهدأ يا (خالد) .. ما الذي فعلت بك الحياة ؟!
لم تفعل شيئا على الإطلاق .. لعل هذا سببا كافيا للبكاء ..
(خالد) .. إنك تحبني وقد لاحظت هذا منذ فترة .. أما مشاعري أنا فـ .. فـ.. أرجوك أعطني فرصة .. أعطني مزيدا من الوقت ..
وهو كذلك يا حبيبتي ..
مسحت دموعي وكففت عن البكاء .. وحاولت أن ألملم شتات نفسي .. وشرعنا نتحدث مرة أخرى بكلام مليء بالأحاسيس والمشاعر .. كانت أمسية ساحرة جميلة كالحلم .. حتى أننا ظللنا نتحدث لأكثر من ثلاث ساعات .. وعندما وضعت السماعة .. كان قلبي يخفق بهيام ..
أنا غريب الأطوار الذي أملك عالما ذاتيا لم يدخله أحد ولا يعيش فيه أحدا غيري .. جاءت هذه الفتاة الرقيقة فجأة لتحتل عالمي وتغزو وجداني دون أي مقاومة مني .. وأنا سعيد بذلك.
لقد قررت أن أحترم رغبتها وأعطيها ما تريد من وقت حتى تعرف حقيقة مشاعرها نحوي .. ناضجة .. ناضجة إلى درجة تفوق فيها حكمة الحكماء .. فلو كانت فتاة أخرى في مثل سنها لجعلها هذا الموقف صريعة غرامي .. ليس للأمر علاقة بمظهري .. بل أن حرارة الموقف تفرض ذلك .. خاصة مع المراهقات .. فعادة ما تعشق المراهقة أول شخص تتجاذب معه أطراف الحديث في الهاتف .. ولو لم تفعل فلأسباب ثلاثة .. أن تكون فتاة مستهترة تريد التلاعب بمشاعر من يحبها .. وأنا واثق تمام الثقة أن (إيما) ليست كذلك .. أو – أخيرا وليس آخرا - أن تكون فتاة ناضجة .. وأنا واثق أنها كذلك .. أو أنك لا تروق لها .. لا
أعرف .. إن النقطة الأخيرة بالذات تثير مخاوفي كثيرا .. إنها لم تشر قط إلى جسدي النحيل .. ولا ملامحي الأقل من عادية .. بل نظرت إلى عقلي وذكائي وروحي الطيبة –على حد قولها- وإلى عيني الحائرتين اللتين رأت روحي من خلالهما .. قالت لي أن الحزن الظاهر من عيني هو ما شدها إلي .. ولكن هل هذا يكفي كي تحب هذه الفتاة الملائكية شخصا مثلي ؟! .. أكثر ما أخشاه أن تتصل بي لاحقا وتخبرني بأنني شاب ممتاز وما إلى هذا الكلام ولكننا لن ننسجم مع بعضنا البعض .. وأنه توجد ألف فتاة أفضل منها .. ومن هذا الكلام الذي تقوله الفتيات عادة لمن لا يردن كسب وده .. كان هذا الشيء يثير خوفي كثيرا وينغص على عيشتي .. فلا يوجد هناك أي تكافؤ بيننا من أي نوع.
خطر لي خاطر أفزعني وهو أنها لا تريد سوى صديق تثق به .. وأنني أنا من تراه صديقا مناسبا لها .. فأنا الوحيد الذي لم يطاردها لكسب ودها كما فعل الأوغاد في المدرسة .. لا أدري .. حقا لا أدري ..
خطرت بذهني أيضا الأمور الأخرى التي تحيرني في (إيما) .. والتي لولا حبي لها وتحولي إلى طفل عندما أكون معها لكنت غارقا في تساؤلات لا حصر لها .. فلماذا تصر على إخفاء كل ما يتعلق بحياتها الخاصة ؟! .. عند خروجها من المدرسة تستقلها سيارة فارهة حديثة إلى منزلها .. وتقوم نفس السيارة بإيصالها إلى المدرسة .. فلا أعرف أين تسكن .. ولا أعرف أي شيء من أي نوع عنها .. إنها مجهولة تماما يحيط بها غموض شديد .. لماذا تخفي عني خصوصياتها ؟ ..إن هذا ينغص علي حياتي .. أعلم أن غموض المرأة هو سرها المقدس .. هذا أكيد ولكن ليس إلى هذا الحد .. كنت أشعر بمرارة .. كنت أشعر بأنني أتضاءل ..
غرقت في خواطري هذه وأنا مندسا تحت اللحاف حتى ذبت في عالم الأحلام.
تطورت علاقتي مع (إيما) كثيرا بعد محادثتنا الأخيرة عبر الهاتف .. نقضي وقتنا في المدرسة سويا .. ثم أتصل بها في المساء نتحدث لمدة ساعة أو أكثر بعد نوم جدتي التي لم أخبرها - بالطبع- أي شيء عن حبيبتي ..
كنا –(إيما) وأنا - نحرز الدرجات النهائية في اختبارتنا .. ولكن إجاباتها كانت أفضل .. كان كل مدرس يقولها بصراحة أن إجابات (إيما) ذكية جدا .. أي أنها تعطيك إجابات بطريقة جديدة قد لا يعرفها المدرس نفسه !! .. خصوصا في المواد العلمية .. وبالطبع لم يتغير شيئا من الانبهار المستمر بها .. دائما نفس الأناقة .. وذات الثياب الجديدة للغاية .. ودائما الجمال الساحر والملامح البريئة الملائكية .. لا يمكن لأحد أن يمل (إيما) .. فهي دائما تملك الجديد .. حديثها عذب .. روحها شفافة .. حتى أنني أتساءل عن حال أهلها الذين أنجبوا هذا الملاك .. واستمرت علاقتي معها على نفس المنوال وإن لم أشر مرة أخرى إلى حبي لها خوفا أن يضايقها هذا .. وكان هذا عذابا ونار لا تطفئها كل أنهار الأرض .. لقد كنت أحترق عزيزي القاريء .. أحترق حقيقة لا مجاز.
وفي أحد أيام عطلة نهاية الأسبوع .. وبالتحديد بعد منتصف ليلة (الخميس) .. كنت نائما بعد أن حادثتها لما يقارب الساعتين في الهاتف .. عندما رن جرس الهاتف مرة أخرى .. تململت .. وشعرت بالضيق .. لأن ترك الفراش في هذا الجو البارد – بفعل جهاز التكييف - أمر غير إنساني .. لا يوجد سوى هاتفين في الشقة .. أحدهما في حجرتي والآخر في الصالة .. ونحن معتادون على فصل سلك الهاتف عند النوم حتى لا يزعجنا أحد بحجة أنه قد طلب الرقم الخطأ.. أما هاتف غرفتي فلم أكن أفصل سلكه .. خصوصا بعد أن صرت أتحدث إلى حبيبتي (إيما) ..
جرس الهاتف يرن بإلحاح .. أطلقت سبة .. ونهضت غاضبا لأرفع السماعة .. أعرف أنه على الأرجح شخصا قد طلب رقما بالخطأ .. نظرة سريعة إلى الساعة لأعرف أنها الواحدة بعد منتصف الليل .. رفعت السماعة وقلت بشيء من الحدة:
آلو
سمعت صوت الملائكة يقول:
ألو .. (خالد)
إنها هي مرة أخرى !! ..
طار النوم من عيني تماما وقلت بشيء من الارتباك:
(إيما) .. آسف .. لم أكن أعلم أنه أنت ..
(خالد) .. أريد أن أخبرك بشيء .. هل أستطيع أن أراك ؟!
قلت بلهفة:
بالتأكيد .. في أي وقت تريدينه ..
الآن .. هل هذا ممكن ؟!
خيل إلي أنني لم أسمعها جيدا .. ثم انتبهت إلى ما تريد:
(إيما) .. الآن ؟؟!! .. مستحيل!!
بدا لي وكأنها قد أصيبت بخيبة أمل:
ألا تقدر أن تراني الآن ؟!
بالتأكيد أقدر .. ولكن ماذا عنك .. كيف ستخرجين وحدك .. وهل سيسمح لك أهلك بذلك ؟! ..
قالت بتوتر لم أعهده فيها من قبل:
لا تقلق بشأني .. أريد أن أراك الآن فحسب .. أرجوك ..
ترجوني .. (إيما) ترجوني .. بل أنا الذي أتوسل إليها أن تأتي ..
بكل تأكيد .. أين تريدين أن نلتقي ؟ ..
هل أستطيع زيارتك في منزلك ؟!
صعقت تماما عندما قالت هذا .. ولكنني تمالكت نفسي وقلت بحذر:
بالتأكيد .. إن جدتي نائمة .. تستطيعين زيارتي الآن وسنجلس في غرفتي .. ولكن إن أتيت لا تطرقي الباب .. اتصلي من هاتفك الخلوي .. لأفتح لك ..
إذا افتح الباب .. أنا في انتظارك الآن !!
كان هذا كافيا كي يغمى علي من هول المفاجأة .. لا أدري إن كان يجب أن أفرح أو أحزن لأمر كهذا .. لماذا جاءت لزيارتي ؟؟ .. وكيف خرجت من منزل أهلها؟؟ .. وكيف عرفت مكان سكني ؟! .. ومتى ؟! .. ولماذا ؟! .. و .. لا يوجد وقت لهذه الأسئلة الآن .. نهضت كالملسوع من فراشي .. رأيت وجهي في المرآة الذي بدا لي قبيحا إلى أقصى درجة حال أي شخص استيقظ من النوم للتو .. ولو أضفنا إلى ذلك شعري المنكوش ومنامتي فـ .. لم أن تتخيلوا .. لن أجد وقتا لغسل وجهي وارتداء شيئا ملائما .. إنها تنتظرني عند باب الشقة ولن أدعها تنتظر طويلا .. ستراني بهذا الحال المزري وليكن ما يكن .. لا شك أنها لا تتوقع أن تراني الآني مرتديا بذلة سهرة مثلا ..
خرجت من غرفتي لأفتح لها الباب و .. وجدتها بروعتها وجمالها كما عهدتها دائما .. لم يتغير شيء على الإطلاق سوى لمحة حزن استطعت استشفافها من ملامحها .. لم نتفوه بحرف واحد .. أشرت إليها أن تتبعني .. وقدتها بهدوء وحذر - كي لا نصدر أي صوت قد يوقظ جدتي- إلى غرفتي وأقفلت الباب .. بالطبع كدت أن أموت خجلا من مظهري المزري الذي لا أسمح لامرأة سوى جدتي أن تراه .. وهززت رأسي في حرج محييا بعد أن جلسنا في الغرفة .. ضوء مصباح النوم الخافت المعتاد .. وصوت (Enya) الهاديء الجميل ينبعث من جهاز التسجيل أعلى من صوتنا حتى لا تسمعنا جدتي .. فآخر ما أريد هو أن تعرف أنني أستضيف فتاة في غرفتي .. لذا كان لا بد من اتخاذ هذا الاحتياط .. وقد جعل كل هذا غرفتي أشبه بحلم جميل .. خاصة مع وجود حبيبتي(إيما) .. أجمل وأرق فتاة رأيتها في حياتي.
كانت ترتدي فستانا جميلا جعلها فاتنة إلى درجة يتحول المجرم أمامها إلى طفل صغير .. وهذه أول مرة أراها ترتدي شيئا غير الزي المدرسي .. إلا أن لثوبها نفس الميزة التي تثير حيرتي .. إذ يبدو جديدا للغاية .. ونفس الشيء بالنسبة لحذائها .. علما بأنها قد خلعت حذائها لأرى ولأول مرة أجمل وأرق قدم أراها في حياتي .. قدم رقيقة لم يكس كعبها بطبقة خشنة كالصنفرة كما هو الحال مع معظم الأقدام .. مضت لحظات من الصمت وأنا أشعر بحيرة لقدومها المفاجيء مع انبهار لا يوصف بهذه الفتنة وهذا الوجه الملائكي مع القوام الرشيق الذي تتفوق به على أفضل عارضات الأزياء في العالم ..
استطعت أن ألتقط أنفاسي وأسألها:
(إيما) .. لماذا أتيت ؟َ! ..
ثم قلت بخجل:
عفوا .. أعني .. أي ريح طيبة ألقت بك ؟!
انحنى عنقها حتى لا أرى وجهها وصمتت برهة .. ثم حين رفعت رأسها فهمت الحقيقة .. لقد كانت تبكي !! .. تبكي بتلك الطريقة المفاجئة التي تفاجئنا بها الفتاة حين لا نتوقع أن هناك ما يدعو للدموع .. كانت تبكي وترتجف !! .. هنا جن جنوني .. وأقسمت: لو أنها سألتني أن أسافر إلى (فنلندا) مشيا على الأقدام لفعلت الآن ..
أحدق في وجهها .. جمالها ورقتها يخطفان الأبصار ويذهلان العقول .. لم أستطع رؤيتها تبكي بهذه الصورة دون أن أفعل شيئا .. فنهضت وجلست بقربها .. فقد كانت تجلس على فراشي وأنا بالمقابل كنت جالسا على كرسي المكتب الذي أضع عليه جهاز الكمبيوتر الخاص بي .. كم وددت أن أمسك بيديها الرقيقتين وأقبلهما وأذوب بهما .. كم وددت أن أحتضنها .. علما بأنني لم ألمسها إطلاقا منذ عرفتها .. ولم حتى أصافحها ..
(إيما) .. ما الذي يجري ..
قالت لي والدموع بعينيها ..
(خالد) .. إنني .. إنني أحبك
كاد أن يغمى علي .. (إيما) تحبني أنا ؟!! .. شعرت أن جسدي يرتجف بقوة .. لا أستطيع السيطرة على أعصابي ..
قلت لها بكلمات صادقة منفعلة:
(إيما) حبيبتي .. إن حياتي ليست سوى هراء طويل بدونك .. أنني أذوب في هواك .. أعشق كل ذرة من كيانك .. لقد كنت أبكي بحرقة في طفولتي لأنني أرغب في دخول عالم ديزني الخيالي حيث لا وجود سوى للحب والخير .. وأنا وجدت هذا العالم من خلالك أنت يا حبيبتي .. إنني أعيش معك أجمل لحظات عمري .. إنني أعيش فترة من الصفاء الروحي الكامل .. حتى بدأت أعتقد أنني مت أخيرا .. وصرت روحا شفافة بعيدة عن المرض والألم والحزن .. كل هذا بفضلك أنت يا حبيبتي .. إنني إلى عينيك أنتمي ..
كانت تنظر لي بهيام ممزوجا بالحزن ..
ثم تذكرت شيئا فاستطردت بحماس:
حبيبتي .. لماذا تشعرين بالحزن ؟! .. إن هذه لهي أجمل لحظات حياتنا .. فلنعشها ونستمتع بها ..
نظرت لي بهيام .. ومدت يدها لتمسك بيدي .. وأمسكتها .. أخيرا لمست يديها .. لم ألمس بحياتي يدا رقيقة بلورية هشة كهذه .. حتى خلت للحظة بأنني سأهشمها بيدي .. صوت (Enya) الحالم لا زال يتغنى ويتحدث بالتأكيد عن مشاعري .. ويصف خفقات قلبي في تلك اللحظة كما لم أستطع أبدا أن أصفها ..
هنا قالت (إيما) بهيام:
حبيبي .. أحبك ..
اهتز قلبي .. لقد أسكرني حبها تماما .. لا أعرف ما الذي جرى لي .. لقد نسيت نفسي تماما .. هأنذا أقف كالمسحور أشاهد شيئا يفوق الوصف .. أشاهد سحر وفتنة لم أشاهدهما في حياتي ..
وأنا أذوب في هواك يا حبيبتي
قلتها وأنا ممسك بيديها الرقيقتين الناعمتين .. هل تفهم تلك اللحظات ؟ .. حين يتجمل الوجود .. وتشعر في روحك برضا هائل عن نفسك وعن الكون ؟ .. حين تتمنى أن تظل في هذا المكان والزمان حتى تموت ؟ ..
حبيبي .. أغمض عينيك وحاول أن تسترخي ..
قالتها بصوت هاديء ناعس ..
فوجدت نفسي مفتونا مسحورا أستجيب لها برغم إرادتي .. أقسم أنني فقدت كل إرادتي .. إنني أتأمل قليلا .. أغمض عيني باسترخاء شديد ويدها لا زالت تمسك بيدي .. ثم قلت بخفوت شديد جدا وأنا أشعر بشيء لم أشعر به في حياتي:
الكون .. الفضاء .. النجوم .. هل أنا أحلم ؟! ..
تردد صوتها الهاديء الدافيء في عقلي وكأنه قادم من عالم الأحلام:
حبيبي .. أنت لا تحلم .. جزيئاتي وجزيئاتك تمتزج بالكون ذاته .. ليس هناك كيان مادي لنا .. نحن طاقة تبحر عبر الأبعاد الأربعة .. أنا وأنت فقط في الفضاء .. الكون يفصح عن أسراره لنا فقط .. أنا وأنت روحان يجوبان الكون بلا أجنحة نحو عالم آخر أكثر جمالا ورحمة .. هل تشعر بلذة الهرب يا حبيبي ؟.. أن تلقي بأعبائك وتحلق؟! .. إننا نقترب من سر الكون .. إن الحقيقة الوحيدة في هذا الكون هو الإله الذي خلق كل هذا .. ونحن جزء من كل هذا الوجود الذي لا يصدق ..
لم نعد في هذا العالم .. لقد ذبنا تماما .. تلاشينا في ذلك السر الذي يحكم قوانين الكون ودوران الذرات وهجرات الطيور .. امتزجنا بالنجوم والليل والقمر حتى غدونا جزءا منها .. نشوة رائعة شعرت بها ..
التزمت الصمت لأكثر من نصف ساعة وكنت في شبه غيبوبة قبل أن أستفيق بسبب صوتها الحنون الذي همس برقة:
حبيبي .. استيقظ
فتحت عيناي وكأنني كنت في عالم آخر كل شيء فيه طاهر وجميل .. ثم تداركت نفسي وقلت بحيرة ودهشة شديدة:
حبيبتي .. ما الذي جرى .. كيف شعرت هذا الشعور الرائع ؟! .. ما الذي فعلتيه؟! .. لقد شعرت وكأنك انتزعت عقلي من جسدي وجعلتيني أبحر في الفضاء ..
ابتسمت بعذوبة وقالت:
إنه الحب يا حبيبي .. أنا شعرت بالشيء ذاته ..
هل قرأتم الكلمات المتعلقة بتحليقي في الكون بين النجوم .. أقسم لكم بأن هذا ما شعرت به تماما .. شعور رائع لذيذ لا يوصف .. وكأنها سرقتني من نفسي وأعادتني إلي !! .. وكأن ذرات جسمي قد تفككت لتسبح في الفلك بهدوء بعيدا عن ضوضاء العالم .. هنا همست بدهشة وانبهار ونشوة وأنا أسأل حبيبتي:
من أنت ؟!
فكانت تبتسم ابتسامة تجعلني أذوب وتقول:
أنت تعرفني جيدا .
حاولت أن أكون جادا .. حاولت وفشلت .. فخرج صوتي حنونا هادئا وأنا أقول:
ولكن هناك أمور غير عادية .. مجيئك في ساعة كهذه .. ثيابك وحذاءك الجديدين دائما .. جمالك الساحر .. أنت جميلة من الطراز الذي يتحول الرجال أمامه إلى أطفال لا يفقهون شيئا .. جميلة قادمة من نفس العالم الذي جاءت منه دليلة وجولييت .. الفارق هو أنك أجمل منهن بكثير .. كما أنني لا أعرف أي شيء عن حياتك الخاصة .. ألم يحن الوقت لأعرف ؟!
فكانت ثم تنظر لي بهيام وحب وتقول:
نحن معا أليس هذا ما يهم ؟!
فأقول لها برجاء:
أعلم أن غموض المرأة هو سرها المقدس .. ولكن هذا أمر يوفق الوصف .. يجب أن أعرف شيئا عنك ..
فكانت تقول:
سأخبرك بكل شيء لا حقا .. كن صبورا ..
وبعد ساعتين تقريبا لم نفعل فيهما شيئا ولم نقل شيئا بل تركنا عيوننا تتحدث وتقول قصائد في الحب .. وبعد أن ألفت حبيبتي (إيما) غرفتي .. رأيت عيناها تستكشفان المكان .. تنظر إلى صورتي مع جدتي المعلقة على الحائط فوق فراشي .. وتنظر إلى صورتي الأخرى وأنا في العاشرة من عمري أنظر إلى الكاميرا وأبتسم ببلاهة .. التفتت ناحية الكومودينو فرأت ورقة صغيرة وقد كتبت عليها اسمها أكثر من مرة .. وهذا ما أفعله مؤخرا حين أجلس في غرفتي وأفكر فيها .. إذ تجدني لا شعوريا أكتب اسمها بنقوش مختلفة .. فكانت تنظر إلي بامتنان وحب ..
وقد خطر ببالي الحلم .. أو الرؤيا التي رأيتها فيها قبل أن أراها فعليا في المدرسة .. ووجدت أن هذه فرصة مناسبة لأخبرى عن الحلم .. وقد أخبرتها بالفعل .. وذكرت لها بأنني صعقت عندما شاهدتها في المدرسة .. فقد كان الأمر شبيه برؤيا تتحقق أمام عيني ..
نقلت لها خواطري كاملة .. فأبدت استغرابها من ذلك ثم قالت بهيام:
- لعلها رؤيا يا حبيبي .. لعله قدرنا أن تتلاقى أرواحنا قبل أن تتلاقى أجسادنا.
ولكن .. هناك دائما اللحظة المؤسفة التي تدرك فيها حقيقة أنها لن تظل هنا للأبد .. لا بد من كلمة (إلى اللقاء) .. وبعدها تندس تحت أغطية فراشك مفعما بالأحلام .. تتخيل نفسك تعيش في عالم بريء مليء بالحب ولا شيء غيره .. ما أجمل الحب .. لن أبالغ أبدا لو قلت لكم بأنني قضيت للتو أجمل لحظات عمري مع حبيبتي (إيما) .. لحظات من المفترض أن تخلد في كتب التاريخ .. من هي دليلة حتى تقارن بحبيبتي (إيما) .. من المستحيل أن تكون روح (جولييت) بطهارة روح حبيبتي (إيما) .. من المستحيل أن تمنح فتاة الحنان لحبيبها كما منحته لي (إيما).
قصة حب لم يعشها إنسان من قبل .. هي التي عشتها مع (إيما) .. تغيرت أمور كثيرة في حياتي .. أصبحت إنسانا متفائلا شديد المرح .. وحين تأملت وجهي في المرآة وجدت سحرا خاصا لا شك فيه .. السر هو النظرة .. النظرة الواثقة في العينين .. وحيوية الوجه .. إنه الإكسير السحري الذي تذوقته .. الحب.
وقد تكررت زياراتها لي في الشقة والمكوث في غرفتي لعدة ساعات أيام الأربعاء والخميس دون أن تعلم جدتي عن أي شيء بالطبع .. كنا نتحدث في كل شيء وعن كل شيء .. لحظات رائعة لا تنسى .. وقد حصلت على ما هو أكثر من ذلك .. فقد كانت حبيبتي تمسك بيدي وتدعوني أحيانا كثيرة للتأمل .. فقط نتأمل .. كما يفعل محترفي اليوجا .. وقد تزايدت مشاعري الإيجابية كثيرا وازددت ثقة بنفسي .. وازددت عشقا لهذا الملاك الرقيق .. كنت أشعر أنها كانت تعطيني نوعا من الصفاء الروحي .. سألتها كيف تستطيع عمل هذا .. فكانت تقول بأنها تمارس رياضة اليوجا بانتظام شديد .. وتعرف خطوات معينة تطلب مني ممارستها لأصل إلى هذا الشعور اللذيذ الذي وصفته لكم.
أعرف ما تفكرون به .. إن أي تفسير خلقي صارم سيقول أن هذه الفتاة مستهترة لأنها خرجت من منزلها في مثل هذا الوقت دون علم أهلها .. لتزور حبيبها في منزله في منتصف الليل .. لكني – والله يشهد- أؤكد لكم بأنها كانت مهذبة جدا بسيطة جدا عفوية جدا لم أر أي شيء مشين في سلوكها .. كانت تجلس معي في منتهى الاحترام .. ولم أفعل أكثر من الإمساك بيديها .. وقد نقلت لها هذا الخاطر مرة فكانت تقول ببراءة ورقة:
المفترض أن نكون أذكى من أن نخضع أنفسنا لقوانين العادات والتقاليد .. أنا لا أرتكب خطأ وأنت لا ترتكب خطأ .. الخطأ إذا في ذهن هؤلاء الذين يملئون الطرقات ولا يضيفون شيئا للحياة سوى المزيد من سوء الظن.
كان لها عقل صاف شفاف كقطرة المطر في جزر البحر الكاريبي .. وقلب نقي مليء بالحب تشم فيه رائحة زهور التوليب .. هي من البشر القلائل جدا الذي تجدهم جميلين في داخلهم كما في خارجهم .. وأكاد أن أقسم أنني لم ألحظ عيبا واحدا في هذه الفتاة .. ألا تخطيء أبدا ؟! .. ألا تحضر إلى المدرسة أو إلى غرفتي يوما دون هذه الأناقة البعيدة عن التكلف .. ألن أجد أبدا ذرة غبار على حذائها .. ألن أجدها غاضبة يوما ما .. كل هذا جعلني أشعر أنها كالملاك .. بل إنني كنت على وشك أن أرى هالة الملائكة تحيط برأسها كما في الصور الدينية خاصة وأن وجهها الصبوح كان يشع نضارة وجمال وحيوية دون أن تضع أي مساحيق تجميل .. لن أمل أبدا من وصفها لكم .. ولو رأيتموها لما لمتوني للحظة .. كنت أمضي فترة من أجمل فترات حياتي .. الهدوء والسكينة يتسللان إلى كل خلية من جسدي ..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا