لا بد أن رئيسهما في العمل شخصا رائعا بالفعل .. إنه لا ...
لم أكمل عبارتي .. لقد كشف حديث هذين الرجلين أمرا بالغ الأهمية !! .. ولكن .. ما الذي يعنيه هذا ؟! .. هل من الممكن أن ؟! .. أفكر قليلا وأربط بعض النقاط التي لم أنتبه إليها في البداية ببعضها .. ووجدت نفسي أنهض من على الكرسي بحدة دون قصد !! .. ألتفت يمينا ويسارا .. وأتذكر نقطة صغيرة لم يكن لها أي معنى .. ولكنها الآن تعني الكثير وتكشف كل شيء .. كل شيء دون استثناء !! ..
يا للهول .. هل من الممكن أن يحدث شيئا كهذا ؟! .. يا إلهي .. لقد فهمت كل شيء الآن .. لا أعرف مدى النجاح الذي وصلت إليه تحقيقات الشرطة ولكني كشفت الأمر .. كشفته بصدفة بحتة !! .. وبفضل هذين السيدين اللذين تحدثا عن رئيسهما في العمل .. لقد انتبه عقلي الواعي إلى نقطة بالغة الأهمية لم أنتبه إليها في السابق .. فعرفت من هو (عدل) .. عرفت كل شيء عنه .. يجب أن أواجه (بدر) بهذا .. سيكون (بدر) أكثر شخص يهمه أن يعرف هوية المدعو (عدل) !! .. دفعت ثمن فاتورة العشاء وعدت إلى البيت مسرعا وفي ذهني خطة بسيطة يجب أن أقوم بها ..
اتصلت بـ(بدر) وقلت له بأنني قد قررت إخبار الشرطة بالأمر غدا صباحا – فقد كان يوم خميس - وأنني سأفضح (عدل) .. وأن المسألة هي مسألة مبدأ .. ولم آبه لبكائه وتوسلاته .. فأفقلت السماعة بوجهه .. إن (عدل) سيزورني في المساء لتهديدي .. إنني أراهن على ذلك ..
قبل موعد النوم .. أعددت لكل شيء عدته .. فقمت بإطفاء النور في كل مكان في الشقة وقبلت جبين جدتي وتأكدت من أن الخادمة الآسيوية قد ذهبت إلى الفراش .. قد يحدث ما يوقظهما من النوم إذا ما زارني (عدل) هذا .. ولكن لا يوجد حل آخر .. ذهبت بعدها إلى الفراش وتدثرت بالغطاء منتظرا قدومه .. كان قلبي يخفق كالطبل .. وكانت حواسي متحفزة وإن كنت أحاول ألا أصدر أي صوت أو حركه كي يطمئن تماما لنومي إذا ما اقتحم غرفتي .. كما تعمدت عدم قفل باب الشرفة .. كي أفسح له المجال كاملا ليقتحم غرفتي ..
ظللت متيقظا لأكثر من ساعة في فراشي أفكر بما سيحدث .. وحواسي متحفزة .. هل سيأتي (عدل) يا ترى من ردهة المطبخ هذه المرة ؟! .. أم سيخرج من وراء الأريكة ؟!.. هل سيأتي من الشرفة كما فعل في المرة السابقة ؟! .. من يدري ؟! ربما هو موجود في الشقة قبل أن أقوم بإطفاء النور في كل مكان .. وربما هو الآن قابع في الظلام ينتظر .. اقشعررت للفكرة الرهيبة !! .. وتصلبت للحظة من شدة الخوف .. أعلم أن (عدل) لا يؤذي سوى المجرمين والمفسدين .. ولكن ماذا لو كان استنتاجي خاطئا ؟! .. لقد بنيت استنتاجي على معطيات جميعها تؤدي إلى نظريتي وإن كانت بالغة الغرابة .. ولكني مع هذا أشعر بالخوف .. تماما كمن لا يؤمن بوجود الأشباح لكنه لا يجرؤ على البقاء وحيدا في منزل تحاك حوله رويات عنها !! .. و ..
قطع حبل أفكاري صوتا يوحي بأن هناك من يمشي في الغرفة .. حركة خافتة جدا من المستحيل أن أشعر بها لو كنت نائما .. وشعرت بعدها بيد تحاول أن تزيل عني اللحاف الذي كنت متدثرا به .. فنهضت من مكاني كالملسوع شاعرا بخوف حقيقي وإن كنت متوقعا تلك الزيارة !! .. ولكن وقع المفاجأة – كوني مستيقظا- لم يسبب أي ارتباك لـ(عدل) الذي وقف بثبات وهو ينظر إلي بهدوء .. إنه يملك أعصابا فولاذية بالفعل ..
ظللنا لوهلة نحدق ببعضنا البعض ..
وقبل أن أنطق بأي كلمة .. بادرني هو بالحديث قائلا بصوته الغريب الهاديء الواثق:
أنت تجبرني على قتلك .. لماذا تفعل هذا ؟! .. إنني لا أرغب بإيذاء الناس .. لا أرغب سوى بتحقيق العدالة والقضاء على المجرمين .. لقد ثأرت لك ولـ(بدر) من (راشد) .. أليس هذا كافيا كي تقتنع برسالتي ؟!.
قلت له بصوت هاديء وقد صار قلبي يخفق كالقرد المسعور - إن كانت القرود تصاب بالسعار - :
هل ثأرت لـ(بدر) .. أم أنك ثأرت لنفسك ؟!!! ..
شعرت بـ(عدل) قد توتر فجأة .. وإن كان وجهه خلف ذلك القناع .. وقال بعد فترة من الصمت وبصوت مبحوح بعض الشيء:
هل .. هل تريد المماطلة لسبب ما ؟! .. أم أنك تمارس الحيلة لغرض في نفسك ؟! ..
قلت له بصوت بدا أكثر ثقة بعد أن عرفت أنني على حق كما يبدو من اهتزاز ثقته بنفسه:
هل نسيت شقيقتك يا (بدر) ؟!! .. هل نسيت ما فعله (راشد) مع شقيقتك (رهام) وكيف دمرها وسلبها أعز ما تملك ؟! .. هل نسيت ما فعله والدك بك وبوالدتك وبشقيقتك ؟! .. لقد عشت حياتك ضائعا يا (بدر) .. كنت تعشق أبطال أفلام الحركة وتعلق صورهم في كل مكان في غرفتك وتعيش بحلم خيالي هو أن تكون مثلهم وتقضي على الشر أينما وجد ..
تراخى ثبوت (عدل) أو (بدر) – بعد أن عرفنا هويته الحقيقية- .. وبدا مترددا حتى كاد أن يقع على الأرض .. فقال بصوت باك متخاذل:
اصمت .. اصمت وإلا قتلتك ..
تجاهلت تهديده وأنا أقول بثقة:
لقد تفجرت الثورة في أعماقك منذ كنت صغيرا .. ومنذ أن كنت ترى والدك يشبعكم ضربا وهو تحت تأثير الخمر وأحيانا المخدرات .. مما فجر في أعماقك حقد شديد عليه بسبب قسوته .. فتمنيت أن تتمكن من الانتقام .. كنت تتمنى لو أنك شخصا قوي الشخصية والشكيمة تستطيع الدفاع عن والدتك وأختك اللتان تحبهما بجنون .. فكنت تشاهد الكثير من أفلام الحركة .. واشتريت العديد من الكتب الخاصة بتعليم فنون القتال والرياضات الدفاعية الأخرى ورحت تمارسها وتتدرب عليها .. وقد أثار حيرتي كثيرا وجود تلك النوعية من الكتب في غرفتك .. خاصة بكميتها الكبيرة .. لكني كنت أعزو هذا إلى عقدة نفسية .. أو مجرد طموح أن تمارس رياضة تعينك على الدفاع عن شقيقتك .. ولكن المشكلة هي أنك كنت تحتاج إلى ما هو أكثر من هذا .. كنت تحتاج إلى قوة الشخصية .. والشجاعة .. وهذا ما كنت تفتقر إليه .. فليس كل من يتعلم فنون القتال يستطيع الدفاع عن نفسه وعمن يحب .. لأنك تحتاج إلى الشجاعة والإرادة القوية .. وكل هذه الأشياء مفقودة في شخصيتك المتخاذلة المسالمة .. وظل عقلك الباطن يلح عليك شيئا فشيئا أن تثأر من والدك الذي كان يمثل لك الشر في هذا العالم .. في حين يكبت عقلك الواعي تلك الرغبة بسبب صفاتك السلبية .. وشيئا فشيئا .. انتصر عقلك الباطن على عقلك الواعي .. وتولدت في أعماقك شخصية أخرى .. هي شخصية محارب الجريمة (عدل) .. الهاديء الواثق الجسور الذي لا يخشى شيئا .. وهي شخصية نقيضة تماما لشخصيتك الحقيقية .. وفي ليلة وضحاها اشتريت تلك الملابس وغطاء الوجه أملا بالانتقام من (راشد) .. فوالدك قد توفي في السجن .. ولكن (راشد) الذي تسبب في انتحار شقيقتك كان حرا طليقا .. فقمت ببعض التحريات حتى علمت بأسلوب (راشد) في الغش .. فتسللت إلى المدرسة بلباس محارب الجريمة (عدل) واقتحمت الفصل .. وهناك بالطبع مارست كل ما تعرفه وتعلمته من فنون الكاراتيه التي كنت تعجز بشخصيتك الأخرى استخدامها للدفقاع عن شقيقتك .. وقمت بقتل (راشد) الذي من المؤكد أن المفاجأة قد شلته تماما بوجود شخص مقنع يقتحم عليه الفصل في هذا الوقت المتأخر وينهال عليه ضربا .. لم يكن جسدك هو الذي يؤدي هذا العمل الشاق وممارسة فنون القتال التي تعلمتها من الكتب .. بل كان عقلك هو الذي يعمل ويأمر ..
وأعتقد أنك شعرت بنشوة رائعة عند تحقيق انتقامك من (راشد) .. فلم تتوقف .. وقتلت غيره وغيره من مروجي مخدرات ومجرمين بوسائل أجهلها في الواقع .. لقد قمت بأعمال جبارة لا يمكن أن تقوم بها بشخصيتك الحقيقية .. وقد اعتبرت (عدل) - شخصيتك الوهمية – صديقا مخلصا ومثلا أعلى .. فقمت تراسله وتحكي له أسرارك .. وتعتبره ملاكا حارسا لك ..
إنك مصاب بـ(ازدواج الشخصية) (وDoubl
e Personality) يا (بدر) .. وهو يختلف عن الفصام (Schizophrenia) والفارق بينهما هو أن الحالة الثانية (الفصام) يكون فيها المريض مفكك الشخصية كمزهرية مهشمة إلى أجزاء .. تفكيره غير منطقي .. وسلوكه شاذ وحديثه غير مترابط ووجدانه مضطرب .. أما الحالة الثانية (ازدواج الشخصية) فهي حالة يجمع فيها المريض بين شخصين منفصلين يتناوبان الظهور .. وهذا بالضبط ما حدث معك .. فأصبحت تعيش بشخصيتين متناقضتين تماما بحيث أنك نفسك لا تعلم أنك (عدل) الجسور محارب الجريمة والأشرار.
انتهيت من كلامي .. وكان وقتها (بدر) قد انهار تمام بعد أن استمع إلي بصمت حزين والدموع تنهمر من عينيه .. فوقع على الأرض وهو يلهث بقوة .. ويقول بعدها بخفوت وبصوت باك متخاذل:
أنت كاذب .. كاذب .. لا يمكن أن أكون (بدر) .. مستحيل ..
أكملت حديثي بتأثر شديد بسبب حاله البائس:
لقد ساعدني على كشف أمرك شيئين .. الأول هو حديث لرجلين سمعته بالصدفة عن شخص ثالث ذكروا أنه يتحول من الوداعة إلى الشراسة في سبيل الحق .. وكانت هذه العبارة هي مفتاح كشف الأمر .. ربما ليس بشكل مباشر .. ولكن هناك ما يطلق عليه اسم (تداعي الأفكار) وهذا يعني أن عبارة واحدة تسمعها في مكان ما .. قد تقودك إلى تذكر مشهد أو حدث ما أو عبارة ثانية وثالثة .. وهكذا تتداعى عدة أحداث دفعة واحدة ليؤدي تجمعها إلى صنع صورة جديدة تؤدي إلى كشف الأمر .. فعندما سمعت كلام الشخصين .. تذكرت أنك في زيارتي لك في الأمس قد استقبلتني بنوع من الجمود وبنظرات صارمة لم أعتدها منك إطلاقا .. لقد عرفت السبب الآن .. وهو أنك في ذلك الوقت كنت تعيش شخصيتك الأخرى !!..
وهناك أيضا نقطة بالغة الأهمية ولا أبالغ لو قلت أنها كانت السبب الرئيسي في كشف كل شيء .. إلا أنني لم أعرها أي اهتمام في باديء الأمر .. فأنا أعرف أنك أعسر .. أي تستخدم يدك اليسرى بدلا من اليمنى .. ولكنك في الأمس وأثناء زيارتي لك قد استخدمت يدك اليمنى بتلقائية واضحة لا تخطؤها العين عندما قمت بتشغيل جهاز التلفاز باستخدام الريوت كنترول وقمت - وباستخدام نفس اليد - بالبحث في القنوات .. وهو أمر من المستحيل أن يحدث من شخص أعسر من المفترض أن يستخدم يده اليسرى بتلقائية بدلا من اليمنى .. كما أن أسلوبك الصارم الغريب معي قد أثار الشكوك في نفسي .. دعك من أنك لم تقل الكثير في زيارتي تلك .. لأنك وفي شخصيتك الأخرى تتحدث بثقة ودون تعلثم .. كان من المفترض أن أنتبه للنقطة الأخيرة على وجه التحديد .. لكن رغبتي السريعة في الرحيل بعد قرائتي للخطاب حرمتني من أن أتبادل معك أطراف الحديث فبالتالي كان من غير الممكن أن أنتبه إلى نطقك السليم !!.. لقد شاءت الظروف والصدف وقراءاتي الكثيرة عن علم النفس أن أكشف أمرك .. إنها بالفعل حالة نادرة جدا من حالات ازدواج الشخصية .. شبيهة بتلك التي يعرفها عشاق القصص العالمية* .. إنها بحق حالة يتمنى كل طبيب نفسي أن يتابعها ويعالجها .. لقد كانت شخصيتك الأخرى نقيضة تماما لشخصيتك الحقيقية .. حتى في بعض الأمور البسيطة .. كأن تكون أعسر .. بينما شخصيتك الأخرى ليست كذلك .. وهذا يدل على أنك كنت تكره شخصيتك الحقيقية كثيرا .. وتتمنى بالفعل لو كنت شخصا آخر .. وقد وفقني الله سبحانه وتعالى في ملاحظة استخدام يدك اليمنى وتذكر ذلك .. وعندما تذكرت الأمر .. كان أمامي حلان لا ثالث لهما .. أن يكون الشخص الذي زرته في المنزل شخص آخر .. وهذا بالطبع مستحيل .. والاحتمال الثاني الذي كان يحتاج إلى خيال وقراءة لا بأس بها في الطب النفسي .. هو أن تكون مصاب بمرض ازدواج الشخصية ..
انتهيت من كلامي وبالطبع انهار (بدر) تماما بعد كل هذا .. فنهضت من الفراش بهدوء مهيب .. سببته رهبة الموقف .. وأضأت نور الغرفة ..
كان متكورا على الأرض يبكي بحرقة .. فقمت وأزحت عن وجهه القناع .. لأرى وجهه وقد احمر بسبب بكاءه الذي جعلني أشفق عليه كثيرا .. حتى وجدت العبرات تنزل من عيني دون أن أدري !! .. وقلت له بتعاطف:
- إنك غير مسؤول عما فعلته يا (بدر) .. ستوضع تحت إشراف علاجي .. إنها حالة مرضية .. حالة نفسية معقدة .. لن يعاقبك أحد .. صدقني
التفت إلي .. وقال بانكسار:
لا .. لا يمكن أن أقضي حياتي في مستشفى الأمراض النفسية .. لقد انتهى كل شيء يا (خالد) لقد انتهى (عدل) .. وانتهى (بدر) .. ولن أستطيع إنقاذ أي منهما .. نهض من مكانه .. وخرج من غرفتي بهدوء ..
حاولت اللحاق به لكني خشيت أن نثير أي صوت قد يوقظ جدتي أو الخادمة
فتركته يبحث عن باب الخروج إلى أن وجده دون صعوبة بسبب صغر
مساحة الشقة .. ليرحل بعدها وأنا عاجز عن اتخاذ أي رد فعل .. يا لي من
غبي .. لم أخطط لما قد يحدث بعد أن أكشف حقيقة (عدل) .. كيف سأوقف
(بدر) الآن ؟! .. هل أبلغ الشرطة بالأمر ؟! .. إن هذا قد يكون أمرا حتميا الآن .. لأنه يحتاج إلى علاج نفسي ولا يمكن أن يحدث هذا دون أن تعلم الشرطة بالأمر .. لذا فيجب إبلاغهم ..
عدت إلى غرفتي بهدوء دون أن يستيقظ أحد لحسن الحظ .. ولو قلت لجدتي بما حدث في شقتنا قبل قليل لما صدقت .. لقد كنت أدرك منذ عرفت هذين الشقيقين أن (بدر)
* يقصد بذلك قصة (دكتور جيكل ومستر هايد)
يعاني عقدا نفسية لا حصر لها وجبالا من الكبت .. ولكني لم أتوقع أبدا أن يصل الأمر إلى تلك الحالة النادرة من ازدواج الشخصية !!.
جلست على الفراش أفكر بحيرة بما قد يحدث .. لا أعرف كيف استطعت الوصول إلى أعماق (بدر) ودهاليزه النفسية المعقدة .. إنها الصدفة كما ذكرت .. أو الحظ .. مع بعض الاستنتاجات ..
لم أتمكن بالطبع بعد كل هذا من العودة إلى النوم .. فظللت مستيقظا إلى أن جاء وقت المدرسة .. فكان يوما مرهقا بحق .. وقد بحثت عن (بدر) لكنه لم يأت .. وقد اتصلت به بعد الظهر لأعرف من والدته أنه قد انتحر !! .. حيث وجدوا جثته في منطقة (غرب مشرف) والتي لم يمتد إليها الزحف العمراني بصورة كاملة .. وجدوا جثته وقد انتحر بنفس الوسيلة التي انتحرت بها شقيقته .. كان خبرا مفجعا بحق .. وقد شعرت بحزن هائل وتأنيب شديد للضمير لأنني تسببت بموت (بدر) .. وقد بكيت كثيرا تأثرا بما حدث .. وإن كنت أعرف بأنني لم أكن أجرؤ على إبلاغ الشرطة عن نظريتي خوفا من ألا تكون صحيحة .. لذا فآثرت أن أقوم بكل شيء بنفسي .. دعكم من أن أحدا لن يصدق أن شخصا لم يبلغ الثامنة عشر من العمر قد كشف أمرا كهذا من مجرد استنتاجات .. إنها الصدفة .. الصدفة التي لعبت دورا كبيرا في تلك القصة العجيبة ..
لقد كان (بدر) بطلا .. حقا إن الرجال ليسوا بمظهرهم .. فقد كان أقرب إلى الفتيات بضعفه وتخاذله .. ولو كنا نعيش أحداث فيلم لحصل (بدر) بلا منازع على جائزة الأوسكار بسبب تمثيله لدورين بمنتهى البراعة حتى كان من المستحيل أن أصدق أنه و(عدل) هما وجهان لعملة واحدة !!..
لقد قابلت أم (بدر) بعد أن هدأت الأمور وبعد تحقيقات الشرطة المكثفة معها لمعرفة أسباب الانتحار دون أن يصلوا إلى نتيجة بالطبع .. فمن المستحيل معرفة أن هذا الشخص كان مصابا بازدواج الشخصية بعد موته .. وقد عزوا حادثة الانتحار إلى الظروف الصعبة التي عاشها تحت ظل تلك الأسرة المنكوبة .. ولي أن أتخيل حال أمه فور معرفتها بنبأ انتحاره .. لقد علمت منها أنها كادت أن تصاب بانهيار عصبي .. ومن يلومها بعد أن فقدت ولديها في أقل من خمسة شهور ؟! .. فكانت تبكي .. وتهدأ .. فتغرق في البكاء الحارق مرة أخرى و .. إلخ.
وقد قررت أن أزورها لأخبرها بكل شيء .. أخبرتها أن ابنها كان بطلا وثأر لشقيقته .. وبالطبع لم تكن أمه تعلم شيئا عن أي شيء .. فصعقت تماما لما سمعت مني .. واتسعت عناها المتقرحتان من شدة البكاء ذهولا ..
لقد تجرأت أكثر من ذلك وحدثتها عن وسيلة البحث عن لقمة العيش التي تتبعها .. وطلبت منها أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى .. كما وعدتها أنني سأساعدها قدر المستطاع .. وبالفعل .. فقد تمكنت بعد فترة وجيزة أن أحصل لها على راتب شهري من إحدى الجهات الخيرية .. وقد قام أحد المسؤولين في تلك الجهة بإيجاد عمل يدر لها دخلا لا بأس به على الإطلاق كي تعيش بقية حياتها بعيدا عن الحرام ..
لقد اتضح لي أن والدة (بدر) امرأة طيبة .. وما حدث لها قد يحدث للجميع .. وعليكم قبل أن تحاسبوا المرأة على سلوكها أن تحاسبوا جيرانها وأهلها الذين –وبكل بساطة- تركوها تتعذب وحيدة في هذه الدنيا دون أي معيل .. إنني أرى أنها في ظروف أفضل كانت ستغدو إنسانة محترمة طيبة .. ويجب أن يعطيها الجميع فرصة للتوبة .. إننا نمنح الرجل عشرات الفرص كي يتوب .. أما المرأة فنقتلها ونحكم عليها بالإعدام عند أول خطأ .. لماذا ؟! ..
شكرتني كثيرا بعد كل هذا و ..
ما الذي دعاك لفعل هذا يا ولدي ؟!
لأنني إنسان يا سيدتي .. إنسان !!.
لقد انتهت أحداث هذه القصة الغريبة .. وأنا سعيد جدا لنهايتها .. أجد في كل ما حدث نوعا من العدالة الشعرية .. (راشد) قتل (رهام) وشقيقها ثأر لها.. لقد أردت أن يهلك (راشد) بأيدي ضحاياه .. أشعر إن في هذا لعدالة شعرية تروق لي حقا .. وإن كان للقصة جانب مأساوي وهو انتحار الشقيقين.
وها أنذا بعد مرور شهرين على تلك الحادثة وبعد نهاية العام الدراسي .. أقف في شرفة غرفتي أتأمل الشارع .. فتاة لا يتجاوز عمرها الثماني سنوات تمسك بكف شقيقها .. متجهين سويا ناحية البقالة القريبة .. في حين أرى طفلا آخر يقود دراجته جوار باب منزله ..
السلام .. هكذا خلق الله العالم ليبقى .. هكذا أراد الله العالم أن يكون .. حتى لو اضطررنا لحرق الأشرار .. وكم وددت لو فعلنا ذلك بالفعل حتى يعم السلام كوكبنا الحبيب الذي امتلأ بالقتلة واللصوص والأفاقين والمجرمين والوحوش البشرية .. حتى أصبح بالكاد أن يكون لنا نحن الضعفاء مكانا.
وبالطبع لم يكن ما حدث لي في تلك التجربة هو كل شيء .. فهناك المزيد .. وفي قصتي المقبلة (الفتاة التي لم تكن!!) وجدت نفسي أمام لغز هائل كنت فيه أمام خيارين لا ثالث لهما.. أن يكون كل الناس كاذبين مخادعين دون استثناء !! .. أو أن أكون قد فقدت عقلي !! .. إلا أن كشفت في النهاية مفاجأة مدوية هي على الأرجح أقوى مفاجأة وصدمة تعرضت لها في حياتي .. اقرؤوا قصتي القادمة وستعرفون ما أعني.
الفتاة التي لم تكن !!
أسمعكم تتثاءبون في ملل .. تعتقدون أن القصة معروفة طالما أن عنوانها يرتبط بفتاة .. فتظنون أنني سأقع في غرام فتاة وتكون قصة من قصص الحب المعتادة التي يقع فيها المراهقين .. و .. و ..
صبرا يا رفاق .. إن القصة ليست بهذه الصورة على الإطلاق، وإلا لما حكيتها .. أرجو ألا تسيئوا الظن بي قبل أن تقرءوا قصتي كاملة .. وستعرفون حينها أنها قصة غير عادية على الإطلاق .. حتى أنني لا أصدق أحيانا أنها حدثت لي .. فشيء كهذا لم يحدث من قبل في أي مكان في العالم .. فما بالكم أن يحدث هنا في (الكويت) .. ولي أنا شخصيا !!.
بدايات المرحلة الدراسية لعام 2002 .. كنت في الصف الرابع الثانوي .. وقد استرجعت عافيتي تماما بعد ما تعرضت له من ضرب مبرح الذي هو أقرب إلى اعتداء وحشي حيواني جعلني طريح الفراش في المستشفى لحوالي شهر .. لا زلت أحاول نسيان تلك الأيام السوداء .. كنت أحاول أن أدفن همومي في الدراسة والقراءة وتمضية وقت الفراغ بكل ما أستطيع عمله ..
حياة رتيبة جدا .. لكنني أعيش للمستقبل .. إن الحاضر كئيب دائما لكن الغد يحمل كل الوعود.
يقولون أن مثلث القوة هو: (العلم – المال – الشهرة) .. وهذه أشياء لا غنى لأي إنسان عنها .. بل يموت البعض لأجلها .. وأنا إنسان .. وفي سن تحلم بهذه الأشياء التي سأحاول المستحيل للحصول عليها في المستقبل بإذن الله .. غدا سأصبح طبيبا محترما وأفتتح عيادة ستكون ذائعة الصيت .. سأقوم بأبحاث ودراسات رائعة .. وقد أحصل بسببها على جائزة نوبل .. فأنا لا زلت في مقتبل العمر ولا تزال الحياة والمستقبل أمامي .. فيمكن أن يحدث كل شئ غدا وإن بدا مستحيلا الآن .. كل شئ جائز لأن الحلم أمامي وليس خلفي .. ولأنني – وهذا الأهم- صغير في السن أدرس
*راجع: قصة الصدمة.
بجد.
كنت في هذه الفترة منزويا - كعادتي- في عالمي الخاص .. وأحلام المستقبل تراودني دائما .. واثقا أنني أصنع نفسي بنفسي .. وكنت أجد بين صفحات الكتب ما ينسيني عذاب اللحظة .. لكن شعورا واحدا كان يمزق فؤادي .. الوحدة .. الوحدة المريرة بلا أخوة أو أصدقاء .. وقلبي ذو السبعة عشر عاما يخفق بعواطف جياشة لا نهاية لها .. لكن إظهار هذه العواطف في مجتمعنا يجعلني أظهر بمظهر الأحمق ..
أجلس أحيانا كثيرة في غرفتي أستمع إلى صوت (عبدالله الرويشد) الحزين ..
أكتب خواطري عن حب فاشل من طرف واحد .. طبعا لم يكن هناك شيئا كهذا .. لكن المكان والجو يحتمان عليك أن تحب وتتعذب .. لا بد من وجود صبغة رومانسية في حياة كل مراهق .. هذا ما يقال .. وأعتقد أنه صحيح .. كنت أشعر بحالة حنين شديدة لشيء لا أعرف كنهه .. وبالمناسبة فإن حالة الحنين لشيء ما هي ما يعانيه 99.99% من الشباب والمراهقين .. وقد تحدث عن ذلك الشاعر الفرنسي (بول فاليري) حين قال: (( لست أدري ما الذي أحبه .. لكني أحبه كثيرا جدا)) .. إنه حب لذيذ يملأ قلبك لشيء مجهول غير قابل للتسمية !!.
أعيش حياة صامتة .. أذهب إلى المدرسة صامتا وأعود للدار صامتا .. حتى ليخيل إلي أحيانا أنني أتكلم صامتا إن فهمتم ما أعني ..
أجلس أمام جهاز التلفاز وأتناول الغداء مع جدتي الحبيبة نتبادل بعض أطراف الحديث .. رائحة جدتي ورائحة ثيابها المميزة التي أعتبرها جزءا هاما جدا من حياتي .. ما سر هذه الرائحة؟ .. لا أعرف .. لكن قلبي ينبض بعنف حين أشمها .. فهي مرتبطة عندي منذ الطفولة بالأم .. دعك من وجهها الذي يشع نورا وحديثها معي بالنبرة المليئة بالحنان والتي لا تتغير أبدا.
أما خارج البيت –أو الشقة لو أردنا الدقة - فعيناي تتجاوزان كل من أراه لأرى من خلاله .. فالناس بالنسبة لي كلوح الزجاج .. والمرء لا ينظر للوح زجاج أبدا .. بل يخترقه ببصره ليرى ما يوجد خلفه .. أشعر بتفاهة غير عادية للمجتمع .. ليس هذا غرورا .. بل هي الحقيقة .. حقيقة نقرأها دائما بالصحف عن الشباب التافه الذي لا يفعل سوى التسكع في الشوارع ليل نهار .. ثم يكافيء نفسه في عطلة نهاية الأسبوع بالسفر أو الذهاب إلى الشاليه .. لا يلامون على ذلك .. فالتسكع أمر متعب يستحقون من بعده الراحة !!.
آسف لهذا الاسترسال الطويل .. ولكنها غريزة الإنسان أن يتحدث عن أحزانه وآلامه وعما يضايقه.. لذا لن أصدع رؤوسكم بخواطري وأحزاني أكثر من ذلك .. وسأدخل في صلب القصة.
كنت أشعر في ذلك الوقت بأن شيئا جديدا قادما لا ريب .. وأن حياتي قد بدأت تتخذ منحنى آخر منذ قصة تحضير الأرواح إياها*.. فمن يومها والأمور تتغير .. ووتيرة حياتي تتبدل شيئا فشيئا .. ولم يخب ظني طويلا !!.
فبعد أسبوعين أو ثلاثة من بدء العام الدراسي الجديد .. وبعد يوم عادي جدا .. كنت قد أنهيت للتو فروضي المنزلية وجلست – كما هي عادتي قبل النوم - أقرأ كتابا للكاتب الكبير (أنيس منصور) .. حتى بدأ النعاس يداعبني .. وذهبت للنوم في الساعة العاشرة مساء .. وطبعا لم أنس قبلها أن أنهض لأقبل جبين جدتي كما أفعل دائما حين أعود من المدرسة وحين أذهب للنوم.
كنت مندسا في فراشي تحت الأغطية الثقيلة والجو شديد البرودة بفعل وحدة التكييف .. الضوء الخافت يجعلني أشعر وكأنني أعيش حلما جميلا .. إذ لا أستطيع النوم في الظلام الذي أصبح بعد تجربتي الكابوسية مع تحضير الأرواح وحشا كاسرا أخشاه وأرتعد منه ..
و .. شيئا فشيئا بدأت أنجذب إلى ذلك العالم العجيب .. عالم الأحلام.
حلم لذيذ تمنيت ألا أستيقظ منه أبدا .. والواقع أنه حلم تقليدي لايوجد فيه ما يستحق الذكر .. مجرد حوادث مختلطة معقدة غير متناسقة .. ولم يجعلني أصف هذا الحلم باللذة سوى أنني رأيت فيه أروع ما رأيت في حياتي .. فتاة !! .. أم هل أقول ملاك ؟! .. من المستحيل أن أصفها لكم .. فهي شيئا يفوق الوصف .. أحتاج إلى لغة أجمل
* راجع: قصة قشعريرة.
من لغة الكلمات .. ربما هي الموسيقى أو الشعر .. كانت رقيقة وجميلة إلى درجة تشعرك بالأسى حين تراها .. فلا تملك سوى العودة إلى البيت حزينا لتستمع إلى أغاني عاطفية في غرفتك وتندب حظك .. رشيقة القوام إلى حد مذهل .. سوداء العينين والشعر بيضاء البشرة تحمل خليطا من الملامح الشرقية والغربية .. وكأنها أسبانية أو إيطالية .. أقسم لكم بأنني لم أرى فتاة أجمل منها في عالم الواقع أو حتى في أحلامي .. وكأنها قطعة من الفاكهة.. لا يمكن أن توجد كل هذه الرقة والجمال الساحر على وجه الأرض vHvq أرض أرأرسببببب..
والغريب أن هذه الفتاة كانت تظهر بشكل واضح جدا في الحلم حتى أنني - وكما لاحظتم - قد تذكرت كل ما يتعلق بها .. غريب أن يكون الحلم مبهما في كل شيء سوى هذه الفتاة الملائكية التي بدت مجسدة تجسدا واضحا وكأنني كنت أراها فعليا !! .. لا أدري لماذا استيقظت من النوم .. إنها واحدة من تلك اللحظات التي تستيقظ فيها من النوم لسبب لا تعرفه وتشعر أنك الوحيد المستيقظ في هذا الكون .. ذهبت لأشرب بعض الماء من الثلاجة .. وعدت بعدها إلى الفراش وأنا أشعر بحزن لم أستطع تفسيره .. ربما هي تلك الفتاة المجهولة التي رأيتها في الحلم .. أحيانا كثيرة يرى الإنسان في منامه أحلام جميلة يؤلمه أن يستيقظ من نومه ويدرك أنها مجرد أحلام وأن عليه أن يعود إلى عالم الواقع المرير .. عدت إلى الفراش وأنا أسمع أصداء آذان الفجر الثاني تتردد من مسجد بعيد .. ورجل يمشي في الشارع يتحدث بصوت عال إلى آخر مما يعطي شعورا وكأنه لا يوجد في الكون سواهما .. نهضت لأتوضأ وأصلي الفجر .. وقبل أن أعود إلى النوم تذكرت ما قرأته ذات مرة عن الأحلام .. إذ يقول علماء النفس أن الحلم الملون يدل على اضطراب المريض النفسي .. وأنا عشت حلما ملونا رائع التلوين .. وكأنني شاهدته من خلال تلفزيون حديث مسطح الشاشة .. صوت شقشقة الطيور بالخارج تتبادل حديثها الأزلي وكأن الطوفان قد انتهى للتو .. وساعدني هذا على العودة مرة أخرى إلى عالم الأحلام.
أيقظني هذه المرة رنين المنبه .. أنهض بشكل آلي إلى الحمام .. لأخذ حمام حار كما هي عادتي دائما حين أستيقظ من النوم .. أتناول الإفطار مع جدتي الحبيبة .. أحاول أن أخلق جوا من المرح .. ولكن لا أدري لماذا أشعر دائما بأنني ثقيل الظل حين أفعل ذلك .. قد يكون هذا الشعور ناجما عن عدم الثقة بالنفس .. وأنا بالفعل أعاني من هذا الشعور كثيرا .. أرتدي ثيابي وأذهب بحزم إلى المدرسة .. فأنا لا أمزح أبدا حين يتعلق الأمر بالدراسة .. فهي إلى جانب الثقافة شيئان مهمان جدا في حياتي ولا أبالغ إن قلت أنهما كل ما أملك .. أما الذكاء فشهادة المدرسين بي تكفيني وهذا من دون أي غرور ..
إن الذكاء يختلف عن الثقافة .. والتفوق الدراسي يختلف عنهما هو الآخر .. أحاول أن أكون متفوقا مثقفا .. أي أحاول -وباختصار- أن أكون جميل العقل بما أنه لم يصف أحد مظهري بالجمال من قبل .. وأحاول تعويض كل نقيصة في شخصيتي من خلال دراستي وعقلي ..
ها هو ذا باص المدرسة عند الباب .. أخرج مسرعا لأستقله .. أجلس هادئا كما هو حال جميع الطلبة الموجودين فيه .. وحال الطلبة في باص المدرسة صباحا يختلف تماما عن حالهم بعد نهاية اليوم الدراسي .. إذ تجدهم عند الذهاب إلى المدرسة هادئين جدا ليس لأحد أي مزاج للمزاح أو حتى الحديث .. أما بعد نهاية اليوم الدراسي فيتحولون إلى مخلوقات صاخبة تمزح بصوت عال .. ويتزايد اللغط وتتعالى الأصوات ..
أما أنا .. فدائما تروني منزويا في عالمي الخاص أحلم بالمستقبل كما ذكرت لكم في البداية .. فحالي لا يتبدل .. وكأنه شيئا من نواميس الطبيعة التي لا تتغير كهجرة الطيور وبيات الدببة الشتوي .
يوم عادي كأي يوم .. طابور الصباح الممل .. ثم الذهاب إلى الفصول ..
لقد أخبرتكم سابقا أنها مدرسة خاصة من المدارس الأجنبية في (الكويت) .. ومستواها والحق يقال من أعلى المستويات ..
هاأنذا أرسل تحياتي وأنا في طريقي إلى الفصل .. تحية للمدرس الفلاني - وأكثر تحياتي الحارة للمدرسين - أما الطلبة فهم ليسوا سوى وجوه مألوفة لأولاد وفتيات أراهم كل يوم .. ولا أحمل لهم أي مودة .. دعك من البعض الذين يطلقون علي لقب
(المعقد) لسكوتي الدائم وعزلتي الاختيارية لأسباب ذكرتها لكم في البداية .. ولأنني يتيم الأبوين .. لم أخبر أحد بذلك .. إذ لم أكن أريدهم أن يعرفوا أصلا .. ولا تسألوني كيف عرفوا .. فالأخبار في بلد صغير كـ(الكويت) تنتشر بسرعة لا تصدق ..
أساتذتي فقط يؤمنون بأنني مختلف عن الآخرين .. وأنني ذكي جدا كما يقولون لي دائما .. فقط لو أنني كنت أقل مللا وأقل شرودا وأقل حزنا كما تدل ملامحي.
كانت الحصة الأولى هي مادة الرياضيات .. وهي من المواد التي أعشقها .. ها هو مدرس الرياضيات يتحدث باللغة الإنجليزية –وهي اللغة الرسمية في المدرسة كما تعلمون- ويشرح الدرس في حين أرى البعض شبه نائم .. والبعض الآخر ينظر إلى اللوحة بنظرات خاوية .. وتجد قلة قليلة من يستمع إلى المدرس باهتمام .. المشكلة أن الطالب يتوقع منه أن ينفصل يوميا انفصالا تاما عن مشاعره الداخلية .. في كل يوم درس جديد .. وفي كل يوم يجب أن يكون مستعدا متيقظا منتبها مهما كانت مشاكله .. وهذه إحدى مصائب التعليم في العالم العربي التي يضع للطالب منهجا دراسيا لا يستطيع أن يحيد عنه .. وكأن ما هو مكتوب في هذا المنهج مختلف عما هو مكتوب في المراجع العلمية ..
في حين تجد المدرس في الدول المتقدمة يدعو الطالب للقراءة واستقصاء المعلومات من أي مصدر علمي معتمد .. فالمهم هو المعرفة والحصول على المعلومات .. نعم .. إن الدراسة في القطاع الخاص أفضل بكثير من القطاع الحكومي .. ولكن الالتزام بمنهج محدد هو قانون حكومي تجبر جميع المدارس - حتى الخاصة منها – على التقيد به.
أستمع إلى الدرس باهتمام وكل شيء يبدو أمامي واضحا بسيطا .. إما لسهولة الدرس .. أو لتفوقي الغير عادي –كما يقول عني المدرسين- كل شيء كان يسير بصورة اعتيادية جدا .. ولم أكن لأعلم أن الأمور ستنقلب رأسا على عقب .. وفي لحظات سأجد نفسي أمام أعظم لغز قد يواجهه إنسان في حياته !! .. ففي منتصف حصة الرياضيات .. دخل مشرف جناح الصف الرابع ثانوي إلى الفصل واستأذن مدرس الرياضيات ليتحدث إلينا .. وقال لنا بلهجة ودودة:
ستنضم إلى الفصل اليوم طالبة جديدة .. أرجو أن تجد ترحيبا بينكم .. فهي فتاة متفوقة ومهذبة للغاية .. إنها تنتظر في الخارج الآن وسأقوم بمناداتها ..
و التفت إلى الباب:
(إيما) .. تفضلي
(إيما) ؟!.. رددت هذا الإسم باستغراب وبصوت غير مسموع .. إسم غريب حقا لم أعرف أنثى قبلها تحمله .. اسم خيالي رومانسي يوحي بشئ ما لا يمكن وصفه .. شئ أزلي كالكون نفسه .. غامض كالظلام .. و .. قطع أفكاري دخول الملائكة .. كانت أجمل شيء رأيته في حياتي .. لم تكن جميلة .. بل كان جمالها خارقا يتجاوز كلمة الجمال نفسها .. كانت تنتمي إلى سديم كوني أرقى وأنقى من عالمنا كله ولا تنطبق عليها صفاتنا الأرضية .. إن من يقول عن هذه الفتاة (جميلة) فقط .. فهو إما أعمى أو مجنون .. أعرف أنه مهما أصف جمالها فلن تتأثروا به مثلما تأثرت أنا به .. كما أن سماع السيمفونيات من المذياع شيء والجلوس في مسرح لسماعها تولد من فرقة عازفين شئ آخر.
أما ثيابها فقد كانت ملفتة للانتباه إلى أقصى حد وتفجر فيك كل علامات الدهشة .. إذ كانت تبدو جديدة للغاية .. وكأنها ابتاعتها منذ لحظات .. حتى حذاؤها الذي كانت تلبسه قدميها الرقيقتان الصغيرتان كان يبدو هو الآخر جديدا للغاية مصقولا لامعا لا يحمل سطحه ذرة واحدة من الأتربة التي تتطاير عادة .. لقد كتم الطلبة شهقتهم من هول الدهشة .. هل يوجد بالفعل جمال كهذا ؟!..
تسمرت النظرات إليها .. فحتى مدرس الرياضيات كان يرمقها بإعجاب وانبهار لا تخطأه العين .. ولكن بالنسبة لي فالأمر مختلف .. فقد كانت مشاعري مزيجا من الانبهار بهذا السحر بالإضافة إلى الدهشة العارمة !!.. هذه الفتاة .. أقسم بأنها هي التي رأيتها في الحلم ليلة أمس !!.
عزيزي القاريء .. لك أن تتصور ما دهاني من حيرة .. وما أصاب توازني من خلل بعد هذا الاكتشاف المدهش .. فتحت فاهي من شدة الدهشة غير مصدق ما أراه.
بعد لحظات من دخولها عزفت أروع موسيقى سمعتها في حياتي .. وهي صوتها .. تحدثت إلى الفصل بصوت ملائكي رقيق لا تسمعه سوى في عالم الأحلام ..
مرحبا .. اسمي (إيما) .. أتمنى أن تقبلوني زميلة لكم وصديقة جديدة ..
قالتها بلهجة مهذبة للغاية وجريئة جدا بنفس الوقت .. على عكس ما جرت عليه العادة .. ففي هذه الظروف يموت الطالب خجلا وتوترا حين ينتقل لمدرسة جديدة ويلتقي بطلبة الفصل .. أما هذا الملاك فلم يكن يشعر بذرة خوف أو توتر .. بل على العكس تماما.
اتخذت لها مقعدا فارغا في مؤخرة الفصل وفي مكان يسمح لي برؤيتها جيدا لحسن الحظ .. وفتحت حقيبتها الأنيقة لتخرج منها كتاب الرياضيات مع الكراسة ..
بدأ المدرس – بعد رحيل مشرف الجناح- باستعادة توازنه بعد رؤيته لـ (إيما) وشرع يكمل حديثه ويشرح الدرس.. في حين أجد جميع الطلبة يعيشون في عالم آخر بسبب هذا الملاك الذي خلب لبهم ولبي .. وفي خلال نصف ساعة تقريبا هي الفترة التي جلست فيها (إيما) على كرسي الدراسة اكتشفت فيها شيئا أثار اهتمامي كثيرا ..
كانت عبقرية .. ليست فقط ذكية .. بل عبقرية .. غالبا ما كنت أرى أن الفتاة الجميلة ليست أكثر من عصفور جميل الشكل فارغ الرأس .. ولكن هذا الملاك كان عبقريا بالفعل .. كانت تجيب على أسئلة الدرس بجرأة وسهولة بالغة وكأن ما يشرحه المدرس معلومات قديمة معروفة لديها .. وقد أثار هذا انبهار الجميع .. وأثار حيرتي كثيرا.
انتهت حصة الرياضيات وانتهت الحصة الثانية والثالثة وجاء وقت الفسحة .. أو كما نسميها في الكويت (الفرصة) .. كانت (إيما) خلال هذه الفترة قد سحرتني تماما
–مثلما سحرت الجميع- بجمالها الخارق ورقتها الساحرة وذكائها الذي اكتشفه الجميع بسهولة قبل حتى أن ينتهي يومها الدراسي الأول .. وكان هذا واضحا من خلال نقاشها مع المدرسين الذين –وأكاد أن أقسم- كانوا يشعرون بالإحراج أحيانا من أسئلتها التي كانت تبدو وكأنها تعرف أكثر مما يعرفه المدرسين بكثير.. ولكن ما زلزل كياني وفجر دهشتي بالفعل هو رؤيتي لها في الحلم قبل أن أراها في عالم الواقع .. هي بشحمها ولحمها .. وفي فترة الفسحة كنت أريد أن أتحدث إليها وأخبرها بالحلم .. ولكن المشكلة أنني في كل لحظة أراها فيها كنت أرى خلفها عشرات الأوغاد الذين لا تدري من أين يأتون وأعينهم تحمل نظرات لها معاني سوداء غير قابلة للنشر .. يبتسمون بشهوانية .. ويحاولون التودد إليها .. والفتاة الحسناء – من دون شك- تجد عواطف الرجال الذين لا تميل إليهم شيئا مزعجا كالذباب ..
والغريب أنها كانت جريئة جدا إلى درجة تثير الإعجاب .. فكانت ترد على زملائها الطلبة برقة وثقة متناهية وتسكتهم بلهجة مهذبة لا تخلو من لباقة .. وكان لديها ردا جاهزا لكل تعليق .. أما أنا فقد فعلت ما يفعله أي شخص خجول يعجب بفتاة .. لاحقتها بعيني دون أن تنتبه .. وكنت أرسل نظراتي حتى على الأرض التي تمشي عليها ..
لقد فكرت في البداية بإخبارها عن الحلم .. لكني رأيت أنه من الأفضل ألا أخبرها .. فهي لن تصدقني .. وستظن أنني أحاول التودد إليها ..
يا إلهي .. كم أحلم أن تكون هذه الفتاة لي .. سأعطيها كل ما تريد .. سأتبعها إلى آخر العالم .. ولكن كلما أرى هذه الفتنة وهذا العقل النابض وكل هذه النقاء تنتابني موجة من الحزن .. فأنا لا أملك أي مؤهلات تلفت انتباهها .. فحتى تفوقي الدراسي لا يساوي تفوقها .. فهي تفوقني بمراحل كثيرة .. يجب الاعتراف بذلك .. وهذه الفتاة الملائكية لا يمكن أن تحبني .. ولن تحبني أبدا .. وأنتم تعرفون قسوة الفتيات وبرودهن حين يعلمن أنهن لا يرغبن في الرجل الذي يخطب ودهن .. أشك كثيرا في أنها ستكون قاسية معي في كل الأحوال .. لكني لن أضع نفسي في هذا الموقف فهناك احتمال أن لا بأس به أن تصدني بكلمات جارحة .. وسأكتفي بالتعذب والحزن في عالمي الخاص .. وسأجن رغبة بمعرفة علاقة الحلم بهذه الفتاة .. فشيئا كهذا لم يحدث لي من قبل !!.
انتهى اليوم الدراسي أخيرا .. ولم يحدث شيئا آخر يستحق الذكر .. وفي المساء جلست في غرفتي أقرأ بعض الكتب عن الأحلام .. لعلني أكتشف سر رؤيتي لـ(إيما) في الحلم قبل أن أراها في عالم الواقع .. وهأنذا ذا أقرأ كتاب (فرويد) .. (تفسير الأحلام) .. ذلك الكتاب العبقري شديد التعقيد والذي يحوي تفسيرات مذهلة .. ولكن المشكلة أن التحقق من هذه التفسيرات أمرا مستحيلا بالطبع .. فالأحلام لا تخضع لأي مقاييس حتى نستطيع التحقق من مدى صحة تفسيراتها.
يرى (فرويد) أن الأحلام ليست لها قدرة تنبؤية .. بل هي تعبر عن عقلنا الباطن الذي يتحرر عند النوم .. وهذا يناقض تماما الحلم الذي حلمت به .. إذ أن حلمي كان يحوي جانبا تنبؤيا واضحا لا يمكن تجاهله ..
والواقع أن الأحلام عموما وعلى مر العصور قد خلبت لب الإنسان وأثارت فيه مختلف الانفعالات .. بل أنها أوحت إلى اكتشافات كثيرة وحلول لمعضلات علمية لم يكن متوقعا أن يجد الإنسان لها حلا.
انتقلت بعدها لكتاب الباحثة (آن فراداي) بعنوان (الأحلام وقواها الخفية) .. وقد عشت في هذا الكتاب في دهاليز النفس البشرية المعقدة .. لكني لم أجد شيئا ينير أمامي الطريق .. أعرف أن الحلم قد يكون تنويعا من عدة أشياء .. كأن تكون هناك فتاة شاهدتها منذ عشر أعوام في مكان ما .. وأنت لا تذكر في عقلك الواعي أنك شاهدتها .. مع عبارة سمعتها في التلفزيون .. وكل هذا يراد به معنى ما .. لا يجرؤ عقلك الباطن على مصارحة عقلك الواعي به .. ما هو هذا المعنى ؟ .. وماذا نفهم من كل هذا ؟ .. لهذا تعتبر الأحلام لغزا شديد التعقيد!!.
قرأت بعدها نظريات أخرى تقول أن الأحلام قد يكون لها أحيانا رؤية تنبؤية .. وهذا التفسير هو الأقرب إلى الصواب قياسا لما حدث لي .. لذا فقد أزحت من ذهني كل ما يتعلق بهذا الحلم .. وأصبح تفكيري كله يصب في (إيما) فقط ..
رقدت على فراشي في الليل أفكر فيها وأستمع إلى موسيقى هادئة جدا .. وأحلم .. أحلم أن تكون هذه الفتاة لي .. كنت دائما أقول عن نفسي بأنني شخص ميال إلى الوحدة .. ولا أرحب كثيرا بالصداقات .. وأنني من الطراز ذو النفس الثمينة .. التي لا تمنح بسهولة .. وإنما هي جائزة قيمة لمن يستحق .. كلام جميل ولكن يبدو أنني الآن أواجه مشكلة .. فهذه الفتاة أغلى بكثير مما أستحق !! .. وأرجو ألا تستغربوا اهتمامي بهذه الفتاة الملائكية .. فأنا أبحث عن شيئا لا غنى عنه .. خاصة لمن هم في مثل عمري .. كنت أبحث عن الحب !! .. نعم .. فهذا أمر طبيعي جدا .. ولو لم يشعر شخصا في مثل سني بحاجته إلى الحب لغدوت مريضا نفسيا .. فالحاجة إلى الحب في سن المراهقة أمر لا بد منه وليس في الأمر أي علاقة بأي جوانب تربوية .. إنها غريزة .. الفرق هو أن يحاول الإنسان التحكم بتلك المشاعر إن كان من بيئة متدينة محافظة .. وكنت أنا من هذه البيئة .. أو فلنقل هذا ما تربيت عليه.
كنت دائما أشعر بتلك المشاعر البهيجة التي تجعل الدموع تنفر من عيني .. مشاعر الحب .. خاصة عندما أشاهد فتاة جميلة .. أو أقرأ قصة حب .. أو أشاهد فيلما عاطفيا .. و .. بدأ النعاس يداعب جفوني .. أذوب في عالم الظلام .. إن النوم لهو لغز شديد الغموض .. نغمض أعيننا ونذوب في عالم آخر لا نعرفه .. مع أننا نذهب إليه .. ونعود بعدها منه وقد خضنا تجارب في عالم الخيال.
مر أسبوع على وجود (إيما) في المدرسة ولم يتبدل شيء .. أراها كل يوم متألقة رائعة بذات الثياب التي تبدو وكأنها ابتاعتها للتو .. وحذائها الرقيق الصغير الذي يبدو بدوره جديدا للغاية .. حتى أن الأمر كان يثير استغرابي كثيرا .. كانت دائما أنيقة تشعرك وكأنها خرجت من الحمام لتوها .. كلماتها أنيقة .. أفكارها أنيقة .. أحلامها أنيقة .. وهذا يحزنني نوعا .. إذ يشعرني دائما بأنني غير جدير بها .. متى تفقد هذه الفتاة وقارها وهدوئها ؟! .. متى تغضب ؟ .. متى أراها بمزاج سيء ؟ .. لا أدري .. دائما ذات الابتسامة الهادئة الرقيقة كالنسيم والواثقة بنفس الوقت وكأنها تعيش في عالم لا يحوي كلمة (شر) في قواميسه .. الأمر الذي زاد من جمالها إلى درجة غير معقولة.
ولا أنسى أن أخبركم بأن عددا كبيرا من الطلبة كانوا يهيمون بها بالطبع .. ويحاولون كسب ودها .. ولكنها كانت تعاملهم جميعا بذات الطريقة المهذبة وكان من يتودد إليها يجد منها حزما رقيقا وأسلوبا راقيا تخبره فيه بأنه زميل لها وأخ .. وليس أكثر من ذلك ..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا